الباحث القرآني

قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة﴾ يَعْنِي: إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَذَلِكَ مثل قَوْله: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه﴾ أَي: فَإِذا أردْت الْقِرَاءَة. تَقول: إِذا اتجرت فاتجر إِلَى الْبر، وَإِذا جالست، فجالس فلَانا، أَي: إِذا أردْت المجالسة. وَظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَنه يجب الْوضُوء عِنْد كل قيام إِلَى الصَّلَاة، وَلَكِن بِالسنةِ عرفنَا جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَوَات بِوضُوء وَاحِد، فَإِن رَسُول الله جمع بَين أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق بِوضُوء وَاحِد وَجمع بَين خمس صلوَات يَوْم فتح مَكَّة ﴿أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق﴾ بِوضُوء وَاحِد، وَحكى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الْوضُوء لكل صَلَاة مَكْتُوبَة. وَقيل: هُوَ على الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ زيد بن أسلم: تَقْدِير الْآيَة: إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة من الْمضَاجِع - يَعْنِي: من النّوم - فَيكون إِيجَاب الْوضُوء بِالْحَدَثِ؛ لِأَن النّوم حدث. ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق﴾ يَعْنِي: مَعَ الْمرَافِق، قَالَ الْمبرد: إِذا مد الشَّيْء إِلَى جنسه تدخل فِيهِ الْغَايَة، وَإِذا مد إِلَى خلاف جنسه، لَا تدخل فِيهِ الْغَايَة، فَقَوله: ﴿إِلَى الْمرَافِق﴾ مد إِلَى جنسه، فَتدخل فِيهِ الْغَايَة. وَأما قَوْله: ﴿ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل﴾ مد إِلَى خلاف جنسه، فَلَا تدخل فِيهِ الْغَايَة. والمرفق سمى بذلك؛ لارتفاق الْإِنْسَان بِهِ بالاتكاء عَلَيْهِ. ﴿وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ قَرَأَ نَافِع، وَابْن عَامر، وَالْكسَائِيّ، وَحَفْص: بِالنّصب؛ فَيكون تَقْدِيره: فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ وأرجلكم، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ ﴿وأرجلكم﴾ بِالْكَسْرِ. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب غسل الرجل، فَأكْثر الْعلمَاء - وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع الْيَوْم - أَن غسل الرجل وَاجِب، ويحكى عَن عَليّ أَنه قَالَ: يجوز الْمسْح على الرجل، وَهُوَ الْوَاجِب، وَحكى خلاف عَنهُ، قَالَ الشّعبِيّ: نزل الْقُرْآن بغسلين ومسحين، وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: يتَخَيَّر بَين الْمسْح وَالْغسْل؛ لاخْتِلَاف الْقِرَاءَة. وَالأَصَح أَنه يجب الْغسْل، وَقد دلّت السّنة عَلَيْهِ، فروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ﴿وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا وَإِن كُنْتُم﴾ " ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار " وَرُوِيَ مَرْفُوعا: " لَا يقبل الله - تَعَالَى - صَلَاة أحدكُم حَتَّى يضع الطّهُور موَاضعه؛ فَيغسل وَجهه، ثمَّ يَدَيْهِ، ثمَّ يمسح بِرَأْسِهِ، ثمَّ يغسل رجلَيْهِ ". وَقَالَ: " مَا من رجل يتَوَضَّأ فَيغسل وَجهه إِلَّا (خرجت) خطاياه الَّتِي نظر إِلَيْهَا بِعَيْنيهِ مَعَ المَاء أَو مَعَ آخر قطر من المَاء - إِلَى أَن قَالَ -: وَإِذا غسل رجلَيْهِ، خرجت خطاياه الَّتِي مشت بهَا قدمه مَعَ المَاء، أَو مَعَ آخر قَطْرَة من المَاء "، وروى: " أَنه رأى رجلا تَوَضَّأ، وَبَقِي من رجله قدر ظفره لم يصبهُ المَاء؛ فَقَالَ: ارْجع فَأحْسن الْوضُوء " وَأمره بِالرُّجُوعِ دَلِيل وجوب. فَأَما قَوْله: ﴿وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ من قَرَأَ بِالنّصب فَهُوَ ظَاهر فِي وجوب الْغسْل، وَأما من قَرَأَ بالخفض فتقديره: فامسحوا برءوسكم، واغسلوا أَرْجُلكُم. وَيجوز أَن يعْطف الشَّيْء على الشَّيْء وَإِن كَانَ يُخَالِفهُ فِي الْفِعْل، قَالَ الشَّاعِر: (وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا) أَي: مُتَقَلِّدًا سَيْفا، ومتنكبا رمحا، وَقَالَ آخر: (علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا ... ) أَي: وسقيتها ماءا بَارِدًا؛ فَكَذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وامسحوا برءوسكم وأرجلكم﴾ أَي: واغسلوا أَرْجُلكُم؛ إِلَّا أَنه خفض على الِاتِّبَاع والمجاورة كَمَا قَالَت الْعَرَب: " جُحر ضَب خرب "، وَنَحْو ذَلِك. وَقَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ - وَهُوَ إِمَام اللُّغَة - الْعَرَب قد تسمي الْغسْل الْخَفِيف: مسحا، تَقول الْعَرَب: تمسح يَا هَذَا، يُرِيدُونَ بِهِ: اغْتسل، فعطفه على الْمسْح لَا يَنْفِي الْغسْل؛ فَيجوز أَن يكون المُرَاد بِهَذَا الْمسْح فِي الرَّأْس حَقِيقَة الْمسْح، وَفِي الرجل الْغسْل؛ وَلِأَن غسل الرجل على الْأَغْلَب لَا يَخْلُو عَن مسح؛ [وَلذَلِك] فساغ أَن يُسمى غسلهَا: مسحا، وَقَوله: ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ يَعْنِي: مَعَ الْكَعْبَيْنِ، كَمَا بَينا فِي الْمرَافِق، والكعبان: هما العظمان الناتئان على جَانِبي الْقدَم. ﴿وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا﴾ أَي: فاغتسلوا ﴿وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا﴾ وَقد بَينا الْكَلَام فِيهِ. ﴿فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ وَقَوله: مِنْهُ. دَلِيل على أَن الصَّعِيد هُوَ التُّرَاب؛ لتحَقّق الْمسْح مِنْهُ ﴿مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج﴾ أَي: ضيق ﴿وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ قَالَ مُحَمَّد ابْن كَعْب الْقرظِيّ: أَرَادَ بإتمام النِّعْمَة: تَكْفِير الْخَطَايَا بِالْوضُوءِ على مَا روينَا، وَهَذَا مثل قَوْله: ﴿ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته عَلَيْك﴾ يَعْنِي: بغفران الذَّنب، وَفِي الْوضُوء تَكْفِير الْخَطَايَا الَّتِي ارتكبها فِي الدُّنْيَا، وَنور يَوْم الْقِيَامَة قَالَ: " أمتِي غر محجلون من آثَار الْوضُوء يَوْم الْقِيَامَة؛ فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يُطِيل غرته فَلْيفْعَل ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب