﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبࣰا فَٱطَّهَّرُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُم مِّنۡهُۚ مَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیَجۡعَلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ حَرَجࣲ وَلَـٰكِن یُرِیدُ لِیُطَهِّرَكُمۡ وَلِیُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [المائدة ٦]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾، في قَوْلِهِ: وأرْجُلَكم ثَلاثُ قِراءاتٍ: واحِدَةٌ شاذَّةٌ، واثْنَتانِ مُتَواتِرَتانِ.
أمّا الشّاذَّةُ: فَقِراءَةُ الرَّفْعِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ؛ وأمّا المُتَواتِرَتانِ: فَقِراءَةُ النَّصْبِ، وقِراءَةُ الخَفْضِ.
أمّا النَّصْبُ: فَهو قِراءَةُ نافِعٍ، وابْنِ عامِرٍ، والكِسائِيِّ، وعاصِمٍ في رِوايَةِ حَفْصٍ مِنَ السَّبْعَةِ، ويَعْقُوبَ مِنَ الثَّلاثَةِ.
وَأمّا الجَرُّ: فَهو قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وحَمْزَةَ، وأبِي عَمْرٍو، وعاصِمٍ، وفي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ.
أمّا قِراءَةُ النَّصْبِ: فَلا إشْكالَ فِيها، لِأنَّ الأرْجُلَ فِيها مَعْطُوفَةٌ عَلى الوُجُوهِ، وتَقْرِيرُ المَعْنى عَلَيْها: فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ، وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكم.
وَإنَّما أُدْخِلَ مَسْحُ الرَّأْسِ بَيْنَ المَغْسُولاتِ مُحافَظَةً عَلى التَّرْتِيبِ، لِأنَّ الرَّأْسَ يُمْسَحُ بَيْنَ المَغْسُولاتِ؛ ومِن هُنا أخَذَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ في أعْضاءِ الوُضُوءِ حَسْبَما في الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
وَأمّا عَلى قِراءَةِ الجَرِّ: فَفي الآيَةِ الكَرِيمَةِ إجْمالٌ، وهو أنَّها يُفْهَمُ مِنها الِاكْتِفاءُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ في الوُضُوءِ عَنِ الغَسْلِ كالرَّأْسِ، وهو خِلافُ الواقِعِ لِلْأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ في وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ في الوُضُوءِ والتَّوَعُّدِ بِالنّارِ لِمَن تَرَكَ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ ﷺ:
«وَيْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ» .
اعْلَمْ أوَّلًا، أنَّ القِراءَتَيْنِ إذا ظَهَرَ تَعارُضُهُما في آيَةٍ واحِدَةٍ لَهُما حُكْمُ الآيَتَيْنِ، كَما هو مَعْرُوفٌ عِنْدَ العُلَماءِ، وإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ قِراءَةَ: وأرْجُلَكم، بِالنَّصْبِ صَرِيحٌ في وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ في الوُضُوءِ، فَهي تُفْهِمُ أنَّ قِراءَةَ الخَفْضِ إنَّما هي لِمُجاوَرَةِ المَخْفُوضِ مَعَ أنَّها في الأصْلِ مَنصُوبَةٌ بِدَلِيلِ قِراءَةِ النَّصْبِ، والعَرَبُ تَخْفِضُ الكَلِمَةَ لِمُجاوَرَتِها لِلْمَخْفُوضِ، مَعَ أنَّ إعْرابَها النَّصْبُ، أوِ الرَّفْعُ.
وَما ذَكَرَهُ بَعْضُهم مِن أنَّ الخَفْضَ بِالمُجاوَرَةِ مَعْدُودٌ مِنَ اللَّحْنِ الَّذِي يُتَحَمَّلُ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ خاصَّةً، وأنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ في العَطْفِ، وأنَّهُ لَمْ يَجُزْ إلّا عِنْدَ أمْنِ اللَّبْسِ، فَهو مَرْدُودٌ بِأنَّ أئِمَّةَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ صَرَّحُوا بِجَوازِهِ.
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الأخْفَشُ، وأبُو البَقاءِ، وغَيْرُ واحِدٍ.
وَلَمْ يُنْكِرْهُ إلّا الزَّجّاجُ، وإنْكارُهُ لَهُ، مَعَ ثُبُوتِهِ في كَلامِ العَرَبِ، وفي القُرْآنِ العَظِيمِ، يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَتَتَبَّعِ المَسْألَةَ تَتَبُّعًا كافِيًا.
والتَّحْقِيقُ: أنَّ الخَفْضَ بِالمُجاوَرَةِ أُسْلُوبٌ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وأنَّهُ جاءَ في القُرْآنِ لِأنَّهُ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
فَمِنهُ في النَّعْتِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: [ الطَّوِيلُ ]
كَأنَّ ثَبِيرًا في عِرانِينِ ودْقِهِ كَبِيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
بِخَفْضٍ ”مُزَمَّلِ“ بِالمُجاوَرَةِ، مَعَ أنَّهُ نَعْتُ ”كَبِيرُ“ المَرْفُوعِ بِأنَّهُ خَبَرُ ”كَأنَّ“ وقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: [ البَسِيطُ ]
تُرِيكَ سُنَّةَ وجْهٍ غَيْرِ مُقْرِفَةٍ ∗∗∗ مَلْساءَ لَيْسَ بِها خالٌ ولا نَدَبُ
إذِ الرِّوايَةُ بِخَفْضِ ”غَيْرِ“، كَما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ لِلْمُجاوَرَةِ، مَعَ أنَّهُ نَعْتُ ”سُنَّةَ“ المَنصُوبِ بِالمَفْعُولِيَّةِ.
وَمِنهُ في العَطْفِ، قَوْلُ النّابِغَةِ: [ البَسِيطُ ]
لَمْ يَبْقَ إلّا أسِيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ∗∗∗ ومُوثَقٍ في حِبالِ القَدِّ مَجْنُوبِ
بِخَفْضٍ ”مُوثَقٍ“ لِمُجاوَرَتِهِ المَخْفُوضِ، مَعَ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ”أسِيرٌ“ المَرْفُوعِ بِالفاعِلِيَّةِ.
وَقَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: [ الطَّوِيلُ ]
وَظَلَّ طُهاةُ اللَّحْمِ ما بَيْنَ مُنْضِجٍ ∗∗∗ صَفِيفَ شِواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
بِجَرٍّ ”قَدِيرٍ“ لِمُجاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ، مَعَ أنَّهُ عَطَفَ عَلى ”صَفِيفَ“ المَنصُوبِ بِأنَّهُ مَفْعُولُ اسْمِ الفاعِلِ الَّذِي هو ”مُنْضِجٍ“، والصَّفِيفُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ وهو المَصْفُوفُ مِنَ اللَّحْمِ عَلى الجَمْرِ لِيَنْشَوِيَ، والقَدِيرُ: كَذَلِكَ فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وهو المَجْعُولُ في القِدْرِ مِنَ اللَّحْمِ لِيَنْضُجَ بِالطَّبْخِ.
وَهَذا الإعْرابُ الَّذِي ذَكَرْناهُ هو الحَقُّ، لِأنَّ الإنْضاجَ واقِعٌ عَلى كُلٍّ مِنَ الصَّفِيفِ والقَدِيرِ، فَما زَعَمَهُ ”الصَّبّانُ“ في حاشِيَتِهِ عَلى ”الأشْمُونِيِّ“ مِن أنَّ قَوْلَهُ ”أوْ قَدِيرٍ“ مَعْطُوفٌ عَلى ”مُنْضِجٍ“ بِتَقْدِيرِ المُضافِ أيْ وطابِخِ قَدِيرٍ. . . الخَ، ظاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ المُنْضِجَ شامِلٌ لِشاوِي الصَّفِيفِ، وطابِخِ القَدِيرِ، فَلا حاجَةَ إلى عَطْفِ الطّابِخِ عَلى المُنْضَجِ لِشُمُولِهِ لَهُ، ولا داعِيَ لِتَقْدِيرِ ”طابِخٍ“ مَحْذُوفٍ.
وَما ذَكَرَهُ العَيْنِيُّ مِن أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ”شِواءٍ“، فَهو ظاهِرُ السُّقُوطِ أيْضًا؛ وقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ ”الصَّبّانُ“، لِأنَّ المَعْنى يَصِيرُ بِذَلِكَ: وصَفِيفٍ قَدِيرٍ، والقَدِيرُ لا يَكُونُ صَفِيفًا.
والتَّحْقِيقُ: هو ما ذَكَرْنا مِنَ الخَفْضِ بِالمُجاوَرَةِ، وبِهِ جَزَمَ ابْنُ قُدامَةَ في المُغْنِي.
وَمِنَ الخَفْضِ بِالمُجاوَرَةِ في العَطْفِ، قَوْلُ زُهَيْرٍ: [ الكامِلُ ]
لَعِبَ الزَّمانُ بِها وغَيَّرَها ∗∗∗ بَعْدِي سَوافِي المَوْرِ والقَطْرِ
بِجَرِّ ”القَطْرِ“ لِمُجاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ مَعَ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ”سَوافِي“ المَرْفُوعِ، بِأنَّهُ فاعِلُ غَيَّرَ.
وَمِنهُ في التَّوْكِيدِ قَوْلُ الشّاعِرِ: [ البَسِيطُ ]
يا صاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجاتِ كُلَّهُمُ ∗∗∗ أنْ لَيْسَ وصْلٌ إذا انْحَلَّتْ عُرى الذَّنَبِ
بِجَرِّ ”كُلِّهِمْ“ عَلى ما حَكاهُ الفَرّاءُ، لِمُجاوَرَةِ المَخْفُوضِ، مَعَ أنَّهُ تَوْكِيدُ ”ذَوِيِ“ المَنصُوبِ بِالمَفْعُولِيَّةِ.
وَمِن أمْثِلَتِهِ في القُرْآنِ العَظِيمِ في العَطْفِ - كالآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها - قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ ﴿كَأمْثالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ﴾ [الواقعة: ٢٢]، عَلى قِراءَةِ حَمْزَةَ، والكِسائِيِّ.
وَرِوايَةُ المُفَضَّلِ عَنْ عاصِمٍ بِالجَرِّ لِمُجاوَرَتِهِ لِأكْوابٍ وأبارِيقَ، إلى قَوْلِهِ:
﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ﴾ [الواقعة: ٢١]، مَعَ أنَّ قَوْلَهُ:
﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾، حُكْمُهُ الرَّفْعُ، فَقِيلَ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى فاعِلِ ”يَطُوفُ“ الَّذِي هو
﴿وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة: ١٧] .
وَقِيلَ: هو مَرْفُوعٌ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، دَلَّ المَقامُ عَلَيْهِ.
أيْ: وفِيها حُورٌ عِينٌ، أوْ لَهم حُورٌ عِينٌ.
وَإذَنْ فَهو مِنَ العَطْفِ بِحَسَبِ المَعْنى.
وَقَدْ أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْعَطْفِ عَلى المَعْنى قَوْلَ الشَّمّاخِ، أوْ ذِي الرُّمَّةِ: [ الكامِلُ ]
بادَتْ وغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ البِلا ∗∗∗ إلّا رَواكِدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
وَمُشَجَّجٌ أمّا سَواءُ قِذالِهِ ∗∗∗ فَبَدا وغَيَّبَ سارَهُ المَعْزاءُ
لِأنَّ الرِّوايَةَ بِنَصْبِ ”رَواكِدَ“ عَلى الِاسْتِثْناءِ، ورَفْعِ مُشَجَّجٍ عَطْفًا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ المَعْنى لَمْ يَبْقَ مِنها إلّا رَواكِدُ ومُشَجَّجٌ، ومُرادُهُ بِالرَّواكِدِ أثافِي القِدْرِ، وبِالمُشَجَّجِ وتَدُ الخِباءِ، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ وجْهَ الخَفْضِ في قِراءَةِ حَمْزَةَ، والكِسائِيِّ هو المُجاوَرَةُ لِلْمَخْفُوضِ، كَما ذَكَرْنا خِلافًا لِمَن قالَ في قِراءَةِ الجَرِّ: إنَّ العَطْفَ عَلى أكْوابٍ، أيْ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِأكْوابٍ، وبِحُورٍ عِينٍ، ولِمَن قالَ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى جَنّاتِ النَّعِيمِ، أيْ هم في جَنّاتِ النَّعِيمِ، وفي حُورٍ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضافٍ، أيْ في مُعاشَرَةِ حُورٍ.
وَلا يَخْفى ما في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، لِأنَّ الأوَّلَ يُرَدُّ، بِأنَّ الحُورَ العِينَ لا يُطافُ بِهِنَّ مَعَ الشَّرابِ، لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿حُورٌ مَقْصُوراتٌ في الخِيامِ﴾ [الرحمن: ٧٢] .
والثّانِي فِيهِ أنَّ كَوْنَهم في جَنّاتِ النَّعِيمِ، وفي حُورٍ ظاهِرُ السُّقُوطِ كَما تَرى، وتَقْدِيرُ ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ لا وجْهَ لَهُ.
وَأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِجَوابَيْنِ، الأوَّلُ: أنَّ العَطْفَ فِيهِ بِحَسَبِ المَعْنى، لِأنَّ المَعْنى: يَتَنَعَّمُونَ بِأكْوابٍ وفاكِهَةٍ ولَحْمٍ وحُورٍ. قالَهُ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ.
الجَوابُ الثّانِي: أنَّ الحُورَ قِسْمانِ:
١ - حُورٌ مَقْصُوراتٌ في الخِيامِ.
٢ - وحُورٌ يُطافُ بِهِنَّ عَلَيْهِمْ
قالَهُ الفَخْرُ الرّازِيُّ وغَيْرُهُ، وهو تَقْسِيمٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، ولا يُعْرَفُ مِن صِفاتِ الحُورِ العِينِ كَوْنُهُنَّ يُطافُ بِهِنَّ كالشَّرابِ، فَأظْهَرُها الخَفْضُ بِالمُجاوَرَةِ، كَما ذَكَرْنا.
وَكَلامُ الفَرّاءِ، وقُطْرُبٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ، وما رُدَّ بِهِ القَوْلُ بِالعَطْفِ عَلى أكْوابٍ مِن كَوْنِ الحُورِ لا يُطافُ بِهِنَّ يُرَدُّ بِهِ القَوْلُ بِالعَطْفِ عَلى
﴿وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾، في قِراءَةِ الرَّفْعِ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ الحُورَ يَطُفْنَ عَلَيْهِمْ كالوِلْدانِ، والقَصْرُ في الخِيامِ يُنافِي ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأنَّ خَفْضَ وأرْجُلِكم؛ لِمُجاوَرَةِ المَخْفُوضِ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“، فَإنَّهُ قالَ ما نَصُّهُ: بابُ قِراءَةِ مَن قَرَأ ”وَأرْجُلَكم“ نَصْبًا، وأنَّ الأمْرَ رَجَعَ إلى الغَسْلِ، وأنَّ مَن قَرَأها خَفْضًا، فَإنَّما هو لِلْمُجاوَرَةِ، ثُمَّ ساقَ أسانِيدَهُ إلى ابْنِ عَبّاسٍ، وعَلِيٍّ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، ومُجاهِدٍ، وعَطاءٍ، والأعْرَجِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَيْلانَ، ونافِعِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي نُعَيْمٍ القارِئِ، وأبِي مُحَمَّدٍ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ يَزِيدَ الحَضْرَمِيِّ أنَّهم قَرَءُوها كُلُّهم: وأرْجُلَكم، بِالنَّصْبِ.
قالَ: وبَلَغَنِي عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ أنَّهُ كانَ يَقْرَؤُها نَصْبًا، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامِرٍ اليَحْصَبِيِّ، وعَنْ عاصِمٍ بِرِوايَةِ حَفْصٍ، وعَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَيّاشٍ مِن رِوايَةِ الأعْشى، وعَنِ الكِسائِيِّ، كُلُّ هَؤُلاءِ نَصَبُوها.
وَمَن خَفَضَها فَإنَّما هو لِلْمُجاوَرَةِ، قالَ الأعْمَشُ: كانُوا يَقْرَءُونَها بِالخَفْضِ، وكانُوا يَغْسِلُونَ، اهـ كَلامُ البَيْهَقِيِّ.
وَمِن أمْثِلَةِ الخَفْضِ بِالمُجاوَرَةِ في القُرْآنِ في النَّعْتِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ [هود: ٨٤]، بِخَفْضِ مُحِيطٍ مَعَ أنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَذابِ. وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿عَذابَ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ [هود: ٢٦]، ومِمّا يَدُلُّ أنَّ النَّعْتَ لِلْعَذابِ، وقَدْ خُفِضَ لِلْمُجاوَرَةِ، كَثْرَةُ وُرُودِ الألَمِ في القُرْآنِ نَعْتًا لِلْعَذابِ. وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢]، عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِخَفْضِ مَحْفُوظٍ كَما قالَهُ القُرْطُبِيُّ ومِن كَلامِ العَرَبِ: ”هَذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ“ بِخَفْضِ خَرِبٍ لِمُجاوَرَةِ المَخْفُوضِ مَعَ أنَّهُ نَعْتُ خَبَرِ المُبْتَدَأِ؛ وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ دَعْوى كَوْنِ الخَفْضِ بِالمُجاوَرَةِ لَحْنًا لا يُتَحَمَّلُ إلّا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ باطِلَةٌ، والجَوابُ عَمّا ذَكَّرُوهُ مِن أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا عِنْدَ أمْنِ اللَّبْسِ، هو أنَّ اللَّبْسَ هُنا يُزِيلُهُ التَّحْدِيدُ بِالكَعْبَيْنِ، إذْ لَمْ يَرِدْ تَحْدِيدُ المَمْسُوحِ، وتُزِيلُهُ قِراءَةُ النَّصْبِ، كَما ذَكَرْنا، فَإنْ قِيلَ قِراءَةُ الجَرِّ الدّالَّةُ عَلى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ في الوُضُوءِ هي المُبَيِّنَةُ لِقِراءَةِ النَّصْبِ بِأنْ تَجْعَلَ قِراءَةَ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى المَحَلِّ؛ لِأنَّ الرُّءُوسَ مَجْرُورَةٌ بِالباءِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مالِكٍ في الخُلاصَةِ: [ الرَّجَزُ ]
وَجَرُّ ما يَتْبَعُ ما جُرَّ ومَن ∗∗∗ راعى في الِاتْباعِ المَحَلَّ فَحَسَنْ
وابْنُ مالِكٍ وإنْ كانَ أوْرَدَ هَذا في ”إعْمالِ المَصْدَرِ“ فَحُكْمُهُ عامٌّ، أيْ وكَذَلِكَ الفِعْلُ والوَصْفُ، كَما أشارَ لَهُ في الوَصْفِ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
واجُرُرْ أوِ انْصِبْ تابِعَ الَّذِي انْخَفَضْ ∗∗∗ كَمُبْتَغِي جاهٍ ومالًا مَن نَهَضْ
فالجَوابُ أنَّ بَيانَ قِراءَةِ النَّصْبِ بِقِراءَةِ الجَرِّ، كَما ذَكَرَ، تَأْباهُ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ النّاطِقَةُ بِخِلافِهِ، وبِتَوَعُّدِ مُرْتَكِبِهِ بِالوَيْلِ مِنَ النّارِ بِخِلافِ بَيانِ قِراءَةِ الخَفْضِ بِقِراءَةِ النَّصْبِ، فَهو مُوافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الثّابِتَةَ عَنْهُ قَوْلًا وفِعْلًا.
فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
قالَ:
«تَخَلَّفَ عَنّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في سَفْرَةٍ سافَرْناها فَأدْرَكَنا، وقَدْ أرْهَقَتْنا الصَّلاةُ صَلاةُ العَصْرِ ونَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنا نَمْسَحُ عَلى أرْجُلِنا، فَنادى بِأعْلى صَوْتِهِ: ”أسْبِغُوا الوُضُوءَ، ويْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ“»، وكَذَلِكَ هو في الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«أسْبِغُوا الوُضُوءَ، ويْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ»، ورَوى البَيْهَقِيُّ والحاكِمُ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حارِثِ بْنِ جُزْءٍ، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«وَيْلٌ لِلْأعْقابِ، وبُطُونِ الأقْدامِ مِنَ النّارِ»؛ ورَوى الإمامُ أحْمَدُ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«وَيْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ» .
وَرَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ مُعَيْقِيبٍ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«وَيْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ»، ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي أُمامَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«وَيْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ»، قالَ: فَما بَقِيَ في المَسْجِدِ شَرِيفٌ ولا وضِيعٌ إلّا نَظَرْتُ إلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ يَنْظُرُ إلَيْهِما.
وَثَبَتَ في أحادِيثِ الوُضُوءِ عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وعَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، ومُعاوِيَةَ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عاصِمٍ، والمِقْدادِ بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ في وُضُوئِهِ، إمّا مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا» عَلى اخْتِلافِ رِواياتِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ”. ثُمَّ قالَ:“ هَذا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلّا بِهِ» .
والأحادِيثُ في البابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وهي صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ في وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ في الوُضُوءِ، وعَدَمِ الِاجْتِزاءِ بِمَسْحِهِما.
* * *وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُرادُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُما. والعَرَبُ تُطْلِقُ المَسْحَ عَلى الغَسْلِ أيْضًا، وتَقُولُ تَمَسَّحْتُ بِمَعْنى تَوَضَّأْتُ، ومَسَحَ المَطَرُ الأرْضَ أيْ غَسَلَها، وَمَسَحَ اللَّهُ ما بِكَ أيْ غَسَلَ عَنْكَ الذُّنُوبَ والأذى، ولا مانِعَ مِن كَوْنِ المُرادِ بِالمَسْحِ في الأرْجُلِ هو الغَسْلُ، والمُرادُ بِهِ في الرَّأْسِ المَسْحُ الَّذِي لَيْسَ بِغَسْلٍ، ولَيْسَ مِن حَمْلِ المُشْتَرَكِ عَلى مَعْنَيَيْهِ، ولا مِن حَمْلِ اللَّفْظِ عَلى حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ، لِأنَّهُما مَسْألَتانِ كُلٌّ مِنهُما مُنْفَرِدَةٌ عَنِ الأُخْرى مَعَ أنَّ التَّحْقِيقَ جَوازُ حَمْلِ المُشْتَرَكِ عَلى مَعْنَيَيْهِ، كَما حَقَّقَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أبُو العَبّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ في رِسالَتِهِ في عُلُومِ القُرْآنِ، وحَرَّرَ أنَّهُ هو الصَّحِيحُ في مَذاهِبِ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وجَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ بَيْنَ قِراءَةِ النَّصْبِ والجَرِّ بِأنَّ قِراءَةَ النَّصْبِ يُرادُ بِها غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، لِأنَّ العَطْفَ فِيها عَلى الوُجُوهِ والأيْدِي إلى المَرافِقِ، وهُما مِنَ المَغْسُولاتِ بِلا نِزاعٍ، وأنَّ قِراءَةَ الخَفْضِ يُرادُ بِها المَسْحُ مَعَ الغَسْلِ، يَعْنِي الدَّلْكَ بِاليَدِ أوْ غَيْرِها.
والظّاهِرُ أنَّ حِكْمَةَ هَذا في الرِّجْلَيْنِ دُونَ غَيْرِهِما؛ أنَّ الرِّجْلَيْنِ هُما أقْرَبُ أعْضاءِ الإنْسانِ إلى مُلابَسَةِ الأقْذارِ لِمُباشَرَتِهِما الأرْضَ فَناسَبَ ذَلِكَ أنْ يُجْمَعَ لَهُما بَيْنَ الغَسْلِ بِالماءِ والمَسْحِ أيِ الدَّلْكِ بِاليَدِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أبْلَغُ في التَّنْظِيفِ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُرادُ بِقِراءَةِ الجَرِّ: المَسْحُ، ولَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا عَلى الخُفِّ.
وَعَلَيْهِ فالآيَةُ تُشِيرُ إلى المَسْحِ عَلى الخُفِّ في قِراءَةِ الخَفْضِ، والمَسْحُ عَلى الخُفَّيْنِ، إذا لَبِسَهُما طاهِرًا، مُتَواتِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَمْ يُخالِفْ فِيهِ إلّا مَن لا عِبْرَةَ بِهِ، والقَوْلُ بِنَسْخِهِ بِآيَةِ المائِدَةِ يَبْطُلُ بِحَدِيثِ
«جَرِيرٍ أنَّهُ بالَ ثُمَّ تَوَضَّأ، ومَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَكَذا ؟ قالَ: نَعَمْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بالَ، ثُمَّ تَوَضَّأ، ومَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ، قالَ إبْراهِيمُ: فَكانَ يُعْجِبُهم هَذا الحَدِيثَ، لِأنَّ إسْلامَ جَرِيرٍ كانَ بَعْدَ نُزُولِ المائِدَةِ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُوَضِّحُ عَدَمَ النَّسْخِ أنَّ آيَةَ المائِدَةِ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ ”المُرَيْسِيعِ“ .
وَلا شَكَّ أنَّ إسْلامَ جَرِيرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ أنَّ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَوى المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهي آخِرُ مَغازِيهِ ﷺ .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنُزُولِ آيَةِ المائِدَةِ في غَزْوَةِ ”المُرَيْسِيعِ“ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“، وأشارَ لَهُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في ”نَظْمِ المَغازِي“، بِقَوْلِهِ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ: [ الرَّجَزُ ]
والإفْكُ في قُفُولِهِمْ ونُقِلا أنَّ التَّيَمُّمَ بِها قَدْ أُنْزِلا
والتَّيَمُّمُ في آيَةِ المائِدَةِ، وأجْمَعَ العُلَماءُ عَلى جَوازِ المَسْحِ عَلى الخُفِّ الَّذِي هو مِنَ الجُلُودِ، واخْتَلَفُوا فِيما كانَ مِن غَيْرِ الجِلْدِ إذا كانَ صَفِيقًا ساتِرًا لِمَحَلِّ الفَرْضِ، فَقالَ مالِكٌ وأصْحابُهُ: لا يُمْسَحُ عَلى شَيْءٍ غَيْرِ الجِلْدِ؛ فاشْتَرَطُوا في المَسْحِ أنْ يَكُونَ المَمْسُوحَ خُفًّا مِن جُلُودٍ، أوْ جَوْرَبًا مُجَلَّدًا ظاهِرُهُ وباطِنُهُ، يَعْنُونَ ما فَوْقَ القَدَمِ وما تَحْتَها لا باطِنَهُ الَّذِي يَلِي القَدَمَ.
واحْتَجُّوا بِأنَّ المَسْحَ عَلى الخُفِّ رُخْصَةٌ، وأنَّ الرُّخَصَ لا تَتَعَدّى مَحَلَّها، وقالُوا: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَمْسَحْ عَلى غَيْرِ الجِلْدِ؛ فَلا يَجُوزُ تَعَدِّيهِ إلى غَيْرِهِ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى شَطْرِ قاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيها، وهي: هَلْ يَلْحَقُ بِالرُّخَصِ ما في مَعْناها، أوْ يُقْتَصَرُ عَلَيْها ولا تُعَدّى مَحَلَّها ؟ .
وَمِن فُرُوعِها اخْتِلافُهم في بَيْعِ ”العَرايا“ مِنَ العِنَبِ بِالزَّبِيبِ اليابِسِ، هَلْ يَجُوزُ إلْحاقًا بِالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أوْ لا ؟ .
وَجُمْهُورُ العُلَماءِ مِنهُمُ الشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأحْمَدُ، وأصْحابُهم عَلى عَدَمِ اشْتِراطِ الجِلْدِ، لِأنَّ سَبَبَ التَّرْخِيصِ الحاجَةُ إلى ذَلِكَ وهي مَوْجُودَةٌ في المَسْحِ عَلى غَيْرِ الجِلْدِ، ولِما
«جاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن أنَّهُ مَسَحَ عَلى الجَوْرَبَيْنِ، والمُوقَيْنِ» .
قالُوا: والجَوْرَبُ: لِفافَةُ الرِّجْلِ، وهي غَيْرُ جِلْدٍ.
وَفِي القامُوسِ: الجَوْرَبُ لِفافَةُ الرِّجْلِ، وفي اللِّسانِ: الجَوْرَبُ لِفافَةُ الرِّجْلِ، مُعَرَّبٌ وهو بِالفارِسِيةِ ”كَوْرَبُ“ .
وَأجابَ مَنِ اشْتَرَطَ الجِلْدَ بِأنَّ الجَوْرَبَ هو الخُفُّ الكَبِيرُ، كَما قالَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، أمّا الجُرْمُوقُ والمُوقُ، فالظّاهِرُ أنَّهُما مِنَ الخِفافِ.
وَقِيلَ: إنَّهُما شَيْءٌ واحِدٌ، وهو الظّاهِرُ مِن كَلامِ أهْلِ اللُّغَةِ. وقِيلَ: إنَّهُما مُتَغايِرانِ، وفي القامُوسِ: الجُرْمُوقُ: كَعُصْفُورٍ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الخُفِّ، وفي القامُوسِ أيْضًا: المُوقُ خُفٌّ غَلِيظٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الخُفِّ، وفي اللِّسانِ: الجُرْمُوقُ، خُفٌّ صَغِيرٌ، وقِيلَ: خُفٌّ صَغِيرٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الخُفِّ، في اللِّسانِ أيْضًا: المُوقُ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الخُفِّ، فارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، والمُوقُ: الخُفُّ اهـ.
قالُوا: والتَّساخِينُ: الخِفافُ، فَلَيْسَ في الأحادِيثِ ما يُعَيِّنُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلى غَيْرِ الجِلْدِ، والجُمْهُورُ قالُوا: نَفْسُ الجِلْدِ لا أثَرَ لَهُ، بَلْ كُلُّ خُفٍّ صَفِيقٍ ساتِرٍ لِمَحَلِّ الفَرْضِ يُمْكِنُ فِيهِ تَتابُعُ المَشْيِ، يَجُوزُ المَسْحُ عَلَيْهِ، جِلْدًا كانَ أوْ غَيْرَهُ.
* * *مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالمَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ
الأُولى: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى جَوازِ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ في السَّفَرِ والحَضَرِ؛ وقالَ الشِّيعَةُ والخَوارِجُ: لا يَجُوزُ، وحَكى نَحْوَهُ القاضِي أبُو الطَّيِّبِ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ داوُدَ، والتَّحْقِيقُ عَنْ مالِكٍ، وجُلِّ أصْحابِهِ، القَوْلُ بِجَوازِ المَسْحِ عَلى الخُفِّ في الحَضَرِ والسَّفَرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ المَنعُ مُطْلَقًا، ورُوِيَ عَنْهُ جَوازُهُ في السَّفَرِ دُونَ الحَضَرِ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: لا أعْلَمُ أحَدًا أنْكَرَهُ إلّا مالِكًا في رِوايَةٍ أنْكَرَها أكْثَرُ أصْحابِهِ، والرِّواياتُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ مُصَرِّحَةٌ بِإثْباتِهِ، ومُوَطَّأُهُ، يَشْهَدُ لِلْمَسْحِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وعَلَيْهِ جَمِيعُ أصْحابِهِ، وجَمِيعُ أهْلِ السُّنَّةِ.
وَقالَ الباجِيُّ: رِوايَةُ الإنْكارِ في ”العُتْبِيَّةِ“ وظاهِرُها المَنعُ، وإنَّما مَعْناها أنَّ الغَسْلَ أفْضَلُ مِنَ المَسْحِ، قالَ ابْنُ وهْبٍ: آخِرُ ما فارَقْتُ مالِكًا عَلى المَسْحِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ؛ وهَذا هو الحَقُّ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ، فَما قالَهُ ابْنُ الحاجِبِ عَنْ مالِكٍ مِن جَوازِهِ في السَّفَرِ دُونَ الحَضَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأنَّ المَسْحَ عَلى الخُفِّ مُتَواتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قالَ الزُّرْقانِيُّ في شَرْحِ ”المُوَطَّأِ“: وجَمَعَ بَعْضُهم رُواتُهُ فَجاوَزُوا الثَّمانِينَ، مِنهُمُ العَشَرَةُ، ورَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وغَيْرُهُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنَ الصَّحابَةِ بِالمَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ، اهـ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ ”المُهَذَّبِ“: وقَدْ نَقَلَ ابْنُ المُنْذِرِ في كِتابِ ”الإجْماعِ“، إجْماعَ العُلَماءِ عَلى جَوازِ المَسْحِ عَلى الخُفِّ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ المُسْتَفِيضَةُ في مَسْحِ النَّبِيِّ ﷺ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وأمَرَهُ بِذَلِكَ وتَرْخِيصُهُ فِيهِ، واتِّفاقُ الصَّحابَةِ، فَمَن بَعْدَهم عَلَيْهِ. قالَ الحافِظُ أبُو بَكْرٍ البَيْهَقِيُّ: رُوِّينا جَوازَ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ عَنْ عُمَرَ، وعَلِيٍّ، وسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ، وحُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ، وأبِي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ، وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وعَمّارِ بْنِ ياسِرٍ، وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وعَمْرِو بْنِ العاصِ، وأنَسِ بْنِ مالِكٍ، وسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وأبِي مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ، والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، والبَراءِ بْنِ عازِبٍ، وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَجابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وأبِي أُمامَةَ الباهِلِيِّ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارِثِ بْنِ جُزْءٍ، وأبِي زَيْدٍ الأنْصارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
قُلْتُ: ورَواهُ خَلائِقٌ مِنَ الصَّحابَةِ، غَيْرُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ البَيْهَقِيُّ، وأحادِيثُهم مَعْرُوفَةٌ في كُتُبِ السُّنَنِ وغَيْرِها.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: وفي البابِ عَنْ عُمَرَ، وسَلْمانَ، وبُرَيْدَةَ، وعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، ويَعْلى بْنِ مُرَّةَ، وعُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، وأُسامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، وأُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وصَفْوانَ بْنِ عَسّالٍ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وعَوْفِ بْنِ مالِكٍ، وابْنِ عُمَرَ، وأبِي بَكْرَةَ، وبِلالٍ، وخُزَيْمَةَ بْنِ ثابِتٍ.
قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: ورُوِّينا عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، قالَ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَمْسَحُ عَلى الخُفَّيْنِ» .
قالَ: ورُوِّينا عَنِ ابْنِ المُبارَكِ، قالَ: لَيْسَ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ اخْتِلافٌ. اهـ.
وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
«أنَّهُ ﷺ مَسَحَ عَلى الخُفِّ في غَزْوَةِ تَبُوكَ»، وهي آخِرُ مُغازِيهِ ﷺ، وثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيِّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلى الخُفِّ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ المائِدَةِ كَما تَقَدَّمَ، وفي سُنَنِ أبِي داوُدَ أنَّهم لَمّا قالُوا لِجَرِيرٍ: إنَّما كانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ المائِدَةِ، قالَ: ما أسْلَمْتُ إلّا بَعْدَ نُزُولِ المائِدَةِ.
وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنا تَدُلُّ عَلى عَدَمِ نَسْخِ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ، وأنَّهُ لا شَكَّ في مَشْرُوعِيَّتِهِ، فالخِلافُ فِيهِ لا وجْهَ لَهُ البَتَّةَ.
* * *المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في غَسْلِ الرِّجْلِ والمَسْحِ عَلى الخُفِّ أيُّهُما أفْضَلُ ؟ فَقالَتْ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: غَسْلُ الرِّجْلِ أفْضَلُ مِنَ المَسْحِ عَلى الخُفِّ، بِشَرْطِ أنْ لا يَتْرُكَ المَسْحَ رَغْبَةً عَنِ الرُّخْصَةِ في المَسْحِ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، ومالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، وأصْحابِهِمْ، ونَقَلَهُ ابْنُ المُنْذِرِ وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. ورَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ.
وَحُجَّةُ هَذا القَوْلِ أنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ هو الَّذِي واظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ في مُعْظَمِ الأوْقاتِ، ولِأنَّهُ هو الأصْلُ، ولِأنَّهُ أكْثَرُ مَشَقَّةً.
وَذَهَبَتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ المَسْحَ أفْضَلُ، وهو أصَحُّ الرِّواياتِ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ، وبِهِ قالَ الشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ.
واسْتَدَلَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِقَوْلِهِ ﷺ في بَعْضِ رِواياتِ حَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: ”بِهَذا أمَرَنِي رَبِّي“ .
وَلَفْظُهُ في سُنَنِ أبِي داوُدَ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أنَسِيتَ ؟ قالَ: ”بَلْ أنْتَ نَسِيتَ؛ بِهَذا أمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وجَلَّ“» .
واسْتَدَلُّوا أيْضًا بِقَوْلِهِ ﷺ في حَدِيثِ صَفْوانَ بْنِ عَسّالٍ الآتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى:
«أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ نَمْسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ» الحَدِيثَ.
قالُوا: والأمْرُ إذا لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ، فَلا أقَلَّ مِن أنْ يَكُونَ لِلنَّدْبِ، قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: وأظْهَرُ ما قِيلَ في هَذِهِ المَسْألَةِ عِنْدِي، هو ما ذَكَرَهُ ابْنُ القَيِّمِ، وعَزاهُ لِشَيْخِهِ تَقِيِّ الدِّينِ، وهو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ ضِدَّ حالِهِ الَّتِي كانَ عَلَيْها قَدَماهُ، بَلْ إنْ كانَتا في الخُفِّ مَسَحَ عَلَيْهِما، ولَمْ يَنْزِعْهُما، وإنْ كانَتا مَكْشُوفَتَيْنِ غَسَلَ القَدَمَيْنِ، ولَمْ يَلْبَسِ الخُفَّ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ، وهَذا أعْدَلُ الأقْوالِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، اهـ.
وَيُشْتَرَطُ في الخُفِّ: أنْ يَكُونَ قَوِيًّا يُمْكِنُ تَتابُعُ المَشْيِ فِيهِ في مَواضِعِ النُّزُولِ، وعِنْدَ الحَطِّ والتَّرْحالِ، وفي الحَوائِجِ الَّتِي يَتَرَدَّدُ فِيها في المَنزِلِ، وفي المُقِيمِ نَحْوُ ذَلِكَ، كَما جَرَتْ عادَةُ لابِسِي الخِفافِ.
* * *المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إذا كانَ الخُفُّ مُخَرَّقًا، فَفي جَوازِ المَسْحِ عَلَيْهِ خِلافٌ بَيْنِ العُلَماءِ، فَذَهَبَ مالِكٌ وأصْحابُهُ إلى أنَّهُ إنْ ظَهَرَ مِن تَخْرِيقِهِ قَدْرُ ثُلُثِ القَدَمِ لَمْ يَجُزِ المَسْحُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ أقَلَّ مِن ذَلِكَ جازَ المَسْحُ عَلَيْهِ، واحْتَجُّوا بِأنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلى أنَّ الثُّلُثَ آخِرُ حَدِّ اليَسِيرِ، وأوَّلُ حَدِّ الكَثِيرِ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: لا يَجُوزُ المَسْحُ عَلى خُفٍّ فِيهِ خَرْقٌ يَبْدُو مِنهُ شَيْءٌ مِنَ القَدَمِ، وبِهِ قالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، والشّافِعِيُّ في الجَدِيدِ، ومَعْمَرُ بْنُ راشِدٍ.
واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِأنَّ المُنْكَشِفَ مِنَ الرِّجْلِ حُكْمُهُ الغَسْلُ، والمَسْتُورُ حُكْمُهُ المَسْحُ، والجَمْعُ بَيْنَ المَسْحِ والغَسْلِ لا يَجُوزُ، فَكَما أنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَغْسِلَ إحْدى رِجْلَيْهِ ويَمْسَحَ عَلى الخُفِّ في الأُخْرى، لا يَجُوزُ لَهُ غَسْلُ بَعْضِ القَدَمِ مَعَ مَسْحِ الخُفِّ في الباقِي مِنها.
وَذَهَبَ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ إلى أنَّ الخَرْقَ الكَبِيرَ يَمْنَعُ المَسْحَ عَلى الخُفِّ دُونَ الصَّغِيرِ. وحَدَّدُوا الخَرْقَ الكَبِيرَ بِمِقْدارِ ثَلاثَةِ أصابِعَ.
قِيلَ: مِن أصابِعِ الرِّجْلِ الأصاغِرِ، وقِيلَ: مِن أصابِعِ اليَدِ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: يَجُوزُ المَسْحُ عَلى جَمِيعِ الخِفافِ، وإنْ تَخَرَّقَتْ تَخْرُّقًا كَثِيرًا ما دامَتْ يُمْكِنُ تَتابُعُ المَشْيِ فِيها؛ ونَقَلَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، وإسْحاقَ، ويَزِيدَ بْنِ هارُونَ، وأبِي ثَوْرٍ.
وَرَوى البَيْهَقِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرى عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، أنَّهُ قالَ: امْسَحْ عَلَيْهِما ما تَعَلَّقا بِالقَدَمِ، وإنْ تَخَرَّقا، قالَ: وكانَتْ كَذَلِكَ خِفافُ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ مُخَرَّقَةً مُشَقَّقَةً، اهـ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ: قَوْلُ مَعْمَرِ بْنِ راشِدٍ في ذَلِكَ أحَبُّ إلَيْنا، وهَذا القَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنا عَنِ الثَّوْرِيِّ، ومَن وافَقَهُ هو اخْتِيارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
وَقالَ ابْنُ المُنْذِرِ: وبُقُولِ الثَّوْرِيِّ أقُولُ، لِظاهِرِ إباحَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ قَوْلًا عامًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الخِفافِ. اهـ، نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ وغَيْرُهُ، وهو قَوِيٌّ.
وَعَنِ الأوْزاعِيِّ إنْ ظَهَرَتْ طائِفَةٌ مِن رِجْلِهِ مَسَحَ عَلى خُفَّيْهِ، وعَلى ما ظَهَرَ مِن رِجْلِهِ. هَذا حاصِلُ كَلامِ العُلَماءِ في هَذِهِ المَسْألَةِ.
وَأقْرَبُ الأقْوالِ عِنْدِي، المَسْحُ عَلى الخُفِّ المُخَرَّقِ ما لَمْ يَتَفاحَشْ خَرْقُهُ حَتّى يَمْنَعَ تَتابُعَ المَشْيِ فِيهِ لِإطْلاقِ النُّصُوصِ، مَعَ أنَّ الغالِبَ عَلى خِفافِ المُسافِرِينَ، والغُزاةِ عَدَمُ السَّلامَةِ مِنَ التَّخْرِيقِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في جَوازِ المَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ، فَقالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ المَسْحُ عَلى النَّعْلَيْنِ وخالَفَ في ذَلِكَ جُمْهُورُ العُلَماءِ، واسْتَدَلَّ القائِلُونَ بِالمَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ بِأحادِيثَ، مِنها ما رَواهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ، حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، عَنْ وكِيعٍ، عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أبِي قَيْسٍ الأوْدِيِّ، هو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَرْوانَ، عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأ ومَسَحَ الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْنِ»، قالَ أبُو داوُدَ: وكانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لا يُحَدِّثُ بِهَذا الحَدِيثِ، لِأنَّ المَعْرُوفَ عَنِ المُغِيرَةِ،
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ»، ورَوى هَذا الحَدِيثَ البَيْهَقِيُّ.
ثُمَّ قالَ: قالَ أبُو مُحَمَّدٍ: رَأيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الحَجّاجِ ضَعَّفَ هَذا الخَبَرَ، وقالَ أبُو قَيْسٍ الأوْدِيُّ، وهُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ: لا يَحْتَمِلانِ مَعَ مُخالَفَتِهِما الأجِلَّةَ الَّذِينَ رَوَوْا هَذا الخَبَرَ عَنِ المُغِيرَةِ، فَقالُوا: مَسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ، وقالَ: لا نَتْرُكُ ظاهِرَ القُرْآنِ بِمِثْلِ أبِي قَيْسٍ وهُزَيْلٍ، فَذَكَرْتُ هَذِهِ الحِكايَةَ عَنْ مُسْلِمٍ لِأبِي العَبّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيِّ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ شَيْبانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا قُدامَةَ السَّرَخْسِيَّ يَقُولُ: قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: قُلْتُ لِسُفْيانَ الثَّوْرِيِّ: لَوْ حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثِ أبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ ما قَبِلْتُهُ مِنكَ، فَقالَ سُفْيانُ: الحَدِيثُ ضَعِيفٌ أوْ واهٍ، أوْ كَلِمَةً نَحْوَها، اهـ.
وَرَوى البَيْهَقِيُّ أيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الإمامِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أنَّهُ قالَ حَدَّثْتُ أبِي بِهَذا الحَدِيثِ، فَقالَ أبِي: لَيْسَ يُرْوى هَذا إلّا مِن حَدِيثِ أبِي قَيْسٍ، قالَ أبِي: إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، يَقُولُ: هو مُنْكَرٌ، ورَوى البَيْهَقِيُّ أيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ أنَّهُ قالَ: حَدِيثُ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ في المَسْحِ رَواهُ عَنِ المُغِيرَةِ أهْلُ المَدِينَةِ، وأهْلُ الكُوفَةِ، وأهْلُ البَصْرَةِ، ورَواهُ هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنِ المُغِيرَةِ، إلّا أنَّهُ قالَ: ومَسَحَ عَلى الجَوْرَبَيْنِ، وخالَفَ النّاسَ.
وَرُوِيَ أيْضًا عَنْ يَحْيى بْنِ مَعِينٍ، أنَّهُ قالَ في هَذا الحَدِيثِ: النّاسُ كُلُّهم يَرْوُونَهُ عَلى الخُفَّيْنِ غَيْرَ أبِي قَيْسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أيْضًا ما قَدَّمْنا عَنْ أبِي داوُدَ مِن أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ كانَ لا يُحَدِّثُ بِهَذا الحَدِيثِ، لِأنَّ المَعْرُوفَ عَنِ المُغِيرَةِ
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ»، وقالَ أبُو داوُدَ: ورُوِيَ هَذا الحَدِيثُ أيْضًا عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ولَيْسَ بِالقَوِيِّ ولا بِالمُتَّصِلِ، وبَيَّنَ البَيْهَقِيُّ مُرادَ أبِي داوُدَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ وغَيْرَ قَوِيٍّ، فَعَدَمُ اتِّصالِهِ، إنَّما هو لِأنَّ راوِيَهُ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ هو الضَّحّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قالَ البَيْهَقِيُّ: والضَّحّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَثْبُتْ سَماعُهُ مِن أبِي مُوسى، وعَدَمُ قُوَّتِهِ؛ لِأنَّ في إسْنادِهِ عِيسى بْنَ سِنانٍ، قالَ البَيْهَقِيُّ: وعِيسى بْنُ سِنانٍ ضَعِيفٌ، اهـ.
وَقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: لَيِّنُ الحَدِيثِ، واعْتَرَضَ المُخالِفُونَ تَضْعِيفَ الحَدِيثِ المَذْكُورِ في المَسْحِ عَلى الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْنِ، قالُوا: أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، وسَكَتَ عَنْهُ، وما سَكَتَ عَنْهُ فَأقَلُّ دَرَجاتِهِ عِنْدَهُ الحَسَنُ، قالُوا: وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ، وقالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، قالُوا: وأبُو قَيْسٍ وثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وقالَ العِجْلِيُّ: ثِقَةٌ ثَبْتٌ، وهُزَيْلٌ وثَّقَهُ العِجْلِيُّ، وأخْرَجَ لَهُما مَعًا البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ، ثُمَّ إنَّهُما لَمْ يُخالِفا النّاسَ مُخالَفَةَ مُعارَضَةٍ، بَلْ رَوَيا أمْرًا زائِدًا عَلى ما رَوَوْهُ بِطْرِيقٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مُعارَضٍ، فَيُحْمَلُ عَلى أنَّهُما حَدِيثانِ قالُوا: ولا نُسَلِّمُ عَدَمَ سَماعِ الضَّحّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِن أبِي مُوسى، لِأنَّ المُعاصَرَةَ كافِيَةٌ في ذَلِكَ كَما حَقَّقَهُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ في مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ؛ ولِأنَّ عَبْدَ الغَنِيِّ قالَ في ”الكَمالِ“: سَمِعَ الضَّحّاكُ مِن أبِي مُوسى، قالُوا: وعِيسى بْنُ سِنانٍ، وثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وقَدْ أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ في ”الجَنائِزِ“ حَدِيثًا في سَنَدِهِ عِيسى بْنُ سِنانٍ هَذا، وحَسَّنَهُ.
وَيَعْتَضِدُ الحَدِيثُ المَذْكُورُ أيْضًا بِما جاءَ في بَعْضِ رِواياتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثّابِتِ في الصَّحِيحِ
«أنَّ عُبَيْدَ بْنَ جُرَيْجٍ قالَ لَهُ: يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأيْتُكُ تَصْنَعُ أرْبَعًا لَمْ أرَ أحَدًا مِن أصْحابِكَ يَصْنَعُها، قالَ: ما هُنَّ ؟ فَذَكَرَهُنَّ، وقالَ فِيهِنَّ: رَأيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعالَ السَّبْتِيَّةَ، قالَ: أمّا النِّعالُ السَّبْتِيَّةُ، ”فَإنِّي رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَلْبَسُ النِّعالَ الَّتِي لَيْسَ فِيها شَعْرٌ ويَتَوَضَّأُ فِيها، فَأنا أُحِبُّ أنْ ألْبَسَها“» .
قالَ البَيْهَقِيُّ، بَعْدَ أنْ ساقَ هَذا الحَدِيثَ بِسَنَدِهِ: ورَواهُ البُخارِيُّ في الصَّحِيحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مالِكٍ، ورَواهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيى بْنِ يَحْيى، ورَواهُ جَماعَةٌ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، ورَواهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ عَجْلانَ عَنِ المَقْبُرِيِّ، فَزادَ فِيهِ: ويَمْسَحُ عَلَيْها؛ وهو مَحَلُّ الشّاهِدِ، قالَ البَيْهَقِيُّ: وهَذِهِ الزِّيادَةُ وإنْ كانَتْ مَحْفُوظَةً فَلا يُنافِي غَسْلَهُما، فَقَدْ يَغْسِلُهُما في النَّعْلِ، ويَمْسَحُ عَلَيْهِما.
وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلالُ المَذْكُورُ أيْضًا في المَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ بِما رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وهْبٍ، قالَ: بالَ عَلِيٌّ، وهو قائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأ، ومَسَحَ عَلى النَّعْلَيْنِ، ثُمَّ قالَ: وبِإسْنادِهِ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أبِي ظَبْيانَ، قالَ: ”بالَ عَلِيٌّ وهو قائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى النَّعْلَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلّى الظُّهْرَ“ .
وَأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ أيْضًا نَحْوَهُ عَنْ أبِي ظَبْيانَ بِسَنَدٍ آخَرَ، ويَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلالُ المَذْكُورُ بِما رَواهُ البَيْهَقِيُّ أيْضًا مِن طَرِيقِ رَوّادِ بْنِ الجَرّاحِ، عَنْ سُفْيانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً، ومَسَحَ عَلى نَعْلَيْهِ» .
ثُمَّ قالَ: هَكَذا رَواهُ رَوّادُ بْنُ الجَرّاحِ، وهو يَنْفَرِدُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِمَناكِيرَ هَذا أحَدُها، والثِّقاتُ رَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ دُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الحُبابِ عَنِ الثَّوْرِيِّ هَكَذا، ولَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، ثُمَّ قالَ: أخْبَرَنا أبُو الحَسَنِ بْنُ عَبْدانَ، أنْبَأ سُلَيْمانُ بْنُ أحْمَدَ الطَّبَرانِيُّ، ثَنا إبْراهِيمُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الوَكِيعِيُّ، حَدَّثَنِي أبِي، ثَنا زَيْدُ بْنُ الحُبابِ، ثَنا سُفْيانُ فَذَكَرَهُ بِإسْنادِهِ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلى النَّعْلَيْنِ»، اهـ.
قالَ البَيْهَقِيُّ بَعْدَ أنْ ساقَهُ: والصَّحِيحُ رِوايَةُ الجَماعَةِ، ورَواهُ عَبْدُ العَزِيزِ الدَّراوَرْدِيُّ، وهِشامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، فَحَكَيا في الحَدِيثِ:
«رَشًّا عَلى الرِّجْلِ وفِيها النَّعْلُ»، وذَلِكَ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ غَسَلَها في النَّعْلِ.
فَقَدْ رَواهُ سُلَيْمانُ بْنُ بِلالٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَجْلانَ، ووَرْقاءُ بْنُ عُمَرَ، ومُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، فَحَكَوْا في الحَدِيثِ غَسْلَهُ رِجْلَيْهِ، والحَدِيثُ حَدِيثٌ واحِدٌ.
والعَدَدُ الكَثِيرُ أوْلى بِالحِفْظِ مِنَ العَدَدِ اليَسِيرِ، مَعَ فَضْلِ حِفْظِ مَن حَفِظَ فِيهِ الغَسْلَ بَعْدَ الرَّشِّ عَلى مَن لَمْ يَحْفَظْهُ، ويَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلالُ المَذْكُورُ أيْضًا بِما رَواهُ البَيْهَقِيُّ أيْضًا، أخْبَرَنا أبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبارِيُّ، أنا أبُو بَكْرِ بْنُ داسَةَ، ثَنا أبُو داوُدَ، ثَنا مُسَدَّدٌ، وعَبّادُ بْنُ مُوسى، قالا: ثَنا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلى بْنِ عَطاءٍ، عَنْ أبِيهِ، قالَ عَبّادٌ: قالَ: أخْبَرَنِي أوْسُ بْنُ أبِي أوْسٍ الثَّقَفِيُّ قالَ:
«رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى نَعْلَيْهِ وقَدَمَيْهِ» .
وَقالَ مُسَدَّدٌ: إنَّهُ رَأى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ورَواهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلى بْنِ عَطاءٍ، عَنْ أوْسٍ الثَّقَفِيِّ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأ ومَسَحَ عَلى نَعْلَيْهِ» وهو مُنْقَطِعٌ، أخْبَرَناهُ أبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنا أبُو داوُدَ الطَّيالِسِيُّ، ثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَذَكَرَهُ.
وَهَذا الإسْنادُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وهو يَحْتَمِلُ ما احْتَمَلَ الحَدِيثُ الأوَّلُ، اهـ كَلامُ البَيْهَقِيِّ.
وَلا يَخْفى أنَّ حاصِلَهُ أنَّ أحادِيثَ المَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ مِنها ما هو ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ، ومِنها ما مَعْناهُ عِنْدَهُ:
«أنَّهُ ﷺ غَسَلَ رِجْلَيْهِ في النَّعْلَيْنِ» .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ البَيْهَقِيُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالوُضُوءِ في النَّعْلَيْنِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِيهِما بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، الثّابِتِ في الصَّحِيحَيْنِ، أنَّهُ قالَ:
«أمّا النِّعالُ السَّبْتِيَّةُ فَإنِّي رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَلْبَسُ النِّعالَ الَّتِي لَيْسَ فِيها شَعْرٌ، ويَتَوَضَّأُ فِيها، فَأنا أُحِبُّ أنْ ألْبَسَها» اهـ.
وَمُرادُ البَيْهَقِيِّ أنَّ مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ”وَيَتَوَضَّأُ“ فِيها أنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِيها، وقَدْ عَلِمْتَ أنّا قَدَّمْنا رِوايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي ذَكَرَها البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَجْلانَ، عَنِ المَقْبُرِيِّ، وفِيها زِيادَةٌ ”وَيَمْسَحُ عَلَيْها“ .
وَقالَ البَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مَنعِ المَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ والجَوْرَبَيْنِ: والأصْلُ وُجُوبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إلّا ما خَصَّتْهُ سُنَّةٌ ثابِتَةٌ، أوْ إجْماعٌ لا يُخْتَلَفُ فِيهِ، ولَيْسَ عَلى المَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ ولا عَلى الجَوْرَبَيْنِ واحِدٌ مِنهُما، اهـ.
وَأُجِيبَ مِن جِهَةِ المُخالِفِينَ بِثُبُوتِ المَسْحِ عَلى الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالُوا: إنَّ التِّرْمِذِيَّ صَحَّحَ المَسْحَ عَلى الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْنِ، وحَسَّنَهُ مِن حَدِيثِ هُزَيْلٍ عَنِ المُغِيرَةِ، وحَسَّنَهُ أيْضًا مِن حَدِيثِ الضَّحّاكِ عَنْ أبِي مُوسى، وصَحَّحَ ابْنُ حِبّانَ المَسْحَ عَلى النَّعْلَيْنِ مِن حَدِيثِ أوْسٍ، وصَحَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ في المَسْحِ عَلى النِّعالِ السَّبْتِيَّةِ.
قالُوا: وما ذَكَرَهُ البَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الحُبابِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ في المَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ، حَدِيثٌ جَيِّدٌ قالُوا: ورَوى البَزّارُ
«عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ كانَ يَتَوَضَّأُ ونَعْلاهُ في رِجْلَيْهِ، ويَمْسَحُ عَلَيْهِما.
وَيَقُولُ: ”كَذَلِكَ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ“»، وصَحَّحَهُ ابْنُ القَطّانِ.
وَقالَ ابْنُ حَزْمٍ: المَنعُ مِنَ المَسْحِ عَلى الجَوْرَبَيْنِ خَطَأٌ، لِأنَّهُ خِلافُ السُّنَّةِ الثّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وخِلافُ الآثارِ. هَذا حاصِلُ ما جاءَ في المَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ والجَوْرَبَيْنِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ كانَ المُرادُ بِالمَسْحِ عَلى النَّعْلَيْنِ والجَوْرَبَيْنِ، أنَّ الجَوْرَبَيْنِ مُلْصَقانِ بِالنَّعْلَيْنِ، بِحَيْثُ يَكُونُ المَجْمُوعُ ساتِرًا لِمَحَلِّ الفَرْضِ مَعَ إمْكانِ تَتابُعِ المَشْيِ فِيهِ، والجَوْرَبانِ صَفِيقانِ فَلا إشْكالَ.
وَإنْ كانَ المُرادُ المَسْحَ عَلى النَّعْلَيْنِ بِانْفِرادِهِما، فَفي النَّفْسِ مِنهُ شَيْءٌ؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَهُ، ولَمْ يَمْسَحْ عَلى ساتِرٍ لَها، فَلَمْ يَأْتِ بِالأصْلِ، ولا بِالبَدَلِ.
والمَسْحُ عَلى نَفْسِ الرِّجْلِ تَرُدُّهُ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ المُصَرِّحَةُ بِمَنعِ ذَلِكَ بِكَثْرَةٍ كَقَوْلِهِ ﷺ:
«وَيْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النّارِ»، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَوْقِيتِ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ إلى تَوْقِيتِ المَسْحِ بِيَوْمٍ ولَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ، وثَلاثَةِ أيّامٍ بِلَيالِيهِنَّ لِلْمُسافِرِ.
وَإلَيْهِ ذَهَبَ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ: أبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وأصْحابُهم وهو مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، وأبِي ثَوْرٍ، وإسْحاقَ بْنِ راهَوَيْهِ، وداوُدَ الظّاهِرِيِّ، ومُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، والحَسَنِ بْنِ صالِحِ بْنِ حُسَيْنٍ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهِ مِنَ الصَّحابَةِ: عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وحُذَيْفَةُ، والمُغِيرَةُ، وأبُو زَيْدٍ الأنْصارِيُّ.
وَرُوِيَ أيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وعَنْ جَمِيعِهِمْ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهِ مِنَ التّابِعِينَ شُرَيْحٌ القاضِي، وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، والشَّعْبِيُّ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ.
وَقالَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أكْثَرُ التّابِعِينَ والفُقَهاءِ عَلى ذَلِكَ.
وَقالَ أبُو عِيسى التِّرْمِذِيُّ: التَّوْقِيتُ ثَلاثًا لِلْمُسافِرِ، ويَوْمًا ولَيْلَةً لِلْمُقِيمِ هو قَوْلُ عامَّةِ العُلَماءِ مِنَ الصَّحابَةِ، والتّابِعِينَ ومَن بَعْدَهم.
وَقالَ الخَطّابِيُّ: التَّوْقِيتُ قَوْلُ عامَّةِ الفُقَهاءِ، قالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَحُجَّةُ أهْلِ هَذا القَوْلِ بِتَوْقِيتِ المَسْحِ الأحادِيثُ الوارِدَةُ بِذَلِكَ، فَمِن ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«لِلْمُسافِرِ ثَلاثَةُ أيّامٍ ولَيالِيهِنَّ، ولِلْمُقِيمِ، يَوْمٌ ولَيْلَةٌ»، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، والإمامُ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ حِبّانَ.
وَمِن ذَلِكَ أيْضًا حَدِيثُ أبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«أنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسافِرِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيهِنَّ، ولِلْمُقِيمِ يَوْمًا ولَيْلَةً، إذا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِما»، أخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، والدّارَقُطْنِيُّ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ حِبّانَ، والبَيْهَقِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ في العِلَلِ، والشّافِعِيُّ، وابْنُ الجارُودِ، والأثْرَمُ في سُنَنِهِ، وصَحَّحَهُ الخَطّابِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وغَيْرُهُما.
وَمِن ذَلِكَ أيْضًا حَدِيثُ صَفْوانَ بْنِ عَسّالٍ المُرادِيِّ قالَ:
«أمَرَنا، يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ، أنْ نَمْسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ إذا نَحْنُ أدْخَلْناها عَلى طُهْرٍ ثَلاثًا إذا سافَرْنا، ويَوْمًا ولَيْلَةً إذا أقَمْنا، ولا نَخْلَعَهُما مِن غائِطٍ، ولا بَوْلٍ، ولا نَوْمٍ، ولا نَخْلَعَهُما إلّا مِن جَنابَةٍ»، أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، والتِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحاهُ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، والشّافِعِيُّ، وابْنُ حِبّانَ، والدّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ.
قالَ الشَّوْكانِيُّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“: وحَكى التِّرْمِذِيُّ عَنِ البُخارِيِّ، أنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، ومَدارُهُ عَلى عاصِمِ بْنِ أبِي النُّجُودِ، وهو صَدُوقٌ، سَيِّئُ الحِفْظِ، وقَدْ تابَعَهُ جَماعَةٌ، ورَواهُ عَنْهُ أكْثَرُ مِن أرْبَعِينَ نَفْسًا، قالَهُ ابْنُ مِندَهْ، اهـ.
وَذَهَبَتْ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى عَدَمِ تَوْقِيتِ المَسْحِ وقالُوا: إنَّ مَن لَبِسَ خُفَّيْهِ وهو طاهِرٌ، مَسَحَ عَلَيْهِما ما بَدا لَهُ، ولا يَلْزَمُهُ خَلْعُهُما إلّا مِن جَنابَةٍ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ مالِكٌ، وأصْحابُهُ، واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ.
وَيُرْوى عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، والشَّعْبِيِّ، ورَبِيعَةَ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ في القَدِيمِ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، وابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وعُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وَحُجَّةُ أهْلِ هَذا القَوْلِ ما رَواهُ الحاكِمُ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«إذا تَوَضَّأ أحَدُكم، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِما، ولْيُصَلِّ فِيهِما، ولا يَخْلَعْهُما إنْ شاءَ، إلّا مِن جَنابَةٍ ونَحْوِهِ» . وأخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ.
وَهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أخْرَجَهُ الحاكِمُ وغَيْرُهُ، يَعْتَضِدُ بِما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحارِثِ الهِلالِيَّةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ مِن عَدَمِ التَّوْقِيتِ.
وَيُؤَيِّدُهُ أيْضًا ما رَواهُ أبُو داوُدَ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ حِبّانَ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّهُ زادَ في حَدِيثِ التَّوْقِيتِ ما لَفْظُهُ: ولَوِ اسْتَزَدْناهُ لَزادَنا، وفي لَفْظٍ: ”لَوْ مَضى السّائِلُ عَلى مَسْألَتِهِ لَجَعَلَها خَمْسًا“، يَعْنِي لَيالِيَ التَّوْقِيتِ لِلْمَسْحِ.
وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ هَذا الَّذِي فِيهِ الزِّيادَةُ المَذْكُورَةُ صَحَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وابْنُ حِبّانَ وغَيْرُهُما، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ ادِّعاءَ النَّوَوِيِّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ الِاتِّفاقَ عَلى ضَعْفِهِ، غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَقَوْلُ البُخارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. إنَّهُ لا يَصِحُّ عِنْدَهُ لِأنَّهُ لا يُعْرَفُ لِلْجَدَلِيِّ سَماعٌ مِن خُزَيْمَةَ، مَبْنِيٌّ عَلى شَرْطِهِ، وهو ثُبُوتُ اللُّقِىِّ.
وَقَدْ أوْضَحَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ، أنَّ الحَقَّ هو الِاكْتِفاءُ بِإمْكانِ اللُّقِىِّ بِثُبُوتِ المُعاصَرَةِ، وهو مَذْهَبُ جُمْهُورِ العُلَماءِ.
فَإنْ قِيلَ: حَدِيثُ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيادَةُ، ظَنَّ فِيهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَوِ اسْتُزِيدَ لَزادَ، وقَدْ رَواهُ غَيْرُهُ، ولَمْ يَظُنَّ هَذا الظَّنَّ، ولا حُجَّةَ في ظَنِّ صَحابِيٍّ خالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ.
فالجَوابُ: أنَّ خُزَيْمَةَ هو ذُو الشَّهادَتَيْنِ الَّذِي جَعَلَهُ ﷺ بِمَثابَةِ شاهِدَيْنِ، وعَدالَتُهُ، وصِدْقُهُ، يَمْنَعانِهِ مِن أنْ يَجْزِمَ بِأنَّهُ لَوِ اسْتُزِيدَ لَزادَ إلّا وهو عارِفٌ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، بِأُمُورٍ أُخَرَ اطَّلَعَ هو عَلَيْها، ولَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْها غَيْرُهُ.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ عَدَمَ التَّوْقِيتِ ما رَواهُ أبُو داوُدَ، وقالَ: لَيْسَ بِالقَوِيِّ
«عَنْ أُبَيِّ بْنِ عُمارَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّهُ قالَ: ”يا رَسُولَ اللَّهِ أمْسَحُ عَلى الخُفَّيْنِ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: يَوْمًا، قالَ: نَعَمْ، قالَ: ويَوْمَيْنِ، قالَ: نَعَمْ، قالَ: وثَلاثَةَ أيّامٍ، قالَ: نَعَمْ، وما شِئْتَ“» .
وَهَذا الحَدِيثُ وإنْ كانَ لا يَصْلُحُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا، فَإنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ غَيْرِهِ مِنَ الأحادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنا.
فَحَدِيثُ أنَسٍ في عَدَمِ التَّوْقِيتِ صَحِيحٌ، ويَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيادَةُ، وحَدِيثُ مَيْمُونَةَ، وحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عُمارَةَ، وبِالآثارِ المَوْقُوفَةِ عَلى عُمَرَ، وابْنِهِ، وعُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
* تَنْبِيهٌالَّذِي يَظْهَرُ لِي واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنَّهُ لا يُمْكِنُ الجَمْعُ في هَذِهِ الأحادِيثِ بِحَمْلِ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ، لِأنَّ المُطْلَقَ هُنا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَوازِ المَسْحِ أكْثَرَ مِن ثَلاثٍ لِلْمُسافِرِ، والمُقِيمِ، والمُقَيَّدُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَنعِ الزّائِدِ عَلى الثَّلاثِ لِلْمُسافِرِ واليَوْمِ واللَّيْلَةِ لِلْمُقِيمِ؛ فَهُما مُتَعارِضانِ في ذَلِكَ الزّائِدِ، فالمُطْلَقُ يُصَرِّحُ بِجَوازِهِ، والمُقَيَّدُ يُصَرِّحُ بِمَنعِهِ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الأدِلَّةِ، فَتُرَجَّحُ أدِلَّةُ التَّوْقِيتِ بِأنَّها أحْوَطُ، كَما رَجَّحَها بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وبِأنَّ رُواتَها مِنَ الصَّحابَةِ أكْثَرُ، وبِأنَّ مِنها ما هو ثابِتٌ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وهو حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المُتَقَدِّمُ.
وَقَدْ تَرْجَّحَ أدِلَّةُ عَدَمِ التَّوْقِيتِ بِأنَّها تَضَمَّنَتْ زِيادَةً، وزِيادَةُ العَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وبِأنَّ القائِلَ بِها مُثْبِتٌ أمْرًا، والمانِعُ مِنها نافٍ لَهُ، والمُثْبِتُ أوْلى مِنَ النّافِي.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: والنَّفْسُ إلى تَرْجِيحِ التَّوْقِيتِ أمْيَلُ؛ لِأنَّ الخُرُوجَ مِنَ الخِلافِ أحْوَطُ كَما قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: [ الرَّجَزُ ]
إنِ الأوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِن خِلافِهِمْ ولَوْ ضَعِيفًا فاسْتَبِنْ
وَقالَ الآخَرُ: [ الرَّجَزُ ]
وَذُو احْتِياطٍ في أُمُورِ الدِّينِ ∗∗∗ مَن فَرَّ مَن شَكٍّ إلى يَقِينِ
وَمِصْداقُ ذَلِكَ في قَوْلِهِ ﷺ:
«دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ» .
فالعامِلُ بِأدِلَّةِ التَّوْقِيتِ طَهارَتُهُ صَحِيحَةٌ بِاتِّفاقِ الطّائِفَتَيْنِ، بِخِلافِ غَيْرِهِ فَإحْدى الطّائِفَتَيْنِ تَقُولُ بِبُطْلانِها بَعْدَ الوَقْتِ المُحَدَّدِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
واعْلَمْ أنَّ القائِلِينَ بِالتَّوْقِيتِ اخْتَلَفُوا في ابْتِداءِ مُدَّةِ المَسْحِ.
فَذَهَبَ الشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأصْحابُهُما، وأحْمَدُ في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ، وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، وداوُدُ في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ، وغَيْرُهم، إلى أنَّ ابْتِداءَ مُدَّةِ التَّوْقِيتِ مِن أوَّلِ حَدَثٍ يَقَعُ بَعْدَ لُبْسِ الخُفِّ، وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ.
واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِزِيادَةٍ رَواها الحافِظُ القاسِمُ بْنُ زَكَرِيّا المُطَرِّزُ في حَدِيثِ صَفْوانَ: مِنَ الحَدَثِ إلى الحَدَثِ.
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: وهي زِيادَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ ثابِتَةً.
واحْتَجُّوا أيْضًا بِالقِياسِ وهو أنَّ المَسْحَ عِبادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَيَكُونُ ابْتِداءُ وقْتِها مِن حِينِ جَوازِ فِعْلِها قِياسًا عَلى الصَّلاةِ.
وَذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ ابْتِداءَ المُدَّةِ مِن حِينِ يَمْسَحُ بَعْدَ الحَدَثِ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا، الأوْزاعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، وهو إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ أحْمَدَ، وداوُدَ، ورَجَّحَ هَذا القَوْلَ النَّوَوِيُّ، واخْتارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، وحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِأحادِيثِ التَّوْقِيتِ في المَسْحِ، وهي أحادِيثٌ صِحاحٌ.
وَوَجْهُ احْتِجاجِهِمْ بِها أنَّ قَوْلَهُ ﷺ:
«يَمْسَحُ المُسافِرُ ثَلاثَةَ أيّامٍ» صَرِيحٌ، في أنَّ الثَّلاثَةَ كُلَّها ظَرْفٌ لِلْمَسْحِ.
وَلا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلّا إذا كانَ ابْتِداءُ المُدَّةِ مِنَ المَسْحِ، وهَذا هو أظْهَرُ الأقْوالِ دَلِيلًا فِيما يَظْهَرُ لِي، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَفِي المَسْألَةِ قَوْلٌ ثالِثٌ، وهو أنَّ ابْتِداءَ المُدَّةِ مِن حِينِ لُبْسِ الخُفِّ، وحَكاهُ الماوَرْدِيُّ والشّاشِيُّ، عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، قالَهُ النَّوَوِيُّ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *المَسْألَةُ السّادِسَةُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ: هَلْ يَكْفِي مَسْحُ ظاهِرِ الخُفِّ، أوْ لا بُدَّ مِن مَسْحِ ظاهِرِهِ وباطِنِهِ.
فَذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ ظاهِرِهِ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهِ أبُو حَنِيفَةَ، وأحْمَدُ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وحَكاهُ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الحَسَنِ، وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وعَطاءٍ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وغَيْرِهِمْ.
وَأصَحُّ الرِّواياتِ عَنْ أحْمَدَ أنَّ الواجِبَ مَسْحُ أكْثَرِ أعْلى الخُفِّ، وأبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي عِنْدَهُ مَسْحُ قَدْرِ ثَلاثَةِ أصابِعَ مِن أعْلى الخُفِّ.
وَحُجَّةُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلى مَسْحِ ظاهِرِ الخُفِّ دُونَ أسْفَلِهِ، حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«لَوْ كانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكانَ أسْفَلُ الخُفِّ أوْلى بِالمَسْحِ مِن أعْلاهُ، لَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ عَلى ظاهِرِ خُفَّيْهِ» أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والدّارَقُطْنِيُّ.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”بُلُوغِ المَرامِ“: إسْنادُهُ حَسَنٌ.
وَقالَ في ”التَّلْخِيصِ“: إسْنادُهُ صَحِيحٌ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ لا يُقْدَحُ فِيهِ بِأنَّ في إسْنادِهِ عَبْدُ خَيْرِ بْنُ يَزِيدَ الهَمْدانِيُّ، وأنَّ البَيْهَقِيَّ قالَ: لَمْ يَحْتَجْ بِعَبْدِ خَيْرٍ المَذْكُورِ صاحِبا الصَّحِيحِ، اهـ؛ لِأنَّ عَبْدَ خَيْرٍ المَذْكُورِ، ثِقَةٌ مُخَضْرَمٌ مَشْهُورٌ، قِيلَ إنَّهُ صَحابِيٌّ.
والصَّحِيحُ أنَّهُ مُخَضْرَمٌ وثَّقَهُ يَحْيى بْنُ مَعِينٍ، والعِجْلِيُّ، وقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ مِنَ الثّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ صُحْبَةٌ.
وَأمّا كَوْنُ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يُخَرِّجا لَهُ، فَهَذا لَيْسَ بِقادِحٍ فِيهِ بِاتِّفاقِ أهْلِ العِلْمِ.
وَكَمْ مِن ثِقَةٍ عَدْلٍ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الشَّيْخانِ !
وَذَهَبَ الإمامُ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنَّ الواجِبَ مَسْحُ أقَلِّ جُزْءٍ مِن أعْلاهُ، وأنَّ مَسْحَ أسْفَلِهِ مُسْتَحَبٌّ.
وَذَهَبَ الإمامُ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنَّهُ يَلْزَمُ مَسْحُ أعْلاهُ وأسْفَلِهِ مَعًا، فَإنِ اقْتَصَرَ عَلى أعْلاهُ أعادَ في الوَقْتِ، ولَمْ يُعِدْ أبَدًا، وإنِ اقْتَصَرَ عَلى أسْفَلِهِ أعادَ أبَدًا.
وَعَنْ مالِكٍ أيْضًا أنَّ مَسْحَ أعْلاهُ واجِبٌ، ومَسْحُ أسْفَلِهِ مَندُوبٌ.
واحْتَجَّ مَن قالَ بِمَسْحِ كُلٍّ مِن ظاهِرِ الخُفِّ وأسْفَلِهِ، بِما رَواهُ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ رَجاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ ورّادٍ، كاتِبِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ أعْلى الخُفِّ وأسْفَلِهِ»، أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، والدّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، وابْنُ الجارُودِ.
وَقالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ، لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ثَوْرٍ غَيْرُ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وسَألْتُ أبا زُرْعَةَ ومُحَمَّدًا عَنْ هَذا الحَدِيثِ فَقالا: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا الحَدِيثَ ضَعِيفٌ.
وَقَدِ احْتَجَّ مالِكٌ لِمَسْحِ أسْفَلِ الخُفِّ بِفِعْلِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
* * *المَسْألَةُ السّابِعَةُ: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى اشْتِراطِ الطَّهارَةِ المائِيَّةِ لِلْمَسْحِ عَلى الخُفِّ، وأنَّ مَن لَبِسَهُما مُحْدِثًا، أوْ بَعْدَ تَيَمُّمٍ، لا يَجُوزُ لَهُ المَسْحُ عَلَيْهِما.
واخْتَلَفُوا في اشْتِراطِ كَمالِ الطَّهارَةِ، كَمَن غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنى فَأدْخَلَها في الخُفِّ قَبْلَ أنْ يَغْسِلَ رِجْلَهُ اليُسْرى، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُسْرى فَأدْخَلَها أيْضًا في الخُفِّ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ المَسْحُ عَلى الخُفَّيْنِ إذا أحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ .
ذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى اشْتِراطِ كَمالِ الطَّهارَةِ، فَقالُوا في الصُّورَةِ المَذْكُورَةِ: لا يَجُوزُ لَهُ المَسْحُ لِأنَّهُ لَبِسَ أحَدَ الخُفَّيْنِ قَبْلَ كَمالِ الطَّهارَةِ. ومِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ الشّافِعِيُّ وأصْحابُهُ، ومالِكٌ وأصْحابُهُ، وإسْحاقُ، وهو أصَحُّ الرِّوايَتَيْنِ عَنْ أحْمَدَ.
واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِالأحادِيثِ الوارِدَةِ بِاشْتِراطِ الطَّهارَةِ لِلْمَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ، كَحَدِيثِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،
«عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قالَ: ”دَعْهُما فَإنِّي أدْخَلْتُهُما طاهِرَتَيْنِ“ فَمَسَحَ عَلَيْهِما» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ولِأبِي داوُدَ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«”دَعِ الخُفَّيْنِ فَإنِّي أدْخَلْتُ القَدَمَيْنِ الخُفَّيْنِ، وهُما طاهِرَتانِ“ فَمَسَحَ عَلَيْهِما» .
وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أحْمَدَ أنَّهُ ﷺ قالَ لَهُ لَمّا نَبَّهَهُ عَلى أنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ:
«إنِّي أدْخَلْتُهُما وهُما طاهِرَتانِ» .
وَفِي حَدِيثِ صَفْوانَ بْنِ عَسّالٍ المُتَقَدِّمِ:
«أمَرَنا أنْ نَمْسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ إذا نَحْنُ أدْخَلْناهُما عَلى طُهْرٍ» الحَدِيثَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحادِيثِ.
وَقالُوا: والطَّهارَةُ النّاقِصَةُ كَلا طَهارَةٍ.
وَذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى عَدَمِ اشْتِراطِ كَمالِ الطَّهارَةِ وقْتَ لُبْسِ الخُفِّ فَأجازُوا لُبْسَ خُفِّ اليُمْنى قَبْلَ اليُسْرى والمَسْحَ عَلَيْهِ، إذا أحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأنَّ الطَّهارَةَ كَمُلَتْ بَعْدَ لُبْسِ الخُفِّ.
قالُوا: والدَّوامُ كالِابْتِداءِ. ومِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ: الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ، وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، ويَحْيى بْنُ آدَمَ، والمُزَنِيُّ، وداوُدُ. واخْتارَ هَذا القَوْلَ ابْنُ المُنْذِرِ، قالَهُ النَّوَوِيُّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: مَنشَأُ الخِلافِ في هَذِهِ المَسْألَةِ هو قاعِدَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيها، ”وَهي هَلْ يَرْتَفِعُ الحَدَثُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ مِن أعْضاءِ الوُضُوءِ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ، أوْ لا يَرْتَفِعُ الحَدَثُ عَنْ شَيْءٍ مِنها إلّا بِتَمامِ الوُضُوءِ ؟“، وأظْهَرُهُما عِنْدِي أنَّ الحَدَثَ مَعْنًى مِنَ المَعانِي لا يَنْقَسِمُ ولا يَتَجَزَّأُ، فَلا يَرْتَفِعُ مِنهُ جُزْءٌ، وأنَّهُ قَبْلَ تَمامِ الوُضُوءِ مُحْدِثٌ، والخُفُّ يُشْتَرَطُ في المَسْحِ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ وقْتَ لُبْسِهِ غَيْرَ مُحْدِثٍ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، اهـ.
* * *
* تَنْبِيهٌجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى اشْتِراطِ النِّيَّةِ في الوُضُوءِ والغَسْلِ، لِأنَّهُما قُرْبَةٌ، والنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ:
«إنَّما الأعْمالُ بِالنِّيّاتِ»، وخالَفَ أبُو حَنِيفَةَ قائِلًا: إنَّ طَهارَةَ الحَدَثِ لا تَشْتَرِطُ فِيها النِّيَّةُ، كَطَهارَةِ الخَبَثِ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ أيْضًا في الغايَةِ في قَوْلِهِ:
﴿إلى المَرافِقِ﴾ [المائدة: ٦]، هَلْ هي داخِلَةٌ فَيَجِبُ غَسْلُ المُرافِقِ في الوُضُوءِ ؟ . وهو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ. أوْ خارِجَةٌ فَلا يَجِبُ غَسْلُ المُرافِقِ فِيهِ ؟ .
والحُقُّ اشْتِراطُ النِّيَّةِ، ووُجُوبُ غَسْلِ المَرافِقِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَسْحِ الرَّأْسِ في الوُضُوءِ هَلْ يَجِبُ تَعْمِيمُهُ، فَقالَ مالِكٌ وأحْمَدُ وجَماعَةٌ: يَجِبُ تَعْمِيمُهُ، ولا شَكَّ أنَّهُ الأحْوَطُ في الخُرُوجِ مِن عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالمَسْحِ، وقالَ الشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ: لا يَجِبُ التَّعْمِيمُ.
واخْتَلَفُوا في القَدْرِ المُجْزِئِ، فَعَنِ الشّافِعِيِّ: أقَلُّ ما يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ المَسْحِ كافٍ، وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ: الرُّبُعُ، وعَنْ بَعْضِهِمُ: الثُّلُثُ، وعَنْ بَعْضِهِمُ: الثُّلُثانِ، وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ”المَسْحُ عَلى العِمامَةِ“، وحَمَلَهُ المالِكِيَّةُ عَلى ما إذا خِيفَ بِنَزْعِها ضَرَرٌ، وظاهِرُ الدَّلِيلِ الإطْلاقُ.
وَثَبَتَ عَنْهُ ﷺ ”المَسْحُ عَلى النّاصِيَةِ والعِمامَةِ“، ولا وجْهَ لِلِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلى الِاكْتِفاءِ بِالنّاصِيَةِ، لِأنَّهُ لَمْ يَرِدْ أنَّهُ ﷺ اكْتَفى بِها، بَلْ مَسَحَ مَعَها عَلى العِمامَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ في مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلاثُ حالاتٍ: المَسْحُ عَلى الرَّأْسِ، والمَسْحُ عَلى العِمامَةِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما بِالمَسْحِ عَلى النّاصِيَةِ، والعِمامَةِ.
والظّاهِرُ مِنَ الدَّلِيلِ جَوازُ الحالاتِ الثَّلاثِ المَذْكُورَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَما قَدَّمَنا مِن حِكايَةِ الإجْماعِ عَلى عَدَمِ الِاكْتِفاءِ في المَسْحِ عَلى الخُفِّ بِالتَّيَمُّمِ، مَعَ أنَّ فِيهِ بَعْضُ خِلافٍ كَما يَأْتِي، لِأنَّهُ لِضَعْفِهِ عِنْدَنا كالعَدَمِ، ولْنَكْتَفِ بِما ذَكَرْنا مِن أحْكامِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ خَوْفَ الإطالَةِ.
* * *قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم مِنهُ﴾ الآيَةَ، اعْلَمْ أنَّ لَفْظَةَ مِن في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مُحْتَمِلَةٌ، لِأنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، فَيَتَعَيَّنُ في التَّيَمُّمِ التُّرابُ الَّذِي لَهُ غُبارٌ يَعْلَقُ بِاليَدِ؛ ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ مَبْدَأُ ذَلِكَ المَسْحِ كائِنٌ مِنَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَلا يَتَعَيَّنُ مالَهُ غُبارٌ، وبِالأوَّلِ قالَ الشّافِعِيُّ، وَأحْمَدُ، وبِالثّانِي قالَ مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى جَمِيعًا.
فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فاعْلَمْ أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ إشارَةً إلى هَذا القَوْلِ الأخِيرِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ﴾ [المائدة: ٦]، فَقَوْلُهُ:
﴿مِن حَرَجٍ﴾ نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ زِيدَتْ قَبْلَها مِن، والنَّكِرَةُ إذا كانَتْ كَذَلِكَ، فَهي نَصٌّ في العُمُومِ، كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ، قالَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ عاطِفًا عَلى صِيَغِ العُمُومِ: [ الرَّجَزُ ]
وَفِي سِياقِ النَّفْيِ مِنها يُذْكَرْ إذا بُنِي أوْ زِيدَ مِن مُنَكَّرْ
فالآيَةُ تَدُلُّ عَلى عُمُومِ النَّفْيِ في كُلِّ أنْواعِ الحَرَجِ، والمُناسِبُ لِذَلِكَ كَوْنُ مِن لِابْتِداءِ الغايَةِ، لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ البِلادِ لَيْسَ فِيهِ إلّا الرِّمالُ أوِ الجِبالُ، فالتَّكْلِيفُ بِخُصُوصِ ما فِيهِ غُبارٌ يَعْلَقُ بِاليَدِ، لا يَخْلُو مِن حَرَجٍ في الجُمْلَةِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذا ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما مِن حَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، فَأيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتِي أدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ»، وفي لَفْظٍ:
«فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وطَهُورُهُ» الحَدِيثَ.
فَهَذا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ في أنَّ مَن أدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ في مَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ إلّا الجِبالُ أوِ الرِّمالُ أنَّ ذَلِكَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ الَّذِي هو الحِجارَةُ، أوِ الرَّمْلُ طَهُورٌ لَهُ ومَسْجِدٌ؛ وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن تَعَيُّنِ كَوْنِ مِن لِلتَّبْعِيضِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإنْ قِيلَ: ورَدَ في الصَّحِيحِ ما يَدُلُّ عَلى تَعَيُّنِ التُّرابِ الَّذِي لَهُ غُبارٌ يَعْلَقُ بِاليَدِ، دُونَ غَيْرِهِ مِن أنْواعِ الصَّعِيدِ، فَقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«فُضِّلْنا عَلى النّاسِ بِثَلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنا كَصُفُوفِ المَلائِكَةِ، وجُعِلَتْ لَنا الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدًا، وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لَنا طَهُورًا، إذا لَمْ نَجِدِ الماءَ» الحَدِيثَ، فَتَخْصِيصُ التُّرابِ بِالطَّهُورِيَّةِ في مَقامِ الِامْتِنانِ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فالجَوابُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ كَوْنَ الأمْرِ مَذْكُورًا في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ، مِمّا يَمْنَعُ فِيهِ اعْتِبارُ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ، كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ، قالَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ في مَوانِعَ اعْتِبارِ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ: [ الرَّجَزُ ]
أوِ امْتِنانٌ أوْ وِفاقُ الواقِعِ ∗∗∗ والجَهْلُ والتَّأْكِيدُ عِنْدَ السّامِعِ
وَلِذا أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى جَوازِ أكْلِ القَدِيدِ مِنَ الحُوتِ مَعَ أنَّ اللَّهَ خَصَّ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ مِنهُ في قَوْلِهِ:
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ [النحل: ١٤]؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ، فَلا مَفْهُومَ مُخالَفَةٍ لَهُ، فَيَجُوزُ أكْلُ القَدِيدِ مِمّا في البَحْرِ.
الثّانِي: أنَّ مَفْهُومَ التُّرْبَةِ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وهو لا يُعْتَبَرُ عِنْدَ جَماهِيرِ العُلَماءِ، وهو الحَقُّ كَما هو مَعْلُومٌ في الأُصُولِ.
الثّالِثُ: أنَّ التُّرْبَةَ فَرْدٌ مِن أفْرادِ الصَّعِيدِ؛ وذِكْرُ بَعْضِ أفْرادِ العامِّ بِحُكْمِ العامِّ لا يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ عِنْدَ الجُمْهُورِ، سَواءٌ ذُكِرا في نَصٍّ واحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨]، أوْ ذُكِرا في نَصَّيْنِ كَحَدِيثِ:
«أيُّما إهابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»، عِنْدَ أحْمَدَ، ومُسْلِمٍ، وابْنِ ماجَهْ، والتِّرْمِذِيِّ، وغَيْرِهِمْ، مَعَ حَدِيثِ:
«هَلّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِها»، يَعْنِي شاةً مَيِّتَةً عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، كِلاهُما مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، فَذِكْرُ الصَّلاةِ الوُسْطى في الأوَّلِ، وجِلْدِ الشّاةِ في الأخِيرِ لا يَقْتَضِي أنَّ غَيْرَهُما مِنَ الصَّلَواتِ في الأوَّلِ، ومِنَ الجُلُودِ في الثّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ، قالَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ عاطِفًا عَلى ما لا يُخَصَّصُ بِهِ العُمُومُ: [ الرَّجَزُ ]
وَذِكْرُ ما وافَقَهُ مِن مُفْرَدِ ∗∗∗ ومَذْهَبُ الرّاوِي عَلى المُعْتَمَدِ
وَلَمْ يُخالِفْ في عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ بَعْضِ أفْرادِ العامِّ بِحُكْمِ العامِّ، إلّا أبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا بِأنَّهُ لا فائِدَةَ لِذِكْرِهِ إلّا التَّخْصِيصُ.
وَأُجِيبَ مِن قِبَلِ الجُمْهُورِ بِأنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وفائِدَةُ ذِكْرِ البَعْضِ نَفْيُ احْتِمالِ إخْراجِهِ مِنَ العامِ، والصَّعِيدُ في اللُّغَةِ: وجْهُ الأرْضِ، كانَ عَلَيْهِ تُرابٌ، أوْ لَمْ يَكُنْ، قالَهُ الخَلِيلُ، وابْنُ الأعْرابِيِّ، والزَّجّاجُ.
قالَ الزَّجّاجُ: لا أعْلَمُ فِيهِ خِلافًا بَيْنَ أهْلِ اللُّغَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿وَإنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: ٨]، أيْ أرْضًا غَلِيظَةً لا تُنْبِتُ شَيْئًا، وقالَ تَعالى:
﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ [الكهف: ٤٠]، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: [ البَسِيطُ ]
كَأنَّهُ بِالضُّحى تَرْمِي الصَّعِيدُ بِهِ ∗∗∗ دَبّابَةٌ في عِظامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ
وَإنَّما سُمِّيَ صَعِيدًا؛ لِأنَّهُ نِهايَةُ ما يُصْعَدُ إلَيْهِ مِنَ الأرْضِ، وجَمْعُ الصَّعِيدِ صُعُداتٌ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، ومِنهُ حَدِيثُ:
«إيّاكم والجُلُوسَ في الصُّعُداتِ»، قالَهُ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ عَنْهُ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيهِ مِن أجْلِ تَقْيِيدِهِ بِالطَّيِّبِ، فَقالَتْ طائِفَةٌ: ”الطَّيِّبُ“ هو الطّاهِرُ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِوَجْهِ الأرْضِ كُلِّهِ، تُرابًا كانَ أوْ رَمْلًا، أوْ حِجارَةً، أوْ مَعْدِنًا، أوْ سَبْخَةً، إذا كانَ ذَلِكَ طاهِرًا، وهَذا مَذْهَبُ مالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيِّ، وغَيْرِهِمْ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ: الطَّيِّبُ: الحَلالُ، فَلا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرابٍ مَغْصُوبٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ، وأبُو يُوسُفَ: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ: التُّرابُ المُنْبِتُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ﴾ الآيَةَ
[الأعراف: ٥٨]فَإذا عَلِمْتَ هَذا، فاعْلَمْ أنَّ المَسْألَةَ لَها واسِطَةٌ وطَرَفانِ: طَرَفٌ أجْمَعَ جَمِيعُ المُسْلِمِينَ عَلى جَوازِ التَّيَمُّمِ بِهِ، وهو التُّرابُ المُنْبِتُ الطّاهِرُ الَّذِي هو غَيْرُ مَنقُولٍ، ولا مَغْصُوبٍ؛ وطَرَفٌ أجْمَعَ جَمِيعُ المُسْلِمِينَ عَلى مَنعِ التَّيَمُّمِ بِهِ، وهو الذَّهَبُ والفِضَّةُ الخالِصانِ، والياقُوتُ والزُّمُرُّدُ، والأطْعِمَةُ كالخُبْزِ واللَّحْمِ وغَيْرِهِما، والنَّجاساتُ وغَيْرُ هَذا هو الواسِطَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيها العُلَماءُ، فَمِن ذَلِكَ المَعادِنُ.
فَبَعْضُهم يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَيْها كَمالِكٍ، وبَعْضُهم يَمْنَعُهُ كالشّافِعِيِّ ومِن ذَلِكَ الحَشِيشُ، فَقَدْ رَوى ابْنُ خُوَيْزٍ مِندادُ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلى الحَشِيشِ إذا كانَ دُونَ الأرْضِ، ومَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ المَنعُ، ومِن ذَلِكَ التَّيَمُّمُ عَلى الثَّلْجِ، فَرُوِيَ عَنْ مالِكٍ في ”المُدَوَّنَةِ“، و ”المَبْسُوطِ جَوازُهُ“، قِيلَ: مُطْلَقًا، وقِيلَ: عِنْدَ عَدَمِ الصَّعِيدِ، وفي غَيْرِهِما مَنعُهُ.
واخْتُلِفَ عَنْهُ في التَّيَمُّمِ عَلى العُودِ، فالجُمْهُورُ عَلى المَنعِ، وفي ”مُخْتَصَرِ الوَقارِ“ أنَّهُ جائِزٌ، وقِيلَ: يَجُوزُ في العُودِ المُتَّصِلِ بِالأرْضِ دُونَ المُنْفَصِلِ عَنْها، وذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أنَّ مالِكًا قالَ: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى شَجَرَةٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِها أجَزَأهُ، قالَ: وقالَ الأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ: يَجُوزُ بِالأرْضِ، وكُلُّ ما عَلَيْها مِنَ الشَّجَرِ والحَجَرِ، والمَدَرِ وغَيْرِها حَتّى قالا: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى الجَمَدِ والثَّلْجِ أجْزَأهُ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ يُجِيزُهُ بِالكُحْلِ، والزَّرْنِيخِ، والنَّوْرَةِ، والجَصِّ، والجَوْهَرِ المَسْحُوقِ، ويَمْنَعُهُ بِسُحالَةِ الذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والنُّحاسِ، والرَّصاصِ، لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِن جِنْسِ الأرْضِ.
وَذَكَرَ النَّقّاشُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وابْنِ كَيْسانَ أنَّهُما أجازاهُ بِالمِسْكِ، والزَّعْفَرانِ، وأبْطَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذا القَوْلَ، ومَنَعَهُ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ بِالسِّباخِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوُهُ، وعَنْهُ فِيمَن أدْرَكَهُ التَّيَمُّمَ، وهو في طِينٍ أنَّهُ يَطْلِي بِهِ بَعْضَ جَسَدِهِ، فَإذا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ، قالَهُ القُرْطُبِيُّ.
وَأمّا التُّرابُ المَنقُولُ في طَبَقٍ أوْ غَيْرِهِ، فالتَّيَمُّمُ بِهِ جائِزٌ في مَشْهُورِ مَذْهَبِ مالِكٍ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المالِكِيَّةِ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وأصْحابِهِ، وعَنْ بَعْضِ المالِكِيَّةِ، وجَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ مَنعُهُ.
وَما طُبِخَ كالجَصِّ، والآجُرِّ فَفِيهِ أيْضًا خِلافٌ عَنِ المالِكِيَّةِ، والمَنعُ أشْهَرُ.
واخْتَلَفُوا أيْضًا في التَّيَمُّمِ عَلى الجِدارِ، فَقِيلَ: جائِزٌ مُطْلَقًا، وقِيلَ: مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، وقِيلَ بِجَوازِهِ لِلْمَرِيضِ دُونَ غَيْرِهِ، وحَدِيثُ أبِي جُهَيْمٍ الآتِي يَدُلُّ عَلى الجَوازِ مُطْلَقًا.
والظّاهِرُ أنَّ مَحَلَّهُ فِيما إذا كانَ ظاهِرُ الجِدارِ مِن أنْواعِ الصَّعِيدِ، ومَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ جَوازُ التَّيَمُّمِ عَلى المَعادِنِ غَيْرَ الذَّهَبِ، والفِضَّةِ ما لَمْ تُنْقَلْ، وجَوازُهُ عَلى المِلْحِ غَيْرِ المَصْنُوعِ، ومَنعُهُ بِالأشْجارِ، والعِيدانِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وأجازَهُ أحْمَدُ، والشّافِعِيُّ، والثَّوْرِيُّ عَلى اللُّبَدِ، والوَسائِدِ؛ ونَحْوِ ذَلِكَ إذا كانَ عَلَيْهِ غُبارٌ.
والتَّيَمُّمُ في اللُّغَةِ: القَصْدُ، تَيَمَّمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ، وتَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَعَمَّدْتُهُ، وأنْشَدَ الخَلِيلُ قَوْلَ عامِرِ بْنِ مالِكٍ، مُلاعِبِ الأسِنَّةِ: [ البَسِيطُ ]
يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ∗∗∗ هَذِي البَسالَةُ لا لَعِبُ الزَّحالِيقِ
وَمِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: [ الطَّوِيلُ ]
تَيَمَّمَتِ العَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضارِجٍ ∗∗∗ يَفِيءُ عَلَيْها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِي
وَقَوْلُ أعْشى باهِلَةَ: [ المُتَقارِبُ ]
تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وكَمْ دُونَهُ ∗∗∗ مِنَ الأرْضِ مِن مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ
وَقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: [ الطَّوِيلُ ]
سَلِ الرَّبْعَ أنّى يَمَّمَتْ أُمُّ طارِقٍ ∗∗∗ وهَلْ عادَةٌ لِلرَّبْعِ أنْ يَتَكَلَّما
والتَّيَمُّمُ في الشَّرْعِ: القَصْدُ إلى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِمَسْحِ الوَجْهِ، واليَدَيْنِ مِنهُ بِنِيَّةِ اسْتِباحَةِ الصَّلاةِ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ، أوِ العَجْزِ عَنِ اسْتِعْمالِهِ، وكَوْنُ التَّيَمُّمِ بِمَعْنى القَصْدِ يَدُلُّ عَلى اشْتِراطِ النِّيَّةِ في التَّيَمُّمِ، وهو الحَقُّ.
* * *مَسائِلُ في أحْكامِ التَّيَمُّمِ
المَسْألَةُ الأُولى: لَمْ يُخالِفْ أحَدٌ مِن جَمِيعِ المُسْلِمِينَ في التَّيَمُّمِ، عَنِ الحَدَثِ الأصْغَرِ، وكَذَلِكَ عَنِ الحَدَثِ الأكْبَرِ، إلّا ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ مِنَ التّابِعِينَ أنَّهم مَنَعُوهُ، عَنِ الحَدَثِ الأكْبَرِ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ عَنِ ابْنِ الصَّبّاغِ وغَيْرِهِ القَوْلَ بِرُجُوعِ عُمَرَ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ، واحْتَجَّ لِمَن مَنَعَ التَّيَمُّمَ، عَنِ الحَدَثِ الأكْبَرِ بِأنَّ آيَةَ النِّساءِ لَيْسَ فِيها إباحَتُهُ إلّا لِصاحِبِ الحَدَثِ الأصْغَرِ؛ حَيْثُ قالَ:
﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا﴾ الآيَةَ
[النساء: ٤٣]، ورَدُّ هَذا الِاسْتِدْلالِ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: أنا لا نُسَلِّمُ عَدَمَ ذِكْرِ الجَنابَةِ في آيَةِ النِّساءِ، لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ [النساء: ٤٣]، فَسَّرَهُ تُرْجُمانُ القُرْآنِ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، بِأنَّ المُرادَ بِهِ الجِماعُ، وإذًا فَذِكْرُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الجِماعِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّمْسِ، أوِ المُلامَسَةِ بِحَسَبِ القِراءَتَيْنِ، والمَجِيءُ مِنَ الغائِطِ دَلِيلٌ عَلى شُمُولِ التَّيَمُّمِ لِحالَتَيِ الحَدَثِ الأكْبَرِ، والأصْغَرِ.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى في سُورَةِ المائِدَةِ، صَرَّحَ بِالجَنابَةِ غَيْرَ مُعَبِّرٍ عَنْها بِالمُلامَسَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَها التَّيَمُّمَ، فَدَلَّ عَلى أنْ يَكُونَ عَنْها أيْضًا حَيْثُ قالَ:
﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكم وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦]، ثُمَّ قالَ:
﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ الآيَةَ
[المائدة: ٦] .
فَهُوَ عائِدٌ إلى المُحْدِثِ، والجُنُبِ جَمِيعًا، كَما هو ظاهِرٌ.
الثّالِثُ: تَصْرِيحُهُ ﷺ بِذَلِكَ الثّابِتُ عَنْهُ في الصَّحِيحِ؛ فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما عَنْ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أنَّهُ قالَ:
«أجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الماءَ، فَتَمَعَّكْتُ في الصَّعِيدِ وصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ: ”إنَّما كانَ يَكْفِيكَ هَكَذا“، وَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَفَّيْهِ الأرْضَ، ونَفَخَ فِيهِما، ثُمَّ مَسَحَ بِهِما وجْهَهُ، وكَفَّيْهِ» .
وَأخْرَجا في صَحِيحَيْهِما أيْضًا مِن حَدِيثِ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، قالَ:
«كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في سَفَرٍ فَصَلّى بِالنّاسِ؛ فَإذا هم بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ، فَقالَ: ما مَنَعَكَ أنْ تُصَلِّيَ ؟ قالَ: أصابَتْنِي جَنابَةٌ ولا ماءَ، قالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإنَّهُ يَكْفِيكَ» .
والأحادِيثُ في البابِ كَثِيرَةٌ.
* * *المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ، هَلْ تَكْفِي لِلتَّيَمُّمِ ضَرْبَةٌ واحِدَةٌ أوْ لا ؟ فَقالَ جَماعَةٌ: تَكْفِي ضَرْبَةٌ واحِدَةٌ لِلْكَفَّيْنِ والوَجْهِ، ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ الإمامُ أحْمَدُ، وعَطاءٌ، ومَكْحُولٌ، والأوْزاعِيُّ، وإسْحاقُ، ونَقْلَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ العُلَماءِ واخْتارَهُ، وهو قَوْلُ عامَّةِ أهْلِ الحَدِيثِ، ودَلِيلُهُ حَدِيثُ عَمّارٍ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ المُتَقَدِّمُ آنِفًا.
وَذَهَبَ أكْثَرُ الفُقَهاءِ إلى أنَّهُ لا بُدَّ مِن ضَرْبَتَيْنِ: إحْداهُما لِلْوَجْهِ، والأُخْرى لِلْكَفَّيْنِ، ومِنهم مَن قالَ بِوُجُوبِ الثّانِيَةِ، ومِنهم مَن قالَ بِسُنِّيَّتِها كَمالِكٍ، وذَهَبَ ابْنُ المُسَيَّبِ، وابْنُ شِهابٍ، وابْنُ سِيرِينَ إلى أنَّ الواجِبَ ثَلاثُ ضَرَباتٍ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ، وضَرْبَةٌ لِلذِّراعَيْنِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: الظّاهِرُ مِن جِهَةِ الدَّلِيلِ الِاكْتِفاءُ بِضَرْبَةٍ واحِدَةٍ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِن أحادِيثِ البابِ شَيْءٌ مَرْفُوعًا، إلّا حَدِيثُ عَمّارٍ المُتَقَدِّمَ، وحَدِيثُ أبِي جُهَيْمِ بْنِ الحارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأنْصارِيِّ، قالَ: "
«أقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، مِن نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، حَتّى أقْبَلَ عَلى الجِدارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ ويَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ»، أخْرَجَهُ البُخارِيُّ مَوْصُولًا، ومُسْلِمٌ تَعْلِيقًا، ولَيْسَ في واحِدٍ مِنهُما ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُما ضَرْبَتانِ كَما رَأيْتَ، وقَدْ دَلَّ حَدِيثُ عَمّارٍ أنَّها واحِدَةٌ.
* * *المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَلْ يَلْزَمُ في التَّيَمُّمِ مَسْحُ غَيْرِ الكَفَّيْنِ ؟ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في ذَلِكَ، فَأوْجَبَ بَعْضُهُمُ المَسْحَ في التَّيَمُّمِ إلى المِرْفَقَيْنِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأصْحابُهُما، والثَّوْرِيُّ، وابْنُ أبِي سَلَمَةَ، واللَّيْثُ، كُلُّهم يَرَوْنَ بُلُوغَ التَّيَمُّمِ بِالمِرْفَقَيْنِ فَرْضًا واجِبًا، وبِهِ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الحَكَمِ، وابْنُ نافِعٍ، وإلَيْهِ ذَهَبَ إسْماعِيلُ القاضِي.
قالَ ابْنُ نافِعٍ: مَن تَيَمَّمَ إلى الكُوعَيْنِ أعادَ الصَّلاةَ أبَدًا، وقالَ مالِكٌ: في المُدَوَّنَةِ يُعِيدُ في الوَقْتِ، ورُوِيَ التَّيَمُّمُ إلى المِرْفَقَيْنِ مَرْفُوعًا، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وابْنِ عُمَرَ، وأبِي أُمامَةَ، وعائِشَةَ، وعَمّارٍ، والأسْلَعِ، وسَيَأْتِي ما في أسانِيدِ رِواياتِهِمْ مِنَ المَقالِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وبِهِ كانَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ، وقالَ ابْنُ شِهابٍ: يَمْسَحُ في التَّيَمُّمِ إلى الآباطِ.
واحْتَجَّ مَن قالَ بِالتَّيَمُّمِ إلى المِرْفَقَيْنِ بِما رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْنا مِن ذِكْرِ المِرْفَقَيْنِ، وبِأنَّ ابْنَ عُمَرَ كانَ يَفْعَلُهُ، وبِالقِياسِ عَلى الوُضُوءِ، وقَدْ قالَ تَعالى فِيهِ:
﴿وَأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ .
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الأدِلَّةِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، أنَّ الواجِبَ في التَّيَمُّمِ هو مَسْحُ الكَفَّيْنِ فَقَطْ، لِما قَدَّمْنا مِن أنَّ الأحادِيثَ الوارِدَةَ في صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنها شَيْءٌ ثابِتُ الرَّفْعِ إلّا حَدِيثَ عَمّارٍ: وحَدِيثَ أبِي جُهَيْمٍ المُتَقَدِّمَيْنِ.
أمّا حَدِيثُ أبِي جُهَيْمٍ، فَقَدْ ورَدَ بِذِكْرِ اليَدَيْنِ مُجْمَلًا، كَما رَأيْتَ، وأمّا حَدِيثُ عَمّارٍ فَقَدْ ورَدَ بِذِكْرِ الكَفَّيْنِ في الصَّحِيحَيْنِ، كَما قَدَّمْنا آنِفًا. ووَرَدَ في غَيْرِهِما بِذِكْرِ المِرْفَقَيْنِ، وفي رِوايَةٍ إلى نِصْفِ الذِّراعِ، وفي رِوايَةٍ إلى الآباطِ، فَأمّا رِوايَةُ المِرْفَقَيْنِ، ونِصْفِ الذِّراعِ، فَفِيهِما مَقالٌ سَيَأْتِي، وأمّا رِوايَةُ الآباطِ، فَقالَ الشّافِعِيُّ وغَيْرُهُ: إنْ كانَ ذاكَ وقَعَ بِأمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فَكُلُّ تَيَمُّمٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَعْدَهُ فَهو ناسِخٌ لَهُ؛ وإنْ كانَ وقَعَ بِغَيْرِ أمْرِهِ، فالحُجَّةُ فِيما أمَرَ بِهِ، ومِمّا يُقَوِّي رِوايَةَ الصَّحِيحَيْنِ في الِاقْتِصارِ عَلى الوَجْهِ والكَفَّيْنِ، كَوْنُ عَمّارٍ كانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ؛ وراوِي الحَدِيثِ أعْرِفُ بِالمُرادِ بِهِ مِن غَيْرِهِ؛ ولا سِيَّما الصَّحابِيُّ المُجْتَهِدُ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“ .
وَأمّا فِعْلُ ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ، والمَوْقُوفُ عَلى ابْنِ عُمَرَ لا يُعارَضُ بِهِ مَرْفُوعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وهو حَدِيثُ عَمّارٍ.
وَقَدْ رَوى أبُو داوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، أنَّهُ قالَ:
«مَرَّ رَجُلٌ عَلى النَّبِيِّ ﷺ في سِكَّةٍ مِنَ السِّكَكِ، وقَدْ خَرَجَ مِن غائِطٍ أوْ بَوْلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتّى كادَ الرَّجُلُ يَتَوارى في السِّكَكِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى حائِطٍ، ومَسَحَ بِها وجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرى فَمَسَحَ بِها ذِراعَيْهِ»، ومَدارُ الحَدِيثِ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ ثابِتٍ، وقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وأحْمَدُ والبُخارِيُّ وأبُو حاتِمٍ. وقالَ أحْمَدُ، والبُخارِيُّ: يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ التَّيَمُّمِ. أيْ هَذا، زادَ البُخارِيُّ: خالَفَهُ أيُّوبُ، وعُبَيْدُ اللَّهِ والنّاسُ، فَقالُوا عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَعَلَهُ.
وَقالَ أبُو داوُدَ: لَمْ يُتابِعْ أحَدٌ مُحَمَّدَ بْنَ ثابِتٍ في هَذِهِ القِصَّةِ عَلى ضَرْبَتَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ورَوَوْهُ مِن فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، وقالَ الخَطّابِيُّ: لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ مُحَمَّدَ بْنَ ثابِتٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، ومُحَمَّدُ بْنُ ثابِتٍ هَذا هو العَبْدِيُّ أبُو عَبْدِ اللَّهِ البَصْرِيُّ، قالَ فِيهِ في ”التَّقْرِيبِ“: صَدُوقٌ، لَيِّنُ الحَدِيثِ.
واعْلَمْ أنَّ رِوايَةَ الضَّحّاكِ بْنِ عُثْمانَ، وابْنِ الهادِ لِهَذا الحَدِيثِ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَيْسَ في واحِدَةٍ مِنهُما مُتابَعَةُ مُحَمَّدِ بْنِ ثابِتٍ عَلى الضَّرْبَتَيْنِ، ولا عَلى الذِّراعَيْنِ؛ لِأنَّ الضَّحّاكَ لَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ في رِوايَتِهِ، وابْنَ الهادِ قالَ في رِوايَتِهِ ”مَسَحَ وجْهَهَ ويَدَيْهِ“، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، والبَيْهَقِيُّ، ورَوى الدّارَقُطْنِيُّ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ مِن طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ ظَبْيانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قالَ:
«التَّيَمُّمُ ضَرْبَتانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ» .
قالَ الدّارَقُطْنِيُّ: وقَفَهُ يَحْيى القَطّانُ، وهُشَيْمٌ وغَيْرُهُما، وهو الصَّوابُ، ثُمَّ رَواهُ مِن طَرِيقِ مالِكٍ عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، مَعَ أنَّ عَلِيَّ بْنَ ظَبْيانَ ضَعَّفَهُ القَطّانُ، وابْنُ مَعِينٍ، وغَيْرُ واحِدٍ.
وَهُوَ ابْنُ ظَبْيانَ بْنِ هِلالٍ العَبْسِيُّ الكُوفِيُّ، قاضِي بَغْدادَ، قالَ فِيهِ في ”التَّقْرِيبِ“: ضَعِيفٌ.
وَرَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ مِن طَرِيقِ سالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:
«تَيَمَّمْنا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، ضَرَبْنا بِأيْدِينا عَلى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، ثُمَّ نَفَضْنا أيْدِيَنا فَمَسَحْنا بِها وُجُوهَنا، ثُمَّ ضَرَبْنا ضَرْبَةً أُخْرى فَمَسَحْنا مِنَ المَرافِقِ إلى الأكُفِّ» الحَدِيثَ، لَكِنْ في إسْنادِهِ سُلَيْمانُ بْنُ أرْقَمَ، وهو مَتْرُوكٌ.
قالَ البَيْهَقِيُّ: رَواهُ مَعْمَرٌ وغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْقُوفًا، وهو الصَّحِيحُ، ورَواهُ الدَّراقُطْنِيُّ أيْضًا مِن طَرِيقِ سُلَيْمانَ بْنِ أبِي داوُدَ الحَرّانَيِّ، وهو مَتْرُوكٌ أيْضًا عَنْ سالِمٍ، ونافِعٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:
«وَفِي التَّيَمُّمِ ضَرْبَتانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ» .
قالَ أبُو زُرْعَةَ: حَدِيثٌ باطِلٌ، ورَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ، والحاكِمُ مِن طَرِيقِ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأنْماطِيِّ عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثابِتٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وضَرْبَةٌ لِلذِّراعَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ»، ومِن طَرِيقِ أبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَزْرَةَ بِسَنَدِهِ المَذْكُورِ، قالَ:
«جاءَ رَجُلٌ، فَقالَ: أصابَتْنِي جَنابَةٌ، وإنِّي تَمَعَّكْتُ في التُّرابِ، فَقالَ: اضْرِبْ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الأرْضَ فَمَسَحَ وجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ بِهِما إلى المِرْفَقَيْنِ» .
ضَعَّفَ ابْنُ الجَوْزِيِّ هَذا الحَدِيثَ بِأنَّ فِيهِ عُثْمانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ورُدَّ عَلى ابْنِ الجَوْزِيِّ بِأنَّ عُثْمانَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أحَدٌ، كَما قالَهُ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ، لَكِنَّ رِوايَتَهُ المَذْكُورَةَ شاذَّةٌ؛ لِأنَّ أبا نُعَيْمٍ رَواهُ عَنْ عَزْرَةَ مَوْقُوفًا، أخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ، والحاكِمُ أيْضًا.
وَقالَ الدّارَقُطْنِيُّ في ”حاشِيَةِ السُّنَنِ“، عَقِبَ حَدِيثِ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدٍ: كُلُّهم ثِقاتٌ، والصَّوابُ مَوْقُوفٌ، قالَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّلْخِيصِ“، وقالَ في ”التَّقْرِيبِ“ في عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدٍ المَذْكُورِ مَقْبُولٌ، وقالَ في ”التَّلْخِيصِ“ أيْضًا، وفي البابِ عَنِ الأسْلَعِ، قالَ:
«كُنْتُ أخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَأتاهُ جِبْرِيلُ بِآيَةِ الصَّعِيدِ، فَأرانِي التَّيَمُّمَ، فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ الأرْضَ واحِدَةً، فَمَسَحْتُ بِها وجْهِيَ ثُمَّ ضَرَبْتُ بِها الأرْضَ فَمَسَحْتُ بِها يَدَيَّ إلى المِرْفَقَيْنِ»، رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ، والطَّبَرانِيُّ، وفِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ، وهو ضَعِيفٌ، وعَنْ أبِي أُمامَةَ، رَواهُ الطَّبَرانِيُّ، وإسْنادُهُ ضَعِيفٌ أيْضًا.
وَرَواهُ البَزّارُ، وابْنُ عَدِيٍّ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ مَرْفُوعًا:
«التَّيَمُّمُ ضَرْبَتانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ»، تَفَرَّدَ بِهِ الحَرِيشُ بْنُ الخِرِّيتِ، عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْها قالَ أبُو حاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، والحَرِيشُ شَيْخٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ.
وَحَدِيثُ:
«أنَّهُ ﷺ قالَ لِعَمّارِ بْنِ ياسِرٍ: تَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وضَرْبَةٌ لِلْكَفَّيْنِ»، رَواهُ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والكَبِيرِ، وفِيهِ إبْراهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي يَحْيى، وهو ضَعِيفٌ، ولَكِنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الشّافِعِيِّ.
وَحَدِيثُ عَمّارٍ:
«كُنْتُ في القَوْمِ حِينَ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فَأمَرَنا فَضَرَبْنا واحِدَةً لِلْوَجْهِ، ثُمَّ ضَرْبَةً أُخْرى لِلْيَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ» .
رَواهُ البَزّارُ، ولا شَكَّ أنَّ الرِّوايَةَ المُتَّفَقَ عَلَيْها عَنْ عَمّارٍ أوْلى مِنهُ.
وَقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: أكْثَرُ الآثارِ المَرْفُوعَةِ عَنْ عَمّارٍ ضَرْبَةٌ واحِدَةٌ، وما رُوِيَ عَنْهُ مِن ضَرْبَتَيْنِ فَكُلُّها مُضْطَرِبَةٌ، اهـ، مِنهُ؛ فَبِهَذا كُلُّهُ تَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يَصِحَّ في البابِ إلّا حَدِيثُ عَمّارٍ، وأبِي جُهَيْمٍ المُتَقَدِّمَيْنِ، كَما ذَكَرْنا.
فَإذا عَرَفْتَ نُصُوصَ السُّنَّةِ في المَسْألَةِ فاعْلَمْ أنَّ الواجِبَ في المَسْحِ الكَفّانِ فَقَطْ، ولا يَبْعُدُ ما قالَهُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن وُجُوبِ الكَفَّيْنِ، وسُنِّيَّةِ الذِّراعَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، لِأنَّ الوُجُوبَ دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ في الكَفَّيْنِ.
وَهَذِهِ الرِّواياتُ الوارِدَةُ بِذِكْرِ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ تَدُلُّ عَلى السُّنِّيَّةِ، وإنْ كانَتْ لا يَخْلُو شَيْءٌ مِنها مِن مَقالٍ، فَإنَّ بَعْضَها يَشُدُّ بَعْضًا، لِما تَقَرَّرَ في عُلُومِ الحَدِيثِ مِن أنَّ الطُّرُقَ الضَّعِيفَةَ المُعْتَبَرَ بِها يُقَوِّي بَعْضُها بَعْضًا حَتّى يَصْلُحَ مَجْمُوعُها لِلِاحْتِجاجِ: لا تُخاصِمْ بِواحِدٍ أهْلَ بَيْتٍ، فَضَعِيفانِ يَغْلِبانِ قَوِيًّا، وتَعْتَضِدُ أيْضًا بِالمَوْقُوفاتِ المَذْكُورَةِ.
والأصْلُ إعْمالُ الدَّلِيلَيْنِ، كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ.
* * *المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: هَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ في التَّيَمُّمِ أوْ لا ؟ ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ مِنهُمُ الشّافِعِيُّ وأصْحابُهُ إلى أنَّ تَقْدِيمَ الوَجْهِ عَلى اليَدَيْنِ رُكْنٌ مِن أرْكانِ التَّيَمُّمِ، وحَكى النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ اتِّفاقُ الشّافِعِيَّةِ، وذَهَبَتْ جَماعَةٌ مِنهم مالِكٌ، وجُلُّ أصْحابِهِ إلى أنَّ تَقْدِيمَ الوَجْهِ عَلى اليَدَيْنِ سُنَّةٌ.
وَدَلِيلُ تَقْدِيمِ الوَجْهِ عَلى اليَدَيْنِ أنَّهُ تَعالى قَدَّمَهُ في آيَةِ النِّساءِ، وآيَةِ المائِدَةِ، حَيْثُ قالَ فِيهِما:
﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكُمْ﴾ .
وَقَدْ قالَ ﷺ:
«أبْدَأُ بِما بَدَأ اللَّهُ بِهِ»، يَعْنِي قَوْلَهُ:
﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ﴾ الآيَةَ
[البقرة: ١٥٨]، وفي بَعْضِ رِواياتِهِ ”ابْدَءُوا“ بِصِيغَةِ الأمْرِ، وذَهَبَ الإمامُ أحْمَدُ، ومَن وافَقَهُ إلى تَقْدِيمِ اليَدَيْنِ، مُسْتَدِلًّا بِما ورَدَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ في بابِ ”التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ“، مِن حَدِيثِ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لَهُ:
«إنَّما كانَ يَكْفِيكَ أنَّ تَصْنَعَ هَكَذا، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ ضَرْبَةً عَلى الأرْضِ، ثُمَّ نَفَضَها، ثُمَّ مَسَحَ بِها ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمالِهِ، أوْ ظَهْرَ شِمالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِها وجْهَهُ» الحَدِيثَ.
وَمَعْلُومٌ أنْ ”ثُمَّ“ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وأنَّ الواوَ لا تَقْتَضِيهِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وإنَّما تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ، ولا يُنافِي ذَلِكَ أنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلى أنَّ المَعْطُوفَ بِالواوِ مُؤَخَّرٌ عَمّا قَبْلَهُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ المُتَقَدِّمُ في قَوْلِهِ:
﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ﴾ الآيَةَ، وكَما في قَوْلِ حَسّانَ: [ الوافِرُ ]
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وأجَبْتُ عَنْهُ
عَلى رِوايَةِ ”الواوِ“، فَحَدِيثُ البُخارِيِّ هَذا نَصٌّ في تَقْدِيمِ اليَدَيْنِ عَلى الوَجْهِ، ولِلْإسْماعِيلِيِّ مِن طَرِيقِ هارُونَ الحَمّالِ، عَنْ أبِي مُعاوِيَةَ ما لَفْظُهُ:
«إنَّما يَكْفِيكَ أنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ عَلى الأرْضِ ثُمَّ تَنْفُضَهُما، ثُمَّ تَمْسَحَ بِيَمِينِكَ عَلى شِمالِكَ، وشِمالِكَ عَلى يَمِينِكَ، ثُمَّ تَمْسَحَ عَلى وجْهِكَ» قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“، وأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى تَقْدِيمِ الوَجْهِ مَعَ الِاخْتِلافِ في وُجُوبِ ذَلِكَ، وسُنِّيَّتِهِ.
(١)
(١) اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله