الباحث القرآني

فَلَمّا أتَمَّ ما ألْزَمَهُ نَفْسَهُ الأقْدَسَ مِن عَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ فَضْلًا مِنهُ؛ أتْبَعَهُ الأمْرَ بِالوَفاءِ بِعَهْدِ العُبُودِيَّةِ؛ وقَدَّمَ مِنهُ الصَّلاةَ؛ لِأنَّها أشْرَفُهُ بَعْدَ الإيمانِ؛ وقَدَّمَ الوُضُوءَ؛ لِأنَّهُ شَرْطُها؛ فَقالَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أيْ: أقَرُّوا بِهِ؛ صَدِّقُوهُ بِأنَّكُمْ؛ ﴿إذا﴾؛ عَبَّرَ بِأداةِ التَّحْقِيقِ؛ بِشارَةً بِأنَّ الأُمَّةَ مُطِيعَةٌ؛ ﴿قُمْتُمْ﴾؛ أيْ: بِالقُوَّةِ؛ وهي العَزْمُ الثّابِتُ عَلى القِيامِ؛ الَّذِي هو سَبَبُ القِيامِ؛ ﴿إلى الصَّلاةِ﴾؛ أيْ: جِنْسِها؛ مُحْدِثِينَ؛ لِما بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِجَمْعِهِ بَعْدَهُ صَلَواتٍ بِوُضُوءٍ واحِدٍ؛ وإنْ كانَ التَّجْدِيدُ أكْمَلَ؛ وخُصَّتِ الصَّلاةُ ومَسُّ المُصْحَفِ مِن بَيْنِ الأعْمالِ؛ بِالأمْرِ بِالوُضُوءِ؛ تَشْرِيفًا لَهُما؛ ويَزِيدُ حَمْلَ الإيمانِ عَلى الصَّلاةِ حُسْنًا تَقَدُّمُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]؛ الثّابِتُ أنَّها نَزَلَتْ عَلى النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ عَصْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ والنَّبِيُّ ﷺ عَلى ناقَتِهِ يَخْطُبُ؛ وكانَ مِن خُطْبَتِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ؛ أوْ في يَوْمِ النَّحْرِ؛ أوْ في كِلَيْهِما: «”ألا إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ؛ ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ“؛» رَواهُ أحْمَدُ؛ ومُسْلِمٌ؛ في صِفَةِ القِيامَةِ؛ (p-٣١)والتِّرْمِذِيُّ عَنْ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَقَوْلُهُ: ”المُصَلُّونَ“؛ إشارَةٌ إلى أنَّ الماحِيَ لِلشِّرْكِ هو الصَّلاةُ؛ فَما دامَتْ قائِمَةً فَهو زائِلٌ؛ ومَتى زالَتْ - والعِياذُ بِاللَّهِ - رَجَعَ؛ وإلى ذَلِكَ يُشِيرُ ما رَواهُ مُسْلِمٌ؛ في صَحِيحِهِ؛ وأصْحابُ السُّنَنِ الأرْبَعَةُ؛ عَنْ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «”بَيْنَ العَبْدِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ“؛» ولِلْأرْبَعَةِ؛ وابْنِ حِبّانَ في صَحِيحِهِ؛ والحاكِمِ؛ عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «”الَّذِي بَيْنَنا وبَيْنَهُمُ الصَّلاةَ؛ فَمَن تَرَكَها فَقَدْ كَفَرَ“؛» ولِأبِي يَعْلى؛ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ؛ عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «”إنَّ أوَّلَ ما افْتَرَضَ اللَّهُ عَلى النّاسِ مِن دِينِهِمُ الصَّلاةُ؛ وآخِرَ ما يَبْقى الصَّلاةُ“؛» ولَمّا كانَ الوُضُوءُ في سُورَةِ ”النِّساءِ“؛ إنَّما هو عَلى سَبِيلِ الإشارَةِ إجْمالًا؛ صَرَّحَ بِهِ هُنا عَلى سَبِيلِ الأمْرِ؛ وفَصَّلَهُ؛ فَقالَ - مُجِيبًا لِلشَّرْطِ؛ إعْلامًا بِأنَّ الأمْرَ بِالوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأمْرِ بِالصَّلاةِ؛ لِأنَّ المُعَلَّقَ عَلى الشَّيْءِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ -: ﴿فاغْسِلُوا﴾؛ أيْ: لِأجْلِ إرادَةِ الصَّلاةِ؛ ومِن هُنا يُعْلَمُ وُجُوبُ النِّيَّةِ؛ لِأنَّ فِعْلَ العاقِلِ لا يَكُونُ إلّا مَقْصُودًا؛ وفِعْلَ المَأْمُورِ بِهِ لِأجْلِ الأمْرِ هو النِّيَّةُ؛ ﴿وُجُوهَكُمْ﴾ وحَدُّ الوَجْهِ مَنابِتُ شَعْرِ الرَّأْسِ؛ ومُنْتَهى الذَّقَنِ طُولًا؛ وما بَيْنَ الأُذُنَيْنِ عَرْضًا؛ ولَيْسَ مِنهُ داخِلُ العَيْنِ؛ وإنْ كانَ مَأْخُوذًا مِنَ المُواجَهَةِ؛ لِأنَّهُ مِنَ الحَرَجِ؛ (p-٣٢)وكَذا إيصالُ الماءِ إلى البَشَرَةِ؛ إذا كَثَفَتِ اللِّحْيَةُ خَفَّفَ لِلْحَرَجِ؛ واكْتَفى عَنْهُ بِظاهِرِ اللِّحْيَةِ؛ وأمّا العَنْفَقَةُ ونَحْوُها مِنَ الشَّعْرِ الخَفِيفِ فَيَجِبُ؛ ﴿وأيْدِيَكُمْ﴾؛ ولَمّا كانَتِ اليَدُ تُطْلَقُ عَلى ما بَيْنَ المَنكِبِ؛ ورُؤُوسِ الأصابِعِ؛ قالَ - مُبَيِّنًا أنَّ ابْتِداءَ الغَسْلِ يَكُونُ مِنَ الكَفَّيْنِ؛ لِأنَّهُما لِعِظَمِ النَّفْعِ أوْلى بِالِاسْمِ -: ﴿إلى المَرافِقِ﴾؛ أيْ: آخِرِها؛ أخْذًا مِن بَيانِ النَّبِيِّ ﷺ بِفِعْلِهِ؛ فَإنَّهُ كانَ يُدِيرُ الماءَ عَلى مِرْفَقَيْهِ؛ وإنَّما كانَ الِاعْتِمادُ عَلى البَيانِ لِأنَّ الغايَةَ تارَةً تَدُلُّ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ [الإسراء: ١]؛ وتارَةً لا تَدْخُلُ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] والمِرْفَقُ مُلْتَقى العَظْمَيْنِ؛ وعُفِيَ عَمّا فَوْقَ ذَلِكَ؛ تَخْفِيفًا؛ ﴿وامْسَحُوا﴾؛ ولَمّا عَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ الفِعْلِ إلى الرَّأْسِ؛ فَلَمْ يَفْعَلْ كَما فَعَلَ في الغَسْلِ مَعَ الوَجْهِ؛ بَلْ أتى بِالباءِ؛ فَقالَ: ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾؛ عُلِمَ أنَّ المُرادَ إيجادُ ما يُسَمّى مَسْحًا في أيِّ مَوْضِعٍ كانَ مِنَ الرَّأْسِ؛ دُونَ خُصُوصِ التَّعْمِيمِ؛ وهو مَعْنى قَوْلِ الكَشّافِ: المُرادُ إلْصاقُ المَسْحِ بِالرَّأْسِ؛ وماسِحُ بَعْضِهِ؛ ومُسْتَوْعِبُهُ بِالمَسْحِ؛ كِلاهُما مُلْصِقٌ لِلْمَسْحِ. ولَمّا كانَ غَسْلُ الرِّجْلِ مَظِنَّةَ الإسْرافِ؛ فَكانَ مَأْمُورًا بِالِاقْتِصادِ فِيهِ؛ وكانَ المَسْحُ عَلى الخُفِّ سائِغًا؛ كافِيًا؛ قُرِئَ: ”وأرْجُلِكُمْ“؛ بِالجَرِّ؛ عَلى المُجاوَرَةِ؛ إشارَةً إلى ذَلِكَ؛ أوْ لِأنَّ الغاسِلَ يُدَلِّكُ في الأغْلَبِ؛ (p-٣٣)قالَ في القامُوسِ: ”المَسْحُ“؛ كَـ ”المَنعُ“: إمْرارُ اليَدِ عَلى الشَّيْءِ السّائِلِ؛ فَيَكُونُ في ذَلِكَ إشارَةٌ أيْضًا إلى اسْتِحْبابِ الدَّلْكِ؛ والقَرِينَةُ الدّالَّةُ عَلى اسْتِعْمالِ هَذا المُشْتَرَكِ في أحَدِ المَعْنَيَيْنِ قِراءَةُ النَّصْبِ؛ وبَيانُ النَّبِيِّ ﷺ؛ ومَرَّ اسْتِعْمالُهُ فِيهِ؛ وفِيهِ الإشارَةُ إلى الرِّفْقِ بِالنَّصْبِ عَلى الأصْلِ. ولَمّا كانَتِ الرِّجْلُ مِن مَوْضِعِ الِانْشِعابِ؛ مِنَ الأسْفَلِ إلى آخِرِها؛ خَصَّ بِقَوْلِهِ - دالًّا بِالغايَةِ عَلى أنَّ المُرادَ الغَسْلُ؛ كَما مَضى في المَرافِقِ؛ لِأنَّ المَسْحَ لَمْ يُرَدْ فِيهِ غايَةٌ في الشَّرِيعَةِ؛ وعَلى أنَّ ابْتِداءَ الغَسْلِ يَكُونُ مِن رُؤُوسِ الأصابِعِ؛ لِأنَّ القَدَمَ بِعِظَمِ نَفْعِهِ أوْلى بِاسْمِ الرِّجْلِ -: ﴿إلى الكَعْبَيْنِ﴾؛ وهُما العَظْمانِ النّاتِئانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السّاقِ؛ والقَدَمِ؛ وثَنّى إشارَةً إلى أنَّ لِكُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ؛ ولَوْ قِيلَ: ”إلى الكِعابِ“؛ لَفُهِمَ أنَّ الواجِبَ كَعْبٌ واحِدٌ مِن كُلِّ رِجْلٍ - كَما ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ في مُقابَلَةِ الجَمْعِ بِالجَمْعِ؛ مِن حَرْفِ المِيمِ؛ مِن قَواعِدِهِ؛ والفَصْلُ بِالمَسْحِ بَيْنَ المَغْسُولاتِ مُعْلِمٌ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ؛ لِأنَّ عادَةَ العَرَبِ - كَما نَقَلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ؛ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“؛ عَنِ الأصْحابِ - أنَّها لا تَفْعَلُ ذَلِكَ إلّا لِلْإعْلامِ بِالتَّرْتِيبِ؛ وقالَ غَيْرُهُ - مُعَلِّلًا لِما ألْزَمَتْهُالعَرَبُ -: تَرْكُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ؛ بِذِكْرِ كُلٍّ مِنهُما عَلى حِدَتِهِ؛ مُسْتَهْجَنٌ في الكَلامِ البَلِيغِ لِغَيْرِ فائِدَةٍ؛ فَوَجَبَ تَنْزِيهُ كَلامِ اللَّهِ (p-٣٤)عَنْهُ أيْضًا؛ فَدَلالَةُ الآيَةِ عَلى وُجُوبِ البَداءَةِ بِالوَجْهِ؛ مِمّا لا مَدْفَعَ لَهُ لِتَرْتِيبِها لَهُ؛ بِالحِراسَةِ عَلى الشَّرْطِ بِالفاءِ؛ وذَلِكَ مُقْتَضٍ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ في الباقِي؛ إذْ لا قائِلَ بِالوُجُوبِ بِالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ؛ ولَعَلَّ تَكْرِيرَ الأمْرِ بِالغَسْلِ والتَّيَمُّمِ لِلِاهْتِمامِ بِهِما؛ ولِلتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ في التَّوْسِعَةِ بِالتَّيَمُّمِ؛ وأنَّ حُكْمَهُ باقٍ عِنْدَ أمْنِهِمْ وسَعَتِهِمْ؛ كَراهَةَ أنْ يُظَنَّ أنَّهُ إنَّما كانَ عِنْدَ خَوْفِهِمْ؛ وقِلَّتِهِمْ؛ وضِيِقِ التَّبَسُّطِ في الأرْضِ؛ لِظُهُورِ الكُفّارِ وغَلَبَتِهِمْ؛ كَما كانَتِ المُتْعَةُ تُباحُ تارَةً؛ وتُمْنَعُ أُخْرى؛ نَظَرًا إلى الحاجَةِ وفَقْدِها؛ ولِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ مِن خَصائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ والإعْلامِ بِأنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ولا بِشَيْءٍ مِنَ المَأْمُوراتِ والمَنهِيّاتِ قَبْلَهُ الحَرَجَ؛ وإنَّما أرادَ طَهارَةَ الباطِنِ والظّاهِرِ مِن أدْناسِ الذُّنُوبِ؛ وأوْضارِ الخَلائِقِ السّالِفَةِ؛ فَقالَ (تَعالى) - مُعَبِّرًا بِأداةِ الشَّكِّ؛ إشارَةً إلى أنَّهُ قَدْ يَقَعُ؛ وقَدْ لا يَقَعُ؛ وهو نادِرٌ؛ عَلى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ؛ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: ”هَذا إنْ كُنْتُمْ مُحْدِثِينَ حَدَثًا أصْغَرَ -: ﴿وإنْ كُنْتُمْ﴾؛ أيْ: حالَ القَصْدِ لِلصَّلاةِ؛ ﴿جُنُبًا﴾؛ أيْ: مُمْنِينَ بِاحْتِلامٍ؛ أوْ غَيْرِهِ؛ ﴿فاطَّهَّرُوا﴾؛ أيْ: بِالغُسْلِ؛ إنْ كُنْتُمْ خالِينَ عَنْ عُذْرٍ؛ لِجَمِيعِ البَدَنِ؛ لِأنَّهُ أطْلَقَ ولَمْ يَخُصَّ بِبَعْضِ الأعْضاءِ؛ كَما في الوُضُوءِ. ولَمّا أتَمَّ أمْرَ الطَّهارَةِ عَزِيمَةً بِالماءِ؛ مِنَ الغُسْلِ؛ والوُضُوءِ؛ وبَدَأ بِالوُضُوءِ لِعُمُومِهِ؛ ذَكَرَ الطَّهارَةَ رُخْصَةً بِالتُّرابِ؛ فَقالَ - مُعَبِّرًا بِأداةِ الشَّكِّ؛ إشارَةً إلى أنَّ الرَّخاءَ أكْثَرُ مِنَ الشِّدَّةِ -: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾؛ أيْ (p-٣٥)بِجِراحٍ؛ أوْ غَيْرِهِ؛ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً؛ حِسًّا أوْ مَعْنًى؛ بِعَدَمِ القُدْرَةِ عَلى اسْتِعْمالِهِ؛ وأنْتُمْ جُنُبٌ؛ ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾؛ طَوِيلٍ؛ أوْ قَصِيرٍ كَذَلِكَ؛ ولَمّا ذَكَرَ الأكْبَرَ أتْبَعَهُ الأصْغَرَ؛ فَقالَ: ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ﴾؛ وهو غَيْرُ جُنُبٍ؛ ﴿مِنَ الغائِطِ﴾؛ أيْ: المَوْضِعِ المُطْمَئِنِّ مِنَ الأرْضِ؛ وهو أيُّ مَكانٍ لِلتَّخَلِّي؛ أيْ: قَضَيْتُمْ حاجَةَ الإنْسانِ؛ الَّتِي لا بُدَّ لَهُ مِنها؛ ويُنَزِّهُ الكِتابَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِها؛ لِأنَّها مِنَ النَّقائِصِ المُذَكِّرَةِ لَهُ بِشَدِيدِ عَجْزِهِ؛ وعَظِيمِ ضَرُورَتِهِ؛ وفَقْرِهِ؛ لِيَكُفَّ مِن إعْجابِهِ؛ وكِبَرِهِ؛ وتَرَفُّعِهِ؛ وفُجْرِهِ؛ كَما ورَدَ أنَّ بَعْضَ الأُمَراءِ لَقِيَ بَعْضَ البُلْهِ في طَرِيقٍ؛ فَلَمْ يُفْسِحْ لَهُ؛ فَغَضِبَ؛ وقالَ: كَأنَّكَ ما تَعْرِفُنِي؟ فَقالَ: بَلى واللَّهِ؛ إنِّي لِأعْرِفُكَ؛ أوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ؛ وآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ؛ وأنْتِ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِلُ العُذْرَةَ. ولَمّا ذَكَرَ ما يَخُصُّ الأصْغَرَ؛ ذَكَرَ ما يَعُمُّ الأكْبَرَ؛ فَقالَ: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾؛ أيْ: بِالذَّكَرِ؛ أوْ غَيْرِهِ؛ أمْنَيْتُمْ؛ أوْ لا؛ ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾؛ أيْ: حِسًّا؛ أوْ مَعْنًى؛ بِالعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمالِهِ؛ لِلْمَرَضِ بِجُرْحٍ؛ أوْ غَيْرِهِ؛ ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾؛ أيْ: اقْصِدُوا قَصْدًا مُتَعَمَّدًا؛ ﴿صَعِيدًا﴾؛ أيْ: تُرابًا؛ ﴿طَيِّبًا﴾؛ أيْ: طَهُورًا؛ خالِصًا؛ ﴿فامْسَحُوا﴾ (p-٣٦)ولَمّا كانَ التُّرابُ لِكَثافَتِهِ لا يَصِلُ إلى ما يَصِلُ إلَيْهِ الماءُ بِلَطافَتِهِ؛ قَصَرَ الفِعْلَ؛ وعَدّاهُ بِالحَرْفِ؛ إشارَةً إلى الِاكْتِفاءِ بِمَرَّةٍ؛ والعَفْوِ عَنِ المُبالَغَةِ؛ وبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أنَّ المُرادَ جَمِيعُ العُضْوِ؛ فَقالَ: ﴿بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم مِنهُ﴾؛ أيْ: حالَ النِّيَّةِ؛ الَّتِي هي القَصْدُ؛ الَّذِي هو التَّيَمُّمُ؛ ثُمَّ أشارَ لَهم إلى حِكْمَتِهِ - سُبْحانَهُ - في هَذِهِ الرُّخْصَةِ؛ فَقالَ - مُسْتَأْنِفًا -: ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الغَنِيُّ الغِنى المُطْلَقَ؛ ﴿لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ﴾؛ وأغْرَقَ في النَّفْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن حَرَجٍ﴾؛ أيْ: ضِيقٍ؛ عِلْمًا مِنهُ بِضَعْفِكُمْ؛ فَسَهَّلَ عَلَيْكم ما كانَ عَسَّرَهُ عَلى مَن كانَ قَبْلَكُمْ؛ وإكْرامًا لَكُمْ؛ لِأجْلِ نَبِيِّكم ﷺ؛ فَلَمْ يَأْمُرْكم إلّا بِما يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ؛ لِيَقِلَّ عاصِيكُمْ؛ ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾؛ أيْ: ظاهِرًا؛ وباطِنًا؛ بِالماءِ؛ والتُّرابِ؛ وامْتِثالِ الأمْرِ عَلى ما شَرَعَهُ - سُبْحانَهُ -؛ عَقَلْتُمْ مَعْناهُ؛ أوْ لا؛ مَعَ تَسْهِيلِ الأوامِرِ والنَّواهِي؛ لِكَيْلا يُوقِعَكُمُ التَّشْدِيدُ في المَعْصِيَةِ؛ الَّتِي هي رِجْسُ الباطِنِ؛ ﴿ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ﴾؛ أيْ: في التَّخْفِيفِ في العَزائِمِ؛ ثُمَّ في الرُّخَصِ؛ وفي وعْدِكم بِالأُجُورِ عَلى ما شَرَعَ لَكم مِنَ الأفْعالِ؛ ﴿عَلَيْكُمْ﴾؛ لِأجْلِ تَسْهِيلِها؛ لِيَكُونَ فِعْلُكم لَها؛ واسْتِحْقاقُكم لِما رُتِّبَ عَلَيْها مِنَ الأجْرِ؛ مَقْطُوعًا بِهِ؛ إلّا لِمَن لَجَّ طَبْعُهُ في العِوَجِ؛ وتَمادى في الغَوايَةِ؛ والجَهْلِ؛ والبَطَرِ؛ ﴿لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾؛ أيْ: وفَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ هَذا التَّسْهِيلَ وغَيْرَهُ؛ لِيَكُونَ حالُكُمْ؛ لَمّا سَهَّلَ (p-٣٧)عَلَيْكُمْ؛ حالَ مَن يُرْجى صَرْفُهُ لِنِعَمِ رَبِّهِ عَلَيْهِ؛ في طاعَتِهِ المُسَهَّلَةِ لَهُ؛ المُحَبَّبَةِ إلَيْهِ؛ رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ؛ وغَيْرُهُ؛ «عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ:“خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في بَعْضِ أسْفارِهِ؛ حَتّى إذا كُنّا بِالبَيْداءِ؛ أوْ بِذاتِ الجَيْشِ؛ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي؛ فَأقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى التِماسِهِ؛ وأقامَ النّاسُ مَعَهُ؛ ولَيْسُوا عَلى ماءٍ؛ ولَيْسَ مَعَهم ماءٌ؛ وفي رِوايَةٍ: سَقَطَتْ قِلادَةٌ لِي بِالبَيْداءِ؛ ونَحْنُ داخِلُونَ المَدِينَةَ؛ فَأناخَ النَّبِيُّ ﷺ؛ ونَزَلَ؛ فَثَنى رَأْسَهُ في حِجْرِي راقِدًا؛ فَأتى النّاسُ إلى أبِي بَكْرٍ؛ فَقالُوا: ألا تَرى ما صَنَعَتْ عائِشَةُ ؟ فَجاءَ أبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً؛ وقالَ: حَبَسْتِ النَّبِيَّ ﷺ في قِلادَةٍ؛ فَبِيَ المَوْتُ لِمَكانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ وقَدْ أوْجَعَنِي؛ ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَيْقَظَ؛ وحَضَرَتِ الصُّبْحُ؛ فالتَمَسَ الماءَ؛ فَلَمْ يُوجَدْ؛ فَنَزَلَتْ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ ”؛ وفي رِوايَةٍ:“فَأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ: ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾؛ فَقالَ أسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: لَقَدْ بارَكَ اللَّهُ لِلنّاسِ فِيكم يا آلَ أبِي بَكْرٍ؛ ما أنْتُمْ إلّا بَرَكَةٌ لَهُمْ”؛ وفي رِوايَةٍ:“ما هي بِأوَّلِ بَرَكَتِكم يا آلَ أبِي بَكْرٍ؛ قالَتْ: فَبَعَثْنا البَعِيرَ الَّذِي (p-٣٨)كُنْتُ عَلَيْهِ؛ فَإذا العِقْدُ تَحْتَهُ”؛» وفي رِوايَةِ لَهُ عَنْها؛ في النِّكاحِ؛ «أنَّها اسْتَعارَتْ مِن أسْماءَ قِلادَةً؛ فَهَلَكَتْ؛ فَأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ناسًا مِن أصْحابِهِ في طَلَبِها؛ فَأدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ؛ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ؛ فَلَمّا أتَوُا النَّبِيَّ ﷺ شَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ؛ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ؛ فَقالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: جَزاكِ اللَّهُ خَيْرًا؛ فَواللَّهِ ما نَزَلَ بِكِ أمْرٌ قَطُّ إلّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنهُ مَخْرَجًا؛ وجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً؛» وهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ“النِّساءِ"؛ فَكانَتْ تِلْكَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِتَأْكِيدِ هَذا الحُكْمِ؛ ومَزِيدِ الِامْتِنانِ بِهِ؛ لِما فِيهِ مِن عَظِيمِ اليُسْرِ؛ ولِيَحْصُلَ في التَّيَمُّمِ مِنَ الجَنابَةِ نَصٌّ خاصٌّ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ أفْخَمَ لِشَأْنِها؛ وأدَلَّ عَلى الِاهْتِمامِ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب