الباحث القرآني
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآيَةُ. قالَ أبُو بَكْرٍ ظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّهارَةِ بَعْدَ القِيامِ إلى الصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَ القِيامَ إلَيْها شَرْطًا لِفِعْلِ الطَّهارَةِ، وحُكْمُ الجَزاءِ أنْ يَتَأخَّرَ عَنِ الشَّرْطِ، ألا تَرى أنَّ مَن قالَ لِامْرَأتِهِ: ( إنْ دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ ) إنَّما يَقَعُ الطَّلاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وإذا قِيلَ: ( إذا لَقِيتَ زَيْدًا فَأكْرِمْهُ ) أنَّهُ مُوجِبٌ لِلْإكْرامِ بَعْدَ اللِّقاءِ ؟ وهَذا لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّهُ مُقْتَضى اللَّفْظِ وحَقِيقَتُهُ؛ ولا خِلافَ بَيْنَ السَّلَفِ والخَلَفِ أنَّ القِيامَ إلى الصَّلاةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِإيجابِ الطَّهارَةِ وأنَّ وُجُوبَ الطَّهارَةِ مُتَعَلِّقٌ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ القِيامِ، فَلَيْسَ إذًا هَذا اللَّفْظُ عُمُومًا في إيجابِ الطَّهارَةِ بَعْدَ القِيامِ إلى الصَّلاةِ، إذْ كانَ الحُكْمُ فِيهِ مُتَعَلِّقًا بِضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ. ولَيْسَ في اللَّفْظِ أيْضًا ما يُوجِبُ تَكْرارَ وُجُوبِ الطَّهارَةِ بَعْدَ القِيامِ إلى الصَّلاةِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: ما ذَكَرْنا مِن تَعَلُّقِ الحُكْمِ بِضَمِيرٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ يُحْتاجُ فِيهِ إلى طَلَبِ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ مِن غَيْرِهِ والثّانِي: أنَّ ( إذا ) لا تُوجِبُ التَّكْرارَ في لُغَةِ العَرَبِ؛ ألا تَرى أنَّ مَن قالَ لِرَجُلٍ: ( إذا دَخَلَ زَيْدٌ الدّارَ فَأعْطِهِ دِرْهَمًا ) فَدَخَلَها مَرَّةً أنَّهُ يَسْتَحِقُّ دِرْهَمًا، فَإنْ دَخَلَها مَرَّةً أُخْرى لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ؟ وكَذَلِكَ مَن قالَ لِامْرَأتِهِ: ( إذا دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ ) فَدَخَلَتْها مَرَّةً طُلِّقَتْ، فَإنْ دَخَلَتْها مَرَّةً أُخْرى لَمْ تُطَلَّقْ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى وُجُوبِ تَكْرارِ الطَّهارَةِ لِتَكْرارِ القِيامِ إلَيْها. .
فَإنْ قِيلَ: فَلَمْ يَتَوَضَّأْ أحَدٌ بِالآيَةِ إلّا مَرَّةً واحِدَةً. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ الآيَةَ غَيْرُ مُكْتَفِيَةٍ بِنَفْسِها في إيجابِ الطَّهارَةِ دُونَ بَيانِ مُرادِ الضَّمِيرِ بِها، فَقَوْلُ القائِلِ: " إنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِالآيَةِ إلّا مَرَّةً واحِدَةً " خَطَأٌ؛ لِأنَّ الآيَةَ في مَعْنى المُجْمَلِ المُفْتَقِرِ إلى البَيانِ، فَمَهْما ورَدَ بِهِ البَيانُ فَهو المُرادُ الَّذِي بِهِ تَعَلَّقَ الحُكْمُ عَلى وجْهِ الإفْرادِ أوِ التَّكْرارِ عَلى حَسَبِ ما اقْتَضاهُ بَيانُ المُرادِ، ولَوْ كانَ لَفْظُ الآيَةِ عُمُومًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ فِيما ورَدَ فِيهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلى البَيانِ لَمْ يَكُنْ أيْضًا مُوجِبًا لِتَكْرارِ الطَّهارَةِ عِنْدَ القِيامِ إلَيْها مِن جِهَةِ اللَّفْظِ، وإنَّما كانَ يُوجِبُ التَّكْرارَ مِن جِهَةِ المَعْنى الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وُجُوبُ الطَّهارَةِ وهو الحَدَثُ دُونَ القِيامِ إلَيْها. وقَدْ حَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مُسْلِمٍ الكَرْخِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عاصِمٍ عَنْ سُفْيانَ عَنْ عَلْقَمَةَ (p-٣٣٠)بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: «صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ فَتَحَ مَكَّةَ خَمْسَ صَلَواتٍ بِوُضُوءٍ واحِدٍ ومَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ قالَ: عَمْدًا فَعَلْتُهُ» . وحَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى الذُّهْلِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ خالِدٍ الوَهْبِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى بْنِ حِبّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قالَ: قُلْتُ لَهُ: «أرَ أيْتَ وُضُوءَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِكُلِّ صَلاةٍ طاهِرًا كانَ أوْ غَيْرَ طاهِرٍ عَمَّنْ هو ؟ قالَ حَدَّثَتْنِيهِ أسْماءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الخَطّابِ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أبِي عامِرٍ الغَسِيلِ حَدَّثَها: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ أمَرَ بِالوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ طاهِرًا كانَ أوْ غَيْرَ طاهِرٍ، فَلَمّا شَقَّ ذَلِكَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ أمَرَ بِالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ ووَضَعَ عَنْهُ الوُضُوءَ» إلّا مِن حَدَثٍ، فَكانَ عَبْدُ اللَّهِ يَرى أنَّ بِهِ قُوَّةً عَلى ذَلِكَ فَفَعَلَهُ حَتّى ماتَ فَقَدْ دَلَّ الحَدِيثُ الأوَّلُ عَلى أنَّ القِيامَ إلى الصَّلاةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلطَّهارَةِ؛ إذْ لَمْ يُجَدِّدِ النَّبِيُّ ﷺ لِكُلِّ صَلاةٍ طَهارَةً، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ فِيهِ ضَمِيرًا بِهِ يَتَعَلَّقُ بِإيجابِ الطَّهارَةِ. وبَيَّنَ في الحَدِيثِ الثّانِي أنَّ الضَّمِيرَ هو الحَدَثُ لِقَوْلِهِ: ووَضَعَ عَنْهُ الوُضُوءَ إلّا مِن حَدَثٍ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ هو الحَدَثُ ما رَوى سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا أراقَ ماءً نُكَلِّمُهُ فَلا يُكَلِّمُنا ونُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلا يُكَلِّمُنا حَتّى يَأْتِيَ أهْلَهُ فَيَتَوَضَّأ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، فَقُلْنا لَهُ في ذَلِكَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الرُّخْصَةِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآيَةُ،» فَأخْبَرَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في إيجابِ الوُضُوءِ مِنَ الحَدَثِ عِنْدَ القِيامِ إلى الصَّلاةِ. وحَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ في الرِّوايَةِ قالَ: أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ أنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنصُورٍ حَدَّثَهم قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: أخْبَرَنا أيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ مِنَ الخَلاءِ، فَقُدِّمَ إلَيْهِ الطَّعامُ، فَقالُوا: ألا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ ؟ قالَ: إنَّما أُمِرْتُ بِالوُضُوءِ إذا قُمْتُ إلى الصَّلاةِ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: سَألُوهُ عَنِ الوُضُوءِ مِنَ الحَدَثِ عِنْدَ الطَّعامِ فَأخْبَرَ أنَّهُ أُمِرَ بِالوُضُوءِ مِنَ الحَدَثِ عِنْدَ القِيامِ إلى الصَّلاةِ. ورَوى أبُو مَعْشَرٍ المَدَنِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْلا أنْ أشُقَّ عَلى أُمَّتِي لَأمَرْتُ في كُلِّ صَلاةٍ بِوُضُوءٍ ومَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِواكٍ»؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ إيجابَ الوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الآيَةَ لَوْ أوْجَبَتْ ذَلِكَ لَما قالَ: ( لَأمَرْتُ في كُلِّ صَلاةٍ بِوُضُوءٍ ) والثّانِي: إخْبارُهُ بِأنَّهُ لَوْ أمَرَ بِهِ لَكانَ (p-٣٣١)واجِبًا بِأمْرِهِ دُونَ الآيَةِ. ورَوى مالِكُ بْنُ أنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ قالَ: إذا قُمْتُمْ مِنَ المَضْجَعِ يَعْنِي النَّوْمَ وقَدْ كانَ رَدُّ السَّلامِ مَحْظُورًا إلّا بِطَهارَةٍ.
ورَوى قَتادَةُ عَنِ الحَسَنِ عَنْ حُصَيْنِ أبِي ساسانَ عَنِ المُهاجِرِ قالَ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهو يَتَوَضَّأُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمّا فَرَغَ مِن وُضُوئِهِ قالَ: ما مَنَعَنِي أنْ أرُدَّ عَلَيْكَ السَّلامَ إلّا أنِّي كُنْتُ عَلى غَيْرِ وُضُوءٍ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ شاذانَ قالَ: حَدَّثَنا مُعَلّى بْنُ مَنصُورٍ قالَ: أخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ ثابِتٍ العَبْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا نافِعٌ قالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ في حاجَةٍ إلى ابْنِ عَبّاسٍ، فَلَمّا قَضى حاجَتَهُ مِنِ ابْنِ عَبّاسٍ كانَ مِن حَدِيثِهِ يَوْمَئِذٍ قالَ: «بَيْنَما النَّبِيُّ ﷺ في سِكَّةٍ مِن سِكَكِ المَدِينَةِ وقَدْ خَرَجَ مِن غائِطٍ أوْ بَوْلٍ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ ضَرَبَ بِكَفَّيْهِ عَلى الحائِطِ ثُمَّ مَسَحَ وجْهَهُ ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرى فَمَسَحَ ذِراعَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ رَدَّ عَلى الرَّجُلِ السَّلامَ وقالَ: لَمْ يَمْنَعْنِي أنْ أرُدَّ عَلَيْكَ إلّا أنِّي لَمْ أكُنْ عَلى وُضُوءٍ أوْ قالَ: عَلى طَهارَةٍ» . فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ رَدَّ السَّلامِ كانَ مَشْرُوطًا فِيهِ الطَّهارَةُ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كانَ خاصًّا لِلنَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُرْوَ أنَّهُ نَهى عَنْ رَدِّ السَّلامِ إلّا عَلى طَهارَةٍ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ عَلى الوُجُوبِ أنَّهُ تَيَمَّمَ حِينَ خافَ فَوْتَ الرَّدِّ؛ لِأنَّ رَدَّ السَّلامِ إنَّما يَكُونُ عَلى الحالِ، فَإذا تَراخى فاتَ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ مَن خافَ فَوْتَ صَلاةِ العِيدِ أوْ صَلاةِ الجِنازَةِ إنْ تَوَضَّأ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ. وجائِزٌ أنْ يَكُونَ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا الحُكْمُ قَدْ كانَ باقِيًا إلى أنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعالى. وقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ أنَّهم كانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلاةٍ؛ وهَذا مَحْمُولٌ عَلى أنَّهم فَعَلُوهُ اسْتِحْبابًا وقالَ سَعْدٌ: ( إذا تَوَضَّأْتَ فَصَلِّ بِوُضُوئِكَ ما لَمْ تُحْدِثْ ) . وقَدْ رَوى ابْنُ أبِي ذِئْبٍ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلى ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ كانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاةٍ ويَتَأوَّلُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ فَأنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبّاسٍ وقَدْ رُوِيَ نَفْيُ إيجابِ الوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ مِن غَيْرِ حَدَثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وأبِي مُوسى وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وعُبَيْدَةَ السَّلْمانِيِّ وأبِي العالِيَةِ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وإبْراهِيمَ والحَسَنِ؛ ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في ذَلِكَ.
* * *
بابُ فَضْلِ تَجْدِيدِ الوُضُوءِ
وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أخْبارٌ في فَضِيلَةِ تَجْدِيدِ الوُضُوءِ، مِنها ما حَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ بْنُ زَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدٌ قالَ: حَدَّثَنا سَلامٌ الطَّوِيلُ عَنْ زَيْدٍ العَمِّيِّ (p-٣٣٢)عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «دَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِماءٍ فَتَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً وقالَ: هَذا وظِيفَةُ الوُضُوءِ وُضُوءُ مَن لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلاةً إلّا بِهِ ثُمَّ تَحَدَّثَ ساعَةً، ثُمَّ دَعا بِماءٍ فَتَوَضَّأ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَقالَ: هَذا وُضُوءُ مَن تَوَضَّأ بِهِ ضاعَفَ اللَّهُ لَهُ الأجْرَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَحَدَّثَ ساعَةً، ثُمَّ دَعا بِماءٍ فَتَوَضَّأ ثَلاثًا ثَلاثًا فَقالَ: هَذا وُضُوئِي ووُضُوءُ النَّبِيِّينَ مِن قَبْلِي» . ورُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الوُضُوءُ عَلى الوُضُوءِ نُورٌ عَلى نُورٍ» . وقالَ ﷺ: «لَوْلا أنْ أشُقَّ عَلى أُمَّتِي لَأمَرْتُهم بِالوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ» . فَهَذا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلى اسْتِحْبابِ الوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ وإنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا؛ وعَلى هَذا يُحْمَلُ ما رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ مِن تَجْدِيدِ الوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ تَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى نَعْلَيْهِ وقالَ: ( هَذا وُضُوءُ مَن لَمْ يُحْدِثْ ) ورَواهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَثَبَتَ بِما قَدَّمْنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ، وثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلى حَقِيقَتِهِ وأنَّ فِيهِ ضَمِيرًا بِهِ تَعَلُّقُ إيجابِ الطَّهارَةِ وأنَّهُ بِمَنزِلَةِ المُجْمَلِ المُفْتَقِرِ إلى البَيانِ لا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِعُمُومِهِ إلّا فِيما قامَ دَلِيلُ مُرادِهِ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أخْبارٌ مُتَواتِرَةٌ في إيجابِ الوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ القِيامَ إلى الصَّلاةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ لِأنَّهُ إذا وجَبَ مِنَ النَّوْمِ لَمْ يَكُنِ القِيامُ إلى الصَّلاةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوجِبًا، ألا تَرى أنَّهُ إذا وجَبَ مِنَ النَّوْمِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِن حَدَثٍ آخَرَ وُضُوءٌ آخَرُ إذا لَمْ يَكُنْ تَوَضَّأ مِنَ النَّوْمِ ؟ فَلَوْ كانَ القِيامُ إلى الصَّلاةِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ لَما وجَبَ مِنَ النَّوْمِ عِنْدَ إرادَةِ القِيامِ إلَيْها، كالسَّبَبَيْنِ إذا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ ثُمَّ وجَبَ مِنَ الأوَّلِ لَمْ يَجِبْ مِنَ الثّانِي؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ ( مِنَ النَّوْمِ ) هو الضَّمِيرُ الَّذِي في الآيَةِ، فَكانَ تَقْدِيرُهُ: ( إذا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ ) عَلى ما رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ النَّوْمَ المُوجِبَ لِلْوُضُوءِ هو النَّوْمُ المُعْتادُ الَّذِي يَجُوزُ أنْ يُقالَ فِيهِ إنَّهُ قامَ مِنَ النَّوْمِ، ومَن نامَ قاعِدًا أوْ ساجِدًا أوْ راكِعًا لا يُقالُ: إنَّهُ قامَ مِنَ النَّوْمِ وإنَّما يُطْلَقُ ذَلِكَ في نَوْمِ المُضْطَجِعِ، ومَن قالَ: إنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ وإنَّما وجَبَ بِهِ الطَّهارَةُ لِغَلَبَةِ الحالِ في وُجُودِ الحَدَثِ فِيهِ فَإنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى وُجُوبِ الطَّهارَةِ مِنَ الرِّيحِ، وإذا كانَ المَعْنى عَلى ما وصَفْنا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ في مَضْمُونِ الآيَةِ إيجابُ الوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ ومِنَ الرِّيحِ، وقَدْ أُرِيدَ بِهِ أيْضًا إيجابُ الوُضُوءِ مِنَ الغائِطِ والبَوْلِ وذَلِكَ مِن ضَمِيرِ الآيَةِ؛ لِأنَّهُ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ﴾ والغائِطُ هو المُطْمَئِنُّ مِنَ الأرْضِ، وكانُوا يَأْتُونَهُ (p-٣٣٣)لِقَضاءِ حَوائِجِهِمْ فِيهِ، وذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلى وُجُوبِ الوُضُوءِ مِنَ الغائِطِ والبَوْلِ وسَلَسِ البَوْلِ والمَذْيِ ودَمِ الِاسْتِحاضَةِ وسائِرِ ما يَسْتَتِرُ الإنْسانُ عِنْدَ وُجُودِهِ عَنِ النّاسِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَأْتُونَ الغائِطَ لِلِاسْتِتارِ عَنِ النّاسِ وإخْفاءِ ما يَكُونُ مِنهم، وذَلِكَ لا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأشْياءِ الخارِجَةِ مِنَ البَدَنِ الَّتِي في العادَةِ يَسْتُرُها عَنِ النّاسِ مِن سَلَسِ البَوْلِ والمَذْيِ ودَمِ الِاسْتِحاضَةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ كُلَّها أحْداثٌ يَشْتَمِلُ عَلَيْها ضَمِيرُ الآيَةِ. وقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ وسائِرُ فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى نَفْيِ إيجابِ الوُضُوءِ عَلى مَن نامَ قاعِدًا غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلى شَيْءٍ؛ رَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أخَّرَ صَلاةَ العِشاءِ ذاتَ لَيْلَةٍ حَتّى نامَ النّاسُ ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا، فَجاءَهُ عُمَرُ فَقالَ: الصَّلاةَ يا رَسُولَ اللَّهِ فَخَرَجَ وصَلّى؛ ولَمْ يَذْكُرْ أنَّهم تَوَضَّئُوا» . ورُوِيَ عَنْ أنَسٍ قالَ: «كُنّا نَجِيءُ إلى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَنْتَظِرُ الصَّلاةَ فَمِنّا مَن نَعَسَ ومِنّا مَن نامَ ولا نُعِيدُ وُضُوءًا» .
ورَوى نافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قالَ: ( لا يَجِبُ عَلَيْهِ الوُضُوءُ حَتّى يَضَعَ جَنْبَهُ ويَنامَ ) . وقَدْ ذَكَرْنا اخْتِلافَ الفُقَهاءِ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. ورَوى أبُو يُوسُفَ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أنَّهُ كانَ يُصَلِّي ولا يَتَوَضَّأُ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: إنِّي لَسْتُ كَأحَدِكم إنَّهُ تَنامُ عَيْنايَ ولا يَنامُ قَلْبِي لَوْ أحْدَثْتُ لَعَلِمْتُهُ» وهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّوْمَ في نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وأنَّ إيجابَ الوُضُوءِ فِيهِ إنَّما هو لِما عَسى أنْ يَكُونَ فِيهِ مِنَ الحَدَثِ الَّذِي لا يَشْعُرُ بِهِ وهو الغالِبُ مِن حالِ النّائِمِ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «العَيْنُ وِكاءُ السَّهِ فَإذا نامَتِ العَيْنُ اسْتَطْلَقَ الوِكاءُ»؛ فَلَمّا كانَ الأغْلَبُ في النَّوْمِ الَّذِي يَسْتَثْقِلُ فِيهِ النّائِمُ وُجُودَ الحَدَثِ فِيهِ، حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الحَدَثِ، وهَذا إنَّما هو في النَّوْمِ المُعْتادِ الَّذِي يَضَعُ النّائِمُ جَنْبَهُ عَلى الأرْضِ ويَكُونُ في المُضْطَجِعِ مِن غَيْرِ عِلْمٍ مِنهُ بِما يَكُونُ مِنهُ، فَإذا كانَ جالِسًا أوْ عَلى حالٍ مِن أحْوالِ الصَّلاةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مِثْلِ القِيامِ والرُّكُوعِ والسُّجُودِ لَمْ تُنْتَقَضُ طَهارَتُهُ؛ لِأنَّ هَذِهِ أحْوالٌ يَكُونُ الإنْسانُ فِيها مُتَحَفِّظًا، وإنْ كانَ مِنهُ حَدَثٌ عَلِمَ بِهِ. وقَدْ رَوى يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أبِي العالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لَيْسَ عَلى مَن نامَ ساجِدًا وُضُوءٌ حَتّى يَضْطَجِعَ فَإذا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفاصِلُهُ» .
* فَصْلٌ
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ لَمّا كانَ ضَمِيرُهُ ما وصَفْنا مِنَ القِيامِ مِنَ النَّوْمِ أوْ إرادَةِ القِيامِ إلَيْها في حالِ الحَدَثِ، فَأوْجَبَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ الطَّهارَةِ مِن (p-٣٣٤)الإحْداثِ لِلصَّلاةِ، وكانَتِ الصَّلاةُ اسْمًا لِلْجِنْسِ يَتَناوَلُ سائِرَها مِنَ المَفْرُوضاتِ والنَّوافِلِ، اقْتَضى ذَلِكَ أنْ تَكُونَ مِن شَرائِطِ صِحَّةِ الصَّلاةِ الطَّهارَةُ أيَّ صَلاةٍ كانَتْ؛ إذْ لَمْ تُفَرِّقِ الآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنها، وقَدْ أكَّدَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ» .
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ يَقْتَضِي إيجابَ الغَسْلِ والغَسْلُ اسْمٌ لِإمْرارِ الماءِ عَلى المَوْضِعِ إذا لَمْ تَكُنْ هُناكَ نَجاسَةٌ، وإذا كانَ هُناكَ نَجاسَةٌ فَغَسْلُها إزالَتُها بِإمْرارِ الماءِ أوْ ما يَقُومُ مَقامَهُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ إنَّما المَقْصِدُ فِيهِ إمْرارُ الماءِ عَلى المَوْضِعِ؛ إذْ لَيْسَ هُناكَ نَجاسَةٌ مَشْرُوطٌ إزالَتُها، فَإذًا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلْكُ المَوْضِعِ بِيَدِهِ وإنَّما عَلَيْهِ إمْرارُ الماءِ حَتّى يَجْرِيَ عَلى المَوْضِعِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في ذَلِكَ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: فَقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: ( عَلَيْهِ إمْرارُ الماءِ ودَلْكُ المَوْضِعِ بِيَدِهِ وإلّا لَمْ يَكُنْ غَسْلًا ) . وقالَ آخَرُونَ وهو قَوْلُ أصْحابِنا وعامَّةِ الفُقَهاءِ: ( عَلَيْهِ إجْراءُ الماءِ عَلَيْهِ ولَيْسَ عَلَيْهِ دَلْكُهُ بِيَدِهِ ) .
ورَوى هِشامٌ عَنْ أبِي يُوسُفَ: ( أنَّهُ إنْ مَسَحَ المَوْضِعَ بِالماءِ كَما يَمْسَحُ بِالدُّهْنِ أجْزَأهُ ) . والدَّلِيلُ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مُوجِبِ دَلْكِ المَوْضِعِ أنَّ اسْمَ الغَسْلِ يَقَعُ عَلى إجْراءِ الماءِ عَلى المَوْضِعِ مِن غَيْرِ دَلْكٍ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ كانَ عَلى بَدَنِهِ نَجاسَةٌ فَوالى بَيْنَ صَبِّ الماءِ عَلَيْهِ حَتّى أزالَها بِذَلِكَ غاسِلًا وإنْ لَمْ يَدْلُكْهُ بِيَدِهِ، فَلَمّا كانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الدَّلْكِ لِأجْلِ إمْرارِ الماءِ عَلَيْهِ، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا﴾ فَهو مَتى أجْرى الماءَ عَلى المَوْضِعِ فَقَدْ فَعَلَ مُقْتَضى الآيَةِ ومُوجِبَها؛ فَمَن شَرَطَ فِيهِ دَلْكَ المَوْضِعِ بِيَدِهِ فَقَدْ زادَ فِيهِ ما لَيْسَ مِنهُ، وغَيْرُ جائِزٍ الزِّيادَةُ في النَّصِّ إلّا بِمِثْلِ ما يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ. وأيْضًا فَإنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ هُناكَ شَيْءٌ يُزالُ بِالدَّلْكِ لَمْ يَكُنْ لِدَلْكِ المَوْضِعِ وإمْساسِهِ بِيَدِهِ فائِدَةٌ ولا حُكْمٌ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ إذا دَلَكَهُ بِيَدِهِ أوْ أمَرَّ الماءَ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ دَلْكٍ. وأيْضًا فَلَيْسَ لِدَلْكِ المَوْضِعِ بِيَدِهِ حُكْمٌ في الطَّهارَةِ في سائِرِ الأُصُولِ فَوَجَبَ أنْ لا يَتَعَلَّقَ بِهِ فِيما اخْتُلِفَ فِيهِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: إذا لَمْ يَكُنِ الغَسْلُ مَأْمُورًا بِهِ لِإزالَةِ شَيْءٍ هُناكَ عَلِمْنا أنَّهُ عِبادَةٌ فَمِن حَيْثُ شَرَطَ فِيهِ إمْرارَ الماءِ وجَبَ أنْ يَكُونَ دَلْكُهُ بِيَدِهِ شَرْطًا وإلّا فَلا مَعْنى لِإمْرارِ الماءِ وإجْرائِهِ عَلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ في الأُصُولِ لِإمْرارِ الماءِ عَلى المَوْضِعِ حُكْمٌ في غَسْلِ النَّجاساتِ ولَمْ يَثْبُتْ لِدَلْكِ المَوْضِعِ حُكْمٌ بَلْ حُكْمُهُ ساقِطٌ في إزالَةِ الأنْجاسِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ لَهُ حُكْمٌ لَكانَ اعْتِبارُ الدَّلْكِ فِيها أوْلى، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُهُ في طَهارَةِ الحَدَثِ. وأمّا مَن أجازَ مَسْحَ هَذِهِ الأعْضاءِ المَأْمُورِ بِغَسْلِها فَإنَّ قَوْلَهُ مُخالِفٌ لِظاهِرِ الآيَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (p-٣٣٥)تَعالى شَرَطَ في بَعْضِ الأعْضاءِ الغَسْلَ وفي بَعْضِها المَسْحَ، فَما أمَرَ بِغَسْلِهِ لا يُجْزِي فِيهِ المَسْحُ لِأنَّ الغَسْلَ يَقْتَضِي إمْرارَ الماءِ عَلى المَوْضِعِ وإجْراءَهُ عَلَيْهِ، ومَتى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يُسَمَّ غاسِلًا، والمَسْحُ لا يَقْتَضِي ذَلِكَ وإنَّما يَقْتَضِي مُباشَرَتَهُ بِالماءِ دُونَ إمْرارِهِ عَلَيْهِ، فَغَيْرُ جائِزٍ تَرْكُ الغَسْلِ إلى المَسْحِ. ولَوْ كانَ المُرادُ بِالغَسْلِ هو المَسْحُ لَبَطَلَتْ فائِدَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُما في الآيَةِ، وفي وُجُوبِ إثْباتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُما ما يُوجِبُ أنْ يَكُونَ المَسْحُ غَيْرَ الغَسْلِ، فَمَتى مَسَحَ ولَمْ يَغْسِلْ فَلا يُجْزِيهِ لِأنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ المَأْمُورَ بِهِ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ في مَسْحِ الرَّأْسِ في الوُضُوءِ إبْلاغُ الماءِ إلى أُصُولِ الشَّعْرِ وإنَّما عَلَيْهِ مَسْحُ الظّاهِرِ مِنهُ، وعَلَيْهِ في غُسْلِ الجَنابَةِ إبْلاغُ الماءِ أُصُولَ الشَّعْرِ؛ فَلَوْ كانَ المَسْحُ والغَسْلُ واحِدًا لَأجْزى في غُسْلِ الجَنابَةِ مَسْحُهُ كَما يُجْزِي في الوُضُوءِ، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ ما شُرِطَ فِيهِ الغَسْلَ لا يَنُوبُ عَنْهُ المَسْحُ.
فَإنْ قِيلَ: إذا لَمْ تَكُنْ هُناكَ نَجاسَةٌ تُزالُ بِالغَسْلِ فالمَقْصِدُ فِيهِ مُباشَرَةُ المَوْضِعِ بِالماءِ فَلا فَرْقَ بَيْنَ الغَسْلِ والمَسْحِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْنا وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا لَمْ تَكُنْ هُناكَ نَجاسَةٌ مِن أجْلِها يَجِبُ الغَسْلُ فَكانَ وُجُوبُ الغَسْلِ عِبادَةً، ثُمَّ فَرَّقَ اللَّهُ تَعالى في الآيَةِ بَيْنَ الغَسْلِ والمَسْحِ، فَعَلَيْنا اتِّباعُ الأمْرِ عَلى حَسَبِ مُقْتَضاهُ ومُوجِبِهِ وغَيْرُ جائِزٍ لَنا تَرْكُ الغَسْلِ إلى غَيْرِهِ، والعِبادَةُ عَلَيْنا في الغَسْلِ في الأعْضاءِ المَأْمُورِ بِها كَهي عَلَيْنا في مَسْحِ العُضْوِ المَأْمُورِ بِهِ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمالُ النَّظَرِ في تَرْكِ حُكْمِ اللَّفْظِ إلى غَيْرِهِ. فَإنْ قِيلَ: لَوْ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ في ذِراعِهِ فَمَسَحَها جازَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى جَوازِ مَسْحِ الجَمِيعِ كَما جازَ مَسْحُ البَعْضِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّ اللُّمْعَةَ إذا اتَّصَلَتْ صارَتْ في حُكْمِ المَغْسُولِ وأمّا إذا لَمْ تَتَّصِلْ فَلا يَجُوزُ بِالإجْماعِ، فَفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المَسْحَ لا يَنُوبُ مَنابَ الغَسْلِ. وقِيلَ لَهُ: لَوْ لَزِمْنا هَذا الوُضُوءَ لَلَزِمَكَ في غُسْلِ الجَنابَةِ مِثْلُهُ. واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ الوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ يَقْتَضِي جَوازَ الصَّلاةِ بِوُجُودِ الغَسْلِ سَواءٌ قارَنَتْهُ النِّيَّةُ أوْ لَمْ تُقارِنْهُ وذَلِكَ لِأنَّ الغَسْلَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَفْهُومُ المَعْنى في اللُّغَةِ، وهو إمْرارُ الماءِ عَلى المَوْضِعِ، ولَيْسَ هو عِبارَةً عَنِ النِّيَّةِ. فَمَن شَرَطَ فِيهِ النِّيَّةَ فَهو زائِدٌ في النَّصِّ، وهَذا فاسِدٌ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يُوجِبُ نَسْخَ الآيَةِ؛ لِأنَّ الآيَةَ قَدْ أباحَتْ فِعْلَ الصَّلاةِ بِوُجُودِ الغَسْلِ لِلطَّهارَةِ مِن غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ، فَمَن حَظَرَ الصَّلاةَ ومَنَعَها إلّا مَعَ وُجُودِ نِيَّةِ الغَسْلِ فَقَدْ أوْجَبَ نَسْخَها، (p-٣٣٦)وذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ.
والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّ النَّصَّ لَهُ حُكْمُهُ ولا يَجُوزُ أنْ يُلْحَقَ بِهِ ما لَيْسَ مِنهُ، كَما لا يَجُوزُ أنْ يُسْقَطَ مِنهُ ما هو مِنهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ شُرِطَتْ في صِحَّةِ الصَّلاةِ النِّيَّةُ مَعَ عَدَمِ ذِكْرِها في اللَّفْظِ قِيلَ لَهُ: إنَّما جازَ ذَلِكَ فِيها مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الصَّلاةَ اسْمٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلى البَيانِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ إلّا بِبَيانٍ يَرِدُ فِيهِ، وقَدْ ورَدَ فِيهِ البَيانُ بِإيجابِ النِّيَّةِ فَلِذَلِكَ أوْجَبْناها؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ الوُضُوءُ لِأنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ ظاهِرُ المَعْنى بَيِّنُ المُرادِ، فَمَهْما ألْحَقْنا بِهِ ما لَيْسَ في اللَّفْظِ عِبارَةً عَنْهُ فَهو زِيادَةٌ في النَّصِّ ولا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ. والوَجْهُ الآخَرُ: اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى إيجابِ النِّيَّةِ فِيها، فَلَوْ كانَ اسْمُ الصَّلاةِ عُمُومًا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ لَجازَ إلْحاقُ النِّيَّةِ بِها بِالِاتِّفاقِ، فَهي إذا كانَتْ مُجْمَلًا أُجْرِيَ بِإثْباتِ النِّيَّةِ فِيها مِن جِهَةِ الإجْماعِ.
* * *
* فَصْلٌ
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وُجُوهَكُمْ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ حَدَّ الوَجْهِ مِن قِصاصِ الشَّعْرِ إلى أصْلِ الذَّقَنِ إلى شَحْمَةِ الأُذُنِ، حَكى ذَلِكَ أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيُّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ البَرْدَعِيِّ؛ ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ في هَذا المَعْنى. وكَذَلِكَ يَقْتَضِي ظاهِرُ الِاسْمِ؛ إذْ كانَ إنَّما سُمِّيَ وجْهًا لِظُهُورِهِ ولِأنَّهُ يُواجِهُ الشَّيْءَ ويُقابَلُ بِهِ؛ وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن تَحْدِيدِ الوَجْهِ هو الَّذِي يُواجِهُ الإنْسانَ ويُقابِلُهُ مِن غَيْرِهِ.
فَإنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الأُذُنانِ مِنَ الوَجْهِ لِهَذا المَعْنى. قِيلَ لَهُ: لا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الأُذُنَيْنِ تُسْتَرانِ بِالعِمامَةِ والقَلَنْسُوَةِ ونَحْوِهِما كَما يُسْتَرُ صَدْرُهُ، وإنْ كانَ مَتى ظَهَرَ كانَ مُواجِهًا لِمَن يُقابِلُهُ. وهَذا الَّذِي ذَكَرْنا مِن مَعْنى الوَجْهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَضْمَضَةَ والِاسْتِنْشاقَ غَيْرُ واجِبَيْنِ بِالآيَةِ؛ إذْ لَيْسَ داخِلَ الأنْفِ والفَمِ مِنَ الوَجْهِ؛ إذْ هُما غَيْرُ مُواجِهَيْنِ لِمَن قابَلَهُما. وإذا لَمْ تَقْتَضِ الآيَةُ إيجابَ غَسْلِهِما وإنَّما اقْتَضَتْ غَسْلَ ما واجَهَنا وقابَلَنا مِنهُ فَمَن قالَ بِإيجابِ المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ فَهو زائِدٌ في حُكْمِ الفَرْضِ ما لَيْسَ مِنهُ، وهَذا غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّهُ يُوجِبُ نَسْخَهُ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «بالِغْ في المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ إلّا أنْ تَكُونَ صائِمًا» وقَوْلُهُ ﷺ حِينَ تَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً: «هَذا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ (p-٣٤١)اللَّهُ الصَّلاةَ إلّا بِهِ» يُوجِبُ فَرْضَ المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ. قِيلَ لَهُ: أمّا الحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ أنَّهُ تَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قالَ: «هَذا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلّا بِهِ» فَإنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أنَّهُ تَمَضْمَضَ فِيهِ واسْتَنْشَقَ، وإنَّما ذَكَرَ فِيهِ الوُضُوءَ فَحَسْبُ، والوُضُوءُ هو غَسْلُ الأعْضاءِ المَذْكُورَةِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، وجائِزٌ أنْ لا يَكُونَ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ في ذَلِكَ الوُضُوءِ لِأنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَوْقِيفَهم عَلى المَفْرُوضِ الَّذِي لا يُجْزِي غَيْرُهُ؛ فَإذًا لا دَلالَةَ في هَذا الخَبَرِ عَلى ما قالَ هَذا القائِلُ، ولَوْ ثَبَتَ أنَّهُ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ لَمْ يَجُزْ أنْ يُزادَ في حُكْمِ الآيَةِ. وكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «بالِغْ في المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ إلّا أنْ تَكُونَ صائِمًا» لا يَجُوزُ الِاعْتِراضُ بِهِ عَلى الآيَةِ في إثْباتِ الزِّيادَةِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُزادَ في حُكْمِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ. وقَدْ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مَيْسَرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ العَلاءِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الأعْلى قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ مَيْمُونِ بْنِ عَطاءٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ قالَ: سُئِلَتْ عائِشَةُ عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإناءٍ فِيهِ ماءٌ فَتَوَضَّأ وكَفَأ عَلى يَدَيْهِ مَرَّةً وغَسَلَ وجْهَهُ مَرَّةً وغَسَلَ ذِراعَيْهِ مَرَّةً ومَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وغَسَلَ قَدَمَيْهِ مَرَّةً، وقالَ: هَذا الوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنا، ثُمَّ أعادَ ذَلِكَ فَقالَ: مَن ضاعَفَ ضاعَفَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أعادَ الثّالِثَةَ فَقالَ: هَذا وُضُوءُنا مَعْشَرَ الأنْبِياءِ، فَمَن زادَ فَقَدْ أساءَ». فَأخْبَرَتْ بِوُضُوئِهِ مِن غَيْرِ مَضْمَضَةٍ ولا اسْتِنْشاقٍ؛ لِأنَّهُ قَصَدَ بَيانَ المَفْرُوضِ مِنهُ، ولَوْ كانَ فَرْضًا فِيهِ لَفَعَلَهُ.
* * *
بابُ غَسْلُ اَللِّحْيَةِ وتَخْلِيلها
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ الوَجْهَ ما واجَهَكَ مِنَ الإنْسانِ، فاحْتَمَلَ أنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنَ الوَجْهِ لِأنَّها تُواجِهُ المُقابِلَ لَهُ غَيْرَ مُغَطّاةٍ في الأكْثَرِ كَسائِرِ الوَجْهِ؛ وقَدْ يُقالُ أيْضًا: خَرَجَ وجْهُهُ، إذا خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ؛ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنَ الوَجْهِ فَيَقْتَضِي ظاهِرُ ذَلِكَ وُجُوبَ غَسْلِها؛ ويَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ: لَيْسَتْ مِنَ الوَجْهِ وإنَّما الوَجْهُ ما واجَهَكَ مِن بَشَرَتِهِ دُونَ الشَّعْرِ النّابِتِ عَلَيْهِ بَعْدَما كانَتِ البَشَرَةُ ظاهِرَةً دُونَهُ. ولِمَن قالَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ أنْ يَقُولَ: نَباتُ الشَّعْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ البَشَرَةِ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ مِنَ الوَجْهِ، كَما أنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مِنَ الرَّأْسِ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ فَلَوْ مَسَحَ عَلى شَعْرِ رَأْسِهِ مِن غَيْرِ إبْلاغِ الماءِ بَشَرَتَهُ كانَ ماسِحًا عَلى الرَّأْسِ وفاعِلًا لِمُقْتَضى الآيَةِ عِنْدَ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ نَباتُ الشَّعْرِ عَلى الوَجْهِ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ مِنهُ. (p-٣٤٢)ولِمَن يَأْبى أنْ يَكُونَ مِنَ الوَجْهِ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ أنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ يُوجَدُ مَعَ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ فَهو بِمَنزِلَةِ الحاجِبِ في كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مِنَ العُضْوِ الَّذِي هو فِيهِ، وشَعْرُ اللِّحْيَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُ في حالِ الوِلادَةِ وإنَّما نَبَتَ بَعْدَها؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الوَجْهِ. وقَدْ ذُكِرَ عَنِ السَّلَفِ اخْتِلافٌ في غَسْلِ اللِّحْيَةِ وتَخْلِيلِها ومَسْحِها، فَرَوى إسْرائِيلُ عَنْ جابِرٍ قالَ: ( رَأيْتُ القاسِمَ ومُجاهِدًا وعَطاءً والشَّعْبِيَّ يَمْسَحُونَ لِحاهم ) وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ طاوُسٍ.
ورَوى حَرِيزٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى قالَ: ( رَأيْتُهُ تَوَضَّأ ولَمْ أرَهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ وقالَ هَكَذا رَأيْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأ ) . وقالَ يُونُسُ: ( رَأيْتُ أبا جَعْفَرٍ لا يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ ) . فَلَمْ يَرَ أحَدٌ مِن هَؤُلاءِ غَسْلَ اللِّحْيَةِ واجِبًا.
ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نافِعٍ: ( أنَّ ابْنَ عُمَرَ كانَ يَبُلُّ أُصُولَ شَعْرِ لِحْيَتِهِ ويُغَلْغِلُ بِيَدَيْهِ في أُصُولِ شَعْرِها حَتّى يَكْثُرَ القَطْرُ مِنها )، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وابْنِ سِيرِينَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. فَهَؤُلاءِ كُلُّهم رُوِيَ عَنْهم غَسْلُ اللِّحْيَةِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهم أنَّهم رَأوْا ذَلِكَ واجِبًا كَغَسْلِ الوَجْهِ. وقَدْ كانَ ابْنُ عُمَرَ مُتَقَصِّيًا في أمْرِ الطَّهارَةِ، كانَ يُدْخِلُ الماءَ عَيْنَيْهِ ويَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاةٍ، وكانَ ذَلِكَ مِنهُ اسْتِحْبابًا لا إيجابًا. ولا خِلافَ بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ في أنَّ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِواجِبٍ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ»، ورُوِيَ عَنْ أنَسٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ وقالَ: بِهَذا أمَرَنِي رَبِّي» ورَوى عُثْمانُ وعَمّارُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ في الوُضُوءِ» .
ورَوى الحَسَنُ عَنْ جابِرٍ قالَ: «وضَّأْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لا مَرَّةً ولا مَرَّتَيْنِ ولا ثَلاثًا، فَرَأيْتُهُ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ بِأصابِعِهِ كَأنَّها أسْنانُ مِشْطٍ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ورُوِيَ أخْبارٌ أُخَرُ في صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ فِيها ذِكْرُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ؛ مِنها حَدِيثُ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ، وحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ وغَيْرِهِمْ، كُلُّهم ذَكَرَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غَسَلَ وجْهَهُ ثَلاثًا ولَمْ يَذْكُرُوا تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ فِيهِ. وغَيْرُ جائِزٍ إيجابُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ ولا غَسْلُها بِالآيَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الآيَةَ إنَّما أوْجَبَتْ غَسْلَ الوَجْهِ، والوَجْهُ ما واجَهَكَ مِنهُ، وباطِنُ اللِّحْيَةِ لَيْسَ مِنَ الوَجْهِ كَداخِلِ الفَمِ والأنْفِ لَمّا لَمْ يَكُونا مِنَ الوَجْهِ لَمْ يَلْزَمْ تَطْهِيرُهُما في الوُضُوءِ عَلى جِهَةِ الوُجُوبِ؛ فَإنْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تَخْلِيلُها أوْ غَسْلُها كانَ ذَلِكَ مِنهُ اسْتِحْبابًا لا إيجابًا كالمَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا لَمْ تَكُنْ في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى وُجُوبِ غَسْلِها أوْ تَخْلِيلِها لَمْ يَجُزْ لَنا أنْ نَزِيدَ في الآيَةِ بِخَبَرِ الواحِدِ، وجَمِيعُ ما رُوِيَ مِن أخْبارِ التَّخْلِيلِ إنَّما هي أخْبارُ (p-٣٤٣)آحادٍ لا يَجُوزُ إثْباتُ الزِّيادَةِ بِها في نَصِّ القُرْآنِ. وأيْضًا فَإنَّ التَّخْلِيلَ لَيْسَ بِغَسْلٍ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالآيَةِ، ولَمّا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ التَّخْلِيلُ ثَبَتَ أنَّ غَسْلَها غَيْرُ واجِبٍ لِأنَّهُ لَوْ كانَ واجِبًا لَما تَرَكَهُ إلى التَّخْلِيلِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أصْحابُنا في تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ ومَسْحِها، فَرَوى المُعَلّى عَنْ أبِي يُوسُفَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ قالَ: سَألْتُهُ عَنْ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ في الوُضُوءِ فَقالَ: ( لا يُخَلِّلُها ويُجْزِيهِ أنْ يُمِرَّ بِيَدِهِ عَلى ظاهِرِها ) قالَ: فَإنَّما مَواضِعُ الوُضُوءِ مِنها الظّاهِرُ ولَيْسَ تَخْلِيلُ الشَّعْرِ مِن مَواضِعِ الوُضُوءِ؛ وبِهِ قالَ ابْنُ أبِي لَيْلى. قالَ أبُو يُوسُفَ: ( وأنا أُخَلِّلُ ) . وقالَ بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ أبِي يُوسُفَ في نَوادِرِهِ: ( يَمْسَحُ ما ظَهَرَ مِنَ اللِّحْيَةِ وإنْ كانَتْ عَرِيضَةً، فَإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الإعادَةُ إنْ صَلّى ) . وذَكَرَ ابْنُ شُجاعٍ عَنِ الحَسَنِ عَنْ زُفَرَ في الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ: ( أنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إذا غَسَلَ وجْهَهُ أنْ يُمِرَّ الماءَ عَلى لِحْيَتِهِ، فَإنْ أصابَ لِحْيَتَهُ مِنَ الماءِ قَدْرَ ثُلُثٍ أوْ رُبُعٍ أجْزَأهُ ذَلِكَ، وإنْ كانَ أقَلَّ مِن ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ )، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، وبِهِ أخَذَ الحَسَنُ. وقالَ أبُو يُوسُفَ: ( يُجْزِيهِ إذا غَسَلَ وجْهَهُ أنْ لا يَمَسَّ لِحْيَتَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الماءِ ) . وقالَ ابْنُ شُجاعٍ: ( لَمّا لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُها صارَ المَوْضِعُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ مِنَ الوَجْهِ بِمَنزِلَةِ الرَّأْسِ؛ إذْ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ، فَكانَ الواجِبُ مَسْحَها كَمَسْحِ الرَّأْسِ فَيَجْزِي مِنهُ الرُّبُعُ كَما قالُوا في مَسْحِ الرَّأْسِ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لا تَخْلُو اللِّحْيَةُ مِن أنْ تَكُونَ مِنَ الوَجْهِ فَيَلْزَمَهُ غَسْلُها كَغَسْلِ بَشَرَةِ الوَجْهِ مِمّا لَيْسَ عَلَيْهِ شَعْرٌ، وأنْ لا تَكُونَ مِنَ الوَجْهِ فَلا يَلْزَمُهُ غَسْلُها ولا مَسْحُها بِالآيَةِ؛ فَلَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى سُقُوطِ غَسْلِها دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّها لَيْسَتْ مِنَ الوَجْهِ؛ لِأنَّها لَوْ كانَتْ مِنهُ لَوَجَبَ غَسْلُها، ولَمّا سَقَطَ غَسْلُها لَمْ يَجُزْ إيجابُ مَسْحِها؛ لِأنَّ فِيهِ إثْباتَ زِيادَةٍ في الآيَةِ، كَما لَمْ يَجُزْ إيجابُ المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ لِما فِيهِ مِنَ الزِّيادَةِ في نَصِّ الكِتابِ. وأيْضًا لَوْ وجَبَ مَسْحُها كانَ فِيهِ إثْباتُ فَرْضِ المَسْحِ والغَسْلِ في عُضْوٍ واحِدٍ وهو الوَجْهُ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وذَلِكَ خِلافُ الأُصُولِ. .
فَإنْ قِيلَ: قَدْ يَجْتَمِعُ فَرْضُ المَسْحِ والغَسْلِ في عُضْوٍ واحِدٍ بِأنْ يَكُونَ عَلى يَدِهِ جَبائِرُ فَيَمْسَحَ عَلَيْها ويَغْسِلَ باقِيَ العُضْوِ. قِيلَ لَهُ: إنَّما يَجِبُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ والعُذْرِ، ولَيْسَ في نَباتِ اللِّحْيَةِ ضَرُورَةٌ في تَرْكِ الغَسْلِ، والوَجْهُ بِمَنزِلَةِ سائِرِ الأعْضاءِ الَّتِي أوْجَبَ اللَّهُ تَعالى طَهارَتَها، فَلا يَجُوزُ اجْتِماعُ الغَسْلِ والمَسْحِ فِيهِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، ويَقْتَضِي ما قالَ أبُو يُوسُفَ مِن سُقُوطِ فَرْضِ غَسْلِها ومَسْحِها جَمِيعًا وإنْ كانَ المُسْتَحَبُّ إمْرارَ الماءِ عَلَيْها.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: اليَدُ اسْمٌ يَقَعُ عَلى هَذا العُضْوِ إلى المَنكِبِ، (p-٣٤٤)والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّ عَمّارًا تَيَمَّمَ إلى المَنكِبِ وقالَ: «تَيَمَّمْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى المَناكِبِ» وكانَ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم مِنهُ﴾ ولَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أحَدٌ مِن جِهَةِ اللُّغَةِ بَلْ هو كانَ مِن أهْلِ اللُّغَةِ، فَكانَ عِنْدَهُ أنَّ الِاسْمَ لِلْعُضْوِ إلى المَنكِبِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الِاسْمَ يَتَناوَلُها إلى المَنكِبِ. وإذا كانَ الإطْلاقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ التَّحْدِيدَ فَجَعَلَ المَرافِقَ غايَةً، كانَ ذِكْرُهُ لَها لِإسْقاطِ ما وراءَها مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ المَرافِقَ فَيَجِبُ اسْتِعْمالُهُ فِيها؛ إذْ لَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ عَلى سُقُوطِها. والثّانِي: أنَّ الغايَةَ لَمّا كانَتْ قَدْ تَدْخُلُ تارَةً ولا تَدْخُلُ أُخْرى، والمَوْضِعُ الَّذِي دَخَلَتِ الغايَةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] ووُجُودُ الطُّهْرِ شَرْطٌ في الإباحَةِ، وقالَ: ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] ووُجُودُهُ شَرْطٌ فِيهِ، و( إلى ) و( حَتّى ) جَمِيعًا لِلْغايَةِ والمَوْضِعُ الَّذِي لا تَدْخُلُ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] واللَّيْلُ خارِجٌ مِنهُ؛ فَلَمّا كانَ هَذا هَكَذا وكانَ الحَدَثُ فِيهِ يَقِينًا لَمْ يَرْتَفِعْ إلّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وهو وُجُودُ غَسْلِ المِرْفَقَيْنِ؛ إذْ كانَتِ الغايَةُ مَشْكُوكًا فِيها. وأيْضًا رَوى جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ إذا بَلَغَ المِرْفَقَيْنِ في الوُضُوءِ أدارَ الماءَ عَلَيْهِما» وفَعَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَنا عَلى الوُجُوبِ لِوُرُودِهِ مَوْرِدَ البَيانِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلى المَرافِقِ﴾ لَمّا احْتَمَلَ دُخُولَ المَرافِقِ فِيهِ واحْتَمَلَ خُرُوجَها صارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلى البَيانِ، وفِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ إذا ورَدَ عَلى وجْهِ البَيانِ فَهو عَلى الوُجُوبِ. واَلَّذِي ذَكَرْنا مِن دُخُولِ المَرافِقِ في الوُضُوءِ هو قَوْلُ أصْحابِنا جَمِيعًا، إلّا زُفَرَ فَإنَّهُ يَقُولُ: إنَّ المَرافِقَ غَيْرُ داخِلَةٍ في الوُضُوءِ؛ وكَذَلِكَ الكَعْبانِ عَلى هَذا الخِلافِ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في المَفْرُوضِ مِن مَسْحِ الرَّأْسِ، فَرُوِيَ عَنْ أصْحابِنا فِيهِ رِوايَتانِ: إحْداهُما: رُبُعُ الرَّأْسِ، والأُخْرى: مِقْدارُ ثَلاثَةِ أصابِعَ، ويَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( يَبْدَأُ بِمُؤَخَّرِ الرَّأْسِ ) . وقالَ الأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ: ( يَمْسَحُ مُقَدَّمَ الرَّأْسِ ) . وقالَ مالِكٌ: ( الفَرْضُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وإنْ تَرَكَ القَلِيلَ مِنهُ جازَ ) . وقالَ الشّافِعِيُّ: ( الفَرْضُ مَسْحُ بَعْضِ رَأْسِهِ ) . ولَمْ يَحُدَّ شَيْئًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ يَقْتَضِي مَسْحَ بَعْضِهِ وذَلِكَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ الأدَواتِ مَوْضُوعَةٌ لِإفادَةِ المَعانِي، فَمَتى أمْكَنَنا اسْتِعْمالُها عَلى فَوائِدَ مُضَمَّنَةٍ بِها وجَبَ اسْتِعْمالُها عَلى ذَلِكَ، وإنْ كانَ قَدْ يَجُوزُ دُخُولُها في بَعْضِ المَواضِعِ صِلَةً لِلْكَلامِ وتَكُونُ مُلْغاةً، نَحْوَ ( مِن ) هي مُسْتَعْمَلَةٌ عَلى مَعانٍ مِنها التَّبْعِيضُ، ثُمَّ قَدْ تَدْخُلُ في الكَلامِ وتَكُونُ (p-٣٤٥)مُلْغاةً وُجُودُها وعَدَمُها سَواءٌ. ومَتى أمْكَنَنا اسْتِعْمالُها عَلى وجْهِ الفائِدَةِ وما هي مَوْضُوعَةٌ لَهُ لَمْ يَجُزْ لَنا إلْغاؤُها، فَقُلْنا مِن أجْلِ ذَلِكَ إنَّ الباءَ لِلتَّبْعِيضِ وإنْ جازَ وُجُودُها في الكَلامِ عَلى أنَّها مُلْغاةٌ. ويَدُلُّ عَلى أنَّها لِلتَّبْعِيضِ أنَّكَ إذا قُلْتَ: ( مَسَحْتُ يَدِي بِالحائِطِ ) كانَ مَعْقُولًا مَسْحُها بِبَعْضِهِ دُونَ جَمِيعِهِ، ولَوْ قُلْتَ: ( مَسَحْتُ الحائِطَ ) كانَ المَعْقُولُ مَسْحَهُ جَمِيعَهُ دُونَ بَعْضِهِ، فَقَدْ وضَحَ الفَرْقُ بَيْنَ إدْخالِ الباءِ وبَيْنَ إسْقاطِها في العُرْفِ واللُّغَةِ؛ فَوَجَبَ؛ إذْ كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أنْ نَحْمِلَ قَوْلَهُ: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ عَلى البَعْضِ حَتّى نَكُونَ قَدْ وفَّيْنا الحَرْفَ حَظَّهُ مِنَ الفائِدَةِ وأنْ لا نُسْقِطَهُ فَتَكُونَ مُلْغاةً يَسْتَوِي دُخُولُها وعَدَمُها. والباءُ وإنْ كانَتْ تَدْخُلُ لِلْإلْصاقِ كَقَوْلِكَ: ( كَتَبْتُ بِالقَلَمِ ) و( مَرَرْتُ بِزَيْدٍ ) فَإنَّ دُخُولَها لِلْإلْصاقِ لا يُنافِي كَوْنَها مَعَ ذَلِكَ لِلتَّبْعِيضِ فَنَسْتَعْمِلُ الأمْرَيْنِ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا لِلْإلْصاقِ في البَعْضِ المَفْرُوضِ طَهارَتُهُ. ويَدُلُّ عَلى أنَّها لِلتَّبْعِيضِ ما رَوى عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدِّمٍ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ حَمّادٍ عَنْ أبِيهِ حَمّادٍ عَنْ إبْراهِيمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ قالَ: إذا مَسَحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ أجْزَأهُ، قالَ: ولَوْ كانَتْ ( امْسَحُوا رُءُوسَكم ) كانَ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ. فَأخْبَرَ إبْراهِيمُ أنَّ الباءَ لِلتَّبْعِيضِ وقَدْ كانَ مِن أهْلِ اللُّغَةِ مَقْبُولَ القَوْلِ فِيها. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِها التَّبْعِيضُ في الآيَةِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى جَوازِ تَرْكِ القَلِيلِ مِنَ الرَّأْسِ في المَسْحِ والِاقْتِصارِ عَلى البَعْضِ، وهَذا هو اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ عَلى التَّبْعِيضِ، وقَوْلُ مُخالِفِنا بِإيجابِ مَسْحِ الأكْثَرِ لا يَعْصِمُهُ مِن أنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلَّفْظِ عَلى التَّبْعِيضِ، إلّا أنَّهُ زَعَمَ أنَّ ذَلِكَ البَعْضَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ المِقْدارَ الَّذِي ادَّعاهُ، وإذا ثَبَتَ أنَّ المُرادَ البَعْضُ بِاتِّفاقِ الجَمِيعِ احْتاجَ إلى دَلالَةٍ في إثْباتِ المِقْدارِ الَّذِي حَدَّهُ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَتِ الباءُ لِلتَّبْعِيضِ لَما جازَ أنْ تَقُولَ: ( مَسَحْتُ بِرَأْسِي كُلِّهِ ) كَما لا تَقُولُ: ( مَسَحْتُ بِبَعْضِ رَأْسِي كُلِّهِ ) . قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ حَقِيقَتَها ومُقْتَضاها إذا أُطْلِقَتِ التَّبْعِيضُ مَعَ احْتِمالِ كَوْنِها مُلْغاةً، فَإذا قالَ: ( مَسَحْتُ بِرَأْسِي كُلِّهِ ) عَلِمْنا أنَّهُ أرادَ أنْ تَكُونَ الباءُ مُلْغاةً، وإذا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَهي مَحْمُولَةٌ عَلى حَقِيقَتِها، كَما أنَّ ( مِن ) حَقِيقَتُها التَّبْعِيضُ وقَدْ تُوجَدُ صِلَةً لِلْكَلامِ فَتَكُونُ مُلْغاةً في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩] و﴿يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١] ولا يَجِبُ مِن أجْلِ ذَلِكَ أنْ نَجْعَلَها مُلْغاةً في كُلِّ مَوْضِعٍ إلّا بِدَلالَةٍ. وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنا في جَوازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنهُمُ ابْنُ عُمَرَ، رَوى عَنْهُ نافِعٌ أنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ؛ وعَنْ عائِشَةَ مِثْلُ ذَلِكَ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: ( أيَّ جانِبِ رَأْسِكَ مَسَحْتَ أجْزَأكَ ) وكَذَلِكَ قالَ (p-٣٤٦)إبْراهِيمُ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ القائِلِينَ بِفَرْضِ البَعْضِ ما حَدَّثَنا أبُو الحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحُسَيْنِ الكَرْخِيُّ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ الحَرْبِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبّاحِ قالَ: حَدَّثَنا هُشَيْمٌ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قالَ: أخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ وهْبٍ قالَ: سَمِعْتُ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: خَصْلَتانِ لا أسْألُ عَنْهُما أحَدًا بَعْدَما شَهِدْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «إنّا كُنّا مَعَهُ في سَفَرٍ، فَنَزَلَ لِحاجَتِهِ ثُمَّ جاءَ فَتَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى ناصِيَتِهِ وجانِبَيْ عِمامَتِهِ» .
ورَوى سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيِّ عَنِ ابْنِ المُغِيرَةِ عَنْ أبِيهِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ ومَسَحَ عَلى ناصِيَتِهِ ووَضَعَ يَدَهُ عَلى العِمامَةِ أوْ مَسَحَ عَلى العِمامَةِ» . وحَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحُسَيْنِ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ الحَضْرَمِيُّ قالَ: حَدَّثَنا كُرْدُوسُ بْنُ أبِي عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا المُعَلّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «تَوَضَّأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمَسَحَ رَأْسَهُ مَسْحَةً واحِدَةً بَيْنَ ناصِيَتِهِ وقَرْنِهِ» فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا مِن ظاهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ أنَّ المَفْرُوضَ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ.
فَإنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ إنَّما اقْتَصَرَ عَلى مَسْحِ النّاصِيَةِ لِضَرُورَةٍ، أوْ كانَ وُضُوءَ مَن لَمْ يُحْدِثْ. قِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَوْ كانَ هُناكَ ضَرُورَةٌ لَنُقِلَتْ كَما نُقِلَ غَيْرُهُ، وأمّا كَوْنُهُ وُضُوءَ مَن لَمْ يُحْدِثْ فَإنَّهُ تَأْوِيلٌ ساقِطٌ؛ لِأنَّ في حَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضى حاجَتَهُ ثُمَّ تَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى ناصِيَتِهِ» ولَوْ ساغَ هَذا التَّأْوِيلُ في مَسْحِ النّاصِيَةِ لَساغَ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ حَتّى يُقالَ: إنَّهُ مَسَحَ لِضَرُورَةٍ أوْ كانَ وُضُوءَ مَن لَمْ يُحْدِثْ.
واحْتَجَّ مَن قالَ بِمَسْحِ الجَمِيعِ بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ ومُؤَخِّرَهُ» قالَ: فَلَوْ كانَ المَفْرُوضُ بَعْضَهُ لَما مَسَحَ النَّبِيُّ ﷺ جَمِيعَهُ، ولَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَن مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ مُتَعَدِّيًا؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ تَوَضَّأ ثَلاثًا ثَلاثًا وقالَ: مَن زادَ فَقَدِ اعْتَدى وظَلَمَ» . فَيُقالُ لَهُ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ المَفْرُوضُ البَعْضَ والمَسْنُونُ الجَمِيعَ، كَما أنَّ المَفْرُوضَ في الأعْضاءِ المَغْسُولَةِ مَرَّةٌ والمَسْنُونَ ثَلاثٌ، فَلا يَكُونُ الزّائِدُ عَلى المَفْرُوضِ مُتَعَدِّيًا؛ إذْ أصابَ السُّنَّةَ، وكَما أنَّ المَفْرُوضَ مِنَ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ هو بَعْضُ ظاهِرِهِما ولَوْ مَسَحَ ظاهِرَهُما وباطِنَهُما لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا، وكَما أنَّ فَرْضَ القِراءَةِ عَلى قَوْلِنا آيَةٌ وعَلى قَوْلِ مُخالِفِينا فاتِحَةُ الكِتابِ، والمَسْنُونُ عِنْدَ الجَمِيعِ قِراءَةُ فاتِحَةِ الكِتابِ وشَيْءٍ مَعَها.
والمَفْرُوضُ مِن غَسْلِ الوَجْهِ ظاهِرُهُ والمَسْنُونُ غَسْلُ ذَلِكَ والمَضْمَضَةُ والِاسْتِنْشاقُ، والمَفْرُوضُ مَسْحُ (p-٣٤٧)الرَّأْسِ والمَسْنُونُ مَسْحُ الأُذُنَيْنِ مَعَهُ؛ وكَما يَقُولُ مُخالِفُنا: إنَّ المَفْرُوضَ مِن مَسْحِ الرَّأْسِ هو الأكْثَرُ وإنَّ تَرْكَ القَلِيلِ جائِزٌ ولَوْ مَسَحَ الجَمِيعَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بَلْ كانَ مُصِيبًا، كَذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ المَفْرُوضَ مَسْحُ البَعْضِ والمَسْنُونَ مَسْحُ الجَمِيعِ. وإنَّما قالَ أصْحابُنا: إنَّ المَفْرُوضَ مِقْدارُ ثَلاثَةِ أصابِعَ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ وهي رِوايَةُ الأصْلِ، وفي رِوايَةِ الحَسَنِ بْنِ زِيادٍ: الرُّبُعُ؛ فَإنَّ وجْهَ تَقْدِيرِ ثَلاثِ أصابِعَ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ المَفْرُوضَ مَسْحُ البَعْضِ بِما قَدَّمْنا وكانَ ذَلِكَ البَعْضُ غَيْرَ مَذْكُورِ المِقْدارِ في الآيَةِ احْتَجْنا فِيهِ إلى بَيانِ الرَّسُولِ ﷺ فَلَمّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ مَسَحَ عَلى ناصِيَتِهِ كانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ وارِدًا مَوْرِدَ البَيانِ.
وفِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ إذا ورَدَ عَلى وجْهِ البَيانِ فَهو عَلى الوُجُوبِ كَفِعْلِهِ لِأعْدادِ رَكَعاتِ الصَّلاةِ وأفْعالِها، فَقَدَّرُوا النّاصِيَةَ بِثَلاثِ أصابِعَ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ مَسَحَ بَيْنَ ناصِيَتِهِ وقَرْنِهِ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ أقْبَلَ بِهِما وأدْبَرَ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ واجِبًا. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لا يَتْرُكُ المَفْرُوضَ.
وجائِزٌ أنْ يَفْعَلَ غَيْرَ المَفْرُوضِ عَلى أنَّهُ مَسْنُونٌ، فَلَمّا رُوِيَ عَنْهُ الِاقْتِصارُ عَلى مِقْدارِ النّاصِيَةِ في حالٍ ورُوِيَ عَنْهُ اسْتِيعابُ الرَّأْسِ في أُخْرى اسْتَعْمَلْنا الخَبَرَيْنِ وجَعَلْنا المَفْرُوضَ مِقْدارَ النّاصِيَةِ؛ إذْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أنَّهُ مَسَحَ أقَلَّ مِنها وما زادَ عَلَيْها فَهو مَسْنُونٌ. وأيْضًا لَوْ كانَ المَفْرُوضُ أقَلَّ مِن مِقْدارِ النّاصِيَةِ لاقْتَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ في حالٍ بَيانًا لِلْمِقْدارِ المَفْرُوضِ كَما اقْتَصَرَ عَلى مَسْحِ النّاصِيَةِ في بَعْضِ الأحْوالِ، فَلَمّا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أقَلُّ مِن ذَلِكَ دَلَّ عَلى أنَّهُ هو المَفْرُوضُ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَلى وجْهِ البَيانِ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المَفْرُوضُ مَوْضِعَ النّاصِيَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرَّأْسِ كَما جَعَلْتَها بَيانًا لِلْمِقْدارِ ولَمْ تُجِزْ أقَلَّ مِنها، فَلَمّا جازَ عِنْدَ الجَمِيعِ مِنَ القائِلِينَ بِجَوازِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ تَرْكُ مَسْحِ النّاصِيَةِ إلى غَيْرِها مِنَ الرَّأْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاقْتِصارِ عَلى مِقْدارٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كانَ ظاهِرُ فِعْلِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَوْلا قِيامُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ مَسْحَ غَيْرِ النّاصِيَةِ مِنَ الرَّأْسِ يَقُومُ مَقامَ النّاصِيَةِ، فَلَمْ يُوجِبْ تَعْيِينَ الفَرْضِ فِيها وبَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ في المِقْدارِ عَلى ما اقْتَضاهُ ظاهِرُ بَيانِهِ بِفِعْلِهِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ مُقْتَضِيًا مَسْحَ بَعْضِهِ، فَأيُّ بَعْضٍ مَسَحَهُ مِنهُ وجَبَ أنْ يَجْزِيَهُ بِحُكْمِ الظّاهِرِ. قِيلَ لَهُ: إذا كانَ ذَلِكَ البَعْضُ مَجْهُولًا صارَ مُجْمَلًا ولَمْ يُخْرِجْهُ ما ذَكَرْتَ مِن حُكْمِ الإجْمالِ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] وقَوْلَهُ: ﴿وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] وقَوْلَهُ: ﴿يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] (p-٣٤٨)كُلُّها مُجْمَلَةٌ لِجَهالَةِ مَقادِيرِها في حالِ وُرُودِها، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ اعْتِبارَ ما يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنها ؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾ وإنِ اقْتَضى البَعْضُ فَإنَّ ذَلِكَ البَعْضَ لَمّا كانَ مَجْهُولًا عِنْدَنا وجَبَ أنْ يَكُونَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الحُكْمِ عَلى البَيانِ.
فَما ورَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن فِعْلٍ فِيهِ فَهو بَيانُ مُرادِ اللَّهِ بِهِ. ودَلِيلٌ آخَرُ: وهو أنَّ سائِرَ أعْضاءِ الوُضُوءِ لَمّا كانَ المَفْرُوضُ مِنها مُقَدَّرًا وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَسْحِ الرَّأْسِ لِأنَّهُ مِن أعْضاءِ الوُضُوءِ؛ وهَذا يُحْتَجُّ بِهِ عَلى مالِكٍ والشّافِعِيِّ جَمِيعًا؛ لِأنَّ مالِكًا يُوجِبُ مَسْحَ الأكْثَرِ ويُجِيزُ تَرْكَ القَلِيلِ مِنهُ فَيَحْصُلُ المَفْرُوضُ مَجْهُولَ المِقْدارِ، والشّافِعِيُّ يَقُولُ: ( كُلُّ ما وقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ المَسْحِ جازَ ) وذَلِكَ مَجْهُولُ القَدْرِ، وما قُلْنا مِن مِقْدارِ ثَلاثَةِ أصابِعَ فَهو مَعْلُومٌ؛ وكَذَلِكَ الرُّبُعُ في الرِّوايَةِ الأُخْرى فَهو مُوافِقٌ لِحُكْمِ أعْضاءِ الوُضُوءِ مِن كَوْنِ المَفْرُوضِ مِنها مَعْلُومَ القَدْرِ.
وقَوْلُ مُخالِفِينا عَلى خِلافِ المَفْرُوضِ مِن أعْضاءِ الوُضُوءِ؛ ويَجُوزُ أنْ نَجْعَلَ ذَلِكَ ابْتِداءً دَلِيلًا في المَسْألَةِ مِن غَيْرِ اعْتِبارٍ لَهُ بِمِقْدارِ النّاصِيَةِ، وذَلِكَ بِأنْ نَقُولَ: لَمّا وجَبَ أنْ يَكُونَ المَفْرُوضُ في مِقْدارِ المَسْحِ مُقَدَّرًا اعْتِبارًا بِسائِرِ أعْضاءِ الوُضُوءِ ثُمَّ لَمْ يُقَدِّرْهُ أحَدٌ بِغَيْرِ ما ذَكَرْنا مِن مِقْدارِ ثَلاثَةِ أصابِعَ أوْ مِقْدارِ رُبُعِ الرَّأْسِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ هَذا هو المَفْرُوضُ مِنَ المِقْدارِ. فَإنْ قِيلَ: ما أنْكَرْتَ أنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا بِثَلاثِ شَعَراتٍ ؟ قِيلَ لَهُ: هَذا مُحالٌ؛ لِأنَّ مِقْدارَ ثَلاثِ شَعَراتٍ لا يُمْكِنُ المَسْحُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ المَفْرُوضُ ما لا يُمْكِنُ الِاقْتِصارُ عَلَيْهِ؛ وأيْضًا فَهو قِياسٌ عَلى المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ لَمّا كانَ مُقَدَّرًا بِالأصابِعِ، وبِهِ ورَدَتِ السُّنَّةُ وهو مَسْحٌ بِالماءِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ مَسْحُ الرَّأْسِ مِثْلَهُ. وأمّا وجْهُ رِوايَةِ مَن رَوى الرُّبُعَ، فَهو أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ المَفْرُوضَ البَعْضُ وأنَّ مَسْحَ شَعْرَةٍ لا يُجْزِي وجَبَ اعْتِبارُ المِقْدارِ الَّذِي يَتَناوَلُهُ الِاسْمُ عِنْدَ الإطْلاقِ إذا أُجْرِيَ عَلى الشَّخْصِ وهو الرُّبُعُ؛ لِأنَّكَ تَقُولُ: ( رَأيْتُ فُلانًا ) واَلَّذِي يَلِيكَ مِنهُ الرُّبُعُ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؛ فَلِذَلِكَ اعْتَبَرُوا الرُّبُعَ واعْتَبَرُوا أيْضًا في حَلْقِ الرَّأْسِ الرُّبُعَ لا خِلافَ بَيْنَهم فِيهِ أنَّهُ يَحِلُّ بِهِ المُحْرِمُ إذا حَلَقَهُ، ولا يَحِلُّ عِنْدَ أصْحابِنا بِأقَلَّ مِنهُ؛ فَلِذَلِكَ يُوجِبُونَ بِهِ دَمًا إذا حَلَقَهُ في الإحْرامِ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في مَسْحِ الرَّأْسِ بِأُصْبُعٍ واحِدَةٍ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " لا يَجُوزُ مَسْحُهُ بِأقَلَّ مِن ثَلاثِ أصابِعَ، وإنْ مَسَحَهُ بِأُصْبُعٍ أوْ أُصْبُعَيْنِ ومَدَّها حَتّى يَكُونَ المَمْسُوحُ مِقْدارَ ثَلاثَةِ أصابِعَ لَمْ يَجُزْ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ وزُفَرُ والشّافِعِيُّ: ( يُجْزِيهِ ) إلّا أنَّ زُفَرَ يَعْتَبِرُ الرُّبُعَ، والأصْلُ في ذَلِكَ أنَّهُ لا يَجْزِي في (p-٣٤٩)مَفْرُوضِ المَسْحِ نَقْلُ الماءِ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ وذَلِكَ لِأنَّ المَقْصِدَ فِيهِ إمْساسُ الماءِ المَوْضِعَ لا إجْراؤُهُ عَلَيْهِ، فَإذا وضَعَ أُصْبُعًا فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الماءُ مَمْسُوحًا بِهِ، فَغَيْرُ جائِزٍ مَسْحُ مَوْضِعٍ غَيْرِهِ بِهِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ الأعْضاءُ المَغْسُولَةُ لِأنَّهُ لَوْ مَسَحَها بِالماءِ ولَمْ يُجْرِهِ عَلَيْها لَمْ يُجْزِهِ، فَلا يَحْصُلُ مَعْنى الغَسْلِ إلّا بِجَرَيانِ الماءِ عَلى العُضْوِ وانْتِقالِهِ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا بِحُصُولِهِ مِن مَوْضِعٍ وانْتِقالِهِ إلى غَيْرِهِ مِن ذَلِكَ العُضْوِ. وأمّا المَسْحُ فَلَوِ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلى إمْساسِ الماءِ المَوْضِعَ مِن غَيْرِ جَرْيٍ لَجازَ، فَلَمّا اسْتَغْنى عَنْ إجْرائِهِ عَلى العُضْوِ في صِحَّةِ أداءِ الفَرْضِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إلى غَيْرِهِ.
فَإنْ قِيلَ: فَلَوْ صَبَّ عَلى رَأْسِهِ ماءً وجَرى عَلَيْهِ حَتّى اسْتَوْفى مِنهُ مِقْدارَ ثَلاثَةِ أصابِعَ أجْزى عَنِ المَسْحِ مَعَ انْتِقالِهِ مِن مَوْضِعٍ إلى غَيْرِهِ، فَهَلّا أجْزَتْهُ أيْضًا إذا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ واحِدَةٍ ونَقَلَهُ إلى غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ: مِن قِبَلِ أنَّ صَبَّ الماءِ غَسْلٌ ولَيْسَ بِمَسْحٍ، والغَسْلُ يَجُوزُ نَقْلُ الماءِ فِيهِ مِن مَوْضِعٍ إلى غَيْرِهِ؛ وأمّا إذا وضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَيْهِ فَهَذا مَسْحٌ فَلا يَجُوزُ أنْ يَمْسَحَ بِها مَوْضِعًا غَيْرَهُ. وأيْضًا فَإنَّ الماءَ الَّذِي يُجْرى عَلَيْهِ بِالصَّبِّ والغَسْلِ يَتَّسِعُ لِلْمِقْدارِ المَفْرُوضِ كُلِّهِ، وما عَلى أُصْبُعٍ واحِدَةٍ مِنَ الماءِ لا يَتَّسِعُ لِلْمِقْدارِ المَفْرُوضِ، وإنَّما يَكْفِي لِمِقْدارِ الأُصْبُعِ، فَإذا جَرَّهُ إلى غَيْرِهِ فَإنَّما نَقَلَ إلَيْهِ ماءً مُسْتَعْمَلًا في غَيْرِهِ، فَلا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.
* * *
بابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكم وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وحَمْزَةُ وابْنُ كَثِيرٍ: ( وأرْجُلِكم ) بِالخَفْضِ، وتَأوَّلُوها عَلى المَسْحِ. وقَرَأ عَلِيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ وإبْراهِيمُ والضَّحّاكُ ونافِعٌ وابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِالنَّصْبِ، وكانُوا يَرَوْنَ غَسْلَها واجِبًا.
والمَحْفُوظُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ اسْتِيعابُ الرِّجْلِ كُلِّها بِالمَسْحِ، ولَسْتُ أحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ أجازَ المَسْحَ مِنَ السَّلَفِ هو عَلى الِاسْتِيعابِ أوْ عَلى البَعْضِ؛ وقالَ قَوْمٌ: ( يَجُوزُ مَسْحُ البَعْضِ ) . ولا خِلافَ بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ في أنَّ المُرادَ الغَسْلُ. وهاتانِ القِراءَتانِ قَدْ نَزَلَ بِهِما القُرْآنُ جَمِيعًا ونَقَلَتْهُما الأُمَّةُ تَلَقِّيًا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولا يَخْتَلِفُ أهْلُ اللُّغَةِ أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ القِراءَتَيْنِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَسْحِ بِعَطْفِها عَلى الرَّأْسِ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِها الغَسْلُ بِعَطْفِها عَلى المَغْسُولِ مِنَ الأعْضاءِ وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ( وأرْجُلَكم ) بِالنَّصْبِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ: فاغْسِلُوا أرْجُلَكم، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (p-٣٥٠)مَعْطُوفًا عَلى الرَّأْسِ فَيُرادُ بِها المَسْحُ وإنْ كانَتْ مَنصُوبَةً فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى المَعْنى لا عَلى اللَّفْظِ؛ لِأنَّ المَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎مُعاوِيَةَ إنَّنا بَشَرٌ فَأسْجِحْ فَلَسْنا بِالجِبالِ ولا الحَدِيدا
فَنَصَبَ الحَدِيدَ وهو مَعْطُوفٌ عَلى الجِبالِ بِالمَعْنى. ويُحْتَمَلُ قِراءَةُ الخَفْضِ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى الرَّأْسِ فَيُرادُ بِهِ المَسْحُ، ويُحْتَمَلُ عَطْفُهُ عَلى الغَسْلِ ويَكُونُ مَخْفُوضًا بِالمُجاوِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة: ١٧] ثُمَّ قالَ: ( وحُورٍ عِينٍ ) فَخَفَضَهُنَّ بِالمُجاوِرَةِ وهُنَّ مَعْطُوفاتٌ في المَعْنى عَلى الوِلْدانِ؛ لِأنَّهُنَّ يَطُفْنَ ولا يُطافُ بِهِنَّ؛ وكَما قالَ الشّاعِرُ:
؎فَهَلْ أنْتَ إنْ ماتَتْ أتانُكَ راكِبٌ ∗∗∗ إلى آلِ بِسْطامِ بْنِ قَيْسٍ فَخاطِبِ
فَخَفَضَ ( خاطِبًا ) بِالمُجاوَرَةِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى المَرْفُوعِ مِن قَوْلِهِ: ( راكِبٌ ) والقَوافِي مَجْرُورَةٌ؛ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ:
؎فَنَلْ مِثْلَها في مِثْلِهِمْ أوْ فَلُمْهم ∗∗∗ عَلى دارِ مَيَّ بَيْنَ لَيْلى وغالِبِ
فَثَبَتَ بِما وصَفْنا احْتِمالُ كُلِّ واحِدَةٍ مِنَ القِراءَتَيْنِ لِلْمَسْحِ والغَسْلِ، فَلا يَخْلُو حِينَئِذٍ القَوْلُ مِن أحَدِ مَعانٍ ثَلاثَةٍ:
إمّا أنْ يُقالَ: إنَّ المُرادَ هُما جَمِيعًا مَجْمُوعانِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ أنْ يَمْسَحَ ويَغْسِلَ فَيَجْمَعَهُما. أوْ أنْ يَكُونَ أحَدُهُما عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ يَفْعَلُ المُتَوَضِّئُ أيَّهُما شاءَ، ويَكُونُ ما يَفْعَلُهُ هو المَفْرُوضُ. أوْ يَكُونُ المُرادُ أحَدَهُما بِعَيْنِهِ لا عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ. وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونا هُما جَمِيعًا عَلى وجْهِ الجَمْعِ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى خِلافِهِ؛ ولا جائِزٌ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ أحَدَهُما عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ؛ إذْ لَيْسَ في الآيَةِ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ ولا دَلالَةٌ عَلَيْهِ ولَوْ جازَ إثْباتُ التَّخْيِيرِ مَعَ عَدَمِ لَفْظِ التَّخْيِيرِ في الآيَةِ لَجازَ إثْباتُ الجَمْعِ مَعَ عَدَمِ لَفْظِ الجَمْعِ، فَبَطَلَ التَّخْيِيرُ بِما وصَفْنا.
وإذا انْتَفى التَّخْيِيرُ والجَمْعُ لَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يَكُونَ المُرادُ أحَدَهُما لا عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ، فاحْتَجْنا إلى طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلى المُرادِ مِنهُما؛ فالدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ الغَسْلُ دُونَ المَسْحِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ إذا غَسَلَ فَقَدْ أدّى فَرْضَهُ وأتى بِالمُرادِ وأنَّهُ غَيْرُ مَلُومٍ عَلى تَرْكِ المَسْحِ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ الغَسْلُ. وأيْضًا فَإنَّ اللَّفْظَ لَمّا وقَفَ المَوْقِفَ الَّذِي ذَكَرْنا مِنَ احْتِمالِهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ المَعْنَيَيْنِ مَعَ اتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ المُرادَ أحَدُهُما، صارَ في حُكْمِ المُجْمَلِ المُفْتَقِرِ إلى البَيانِ، فَمَهْما ورَدَ فِيهِ مِنَ البَيانِ عَنِ الرَّسُولِ مِن فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ عَلِمْنا أنَّهُ مُرادُ اللَّهِ تَعالى؛ وقَدْ ورَدَ البَيانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالغَسْلِ قَوْلًا وفِعْلًا، فَأمّا وُرُودُهُ مِن جِهَةِ (p-٣٥١)الفِعْلِ فَهو ما ثَبَتَ بِالنَّقْلِ المُسْتَفِيضِ المُتَواتِرِ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ غَسَلَ رِجْلَيْهِ في الوُضُوءِ» .
ولَمْ تَخْتَلِفِ الأُمَّةُ فِيهِ، فَصارَ فِعْلُهُ ذَلِكَ وارِدًا مَوْرِدَ البَيانِ، وفِعْلُهُ إذا ورَدَ عَلى وجْهِ البَيانِ فَهو عَلى الوُجُوبِ، فَثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ هو مُرادُ اللَّهِ تَعالى بِالآيَةِ. وأمّا مِن جِهَةِ القَوْلِ فَما رَوى جابِرٌ وأبُو هُرَيْرَةَ وعائِشَةُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وغَيْرُهم: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأى قَوْمًا تَلُوحُ أعْقابُهم لَمْ يُصِبْها الماءُ، فَقالَ: ويْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ أسْبِغُوا الوُضُوءَ» «وتَوَضَّأ النَّبِيُّ ﷺ مَرَّةً مَرَّةً، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وقالَ: هَذا وُضُوءُ مَن لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلاةً إلّا بِهِ» .
فَقَوْلُهُ: «ويْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ» وعِيدٌ لا يَجُوزُ أنْ يَسْتَحِقَّ إلّا بِتَرْكِ الفَرْضِ؛ فَهَذا يُوجِبُ اسْتِيعابَ الرِّجْلِ بِالطَّهارَةِ ويُبْطِلُ قَوْلَ مَن يُجِيزُ الِاقْتِصارَ عَلى البَعْضِ. وقَوْلُهُ ﷺ: ( أسْبِغُوا الوُضُوءَ ) وقَوْلُهُ بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ: «هَذا وُضُوءُ مَن لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلاةً إلّا بِهِ» يُوجِبُ اسْتِيعابَها بِالغَسْلِ؛ لِأنَّ الوُضُوءَ اسْمٌ لِلْغَسْلِ يَقْتَضِي إجْراءَ الماءِ عَلى المَوْضِعِ، والمَسْحُ لا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ وفي الخَبَرِ الآخَرِ إخْبارٌ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَقْبَلُ الصَّلاةَ إلّا بِغَسْلِهِما.
وأيْضًا فَلَوْ كانَ المَسْحُ جائِزًا لَما أخْلاهُ النَّبِيُّ ﷺ مِن بَيانِهِ؛ إذْ كانَ مُرادُ اللَّهِ في المَسْحِ كَهو في الغَسْلِ، فَكانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَسْحُهُ في وزْنِ غَسْلِهِ، فَلَمّا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ المَسْحُ حَسَبَ وُرُودِهِ في الغَسْلِ ثَبَتَ أنَّ المَسْحَ غَيْرُ مُرادٍ. وأيْضًا فَإنَّ القِراءَتَيْنِ كالآيَتَيْنِ في إحْداهُما الغَسْلُ وفي الأُخْرى المَسْحُ لِاحْتِمالِهِما لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَلَوْ ورَدَتْ آيَتانِ إحْداهُما تُوجِبُ الغَسْلَ والأُخْرى المَسْحَ لَما جازَ تَرْكُ الغَسْلِ إلى المَسْحِ؛ لِأنَّ في الغَسْلِ زِيادَةَ فِعْلٍ، وقَدِ اقْتَضاهُ الأمْرُ بِالغَسْلِ، فَكانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ يَجِبُ اسْتِعْمالُهُما عَلى أعَمِّهِما حُكْمًا وأكْثَرِهِما فائِدَةً وهو الغَسْلُ لِأنَّهُ يَأْتِي عَلى المَسْحِ والمَسْحُ لا يَنْتَظِمُ الغَسْلَ.
وأيْضًا لَمّا حَدَّدَ الرِّجْلَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾ كَما قالَ: ﴿وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ دَلَّ عَلى اسْتِيعابِ الجَمِيعِ، كَما دَلَّ ذِكْرُ الأيْدِي عَلى المَرافِقِ عَلى اسْتِيعابِهِما بِالغَسْلِ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رَوى عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ تَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى قَدَمَيْهِ ونَعْلَيْهِ» . قِيلَ لَهُ: لا يَجُوزُ قَبُولُ أخْبارِ الآحادِ فِيهِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: لِما فِيهِ مِنَ الِاعْتِراضِ بِهِ عَلى مُوجِبِ الآيَةِ مِنَ الغَسْلِ عَلى ما قَدْ دَلَّلْنا عَلَيْهِ.
والثّانِي: أنَّ أخْبارَ الآحادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ في مِثْلِهِ لِعُمُومِ الحاجَةِ إلَيْهِ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قَرَأ: ( وأرْجُلَكم ) بِالنَّصْبِ وقالَ: ( المُرادُ الغَسْلُ ) فَلَوْ كانَ عِنْدَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ جَوازُ المَسْحِ والِاقْتِصارُ عَلَيْهِ دُونَ الغَسْلِ لَما قالَ: إنَّ مُرادَ اللَّهِ الغَسْلُ. وأيْضًا فَإنَّ الحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ في ذَلِكَ، قالَ (p-٣٥٢)فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ( هَذا وُضُوءُ مَن لَمْ يُحْدِثْ ) وهو حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنِ النَّزّالِ بْنِ سَبْرَةَ: «أنَّ عَلِيًّا صَلّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ في الرَّحْبَةِ، فَلَمّا حَضَرَتِ العَصْرُ دَعا بِكُوزٍ مِن ماءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ووَجْهَهُ وذِراعَيْهِ ومَسَحَ بِرَأْسِهِ ورِجْلَيْهِ، وقالَ: هَكَذا رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ وقالَ: هَذا وُضُوءُ مَن لَمْ يُحْدِثْ» ولا خِلافَ في جَوازِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ في وُضُوءِ مَن لَمْ يُحْدِثْ. وأيْضًا لَمّا احْتَمَلَتِ الآيَةُ الغَسْلَ والمَسْحَ، اسْتَعْمَلْناها عَلى الوُجُوبِ في الحالَيْنِ: الغَسْلُ في حالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ، والمَسْحُ في حالِ لُبْسِ الخُفَّيْنِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا سَقَطَ فَرْضُ الرِّجْلِ في حالِ التَّيَمُّمِ كَما سَقَطَ الرَّأْسُ، دَلَّ عَلى أنَّها مَمْسُوحَةٌ غَيْرُ مَغْسُولَةٍ. قِيلَ لَهُ: فَهَذا يُوجِبُ أنْ لا يَكُونَ الغَسْلُ مُرادًا، ولا خِلافَ أنَّهُ إذا غَسَلَ فَقَدْ فَعَلَ المَفْرُوضَ؛ ولَمْ تَخْتَلِفِ الأُمَّةُ أيْضًا في نَقْلِ الغَسْلِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ . وأيْضًا فَإنَّ غَسْلَ البَدَنِ كُلِّهِ يَسْقُطُ في الجَنابَةِ إلى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ، وقامَ التَّيَمُّمُ في هَذَيْنِ العُضْوَيْنِ مَقامَ غَسْلِ سائِرِ الأعْضاءِ، كَذَلِكَ جائِزٌ أنْ يَقُومَ مَقامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وإنْ لَمْ يَجِبِ التَّيَمُّمُ فِيها.
* * *
* فَصْلٌ
وقَدِ اخْتُلِفَ في الكَعْبَيْنِ ما هُما، فَقالَ جُمْهُورُ أصْحابِنا وسائِرُ أهْلِ العِلْمِ: ( هُما النّاتِئانِ بَيْنَ مَفْصِلِ القَدَمِ والسّاقِ ) . وحَكى هِشامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: ( أنَّهُ مَفْصِلُ القَدَمِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ عَقْدُ الشِّراكِ عَلى ظَهْرِ القَدَمِ ) . والصَّحِيحُ هو الأوَّلُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ في كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ، ولَوْ كانَ في كُلِّ رَجُلٍ كَعْبٌ واحِدٌ لَقالَ: إلى الكِعابِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنْ تَتُوبا إلى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤] لَمّا كانَ لِكُلِّ واحِدٍ قَلْبٌ واحِدٌ أضافَهُما إلَيْهِما بِلَفْظِ الجَمْعِ، فَلَمّا أضافَهُما إلى الأرْجُلِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ دَلَّ عَلى أنَّ في كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما حَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ قالَ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ قالَ: حَدَّثَنا الفَضْلُ بْنُ مُوسى عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيادِ بْنِ أبِي الجَعْدِ عَنْ جامِعِ بْنِ شِدادٍ عَنْ طارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُحارَبِيِّ قالَ: «رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في سُوقِ ذِي المَجازِ وعَلَيْهِ جُبَّةٌ حَمْراءُ وهو يَقُولُ: يا أيُّها النّاسُ قُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ورَجُلٌ يَتْبَعُهُ ويَرْمِيهِ بِالحِجارَةِ وقَدْ أدْمى عُرْقُوبَيْهِ وكَعْبَيْهِ، وهو يَقُولُ: يا أيُّها النّاسُ لا تُطِيعُوهُ فَإنَّهُ كَذّابٌ، فَقُلْتُ: مَن هَذا ؟ فَقالُوا: ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، قُلْتُ: فَمَن هَذا الَّذِي يَتْبَعُهُ ويَرْمِيهِ بِالحِجارَةِ ؟ قالُوا: هَذا عَبْدُ العُزّى أبُو لَهَبٍ». وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الكَعْبَ هو العَظْمُ النّاتِئُ في جانِبِ القَدَمِ؛ لِأنَّ الرَّمْيَةَ إذا كانَتْ مِن وراءِ الماشِي لا يَضْرِبُ ظَهْرَ القَدَمِ. قالَ: وحَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ قالَ: أخْبَرَنا (p-٣٥٣)وكِيعٌ قالَ: حَدَّثَنا زَكَرِيّا بْنُ أبِي زائِدَةَ عَنِ القاسِمِ الجَدَلِيِّ قالَ: سَمِعْتُ النُّعْمانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكم أوْ لَيُخالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكم أوْ وُجُوهِكم» قالَ: فَلَقَدْ رَأيْتُ الرَّجُلَ مِنّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صاحِبِهِ ومَنكِبَهُ بِمَنكِبِ صاحِبِهِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الكَعْبَ ما وصَفْنا
؛ واَللَّهُ أعْلَمُ
* * *
ذِكْرُ الخِلافِ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ
قالَ أصْحابُنا جَمِيعًا والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: ( يَمْسَحُ المُقِيمُ عَلى الخُفَّيْنِ يَوْمًا ولَيْلَةً والمُسافِرُ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيَها ) . ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ واللَّيْثِ: ( أنَّهُ لا وقْتَ لِلْمَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ، إذا أدْخَلَ رِجْلَيْهِ وهُما طاهِرَتانِ يَمْسَحُ ما بَدا لَهُ )، قالَ مالِكٌ: ( والمُقِيمُ والمُسافِرُ في ذَلِكَ سَواءٌ )، وأصْحابُهُ يَقُولُونَ: هَذا هو الصَّحِيحُ مِن مَذْهَبِهِ؛ ورَوى عَنْهُ ابْنُ القاسِمِ: ( أنَّ المُسافِرَ يَمْسَحُ ولا يَمْسَحُ المُقِيمُ )، ورَوى ابْنُ القاسِمِ أيْضًا عَنْ مالِكٍ أنَّهُ ضَعَّفَ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ المَسْحُ عَلى الخُفَّيْنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن طَرِيقِ التَّواتُرِ والِاسْتِفاضَةِ مِن حَيْثُ يُوجِبُ العِلْمُ؛ ولِذَلِكَ قالَ أبُو يُوسُفَ: إنَّما يَجُوزُ نَسْخُ القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذا ورَدَتْ كَوُرُودِ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ في الِاسْتِفاضَةِ. وما دَفَعَ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ مِن حَيْثُ نَعْلَمُ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ، ولَمْ يَشُكَّ أحَدٌ مِنهم في أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ مَسَحَ، وإنَّما اخْتُلِفَ في وقْتِ مَسْحِهِ أكانَ قَبْلَ نُزُولِ المائِدَةِ أوْ بَعْدَها ؟ فَرَوى المَسْحَ مُوَقَّتًا لِلْمُقِيمِ يَوْمًا ولَيْلَةً ولِلْمُسافِرِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيَها عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عُمَرُ وعَلِيٌّ وصَفْوانُ بْنُ عَسّالٍ وخُزَيْمَةُ بْنُ ثابِتٍ وعَوْفُ بْنُ مالِكٍ وابْنُ عَبّاسٍ وعائِشَةُ، ورَواهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ غَيْرَ مُوَقَّتٍ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ وجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيُّ وحُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ والمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وأبُو أيُّوبَ الأنْصارِيُّ وسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وأنَسُ بْنُ مالِكٍ وثَوْبانُ وعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أبِيهِ وسُلَيْمانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
ورَوى الأعْمَشُ عَنْ إبْراهِيمَ عَنْ هَمّامٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ» . قالَ الأعْمَشُ: قالَ إبْراهِيمُ: كانُوا مُعْجَبِينَ بِحَدِيثِ جَرِيرٍ لِأنَّهُ أسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ المائِدَةِ. ولَمّا كانَ وُرُودُ هَذِهِ الأخْبارِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنا مِنَ الِاسْتِفاضَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِ ناقِلِيها وامْتِناعِ التَّواطُؤِ والسَّهْوِ والغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ فِيها، وجَبَ اسْتِعْمالُها مَعَ حُكْمِ الآيَةِ.
وقَدْ بَيَّنّا أنَّ في الآيَةِ احْتِمالًا لِلْمَسْحِ، فاسْتَعْمَلْناهُ في حالِ لُبْسِ الخُفَّيْنِ واسْتَعْمَلْنا الغَسْلَ في حالِ ظُهُورِ (p-٣٥٤)الرِّجْلَيْنِ، فَلا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ مَسْحُ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ نُزُولِ المائِدَةِ أوْ بَعْدَها، مِن قِبَلِ أنَّهُ إنْ كانَ مَسَحَ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ فالآيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَيْهِ غَيْرُ ناسِخَةٍ لَهُ لِاحْتِمالِها ما يُوجِبُ مُوافَقَتَهُ مِنَ المَسْحِ في حالِ لُبْسِ الخُفَّيْنِ ولِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيها احْتِمالٌ لِمُوافَقَةِ الخَبَرِ لَجازَ أنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِهِ فَيَكُونَ الأمْرُ بِالغَسْلِ خاصًّا في حالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ دُونَ حالِ لُبْسِ الخُفَّيْنِ، وإنْ كانَتِ الآيَةُ مُتَقَدِّمَةً لِلْمَسْحِ فَإنَّما جازَ المَسْحُ لِمُوافَقَةِ ما احْتَمَلَتْهُ الآيَةُ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا ولَكِنَّهُ بَيانٌ لِلْمُرادِ بِها، وإنْ كانَ جائِزًا نَسْخُ الآيَةِ بِمِثْلِهِ لِتَواتُرِهِ وشُيُوعِهِ.
ومِن حَيْثُ ثَبَتَ المَسْحُ عَلى الخُفَّيْنِ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ فِيهِ لِلْمُقِيمِ والمُسافِرِ عَلى ما بَيَّنّا؛ لِأنَّ بِمِثْلِ الأخْبارِ الوارِدَةِ في المَسْحِ مُطْلَقًا ثَبَتَ التَّوْقِيتُ أيْضًا، فَإنْ بَطَلَ التَّوْقِيتُ بَطَلَ المَسْحُ وإنْ ثَبَتَ المَسْحُ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ. فَإنِ احْتَجَّ المُخالِفُ في ذَلِكَ بِما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وقَدْ مَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ جُمُعَةً: ( أصَبْتَ السُّنَّةَ )، وبِما رَوى حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ بْنِ شِنْظِيرٍ عَنِ الحَسَنِ، أنَّهُ سُئِلَ عَنِ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ في السَّفَرِ فَقالَ: كُنّا نُسافِرُ مَعَ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلا يُوَقِّتُونَ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوى سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ أنْكَرَ عَلى سَعْدٍ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ: ( يا بُنَيَّ عَمُّكَ أفْقَهُ مِنكَ، لِلْمُسافِرِ ثَلاثَةُ أيّامٍ ولَيالِيها ولِلْمُقِيمِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ ) سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: ( ثَلاثَةُ أيّامٍ ولَيالِيها لِلْمُسافِرِ ويَوْمٌ ولَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ ) وقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ التَّوْقِيتُ عَلى الحَدِّ الَّذِي بَيَّنّاهُ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﷺ لِعُقْبَةَ حِينَ مَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ جُمُعَةً: ( أصَبْتَ السُّنَّةَ ) يَعْنِي: أنَّكَ أصَبْتَ السُّنَّةَ في المَسْحِ، وقَوْلُهُ: ( إنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً ) إنَّما عَنى بِهِ أنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ المَسْحُ، كَما يَقُولُ القائِلُ: ( مَسَحْتُ شَهْرًا عَلى الخُفَّيْنِ ) وهو يَعْنِي عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ المَسْحُ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً دائِمًا لا يَفْتُرُ، وإنَّما أرادَ بِهِ المَسْحَ في الوَقْتِ الَّذِي يَحْتاجُ فِيهِ إلى المَسْحِ، كَذَلِكَ إنَّما أرادَ الوَقْتَ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ المَسْحُ.
وكَما تَقُولُ: ( صَلَّيْتُ الجُمُعَةَ شَهْرًا بِمَكَّةَ ) والمَعْنى: في الأوْقاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيها فِعْلُ الجُمُعَةِ. وأمّا قَوْلُ الحَسَنِ: ( إنَّ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِينَ سافَرَ مَعَهم كانُوا لا يُوَقِّتُونَ ) فَإنَّهُ إنَّما عَنى بِهِ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّهم رُبَّما خَلَعُوا الخِفافَ فِيما بَيْنَ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاثَةٍ، وأنَّهم لَمْ يَكُونُوا يُداوِمُونَ عَلى مَسْحِ الثَّلاثِ حَسَبَما قَدْ جَرَتْ بِهِ العادَةُ مِنَ النّاسِ أنَّهم لَيْسُوا يَكادُونَ يَتْرُكُونَ خِفافَهم لا يَنْزِعُونَها ثَلاثًا؛ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّهم كانُوا يَمْسَحُونَ أكْثَرَ مِن ثَلاثٍ.
فَإنْ قِيلَ: في حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «المَسْحُ عَلى (p-٣٥٥)الخُفَّيْنِ لِلْمُسافِرِ ثَلاثَةُ أيّامٍ ولَيالِيها ولِلْمُقِيمِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ» ولَوِ اسْتَزَدْناهُ لَزادَنا. وفي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ عُمارَةَ أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أمْسَحُ عَلى الخُفَّيْنِ ؟ قالَ: ( نَعَمْ ) قالَ: يَوْمًا ؟ قالَ: ( ويَوْمَيْنِ ) قالَ: وثَلاثَةً ؟ قالَ: ( نَعَمْ، وما شِئْتَ ) . وفي حَدِيثٍ آخَرَ قالَ: حَتّى بَلَغَ سَبْعًا. قِيلَ لَهُ: أمّا حَدِيثُ خُزَيْمَةَ وما قِيلَ فِيهِ ( ولَوِ اسْتَزَدْناهُ لَزادَنا ) فَإنَّما هو ظَنٌّ مِنَ الرّاوِي، والظَّنُّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا. وأمّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عُمارَةَ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ بِالقَوِيِّ، وقَدِ اخْتُلِفَ في سَنَدِهِ، ولَوْ ثَبَتَ كانَ قَوْلُهُ: ( وما شِئْتَ ) عَلى أنَّهُ يَمْسَحُ بِالثَّلاثِ ما شاءَ، وغَيْرُ جائِزٍ الِاعْتِراضُ عَلى أخْبارِ التَّوْقِيتِ بِمِثْلِ هَذِهِ الأخْبارِ الشّاذَّةِ المُحْتَمِلَةِ لِلْمَعانِي مَعَ اسْتِفاضَةِ الرِّوايَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِالتَّوْقِيتِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا جازَ المَسْحُ وجَبَ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ. قِيلَ لَهُ: لا حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ الأثَرِ، فَإنْ كانَتْ أخْبارُ التَّوْقِيتِ ثابِتَةً فالنَّظَرُ مَعَها ساقِطٌ، وإنْ كانَتْ غَيْرَ ثابِتَةٍ فالكَلامُ حِينَئِذٍ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ في إثْباتِها، وقَدْ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ بِالأخْبارِ المُسْتَفِيضَةِ مِن حَيْثُ لا يُمْكِنُ دَفْعُها. وأيْضًا فَإنَّ الفَرْقَ بَيْنَهُما ظاهِرٌ مِن طَرِيقِ النَّظَرِ، وهو أنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ هو المَفْرُوضُ في نَفْسِهِ ولَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ غَيْرِهِ، والمَسْحُ عَلى الخُفَّيْنِ بَدَلٌ عَنِ الغَسْلِ مَعَ إمْكانِهِ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُهُ بَدَلًا إلّا في المِقْدارِ الَّذِي ورَدَ بِهِ التَّوْقِيتُ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ جازَ المَسْحُ عَلى الجَبائِرِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ وهو بَدَلٌ عَنِ الغَسْلِ. قِيلَ لَهُ: أمّا عَلى مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ فَهَذا السُّؤالُ ساقِطٌ؛ لِأنَّهُ لا يُوجِبُ المَسْحَ عَلى الجَبائِرِ، وهو عِنْدَهُ مُسْتَحَبٌّ تَرْكُهُ لا يَضُرُّ. وعَلى قَوْلِ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ أيْضًا لا يَلْزَمُ لِأنَّهُ إنَّما يَفْعَلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كالتَّيَمُّمِ، والمَسْحُ عَلى الخُفَّيْنِ جائِزٌ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفا.
فَإنْ قِيلَ: ما أنْكَرْتَ أنْ يَكُونَ جَوازُ المَسْحِ مَقْصُورًا عَلى السَّفَرِ لِأنَّ الأخْبارَ ورَدَتْ فِيهِ، وأنْ لا يَجُوزَ في الحَضَرِ لِما رُوِيَ أنَّ عائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقالَتْ: ( سَلُوا عَلِيًّا فَإنَّهُ كانَ مَعَهُ في أسْفارِهِ )؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ في الحَضَرِ؛ لِأنَّ مِثْلَهُ لا يَخْفى عَلى عائِشَةَ ؟ قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ سُئِلَتْ عَنْ تَوْقِيتِ المَسْحِ لِلْمُسافِرِ فَأحالَتْ بِهِ عَلى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وأيْضًا فَإنَّ عائِشَةَ أحَدُ مَن رَوى تَوْقِيتَ المَسْحِ لِلْمُسافِرِ والمُقِيمِ جَمِيعًا. وأيْضًا فَإنَّ الأخْبارَ الَّتِي فِيها تَوْقِيتُ مَسْحِ المُسافِرِ فِيها تَوْقِيتُهُ لِلْمُقِيمِ، فَإنْ ثَبَتَ لِلْمُسافِرِ ثَبَتَ لِلْمُقِيمِ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ تَواتَرَتِ الأخْبارُ بِغَسْلِهِ في الحَضَرِ وقَوْلُهُ: «ويْلٌ لِلْعَراقِيبِ مِنَ النّارِ» . قِيلَ لَهُ: إنَّما ذَلِكَ في حالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ.
فَإنْ قِيلَ: جائِزٌ أنْ يَخْتَصَّ حالُ السَّفَرِ بِالتَّخْفِيفِ دُونَ حالِ الحَضَرِ كالقَصْرِ والتَّيَمُّمِ والإفْطارِ. قِيلَ لَهُ: لَمْ نُبِحِ المَسْحَ لِلْمُقِيمِ ولا لِلْمُسافِرِ (p-٣٥٦)قِياسًا، وإنَّما أبَحْناهُ بِالآثارِ، وهي مُتَساوِيَةٌ فِيما يَقْتَضِيهِ مِنَ المَسْحِ في السَّفَرِ والحَضَرِ، فَلا مَعْنى لِلْمُقايَسَةِ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ أيْضًا في المَسْحِ مِن وجْهٍ آخَرَ، فَقالَ أصْحابُنا: ( إذا غَسَلَ رِجْلَيْهِ ولَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أكْمَلَ الطَّهارَةَ قَبْلَ الحَدَثِ أجْزَأهُ أنْ يَمْسَحَ إذا أحْدَثَ )، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ مِثْلُهُ. وذَكَرَ الطَّحاوِيُّ عَنْ مالِكٍ والشّافِعِيِّ: ( أنَّهُ لا يَجْزِيهِ إلّا أنْ يَلْبَسَ خُفَّيْهِ بَعْدَ إكْمالِ الطَّهارَةِ ) ودَلِيلُ أصْحابِنا عُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ: «يَمْسَحُ المُقِيمُ يَوْمًا ولَيْلَةً والمُسافِرُ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيَها» ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لُبْسِهِ قَبْلَ إكْمالِ الطَّهارَةِ وبَعْدَها.
ورَوى الشَّعْبِيُّ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَوَضَّأ، فَأهْوَيْتُ إلى خُفَّيْهِ لِأنْزِعَهُما، فَقالَ: مَهْ فَإنِّي أدْخَلْتُ القَدَمَيْنِ الخُفَّيْنِ وهُما طاهِرَتانِ» فَمَسَحَ عَلَيْهِما. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ: ( إذا أدْخَلْتَ قَدَمَيْكَ الخُفَّيْنِ وهُما طاهِرَتانِ فامْسَحْ عَلَيْهِما ) . ومَن غَسَلَ رِجْلَيْهِ فَقَدْ طَهُرَتا قَبْلَ إكْمالِ طَهارَةِ سائِرِ الأعْضاءِ، كَما يُقالُ: غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وكَما يُقالُ: صَلّى رَكْعَةً؛ وإنْ لَمْ يُتِمَّ صَلاتَهُ. وأيْضًا فَإنَّ مَن لا يُجِيزُ ذَلِكَ فَإنَّما يَأْمُرُهُ بِنَزْعِ الخُفَّيْنِ ثُمَّ لُبْسِهِما كَذَلِكَ بَقاؤُهُما في رِجْلَيْهِ لِحِينِ المَسْحِ؛ لِأنَّ اسْتِدامَةَ اللُّبْسِ بِمَنزِلَةِ ابْتِدائِهِ.
* * *
واخْتُلِفَ في المَسْحِ عَلى الجَوْرَبَيْنِ، فَلَمْ يُجِزْهُ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ إلّا أنْ يَكُونا مُجَلَّدَيْنِ. وحَكى الطَّحاوِيُّ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ لا يَمْسَحُ وإنْ كانا مُجَلَّدَيْنِ. وحَكى بَعْضُ أصْحابِ مالِكٍ عَنْهُ أنَّهُ لا يَمْسَحُ إلّا أنْ يَكُونا مُجَلَّدَيْنِ كالخُفَّيْنِ. وقالَ الثَّوْرِيُّ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( يَمْسَحُ إذا كانا ثَخِينَيْنِ وإنْ لَمْ يَكُونا مُجَلَّدَيْنِ ) . والأصْلُ فِيهِ أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ مُرادَ الآيَةِ الغَسْلُ عَلى ما قَدَّمْنا، فَلَوْ لَمْ تَرِدِ الآثارُ المُتَواتِرَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ لَما أجَزْنا المَسْحَ، فَلَمّا ورَدَتِ الآثارُ الصِّحاحُ واحْتَجْنا إلى اسْتِعْمالِها مَعَ الآيَةِ اسْتَعْمَلْناها مَعَها عَلى مُوافَقَةِ الآيَةِ في احْتِمالِها لِلْمَسْحِ وتَرَكْنا الباقِيَ عَلى مُقْتَضى الآيَةِ ومُرادِها؛ ولَمّا لَمْ تَرِدِ الآثارُ في جَوازِ المَسْحِ عَلى الجَوْرَبَيْنِ في وزْنِ وُرُودِها في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ بَقَّيْنا حُكْمَ الغَسْلِ عَلى مُرادِ الآيَةِ ولَمْ نَنْقُلْهُ عَنْهُ.
فَإنْ قِيلَ: رَوى المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وأبُو مُوسى: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلى جَوْرَبَيْهِ ونَعْلَيْهِ» . قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أنَّهُما كانا مُجَلَّدَيْنِ، فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى مَوْضِعِ الخِلافِ؛ إذْ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ وإنَّما هو حِكايَةُ فِعْلٍ لا نَعْلَمُ. وأيْضًا يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ وُضُوءَ مَن لَمْ يُحْدِثْ، كَما مَسَحَ عَلى رِجْلَيْهِ وقالَ: ( هَذا وُضُوءُ مِن لَمْ يُحْدِثْ ) . ومِن جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفاقُ الجَمْعِ عَلى امْتِناعِ جَوازِ المَسْحِ عَلى اللِّفافَةِ؛ إذْ لَيْسَ في العادَةِ المَشْيُ فِيها، كَذَلِكَ الجَوْرَبانِ. وأمّا إذا كانا مُجَلَّدَيْنِ فَهُما بِمَنزِلَةِ الخُفَّيْنِ ويَمْشِي فِيهِما وبِمَنزِلَةِ (p-٣٥٧)الجُرْمُوقَيْنِ، ألا تَرى أنَّهم قَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ إذا كانَ كُلُّهُ مُجَلَّدًا جازَ المَسْحُ ؟ ولا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُجَلَّدًا أوْ بَعْضُهُ بَعْدَ أنْ يَكُونَ بِمَنزِلَةِ الخُفَّيْنِ في المَشْيِ والتَّصَرُّفِ.
* * *
واخْتُلِفَ في المَسْحِ عَلى العِمامَةِ، فَقالَ أصْحابُنا ومالِكٌ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ: ( لا يَجُوزُ المَسْحُ عَلى العِمامَةِ ولا عَلى الخِمارِ ) . وقالَ الثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ: ( يَمْسَحُ عَلى العِمامَةِ ) . والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ وحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي إمْساسَهُ الماءَ ومُباشَرَتَهُ، وماسِحُ العِمامَةِ غَيْرُ ماسِحٍ بِرَأْسِهِ فَلا تَجْزِيهِ صَلاتُهُ إذا صَلّى بِهِ. وأيْضًا فَإنَّ الآثارَ مُتَواتِرَةٌ في مَسْحِ الرَّأْسِ، فَلَوْ كانَ المَسْحُ عَلى العِمامَةِ جائِزًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَواتِرًا في وزْنِ وُرُودِهِ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ؛ فَلَمّا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَسْحُ العِمامَةِ مِن جِهَةِ التَّواتُرِ لَمْ يَجُزِ المَسْحُ عَلَيْها مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الآيَةَ تَقْتَضِي مَسْحَ الرَّأْسِ، فَغَيْرُ جائِزٍ العُدُولُ عَنْهُ إلّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ العِلْمَ. والثّانِي: عُمُومُ الحاجَةِ إلَيْهِ، فَلا يُقْبَلُ في مِثْلِهِ إلّا المُتَواتِرُ مِنَ الأخْبارِ. وأيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ تَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً وقالَ: هَذا وُضُوءُ مَن لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلاةً إلّا بِهِ» ومَعْلُومٌ أنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ لِأنَّ مَسْحَ العِمامَةِ لا يُسَمّى وُضُوءًا، ثُمَّ نَفى جَوازَ الصَّلاةِ إلّا بِهِ. وحَدِيثُ عائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «تَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً ومَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ قالَ: هَذا الوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنا» فَأخْبَرَ أنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ بِالماءِ هو المَفْرُوضُ عَلَيْنا فَلا تَجْزِي الصَّلاةُ إلّا بِهِ. وإنِ احْتَجُّوا بِما رَوى بِلالٌ والمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ والعِمامَةِ» وما رَوى راشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ثَوْبانَ قالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً فَأصابَهُمُ البَرْدُ، فَلَمّا قَدِمُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ أمَرَهم أنْ يَمْسَحُوا عَلى العَصائِبِ والتَّساخِينِ» . قِيلَ لَهم: هَذِهِ أخْبارٌ مُضْطَرِبَةُ الأسانِيدِ وفِيها رِجالٌ مَجْهُولُونَ، ولَوِ اسْتَقامَتْ أسانِيدُها لَما جازَ الِاعْتِراضُ بِمِثْلِها عَلى الآيَةِ؛ وقَدْ بَيَّنّا في حَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أنَّهُ مَسَحَ عَلى ناصِيَتِهِ وعِمامَتِهِ، وفي بَعْضِها: عَلى جانِبِ عِمامَتِهِ، وفي بَعْضِها: وضَعَ يَدَهُ عَلى عِمامَتِهِ؛ فَأخْبَرَ أنَّهُ فَعَلَ المَفْرُوضَ في مَسْحِ النّاصِيَةِ ومَسَحَ عَلى العِمامَةِ وذَلِكَ جائِزٌ عِنْدَنا ويُحْتَمَلُ ما رَواهُ بِلالٌ ما بُيِّنَ في حَدِيثِ المُغِيرَةِ. وأمّا حَدِيثُ ثَوْبانَ فَمَحْمُولٌ عَلى مَعْنى حَدِيثِ المُغِيرَةِ أيْضًا بِأنْ مَسَحُوا عَلى بَعْضِ الرَّأْسِ وعَلى العِمامَةِ. واَللَّهُ أعْلَمُ.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبࣰا فَٱطَّهَّرُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُم مِّنۡهُۚ مَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیَجۡعَلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ حَرَجࣲ وَلَـٰكِن یُرِیدُ لِیُطَهِّرَكُمۡ وَلِیُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق