الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ مِن الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ مِنهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِن حَرَجٍ ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: ٦].
في الآيةِ: فرضُ الوُضوءِ مِن الحَدَثِ عندَ إرادةِ الصلاةِ، وقد قال ﷺ: (لا تُقْبَلُ صَلاةُ مَن أحْدَثَ حَتّى يَتَوَضَّأَ)، أخرَجاهُ[[أخرجه البخاري (١٣٥) (١ /٣٩)، ومسلم (٢٢٥) (١ /٢٠٤).]]، ولم يَختلِفْ أحدٌ في وجوبِ الطهارةِ.
المرادُ مِن اقترانِ الوضوءِ بالصلاة:
وذِكرُ الصلاةِ هنا عندَ بيانِ فرضِ الوضوءِ قرينةٌ على أنّه لا يجبُ الوضوءُ لعبادةٍ إلاَّ لها على الأرجحِ، فلا يجبُ الوضوءُ لدخولِ المسجدِ ولا للاعتكافِ ولا للذِّكْرِ ولا لقراءةِ القرآنِ ولا للطَّوافِ، وإنّما يُستحَبُّ لذلك.
وتقييدُ الوضوءِ بالقيامِ إلى الصلاةِ في قولِه: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾، حتى لا يُتوهَّمَ أنّ الوضوءَ واجبٌ لذاتِه، فيقَعَ الحَرَجُ في الناسِ، لكونِ الواجبِ غيرَ مقيَّدٍ بزمانٍ ولا مكانٍ ولا بعملٍ، فيرَوْنَ وجوبَ الوضوءِ على الدوامِ، وهذا يُخالِفُ يُسرَ الشريعةِ ورِفْقَها.
اشتراطُ النِّيَّة للغُسل والوضوء:
ويُستدَلُّ بقولِه تعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] على وجوب النِّية، لأن اللهَ علَّق الأمرَ بما يعلَمُونه في نفوسِهم، وهو القيامُ إلى الصلاة، فاللهُ خاطَبَهم بما يعلمون، فالأمرُ بالوضوء بعد القيام لقَصدِ الصلاة، ولم يأمُرْ بالصلاة على طهارةٍ فقط فيقولَ: أقِيمُوا الصلاةَ على طُهر، وهذا نظيرُ قولِه تعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦]، فلا بد مِنِ اشتراط النِّية لرفعِ الجَنابة عند الاغتسال، فلا بدَّ أن يكونَ العلمُ بالجنابة سابقًا لفِعل الاغتسال، والعلمُ بالصلاة سابقًا لفِعل الوضوء، وبهذا استدَلَّ إسحاق بنُ راهويه[[«مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه» للكوسج (٢ /٤٢١).]]، بل قال: وفي ذلك أعظَمُ الدلائل أن يَنوِيَ عند أخذِ العمل. كما نقَلَه عنه الكَوْسَجُ في مسائله[[(ص١١٧).]]
وما يذكُرُه بعضُهم أنّ آيةَ الوضوء لم تَتعرَّضْ للنِّية من قريبٍ ولا بعيد، وجعَلُوها من المسائلِ الزائدة على النصِّ، ورَدُّوا القولَ بالنية للطهارة لأنها زيادةُ آحادٍ لا تَنسَخُ القرآن، كما ذكَرَ ذلك السرخسيُّ في «المبسوط»[[«المبسوط» (١ /٧٢).]]، فهذا فيه نظَرٌ.
والنِّيةُ شرطٌ للوُضوءِ عند السلفِ وأكثَرِ العلماء، خلافًا لأبي حنيفة، لعُمومِ الأدلة الموجِبةِ للنِّية للأعمالِ، كقولِه ﷺ: (إنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيّاتِ)، ولهذه الآية.
الوضوءُ لكلِّ صلاةٍ:
وليس المرادُ في الآيةِ وجوبَ إحداثِ وضوءٍ عندَ كلِّ صلاةٍ، وإنّما المرادُ تقييدُ الوجوبِ بعملٍ، ورفعُ الحَرَجِ عن باقي الفعلِ والزمانِ والمكانِ، إلاَّ ما قيَّدَه الوحيُ بدليلٍ خاصٍّ، ومَن كان على طهارةٍ سابقةٍ فيُستحَبُّ له إحداثُ الوضوءِ ولا يجبُ، ففي «الصحيحِ»، مِن حديثِ أنسٍ، قال: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قالَ: يُجْزِئُ أحَدَنا الوُضُوءُ ما لَمْ يُحْدِثْ»[[أخرجه البخاري (٢١٤) (١ /٥٣).]].
ولم يقُلْ أحدٌ مِن الصحابةِ والتابعِينَ بوجوبِ الوضوءِ عندَ كلِّ صلاةٍ لغيرِ المُحْدِثِ، وما جاء عن ابنِ المُسيَّبِ، أنّه قال: «الوُضُوءُ مِن غَيْرِ حَدَثٍ اعْتِداءٌ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٩٥) (١ /٣٤)]].، فترُدُّهُ الأحاديثُ الصحيحةُ، وابنُ المُسيَّبِ أفْقَهُ مِن أنْ يَرِدَ عنه مِثلُ ذلك، لجلاءِ المسألةِ واشتهارِ عملِ النبيِّ ﷺ وعملِ الخلفاءِ مِن بعدِه، وابنُ المسيَّبِ مِن أعلَمِ الناسِ بذلك.
وقد يُحمَلُ مرادُهُ على كراهةِ الوضوءِ لكلِّ صلاةٍ مِن غيرِ تفريقٍ بينَ فرضٍ ولا نَفْلٍ، ولا بينَ ما تداخَلَ وتقارَبَ وتتابَعَ مِن الصلواتِ، فهذا لا شكَّ أنّه اعتداءٌ.
فالمرادُ مِن وضوءِ النبيِّ ﷺ لكلِّ صلاةٍ يعني المكتوباتِ، وليس المرادُ: أنّه يتوضَّأُ لسُنَّةِ الفجرِ وضوءًا ولفريضتِها وضوءًا، ولراتبةِ الفرائضِ القَبْليَّةِ والبَعْديَّةِ وضوءًا غيرَها، ولا لسُنَّةِ دخولِ المسجدِ وضوءًا غيرَ الفريضةِ، ولا لكلِّ صلاةٍ مِن قيامِ الليلِ، فالمرادُ مِن فعلِ النبيِّ ﷺ هو الوضوءُ لكلِّ فريضةٍ مكتوبةٍ ولكلِّ سُنَّةٍ مقصودةٍ بعينِها، فمَن قصَدَ قيامَ الليلِ، توضَّأَ لها كلِّها ولو صلّى عِشرينَ ركعةً، وكذلك مَن وصَلَ قيامَ الليلِ بصلاةِ العِشاءِ، فالسُّنَّةُ أنْ يتوضَّأَ مرةً، لأنّها صارتْ في حُكْمِ الصلاةِ الواحدةِ باعتبارِ الوضوءِ لها، والوضوءُ لكلِّ واحدةٍ منها اعتداءٌ.
ولعلَّ هذا ما قصَدَهُ ابنُ المُسيَّبِ، وهو الأليقُ بفقهِه، وقد يقولُ الصحابيُّ أو التابعيُّ قولًا على صورةٍ معيَّنةٍ، فيُنقَلُ على العمومِ في الرِّوايةِ وفي مدوَّناتِ الفِقْهِ، فيُوضَعُ في غيرِ بابِه، وربَّما عُدَّ مِن شذوذاتِه وغَرائبِه.
جمعُ الصلواتِ لوضوءٍ واحدٍ:
والوضوءُ لكلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ وسُنَّةٍ مقصودةٍ بعينِها سُنَّةٌ، وقد جمَعَ النبيُّ ﷺ الصلواتِ الخمسَ بوضوءٍ واحدٍ يومَ الفتحِ، ففي «صحيحِ مسلمٍ»، مِن حديثِ بُرَيْدَةَ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى الصَّلَواتِ يَوْمَ الفَتْحِ بِوُضُوءٍ واحِدٍ، ومَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ صَنَعْتَ اليَوْمَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ؟! قالَ: (عَمْدًا صَنَعْتُهُ يا عُمَرُ) [[أخرجه مسلم (٢٧٧) (١ /٢٣٢).]].
وفيه: أنّ الأصلَ مِن فِعْلِهِ الوضوءُ لكلِّ صلاةٍ، وهو مُستحَبٌّ وسُنَّةٌ، لا واجبٌ وفريضةٌ.
وقد كان الصحابةُ منهم مَن يتوضَّأُ لكلِّ صلاةٍ، كالخلفاءِ وابنِ عمرَ وغيرِهم، ومنهم مَن لا يتوضَّأُ إلاَّ إذا أحدَثَ، كجابرِ بنِ عبدِ اللهِ وغيرِه.
وقد روى ابنُ سِيرِينَ، قال: «كانَتِ الخُلَفاءُ تَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاةٍ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٠٢) (١ /٣٥).]].
وكما يُشرَعُ الوضوءُ لكلِّ صلاةٍ، فتُشرَعُ الصلاةُ عندَ كلِّ وضوءٍ، فإنّ الطهارةَ والصلاةَ مُتلازِمتانِ.
استحبابُ الطُّهْرِ الدائمِ:
وقد كان النبيُّ ﷺ يُحِبُّ أنْ يكونَ على طُهْرٍ دائمٍ، لأنّه على ذِكْرٍ دائمٍ، ولا يُحِبُّ أن يَذكُرَ اللهَ إلاَّ وهو على طهارةٍ، ففي «المسنَدِ»، وأبي داودَ، مِن حديثِ المُهاجِرِ بنِ قُنْفُذٍ، أنّه سلَّمَ على النبيِّ ﷺ وهو يَبُولُ، فلم يَرُدَّ عليه حتى توضَّأَ، ثمَّ قال: (إنِّي كَرِهْتُ أنْ أذْكُرَ اللهَ عزّ وجل إلاَّ عَلى طُهْرٍ ـ أوْ قالَ: عَلى طَهارَةٍ) [[أخرجه أحمد (١٩٠٣٤) (٤ /٣٤٥)، وأبو داود (١٧) (١ /٥).]]، وفي البخاريِّ ومسلمٍ، مِن حديثِ أبي الجُهَيْمِ، قال: أقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَيْهِ، حَتّى أقْبَلَ عَلى الجِدارِ فَمَسَحَ وجْهَهُ ويَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ[[أخرجه البخاري (٣٣٧) (١ /٧٥)، ومسلم (٣٦٩) (١ /٢٨١).]].
أعضاءُ الوضوءِ:
ولا يجبُ مِن مواضعِ الوضوءِ إلاَّ ما جاء في الآيةِ، وهو الذي اجتمَعَتْ على وصفِهِ الأحاديثُ، واختَلَفَتْ وتبايَنَتْ في غيرِه، فكلُّها يذكُرُ الوجهَ واليدَيْنِ ومسحَ الرأسِ وغَسْلَ القدمَيْنِ، وما عدا ذلك فتختلِفُ الأحاديثُ في إيرادِه، ويعضُدُ ذلك ما في «السُّنَنِ»، مِن حديثِ رِفاعةَ بنِ رافعٍ، أنّ النبيَّ ﷺ قال لرجلٍ: (تَوَضَّأْ كَما أمَرَكَ اللهُ) [[أخرجه أبو داود (٨٦١) (١ /٢٢٨)، والترمذي (٣٠٢) (٢ /١٠٠)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١٦٤٣) (٢ /٢٤٧).]].
وعلى هذا جَرى فهمُ أكثرِ السلفِ، أنّ ما لم يُذكَرْ في الآيةِ، فليس بواجبٍ، سواءٌ كان ذلك في منطوقِ قولِهم أو ما جرَوْا عليه في بيانِ أحكامِ الوضوءِ، وقد قال عطاءٌ لمّا سُئِلَ عن المضمَضَةِ: «ما لم يُسَمَّ في الكتابِ يُجْزِئُهُ»[[«مسائل أبي داود» (١٢).]].
وبهذا كان يقولُ أحمدُ بنُ حنبلٍ لمّا سُئِلَ عن المضمضةِ والاستنشاقِ أفريضةٌ؟ قال: «لا أقولُ فريضةٌ إلا ما في الكتابِ»[[«تفسير الطبري» (٨ /١٦٨).]].
إسباغُ الوضوءِ:
وفي الآيةِ: ذكَرَ اللهُ الغَسْلَ مِن غيرِ عددٍ، وفي هذا: دليلٌ على أنّ الواجبَ استيعابُ العضوِ وإنقاؤُه، لا ما زاد على ذلك، كما جاء في تفسيرِ قولِهِ ﷺ: (أسْبِغُوا الوُضُوءَ) [[أخرجه مسلم (٢٤١) (١ /٢١٤).]]، قال ابنُ عمرَ: «إسْباغُ الوُضُوءِ الإنْقاءُ»[[«صحيح البخاري» (١ /٤٠).]].
ولا خلافَ عندَ السلفِ: أنّ الوضوءَ مرةً واحدةً مع استيعابِ الأعضاءِ أنّها مجزئةٌ، ولا خلافَ عندَهم: أنّ الوضوءَ أكثَرَ مِن ثلاثٍ مكروهٌ، إلاَّ مَن توضَّأَ ثلاثًا ولم يُنقِ عضوًا فلم يَصِلْهُ أو بعضَهُ الماءُ: أنّه يستوعبُهُ ولو برابعةٍ وخامسةٍ، وإنّما ذُكِرَتِ الثلاثُ، لأنّ الغالبَ إنقاؤُها للأعضاءِ، ليكونَ حدًّا مانعًا مِن السَّرَفِ ووسواسِ الشيطانِ، وهذا نظيرُ الاستجمارِ بثلاثٍ، فإن لم تُنْقِ، فيزيدُ حتى يُنقِيَ.
وفي ظاهرِ قولِه: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ إشارةٌ إلى الوضوءِ عندَ القيامِ مِن النومِ، وبهذا استدَلَّ بعضُ السلفِ كزيدِ بنِ أسلَمَ، وقال به الشافعيُّ.
الموالاةُ في الوضوءِ:
وفي الآيةِ أيضًا: مشروعيَّةُ المُوالاةِ، وذلك أنّ اللهَ شرَعَ الوضوءَ عندَ القيامِ إلى الصلاةِ، والوضوءُ عندَ القيامِ إلى الصلاةِ يَقتضي التتابُعَ والمُبادَرةَ، بخلافِ ما لو جاء الأمرُ بالوضوءِ للصلاةِ مُطلَقًا مِن غيرِ تقييدٍ بوقتِ القيامِ.
ولا خلافَ عندَ العلماءِ في مشروعيَّةِ الموالاةِ في الوضوءِ، وإنّما الخلافُ في وجوبِه.
والوجوبُ قولُ الجمهورِ.
وحَدَّ التتابُعَ بجفافِ العضوِ بعضُ السلفِ، كقتادةَ، وبه حدَّه أحمدُ.
وخفَّفَ في التتابُعِ ولم يُوجِبْهُ بعضُ فقهاءِ السلفِ، كعطاءٍ وبعضِ أهلِ الرأيِ، ولا ينبغي حملُ قولِهم على الفصلِ الطويلِ لساعاتٍ، وإنّما ما تقارَبَ عهدًا كما بينَ بيتِ الإنسانِ ومسجدِهِ الذي يُنادى به للصلاةِ ويَسمعُ النداءَ وتجبُ عليه، فلو توضَّأَ وضوءًا في بيتِهِ وأكمَلَهُ في مسجدِه، فلا حرَجَ، وهذا مرويٌّ عن ابنِ عمرَ.
وقد استدلَّ بآيةِ المائدةِ على وجوبِ الموالاة في الوضوءِ جماعةٌ من الأصحابِ كما ذكره أبو الخطّاب وابنُ مُفْلِح[[«الانتصار» (١ /٢٦٠)، و«المبدع» (١ /١١٥).]].
وقولُه تعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، ابتَدَأَ اللهُ بالأمرِ بغَسْلِ الوجهِ، لأنّه أولُ الفروضِ، وفي هذا دليلٌ على أنّه لا يجبُ شيءٌ قبلَه، وقد جاءتْ جملةٌ مِن الأحكامِ السابقةِ لغَسْلِ الوجهِ، كالتسميةِ وغَسْلِ الكفَّينِ:
التسميةُ عند الوضوءِ:
فأمّا التسميةُ: فلم يَذكُرِ اللهُ البسملةَ، لأنّها سُنَّةٌ وليستْ بفريضةٍ، وقد جاء في الأمرِ بها عِدَّةُ أحاديثَ مِن طرُقٍ كثيرةٍ معلولةٍ، والصحابةُ والتابعونَ وأتباعُهم وعامَّةُ الفقهاءِ على الاستحبابِ لا الوجوبِ، إلاَّ قولًا لأحمدَ، والأظهَرُ عنه: عدمُ الوجوبِ، وأحمدُ يُعِلُّ أحاديثَ البابِ ويقولُ: «ليس فيه إسنادٌ»، يعني: يصحُّ، وابنُ أبي شَيْبَةَ يُصحِّحُ الحديثَ ولم يُورِدْ فيه عملًا للسلفِ يقولُ بوجوبِه.
وفرَّقَ إسحاقُ بينَ العامدِ والنّاسِي، فأمَرَ المُتعمِّدَ غيرَ المتأوِّلِ وحدَهُ بالإعادةِ.
وحمَلَ ربيعةُ الرأيِ نفيَ صحةِ الوضوءِ بدونِ البسملةِ في الحديثِ على عدمِ النيَّةِ، كالذي يغتسلُ ويتوضَّأُ ولا يَنوي وضوءًا للصلاةِ ولا غُسْلًا للجنابةِ، وكأنّه شبَّهَهُ بقولِ اللهِ تعالى في الذبحِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١] على قولِ كثيرٍ مِن العلماءِ.
غَسْلُ الكَفَّيْنِ في أوَّلِ الوضوءِ:
وأمّا غَسْلُ الكفَّيْنِ: فهو على الاستحبابِ، وقد جاء في صورتَيْنِ:
الأُولى: قبلَ كلِّ وضوءٍ أنْ تُغسَلَ الكفّانِ مرةً أو مرتَيْنِ أو ثلاثًا، وهو مستحَبٌّ بلا خلافٍ، وهذه الغسلةُ مُتعلِّقةٌ بالبدءِ بالوضوءِ تنقيةً لليدِ ممّا يحتمِلُ ورودُهُ عليها، حتى لا يُصيبَ الماءَ أو الوجهَ وبقيةَ الأعضاءِ منه شيءٌ.
الثانيةُ: غسلُها عندَ الاستيقاظِ مِن النومِ، وعندَ إرادةِ استعمالِ الإناءِ بوضعِ اليدِ فيه، سواءٌ كان ذلك بقصدِ الوضوءِ أو بغيرِه، وذلك لِما جاء في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (إذا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِن نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَها فِي وضُوئِهِ، فَإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ باتَتْ يَدُهُ) [[أخرجه البخاري (١٦٢) (١ /٤٣)، ومسلم (٢٧٨) (١ /٢٣٣).]]، وهذا فيه التخصيصُ بثلاثٍ، وفيه الأمرُ بذلك أيضًا.
ولا خلافَ في مشروعيَّةِ غَسْلِ اليدينِ عندَ الاستيقاظِ مِن نومِ الليلِ، وبعضُ السلفِ كالحسَنِ وإسحاقَ يَجعلونَهُ في كلِّ نومٍ، ونقَلَ ابنُ حَزْمٍ وابنُ المُنذِرِ عن الحَسَنِ الوجوبَ وإراقةَ الماءِ عندَ غَمْسِ اليدِ فيه قبلَ غَسلِها ثلاثًا[[«الأوسط» لابن المنذر (٢ /١٤)، «والمحلى» لابن حزم (١ /٢١٠).]]، والثابتُ عن الحسنِ فيما رواهُ هشامٌ عنه: التخييرُ بينَ الوضوءِ به وبينَ إراقتِه[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨٩٣) (١ /٨١).]].
وغَسْلُهما بعدَ النومِ سُنَّةٌ، ووضعُهما في الإناءِ قبلَ ذلك لا يُنجِّسُ الإناءَ، وهذا الذي عليه السلفُ عامَّةً.
وغَسْلُ الكفَّيْنِ قبلَ الوجهِ عندَ إرادةِ الوضوءِ لا يُجزِئُ عن غَسْلِهما كاملتَيْنِ بعدَهُ مِن أطرافِ الأصابعِ إلى المِرْفقَيْنِ، إلاَّ على قولِ مَن لا يَرى الترتيبَ بينَ أعضاءِ الوضوءِ، فكأنّه غسَلَ اليدَيْنِ كاملتَيْنِ وتخلَّلَهما غَسْلُهُ للوجهِ.
النيةُ للوضوءِ:
وأمّا النِّيَّةُ، فهي واجبةٌ لدليلٍ ظاهرٍ خاصٍّ، كما في قولِهِ ﷺ: (إنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى) [[أخرجه البخاري (١) (١ /٦)، ومسلم (١٩٠٧) (٣ /١٥١٥).]]، والدَّلالةُ مِن الآيةِ ظاهرةٌ ولو لم يُنَصَّ عليها، وذلك أنّه قال تعالى: ﴿قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾، فقصدُ القيامِ للصَّلاةِ هو الذي أوجَبَ الوضوءَ، وجاء الأمرُ لأجْلِهِ في الآيةِ.
وقولُه: ﴿وُجُوهَكُمْ﴾: الوجهُ ما واجَهَ الإنسانُ به الناسَ، وحدودُهُ: مَنابِتُ الشَّعَرِ طبيعةً، ولا عِبْرةَ بالأَشْعَرِ ولا بالأَصْلَعِ، فيدخُلُ في ذلك الجبهةُ والخَدّانِ واللَّحْيانِ والأُذُنانِ وما بينَهما، واللِّحْيةُ مِن الوجهِ فيُغسَلُ ما اتَّصَلَ بالوجهِ مِن ظاهرِها، ولا يُغسَلُ باطنُها وما استرسَلَ منها، لأنّه مِثلُ الرأسِ لو استرسَلَ شعرُ الرجلِ والمرأةِ.
تخليلُ اللحيةِ:
وأمّا تخليلُ اللِّحْيةِ، فقد جاءتْ فيه أحاديثُ مرفوعةٌ عن عثمانَ وأنسٍ وابنِ عمرَ وابنِ عبّاسٍ وعمّارٍ وأبي أُمامةَ وأبي بَكْرةَ وعائشةَ وأمِّ سلمةَ، وغيرِهم، وفيه بضعةَ عشَرَ حديثًا.
وفي أحاديثِ التخليلِ كلامٌ، وقد أعَلَّها جميعَها أحمدُ وأبو حاتمٍ وغيرُهما، وقالوا: «لا يصحُّ منها شيءٌ»، ولم يَرِدِ التخليلُ في أصحِّ أحاديثِ صفةِ الوضوءِ التي رواها الشيخانِ عن عثمانَ وعبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في «الصحيحَيْنِ»، ولا في حديثِ ابنِ عبّاسٍ في البخاريِّ، وكأنّ الشيخَيْنِ يُعِلاَّنِ الأحاديثَ المرفوعةَ في التخليلِ.
ولكنَّه ورَدَ عن جماعةٍ مِن الصحابةِ صحيحًا عن ابنِ عبّاسٍ وابنِ عمرَ، وصحَّ عن غيرِ واحدٍ مِن التابعينَ، كابنِ الحَنَفِيَّةِ وعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ومجاهِدٍ وطاوسٍ وعطاءٍ، ولكنْ لم يكنْ يُوجِبُهُ أحدٌ مِن السلفِ، ولذا لم يكنِ العملُ عليه، خاصَّةً عندَ أهلِ المدينةِ، ولذا قال مالكٌ: «التخليلُ ليس مِن أمرِ الناسِ»[[«الاستذكار» (٢ /١٩).]].
وقد صحَّ عن ابنِ عمرَ أنّه يُخَلِّلُ أحيانًا، ويترُكُ أحيانًا[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٥٥٦) (١ /٢٧٧)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (١ /٥٥).]].
وقد نصَّ بعضُ السلفِ على عدمِ وجوبِ التخليلِ كما صحَّ عن الحسنِ[[«تفسير الطبري» (٨ /١٦٧).]] والأوزاعيِّ[[«تفسير الطبري» (٨ /١٦٨).]] والثوريِّ، أنّهم قالوا: «ليس عَرْكُ العارِضَيْنِ في الوضوءِ بواجبٍ».
ولا أعلَمُ مَن أوجَبَهُ مِن أهلِ القرونِ المُفضَّلةِ إلاَّ ما ذكَرَهُ ابنُ المُنذِرِ عن إسحاقَ.
وكلُّ ما لم يَرِدْ في الآيةِ مخصوصًا، ولم يَثبُتْ دوامُ النبيِّ ﷺ عليه، فالأظهَرُ: عدمُ وجوبِه، ولذا لم يقُلْ أحدٌ مِن السلفِ بإعادةِ وضوءِ تاركِ تخليلِ اللِّحْيةِ، ولا أمَرُوا بذلك، واللهُ أعلَمُ.
المضمضة والاستنشاقُ في الوُضوءِ:
وذِكرُ غَسْلِ الوجهِ، وعدمُ تخصيصِ المضمضةِ والاستنشاقِ بالذِّكْرِ: قرينةٌ على عدمِ وجوبِ شيءٍ في الوجهِ غيرِ الوجهِ بذاتِه، ولا خلافَ عندَ العلماءِ في مشروعيَّةِ المضمضةِ والاستنشاقِ، وقد اختَلَفَ العلماءُ في وجوبِهما:
فذهَبَ إلى وجوبِهما في الوضوءِ والغُسْلِ: أحمدُ في روايةٍ.
وذهَبَ إلى استحبابِهما فيهما: مالكٌ والشافعيُّ.
وذهَبَ أبو حنيفةَ إلى أنّ وجوبَهما في الغُسْلِ فقطْ.
وفي روايةٍ لأحمدَ: وجوبُ الاستنشاقِ وحدَهُ فيهما، ونقَلَ الأثرمُ، وابنُ منصور، عن أحمد: أنّ الاستنشاقَ أوكَدُ مِن المضمضةِ[[«مسائل ابن منصور» (١ /٧١)، و«طبقات الحنابلة» (١ /٦٧).]].
وإنّما خَصَّ أحمدُ الاستنشاقَ بالوجوب في قولٍ، لثبوتِ الأمرِ في «الصحيحَيْنِ»، قال ﷺ: (إذا تَوَضَّأَ أحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَنْشِقْ) [[أخرجه البخاري (١٦١) (١ /٤٣)، ومسلم (٢٣٧) (١ /٢١٢).]].
والأظهَرُ: حملُ الأمرِ فيه كما في الأمرِ بالمضمضةِ، في «السُّنَنِ» في حديثِ لَقِيطٍ: «إذا تَوَضَّأْتَ، فَمَضْمِضْ»[[أخرجه أبو داود (١٤٤) (١ /٣٦).]]، وقد حكى الشافعيُّ وابنُ المُنذِرِ: أنّه لم يقُلْ بوجوبِه أحدٌ مِن السلفِ، وأنّ مَن ترَكَه لا يُعيدُ، إلاَّ شيئًا رُوِيَ عن عطاءٍ، فقد صحَّ أنّه سُئِلَ: أحَقٌّ عليَّ أنْ أستنشِقَ؟ قال: نعم، قيل: عمَّن؟ قال: عن عثمانَ[[أخرجه ابن حزم في «المحلى» (١ /٢١٠).]].
ومرةً أمَرَ بإعادةِ الصلاةِ لمَن لم يُمضمِضْ ويَستنشِقْ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٠٥٧) (١ /١٧٩).]].
والأظهرُ: تركُهُ لهذا القولِ، ويدلُّ على ذلك: ما جاء عنه مِن حديثِ المُثنّى، عنه، أنّه قال فيمَن نَسِيَ المضمضةَ والاستنشاقَ حتى صلّى: إنّه لا يُعِيدُ، كما رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٠٥٩) (١ /١٧٩).]].
وأمّا ما جاء عن ابنِ عبّاسٍ في الأمرِ بإعادةِ الوضوءِ لِمَن ترَكَ المضمضةَ والاستنشاقَ، فلا يصحُّ.
وقد كان أحمدُ قد سُئِلَ عن المضمضةِ والاستنشاقِ: أفريضةٌ هو؟ فقال: لا أقولُ فريضةٌ إلا ما في الكتابِ، وقد تقدَّم هذا عنه أوَّل الآية، وكان بعضُ الأصحابِ ينقُلُ عن أحمَدَ: أنّه يفرِّق بين الفرضِ والواجبِ، فيجعَلُ الفرضَ ما ثبتَ في الكتاب والواجبَ ما ثَبَتَ في السُّنَّة، كما استظْهَرَهُ مِن قولِهِ أبو يعلى وابن عَقِيل[[«العدة» لأبي يعلى (٢ /٣٧٦)، و«المسوَّدة» (١ /١٦٤).]].
ولم يقُلْ أحدٌ مِن فُقَهاءِ السلفِ بمكةَ والمدينةِ: بوجوبِ المضمضةِ والاستنشاقِ في الوضوءِ.
وقد صحَّ عن قتادةَ وحمّادِ بنِ أبي سُلَيْمانَ: إعادةُ الوضوءِ والصلاةِ لِمَن نَسِيَ المضمضةَ والاستنشاقَ[[«تفسير الطبري» (٨ /١٧٩).]]:
فأمّا قولُ حمّادٍ، فلم يكنْ أهلُ الكوفةِ على هذا، سواءٌ شيوخُ حمّادٍ كإبراهيمَ، أو تلامذتُهُ كالحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ وأبي حنيفةَ، وصحَّ عن حمّادٍ أنّه قال: لا يُعِيدُ، كما رواهُ عنه مُغِيرةُ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٠٦٦) (١ /١٨٠).]].
وأمّا قتادةُ، فقد صحَّ عنه أيضًا خلافُهُ.
وعلى هذا: فلا يُحفَظُ عن أحدٍ مِن الصحابةِ ولا التابِعينَ ولا كِبارِ أتْباعِهم: القولُ بوجوبِ المضمضةِ والاستنشاقِ في الوضوءِ للصلاةِ قولًا ثابتًا لا يُعرَفُ خلافُهُ عنهم، وحَمْلُ قولِ هؤلاء على قولِ الجماعةِ أولى.
وأمثالُ هذه الأحكامِ ـ كالوضوءِ، والصلاةِ ـ هي مِن الأعمالِ اليوميَّةِ المشهورةِ التي يجبُ ألاَّ يُخرَجَ بها عن عملِ أهلِ المدينةِ إلاَّ لسُنَّةٍ مرفوعةٍ جليَّةٍ، وهي مع ذلك لا تكادُ تخرُجُ عن عَمَلِهم.
وفقهاءُ السلفِ مِن التابعينَ وأتباعِهم الذين يكونونَ في العراقِ والشامِ مع فضلِهم، إلاَّ أنّهم ربَّما خَرَجُوا عن مقصودِ الشارعِ باجتهادِهم بحملِ الحديثِ على ظاهرٍ غيرِ مرادٍ، أو قاسُوا حُكْمًا على حُكْمٍ، ولم يكونوا قريبينَ مِن العملِ المستديمِ الذي عليه السلفُ مِن المدنيِّينَ، فإنّ عمَلَهم يُفسِّرُ الأدلَّةَ والأفعالَ النبويَّةَ، خاصَّةً اليوميَّةَ أو الأسبوعيَّةَ، واللهُ أعلَمُ.
وقد نقَلَ ابنُ جريرٍ عن ابنِ عبّاسٍ قولَهُ: «لَوْلا التَّلَمُّظُ فِي الصَّلاةِ، ما مَضْمَضْتُ»[[«تفسير الطبري» (٨ /١٦٨).]]، وذكَرَهُ في سياقِ المضمضةِ في الوضوءِ، وهذا فيه نظرٌ، فإنّ المرويَّ عن ابنِ عبّاسٍ في سياقِ المضمضةِ مِن الطعامِ، لا المضمضةِ في الوضوءِ، والتلمُّظُ هو تحريكُ اللِّسانِ في الفمِ لتحريكِ بقيَّةِ الطعامِ، وذلك أنّ أكلَ الطعامِ لا يُوجِبُ وضوءًا، وأنّه مضمَضَ كيلا يتلمَّظَ في صلاتِه، ولم يَقصِدْ أنّ المضمضةَ لِذاتِها سُنَّةٌ بعدَ الطعامِ.
وفي سياقِ المضمضةِ والوضوءِ مِن الطعامِ أورَدَهُ عبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٦٥٧) (١ /١٧٠).]]، وكذلك البيهقيُّ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١ /١٦٠).]]، وليس في بابِ مضمضةِ الوضوءِ.
ومِثلُ هذا يقعُ فيه ابنُ جريرٍ مع سَعَةِ عِلْمِهِ في إيرادِ بعضِ الآثارِ عن السلفِ في غيرِ سياقِها، ويَستدِلُّ بها لغيرِ ما جاءتْ فيه، واللهُ أعلَمُ.
وقد اختلَفَ القولُ في المضمضةِ والاستنشاقِ عن أحمد، فنقَلَ عنه ابنُ هانئٍ القولَ بوجوبِ إعادةِ مَن صلّى وقد تركهما في الوضوءِ، ونقل عنه ابنُ منصورٍ وجوبَ الإعادةِ لِمَن تَرَكَ الاستنشاقَ[[«مسائل ابن منصور» (١ /٧١)، و«طبقات الحنابلة» (١ /٦٧).]].
غَسْلُ اليدَيْن إلى المِرفَقيْنِ:
وقولُه تعالى: ﴿وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ﴾:
فيه: وجوبُ الغَسْلِ لليدَيْنِ إلى المرافِقِ ولا يُزادُ عليه، إذْ لم يثبُتْ في ذلك سُنَّةٌ مرفوعةٌ، وأمّا ما جاء في حديثِ أبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، في «الصحيحَيْنِ»: (فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنكُمْ أنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ) [[أخرجه البخاري (١٣٦) (١ /٣٩)، ومسلم (٢٤٦) (١ /٢١٦).]]، وحديثِهِ الآخَرِ في مسلمٍ: (تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ، حَيْثُ يَبْلُغُ الوَضُوءُ) [[أخرجه مسلم (٢٥٠) (١ /٢١٩).]]، فيَجري مَجرى الحثِّ على الإسباغِ، ويحتملُ: أنّ الحثَّ على إطالةِ الغُرَّةِ مِن قولِ أبي هريرةَ، وليس مرفوعًا عن النبيِّ ﷺ، كما رجَّحَهُ غيرُ واحدٍ.
ولو كانتِ الزيادةُ عن المرفَقَيْنِ مشروعةً، لَوَرَدَتْ في حديثٍ صحيحٍ موقوفٍ مِن صفاتِ الوضوءِ، وقد جاء ذلك عن أبي هريرةَ أنّه يَغسِلُ يدَيْهِ إلى الرُّفْغَيْنِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٣) (١ /٥).]].
وصحَّ عن ابنِ عمرَ أنّه يَنضَحُ عينَيْهِ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١ /١٧٧).]]، ويبلُغُ بالوضوءِ في الصيفِ إلى إبْطَيْهِ، كما رواهُ عنه نافعٌ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٦٠٤) (١ /٥٧).]].
وروى مجاهدٌ عنه مَسْحَهُ لِقَفاهُ مع رأسِه[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١ /٦٠).]].
وهذا كلُّه منهم اجتهادٌ، ولذا لم يكنْ عليه عملُ السلفِ، ولم يَثبُتْ في شيءٍ مِن المرفوعِ، ولو صحَّ، لَما تُرِكَ في العملِ، خاصَّةً والوضوءُ سُنَّةٌ عمليَّةٌ يوميَّةٌ مراتٍ، ومِثلُ سُنَنِها الثابتةِ لا تغيبُ عن خاصَّةِ الصحابةِ وكبارِهم فضلًا عن جمهورِهم، ومع هذا لم ينقُلْها ويرفَعْها واحدٌ منهم.
وقد استَدَلَّ أحمدُ بآيةِ المائدةِ هذه: ﴿وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ ﴾، على أنّ التَّيَمُّمَ في اليدَيْن إلى الكفَّيْنِ كما في آيةِ النساء: ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ ﴾، فلو كان المسحُ إلى المرفَقَيْنِ كما في الوضوء، لحدَّه في التيمُّم كما حدَّه في الوضوءِ.
مَسْحُ الرأسِ:
وقولُه تعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾، مسحُ الرأسِ واجبٌ بلا خلافٍ، وإنّما الخلافُ في حدودِ الرأسِ، ومِقْدارِ المسحِ، والمجزِئِ منه، والصحيحُ الثابتُ: مسحُ الرأسِ مرَّةً واحدةً، ولا يصحُّ العددُ بالمسحِ، وصِفةُ المسحِ ما جاء في «الصحيحَيْنِ» عنه ﷺ، أنّه «بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتّى ذَهَبَ بِهِما إلى قَفاهُ، ثُمَّ رَدَّهُما إلى المَكانِ الَّذِي بَدَأَ مِنهُ» [[أخرجه البخاري (١٨٥) (١ /٤٨)، ومسلم (٢٣٥) (١ /٢١١).]].
وما يكونُ يُستوعَبُ به أكثرُ الرأسِ فهو مسحٌ، لأنّ الشارعَ خفَّفَ في الرأسِ، فجعَلَهُ ممسوحًا لا مغسولًا، والممسوحُ يُقطَعُ معه عدمُ اشتراطِ الإنقاءِ ولا الاستيعابِ كالغُسْلِ، لأنّ استيعابَ جميعِ أجزائِهِ مُحالٌ، وهذا الحُكْمُ مُطَّرِدٌ في كلِّ أحكامِ الرأسِ، ومنها الحَلْقُ في قولِهِ تعالى: ﴿مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ﴾ [الفتح: ٢٧]، ولا يدخُلُ فيه النهيُ في قولِهِ تعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦]، لأنّ النهيَ يقعُ على أدْنى الفِعْلِ وأوَّلِه، كالنهيِ عن شربِ الخمرِ ما أسكَرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ، والأمرُ يقعُ على المُجزِئِ منه.
استيعابُ مسحِ الرأسِ:
وقد ذهَبَ مالكٌ وأحمدُ: إلى مسحِه جميعِهِ.
وذهَبَ الحنفيَّةُ: إلى الاكتِفاءِ برُبُعِ الرأسِ، لإسقاطِ فرضِ المسحِ.
وسببُ الخلافِ في ذلك: هو حدُّ المُرادِ مِن الرأسِ في مُرادِ الشرعِ.
ومَن نظَرَ إلى استحالةِ استيعابِ أجزاءِ الرأسِ جميعًا، ومشقَّةِ الاقتصارِ على الربعِ، لأنّه يصحُّ في القَفا أو في أحدِ الجهتَيْنِ ممّا فوقَ الأُذُنِ وحدَهُ، وهذا فيه تعطيلٌ للمرادِ والمقصودِ مِن المسحِ ـ: قال بمسحِ أكثرِه، ولذا كان النبيُّ ﷺ يستعملُ يدَيْهِ جميعًا لمسحِ الرأسِ، وهذا يعني الأغلبَ، والسُّنَّةُ تُفسِّرُ القرآنَ وتُبيِّنُهُ، ولذا قُلْنا بوجوبِ التغليبِ في المسحِ، لا الاستيعابِ التامِّ، لمشقَّتِهِ واستحالتِه، ولا بالرُّبُعِ وما دونَه، لأنّه لا يتحقَّقُ به معنى الرأسِ، ولا يُطابِقُ العملَ المرفوعَ ولا عملَ جمهورِ الصحابةِ والتابِعِين.
ويدلُّ على عدمِ الاستيعابِ: تركُ الغَسْلِ في الرأسِ، وتركُ العَدَدِ على الصحيحِ فيه، وأكثرُ الصحابةِ والتابِعينَ على أنّ مسحَ الرأسِ لا يكونُ أكثَر مِن مرةٍ، والواردُ في الزيادةِ على الواحدةِ في مَسْحِ الرأسِ مِن الحديثِ معلولٌ، ولذا قال مجاهدٌ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٠) (١ /٧).]] وسعيدُ بنُ جُبيرٍ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٤٢) (١ /٢٢).]]: «لَوْ كُنْتُ عَلى شاطِئِ الفُراتِ، ما زِدتُّ عَلى مَسْحَةٍ».
ورُوِيَ عن عثمانَ[[أخرجه أبو داود (١٠٧) (١ /٢٦) و(١١٠) (١ /٢٧).]] وأنسٍ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٤٠) (١ /٢٢).]] العَدَدُ.
مسحُ الرأسِ بماءٍ جديدٍ:
ويُمسَحُ الرأسُ بماءٍ جديدٍ، لأنّه عضوٌ جديدٌ، وخُصَّ بالذِّكْرِ فيُخَصُّ بالعملِ، ولِما في «الصحيحِ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ مرفوعًا: «ومَسَحَ بِرَأْسِهِ بِماءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ» [[أخرجه مسلم (٢٣٦) (١ /٢١١).]].
حكمُ مسحِ الأُذُنَيْنِ وصفتُهُ:
وأمّا الأُذُنانِ، فيُشرَعُ مسحُهما بلا خلافٍ عندَ الصحابةِ، وقد جاء مسحُ النبيِّ ﷺ لأُذُنَيْهِ في حديثِ ابنِ عبّاسٍ في «السُّننِ»[[أخرجه أبو داود (١٣٧) (١ /٣٤)، والترمذي (٣٦) (١ /٥٢)، والنسائي (١٠٢) (١ /٧٤)، وابن ماجه (٤٣٩) (١ /١٥١).]]، وقد صحَّ عن عمرَ وعثمانَ وعليٍّ وابنِ عبّاسٍ، والمسحُ يكونُ لظاهرِهما وباطنِهما.
ومسحُ الأُذنَيْنِ سُنَّةٌ عندَ عامَّةِ السلفِ، ولم يُخرِجِ الشيخانِ في مسحِ الأذنَيْنِ حديثًا، وقد جاء عن جماعةٍ مِن الصحابةِ العملُ على ذلك، والتيسيرُ فيه، وقد صحَّ عن ابنِ عمرَ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٢٤) (١ /١١)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٦٣) (١ /٢٤).]] وأبي هريرةَ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٢٧) (١ /١٢).]] قولُهما: «الأُذُنانِ مِنَ الرَّأْسِ»، ورُوِيَ مرفوعًا[[أخرجه أحمد (٢٢٢٢٣) (٥ /٢٥٨)، وأبو داود (١٣٤) (١ /٣٣)، والترمذي (٣٧) (١ /٥٣)، وابن ماجه (٤٤٤) (١ /١٥٢).]]، وفيه لِينٌ، ومرادُهما: في إلحاقِهما بالعضوِ الممسوحِ، وهو الرأسُ، فيَأْخُذانِ حُكْمَهُ مسحًا، ولا يَلْحقانِ العضوَ المغسولَ، وهو الوجهُ، فيَأْخُذا حُكْمَهُ غَسْلًا.
ويدلُّ على هذا: أنّ ابنَ عمرَ سُئِلَ عن نسيانِ مسحِ الأُذنَيْنِ، فقال: «الأُذُنانِ مِنَ الرَّأْسِ»، ولم يرَ بذلك بأسًا، كما صحَّ عندَ ابنِ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٨ /١٧٠).]].
وفي إيجابِ مسحِ الأذنَيْنِ في الوضوءِ قولٌ متأخِّرٌ عن الصدرِ الأولِ ـ كما يأتي بيانُهُ ـ وهو مرجوحٌ، مِن وجوهٍ:
أولًا: أنّ مسحَ الأُذنَيْنِ لم يَرِدْ في كثيرٍ مِن أحاديثِ الوضوءِ الصحيحةِ، ولم يُخرِجِ البخاريُّ ومسلمٌ منها شيئًا، والمسحُ لو كانتِ المداومةُ عليه، لَلَحِقَ بقيَّةَ الأعضاءِ، لظهورِهِ في العملِ الظاهرِ، وعدمُ استفاضةِ النقلِ عن الصحابةِ دليلٌ على أنّ الأذنَ لا تأخُذُ حُكْمَ العضوِ المستقلِّ بنفسِه، فيَبْطُلَ الوضوءُ بتركِها.
ثانيًا: لا يَثبُتُ عن أحدٍ مِن الصحابةِ النصُّ على إيجابِ مسحِ الأُذنَيْنِ، ولا إبطالِ الوضوءِ بتركِهما، بل الثابتُ خلافُ ذلك، كما روى غَيْلانُ بنُ عبدِ اللهِ أنّ ابنَ عمرَ سألَهُ سائلٌ، قال: إنّه توضَّأَ ونَسِيَ أنْ يمسَحَ أُذُنَيْه؟ قال: فقال ابنُ عمرَ: الأُذُنانِ مِن الرأسِ، ولم يرَ عليه بأسًا[[«تفسير الطبري» (٨ /١٧٠).]].
وهكذا التابِعونَ لا يُعرَفُ القولُ بالوجوبِ عن أحدٍ منهم، وقد جاء عن قتادةَ قولانِ صحيحانِ، واحدٌ: بالإعادةِ لمَن نَسِي، والآخَرُ: بعدمِها، والأصحُّ قولُه فيما يُوافِقُ ظاهِرَ السُّنَّةِ وما عليه الناسُ في القرونِ المُفضَّلةِ.
ثالثًا: أنّ الأُذُنَيْنِ مِن الرأسِ، والرأسُ حقُّه التيسيرُ، وقد سمّاهُ اللهُ في كتابِه، ومع ذلك فلو ترَكَ المتوضِّئُ شيئًا بحجمِ الأُذُنِ منه، لم يَبطُلْ وضوءُهُ وعُدَّ ماسحًا لرأسِه، ولذا كان حقُّ الأُذُنِ المسحَ لا الغَسْلَ.
ومَن ترَكَ رأسَهُ ومسَحَ بأُذنَيْهِ فقطْ، لم يُجزِئْهُ، لأنّها تابعةٌ ليستْ مقصودةً لِذاتِها كحالِ اللِّحْيةِ مع الوجهِ، والمضمضةِ والاستِنشاقِ مع الوجهِ، وفي هذا قرينةٌ على عدمِ رجحانِ قولِ مَن قال: «إنّه يُجزئُ شيءٌ يسيرٌ مِن الرأسِ ولو بحجمِ الأُذنِ»، لأنّه لو صحَّ ذلك، لَأَجزأَتِ الأذنُ عن الرأسِ بالمسحِ، لأنّها منه على قولِهم.
والفمُ وداخِلةُ الأنفِ ألصَقُ بالوجهِ وأقرَبُ مِن الأُذنَيْنِ بالنسبةِ للرأسِ، وكلُّ مَن خفَّفَ في المضمضةِ والاستنشاقِ، فحقُّه التخفيفُ في مسحِ الأُذنَيْنِ مِن بابِ أولى.
وعامَّةُ السلفِ يجعلونَ مسحَ الأذنَيْنِ مع الرأسِ لا مع الوجهِ، وحُكْمُهما المَسْحُ لا الغَسْلُ، ومنهم: مَن جعَلَ ما أقبَلَ مع الوجهِ فيُغسَلُ، وما أدبَرَ مع الرأسِ فيُمسَحُ، رُوِيَ عن الشعبيِّ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٦٥) (١ /٢٤)، والطبري في «تفسيره» (٨ /١٨٠).]]، ولا سلَفَ له، ومنهم: مَن جعَلَهما معهما جميعًا، تُغسلانِ مع الوجهِ عندَ غسلِه، وتُمسَحانِ مع الرأسِ عندَ مسحِه، وهذا أضعَفُ الأقوالِ.
غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ:
وقولُه تعالى: ﴿وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ﴾، فيه وجوبُ غَسْلِ الرِّجلَيْنِ إلى الكعبَيْنِ، ويدخُلُ الكعبانِ في الغَسْلِ كما يدخُلُ المرفقانِ مع اليدَيْنِ، ولمّا كانتِ الرِّجْلانِ آخِرَ أعضاءِ الوضوءِ، وتَعُمُّ البَلْوى بتلبُّسِهما بالترابِ وقَذَرِ الأرضِ، ويتساهلُ بهما الناسُ أكثَرَ مِن تساهُلِهم بغيرِهما، جاء التشديدُ في الحديثِ فيهما، وإلاَّ فالتشديدُ للأعضاءِ جميعًا، ولكنَّ النصوصَ تأتي فيما يَتهاونُ الناسُ فيه غالبًا ولو أخَذَ غيرُهُ مِثلَ حُكْمِه، وفي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو[[أخرجه البخاري (٦٠) (١ /٢٢)، ومسلم (٢٤١) (١ /٢١٤).]] وأبي هريرةَ[[أخرجه البخاري (١٦٥) (١ /٤٤)، ومسلم (٢٤٢) (١ /٢١٤).]]، مرفوعًا، أنّ النبيَّ ﷺ قال فيمَن ترَكَ لُمْعةً في قدمِهِ: (ويْلٌ لِلأَعْقابِ مِنَ النّارِ)، وقد كان الصحابةُ يَحرِصونَ على غسلِ القَدَمِ أكثَرَ مِن غيرِها، وصحَّ عن ابنِ عمرَ أنّه كان يغسلُ قدمَيْهِ بأكثرِ وضوئِه[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧٦) (١ /٢٥).]]، وصحَّ عنه أنّه يغسلُهما سبعًا سبعًا[[أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (٢ /٥٠).]]، روى ذلك عنه نافعٌ.
وفي الآيةِ قراءتانِ: الأُولى بفتحِ اللامِ في قولِه: ﴿وأَرْجُلَكُمْ﴾ عطفًا على قولِه: ﴿وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ﴾، وبكسرِ اللامِ عطفًا على قولِه: ﴿وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾، والأُولى للغَسْلِ، والثانيةُ للمَسْحِ.
وكان أحمدُ يعيدُ آخِرَ الآيةِ في حكمِ الرِّجْلَيْنِ إلى أوَّلها في قولِهِ: ﴿فاغْسِلُوا ﴾، ولمّا سُئِلَ عمَّن مـسَـحَ رجلَيْهِ، قال: لا يُجْزِئُهُ، يعودُ إلى أوَّل الآية[[«مسائِل صالح» (٢٧).]].
وفي الآيةِ: تنبيهٌ على وجوبِ ترتيبِ أعضاءِ الوضوءِ، وبالآيةِ استدلَّ أحمدُ على ذلك، كما نقَلَ عنه ابنُهُ عبد الله أنه سألهُ عن رجلٍ أرادَ الوضوءَ، فاغتمَسَ بالماءِ يجزيه؟ قال: أمّا مِن الوضوءِ فلا يجزيه حتى يكونَ على مخرجِ الكتابِ وكما توضَّأ النبي (ص). وكذلك نقَلَهُ عنه ابنُهُ صالحٌ من «مسائله»، قال أحمد: فرضه الله في القرآنِ تأليف شيءٍ بعد شيءٍ[[«مسائل عبد الله» (٢٧)، و«مسائل صالح» (٣٣٩).]]. والترتيبُ واجبٌ على الصحيحِ مِن أقوالِ العلماءِ، وذلك مِن وجوهٍ:
الأوَّلُ: أنّ ترتيبَ الذِّكْرِ قرينةٌ على ترتيبِ الفِعْلِ في القرآنِ، ويؤيِّدُ ذلك: أنّ اللهَ أدخَلَ ممسوحًا ـ وهو الرأسُ ـ بينَ مغسولاتٍ، لبيانِ قصدِ الترتيبِ بينَ الأعضاءِ.
الـثـاني: أنّ النبيَّ ﷺ فسَّرَ الآيةَ بدوامِ الترتيبِ، فمع وضوئِهِ لكلِّ صلاةٍ وكثرةِ وقوعِ ذلك منه وتعدُّدِ الرواياتِ الصحيحةِ، لم يصحَّ أنّ النبيَّ ﷺ لم يرتِّبْ، والتيسيرُ مَقصَدٌ مِن مقاصدِ الشريعةِ، والفعلُ متكرِّرٌ في اليومِ مرّاتٍ، ولمّا لم يُخالِفْ، دلَّ على قصدِ الترتيبِ ووجوبِه.
الثالثُ: أنّ النبيَّ ﷺ يسَّرَ في عدمِ الترتيبِ بينَ أعضاءِ التيمُّمِ، فصحَّتِ الرواياتُ في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي الجُهَيْمِ، عن النبيِّ ﷺ، قال: «فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ ويَدَيْهِ»[[أخرجه البخاري (٣٣٧) (١ /٧٥)، ومسلم (٣٦٩) (١ /٢٨١).]]، وفي حديثِ عمّارٍ، في «الصحيحَيْنِ»: «مَسَحَ بِهِما وجْهَهُ وكَفَّيْهِ»[[أخرجه البخاري (٣٣٨) (١ /٧٥)، ومسلم (٣٦٨) (١ /٢٨٠).]]، وفي روايةٍ لمسلمٍ مِن حديثِ عمّارٍ، قال فيه: «ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً واحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمالَ عَلى اليَمِينِ، وظاهِرَ كَفَّيْهِ، ووَجْهَهُ»[[أخرجه مسلم (٣٦٨) (١ /٢٨٠).]]، مع أنّ آيةَ التيمُّمِ بدأتْ بالوجهِ: ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ مِنهُ﴾، ومع قلةِ التيمُّمِ وقوعًا منه ﷺ، ومع هذا صَحَّتِ الروايةُ بالتقديمِ والتأخيرِ، وهي وإن كان بعضُها رُوِيَ بالمعنى، فإنّ الراويَ إنْ تساهَلَ في تقديمِ شيءٍ على شيءٍ، دلَّ على فهمِه التيسيرَ منه، ولذا فالرُّواةُ يُشدِّدونَ في أبوابِ ترتيبِ أعضاءِ الوضوءِ عندَ روايتِها مع كثرتِها.
وبعضُهُمْ يستدِلُّ برواياتِ عدمِ الترتيبِ في التيمُّمِ في بعضِ الأحاديثِ على جوازِ عدمِ الترتيبِ في الوضوءِ.
وهذا فيه نظرٌ، فدَلالتُها على عكسِ ذلك أظهَرُ وأشَدُّ، وحقُّ رواياتِ الوضوءِ أنْ تُنقَلَ على عدمِ ترتيبٍ أوْلى مِن التيمُّمِ، ومع ذلك أُحكِمتْ في «الصحيحَيْنِ» وعامَّةِ الرِّوايةِ الصحيحةِ خارجَه على ترتيبِ الأعضاءِ كما في القرآنِ، وورودُ تقديمٍ وتأخيرٍ في التيمُّمِ دالٌّ على التشديدِ في الوضوءِ والتخفيفِ في التيمُّمِ، لا أنّ إحكامَ رواياتِ الوضوءِ دالٌّ على التشديدِ في أعضاءِ التيمُّمِ، ولا أنّ اختلافَ رواياتِ التيمُّمِ دالٌّ على التساهُلِ في أعضاءِ الوضوءِ، فالتحقيقُ بينَ ذلك.
الرابعُ: أنّ اللهَ ابتدَأَ بالأمرِ بغَسْلِ الوجهِ في الآيةِ، ولو لم يُقصَدِ الترتيبُ، لكان غسلُ اليدَيْنِ إلى المرفقَيْنِ أيسَرَ للمتوضِّئِ، لأنّ يدَه أولُ ما يقعُ في الماءِ، وإنهاؤُها أقرَبُ وأيسَرُ عليه مِن جهةِ النظرِ المجرَّدِ للتقديمِ، ولكنْ قُصِدَ الترتيبُ لحِكْمةٍ، فانتقلَ للبداءةِ بالوجهِ على اليدَيْنِ، واللهُ أعلَمُ.
وبوجوبِ الترتيبِ قال غيرُ واحدٍ مِن السلفِ، كما صحَّ عن ابنِ المسيَّبِ.
ترتيبُ أعضاءِ الفرضِ الواحدِ:
وأمّا عدمُ الترتيبِ بينَ أعضاءِ الفرضِ الواحدِ، كالقَدمَيْنِ واليدَيْنِ في الغَسْلِ، وفي الخُفَّيْنِ في المسحِ، فالأمرُ فيه يسيرٌ، وقد جاء عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ القولُ بجوازِ تنكيسِ الأعضاءِ، وهو منقطِعٌ عنهما، وحمَلَهُ أحمدُ على تقديمِ اليُسرى على اليمنى في العضوِ من الفرضِ، كما نقَلَهُ عنه ابنُهُ عبد الله، وقد استدَلَّ أحمدُ بجوازِ ذلك بإجمالِ الكتابِ، كما نقله عنه ابنُ هانئ[[«مسائل عبد الله» (٢٧)، و«مسائل ابن هانئ» (١ /١٤).]]، وهي روايةٌ أنكرها الزركشيُّ[[«شرح الزركشي» (١ /٣٤).]].
ويروى عن أحمد روايةٌ بوجوبِ تقديم اليمين على الشمال، وقد قال بجواز تنكيس الأعضاء جميعًا النَّخَعيُّ والحسَنُ والثوريُّ، وبه قال أهلُ الرأيِ.
ويخفِّفُ بعضُ السلفِ في تركِ اللُّمْعةِ والبُقْعةِ اليسيرةِ مِن عضوٍ قد غسَلَهُ، فلا يرَوْنَ في استدراكِها بعدَ الوضوءِ مِن حَرَجٍ، ولو كانتْ في غيرِ القدمِ كالوجهِ واليدِ، ولا يرَوْنَ غسلَ ما بعدَها، وجاء هذا عن سالمِ بنِ عمرَ.
ثمَّ قال تعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾، فيه وجوبُ الغُسْلِ من الجنابةِ، وأنّ الوضوءَ لا يرفَعُها بالإجماعِ، ولكنْ يُخفِّفها بما لا تُسْتَحَلُّ معه الصلاةُ، وقد استدَلَّ أحمدُ بعمومِ الآيةِ على أنّ الرجلَ إنْ وطئ امرأتَهُ وهي حائِضٌ: أنه يجبُ عليها الغسلُ للجنابةِ ولو لم ينقطعْ حيضُها، كما نقلَهُ عنه أبو يعلى، ونقَلَ عَنه ابنُ منصور التيسيرَ في ذلك[[«الروايتين والوَجْهَين» (١ /١٠٠)، «ومسائل ابن منصور» (١ /٩٠).]].
وبهذه الآية استدَلَّ أحمدُ على عدمِ وجوبِ الترتيبِ في غسلِ الجنابة، لأِنَّ الله أجمَلَ عند الأمرِ بالغُسْلِ، ورَتَّب عند الوضوءِ.
ثمَّ قال تعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ مِن الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ مِنهُ﴾، وقد تقدَّمَ الكلامُ على شيءٍ مِن معنى مُلامَسةِ النِّساءِ والتيمُّمِ والماءِ، وحُكْمِ ذلك في سورةِ النِّساءِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ﴾ [٤٣].
ثمَّ قال تعالى: ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِن حَرَجٍ﴾، وهذه إرادتُه الشرعيَّةُ، وهي أحكامُهُ حلالُهُ وحرامُهُ وتشريعُه، فلا يُنزِلُ حُكْمًا إلاَّ وهو مقدورٌ عليه مِن المُكلَّفِينَ، كما قال: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦].
ثمَّ قال: ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، وفي هذا ذِكْرُ التعليلِ، أنّه سبحانَه لم يُرِدِ المشقَّةَ على عبادِه، ولكنَّه أراد تطهيرَهم وتنزيهَهُم مِن الأنجاسِ والأقذارِ، وذِكرُ التعليلِ والغايةِ مع الحُكْمِ فيه تسكينٌ للنفوسِ لِتَقْبَلَهُ وتُسَلِّمَ به، وهذا إن كان في حُكْمِ الخالقِ للمخلوقِ، فإنّ حُكْمَ الحاكمِ مع المحكومِ والراعِي مع الرعيَّةِ: مِن بابِ أولى.
وأضافَ اللهُ النِّعْمةَ إليه، تعظيمًا لها، وهي نِعْمةُ الإسلامِ وما فيه مِن تشريعٍ وأحكامٍ وحِكَمٍ لصالحِ العِبادِ، ثمَّ أراد مِن العِبادِ شُكْرَ النعمةِ، وأعظمُ النِّعَمِ المُستحِقَّةِ للشُّكْرِ نعمةُ دينِه وتشريعِه، وكلَّما تجلّى للعبدِ شيءٌ مِن عِلْمِ الوحيِ أو العملِ به، فإنّ ذلك يَستوجِبُ تجديدَ الشكرِ، ليُحفَظَ الدِّينُ مِن سُوءِ القصدِ وسُوءِ العملِ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبࣰا فَٱطَّهَّرُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُم مِّنۡهُۚ مَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیَجۡعَلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ حَرَجࣲ وَلَـٰكِن یُرِیدُ لِیُطَهِّرَكُمۡ وَلِیُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق