الباحث القرآني
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ لَيْسَ نَفْسَ القِيامِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ ذَلِكَ لَزِمَ تَأْخِيرُ الوُضُوءِ عَنِ الصَّلاةِ، وأنَّهُ باطِلٌ بِالإجْماعِ.
الثّانِي: أنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لَوْ غَسَلَ الأعْضاءَ قَبْلَ الصَّلاةِ قاعِدًا أوْ مُضْطَجِعًا لَكانَ قَدْ خَرَجَ عَنِ العُهْدَةِ، بَلِ المُرادُ مِنهُ: إذا شَمَّرْتُمْ (p-١١٩)لِلْقِيامِ إلى الصَّلاةِ وأرَدْتُمْ ذَلِكَ، وهَذا وإنْ كانَ مَجازًا إلّا أنَّهُ مَشْهُورٌ مُتَعارَفٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الإرادَةَ الجازِمَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الفِعْلِ، وإطْلاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلى المُسَبِّبِ مَجازٌ مَشْهُورٌ.
الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ﴾ [النِّساءِ: ٣٤] ولَيْسَ المُرادُ مِنهُ القِيامَ الَّذِي هو الِانْتِصابُ، يُقالُ: فُلانٌ قائِمٌ بِذَلِكَ الأمْرِ، قالَ تَعالى: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨] ولَيْسَ المُرادُ مِنهُ البَتَّةَ الِانْتِصابَ، بَلِ المُرادُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لِذَلِكَ الفِعْلِ مُتَهَيِّئًا لَهُ مُسْتَعِدًّا لِإدْخالِهِ في الوُجُودِ، فَكَذا هَهُنا قَوْلُهُ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ مَعْناهُ إذا أرَدْتُمْ أداءَ الصَّلاةِ والِاشْتِغالَ بِإقامَتِها.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ قَوْمٌ: الأمْرُ بِالوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأمْرِ بِالصَّلاةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، واحْتَجُّوا بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا﴾ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، الشَّرْطُ فِيها القِيامُ إلى الصَّلاةِ، والجَزاءُ الأمْرُ بِالغَسْلِ، والمُعَلَّقُ عَلى الشَّيْءِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ بِالوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأمْرِ بِالصَّلاةِ. وقالَ آخَرُونَ: المَقْصُودُ مِنَ الوُضُوءِ الطَّهارَةُ، والطَّهارَةُ مَقْصُودَةٌ بِذاتِها بِدَلِيلِ القُرْآنِ والخَبَرِ، أمّا القُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ: ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وأمّا الحَدِيثُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«بُنِيَ الدِّينُ عَلى النَّظافَةِ» “ وقالَ: ”«أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِن آثارِ الوُضُوءِ يَوْمَ القِيامَةِ» “ ولِأنَّ الأخْبارَ الكَثِيرَةَ وارِدَةٌ في كَوْنِ الوُضُوءِ سَبَبًا لِغُفْرانِ الذُّنُوبِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ داوُدُ: يَجِبُ الوُضُوءُ لِكُلِّ صَلاةٍ، وقالَ أكْثَرُ الفُقَهاءِ: لا يَجِبُ. احْتَجَّ داوُدُ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ ظاهِرَ لَفْظِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ قِيامًا واحِدًا وصَلاةً واحِدَةً، فَيَكُونَ المُرادُ مِنهُ الخُصُوصَ، أوْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ العُمُومَ، والأوَّلُ باطِلٌ لِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الآيَةُ مُجْمَلَةً لِأنَّ تَعْيِينَ تِلْكَ المَرَّةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ في الآيَةِ، وحَمْلُ الآيَةِ عَلى الإجْمالِ إخْراجٌ لَها عَنِ الفائِدَةِ، وذَلِكَ خِلافُ الأصْلِ.
وثانِيها: أنَّهُ يَصِحُّ إدْخالُ الِاسْتِثْناءِ عَلَيْهِ، ومِن شَأْنِهِ إخْراجُ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ، وذَلِكَ يُوجِبُ العُمُومَ.
وثالِثُها: أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالوُضُوءِ غَيْرُ مَقْصُورٍ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى مَرَّةٍ واحِدَةٍ ولا عَلى شَخْصٍ واحِدٍ، وإذا بَطَلَ هَذا وجَبَ حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ عِنْدَ كُلِّ قِيامٍ إلى الصَّلاةِ، إذْ لَوْ لَمْ تُحْمَلْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى هَذا المَحْمَلِ لَزِمَ احْتِياجُ هَذِهِ الآيَةِ في دَلالَتِها عَلى ما هو مُرادُ اللَّهِ تَعالى إلى سائِرِ الدَّلائِلِ، فَتَصِيرُ هَذِهِ الآيَةُ وحْدَها مُجْمَلَةً، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ خِلافُ الأصْلِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيامٍ إلى الصَّلاةِ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنّا نَسْتَفِيدُ هَذا العُمُومَ مِن إيماءِ اللَّفْظِ، وذَلِكَ لِأنَّ الصَّلاةَ اشْتِغالٌ بِخِدْمَةِ المَعْبُودِ، والِاشْتِغالُ بِالخِدْمَةِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِأقْصى ما يَقْدِرُ العَبْدُ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْظِيمِ، ومِن وُجُوهِ التَّعْظِيمِ كَوْنُهُ آتِيًا بِالخِدْمَةِ حالَ كَوْنِهِ في غايَةِ النَّظافَةِ، ولا شَكَّ أنَّ تَجْدِيدَ الوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيامٍ إلى الصَّلاةِ مُبالَغَةٌ في النَّظافَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ عَقِيبَ الوَصْفِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ ذَلِكَ الحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوَصْفِ المُناسِبِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ الحُكْمِ لِعُمُومِهِ، فَيَلْزَمُ وُجُوبُ الوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيامٍ إلى الصَّلاةِ. ثُمَّ قالَ داوُدُ: ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ ورَدَ في القِراءَةِ الشّاذَّةِ: إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ وأنْتُمْ مُحْدِثُونَ، أوْ يُقالُ: إنّا نَتْرُكُ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ لِوُرُودِ خَبَرِ الواحِدِ عَلى خِلافِهِ، قالَ: أمّا القِراءَةُ الشّاذَّةُ فَمَرْدُودَةٌ قَطْعًا، لِأنّا إنْ جَوَّزْنا ثُبُوتَ قُرْآنٍ غَيْرِ مَنقُولٍ بِالتَّواتُرِ لَزِمَ الطَّعْنُ في كُلِّ القُرْآنِ، وهو أنْ يُقالَ: إنَّ القُرْآنَ كانَ أكْثَرَ مِمّا هو الآنَ بِكَثِيرٍ إلّا أنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وأيْضًا فَلِأنَّ (p-١٢٠)مَعْرِفَةَ أحْوالِ الوُضُوءِ مِن أعْظَمِ ما عَمَّ بِهِ البَلْوى، ومِن أشَدِّ الأُمُورِ الَّتِي يَحْتاجُ كُلُّ أحَدٍ إلى مَعْرِفَتِها، فَلَوْ كانَ ذَلِكَ قُرْآنًا لامْتَنَعَ بَقاؤُهُ في حَيِّزِ الشُّذُوذِ، وأمّا التَّمَسُّكُ بِخَبَرِ الواحِدِ فَقالَ: هَذا يَقْتَضِي نَسْخَ القُرْآنِ بِالخَبَرِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ. قالَ الفُقَهاءُ: إنَّ كَلِمَةَ ”إذا“ لا تُفِيدُ العُمُومَ بِدَلِيلِ أنَّهُ لَوْ قالَ لِامْرَأتِهِ: إذا دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً طُلِّقَتْ، ثُمَّ لَوْ دَخَلَتْ ثانِيًا لَمْ تُطَلَّقْ ثانِيًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ كَلِمَةَ ”إذا“ لا تُفِيدُ العُمُومَ، وأيْضًا إنَّ السَّيِّدَ إذا قالَ لِعَبْدِهِ: إذا دَخَلْتَ السُّوقَ فادْخُلْ عَلى فُلانٍ وقُلْ لَهُ كَذا وكَذا، فَهَذا لا يُفِيدُ الأمْرَ بِالفِعْلِ إلّا مَرَّةً واحِدَةً.
واعْلَمْ أنَّ مَذْهَبَ داوُدَ في مَسْألَةِ الطَّلاقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ فَلَعَلَّهُ يَلْتَزِمُ العُمُومَ، وأيْضًا فَلَهُ أنْ يَقُولَ: إنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ كَلِمَةَ ”إذا“ في هَذِهِ الآيَةِ تُفِيدُ العُمُومَ لِأنَّ التَّكالِيفَ الوارِدَةَ في القُرْآنِ مَبْناها عَلى التَّكْرِيرِ، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ في الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ، فَإنَّ القَرائِنَ الظّاهِرَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ لَيْسَ مَبْنى الأمْرِ فِيها عَلى التَّكْرِيرِ، وأمّا الفُقَهاءُ فَإنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاةٍ إلّا يَوْمَ الفَتْحِ فَإنَّهُ صَلّى الصَّلَواتِ كُلَّها بِوُضُوءٍ واحِدٍ. قالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَقُلْتُ لَهُ في ذَلِكَ فَقالَ: عَمْدًا فَعَلْتُ ذَلِكَ يا عُمَرُ» .
أجابَ داوُدُ بِأنّا ذَكَرْنا أنَّ خَبَرَ الواحِدِ لا يَنْسَخُ القُرْآنَ، وأيْضًا فَهَذا الخَبَرُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ﷺ كانَ مُواظِبًا عَلى تَجْدِيدِ الوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ، وهَذا يَقْتَضِي وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْنا لِقَوْلِهِ تَعالى: (فاتَّبِعُوهُ) بَقِيَ أنْ يُقالَ: قَدْ جاءَ في هَذا الخَبَرِ أنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ يَوْمَ الفَتْحِ، فَنَقُولُ: لَمّا وقَعَ التَّعارُضُ فالتَّرْجِيحُ مَعَنا مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: هَبْ أنَّ التَّجْدِيدَ لِكُلِّ صَلاةٍ لَيْسَ بِواجِبٍ لَكِنَّهُ مَندُوبٌ، والظّاهِرُ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ كانَ يَزِيدُ في يَوْمِ الفَتْحِ في الطّاعاتِ ولا يَنْقُصُ مِنها، لِأنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ هو يَوْمُ إتْمامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وزِيادَةُ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ تُناسِبُ زِيادَةَ الطّاعاتِ لا نُقْصانَها.
والثّانِي: أنَّ الِاحْتِياطَ لا شَكَّ أنَّهُ مِن جانِبِنا فَيَكُونُ راجِحًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبُكَ» “ .
الثّالِثُ: أنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ أوْلى مِن خَبَرِ الواحِدِ.
والرّابِعُ: أنَّ دَلالَةَ القُرْآنِ عَلى قَوْلِنا لَفْظِيَّةٌ، ودَلالَةَ الخَبَرِ الَّذِي رَوَيْتُمْ عَلى قَوْلِكم فِعْلِيَّةٌ، والدَّلالَةُ القَوْلِيَّةُ أقْوى مِنَ الدَّلالَةِ الفِعْلِيَّةِ، لِأنَّ الدَّلالَةَ القَوْلِيَّةَ غَنِيَّةٌ عَنِ الفِعْلِيَّةِ ولا يَنْعَكِسُ، فَهَذا ما في هَذِهِ المَسْألَةِ واللَّهُ أعْلَمُ. والأقْوى في إثْباتِ المَذْهَبِ المَشْهُورِ أنْ يُقالَ: لَوْ وجَبَ الوُضُوءُ لِكُلِّ صَلاةٍ لَكانَ المُوجِبُ لِلْوُضُوءِ هو القِيامَ إلى الصَّلاةِ ولَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ في إيجابِ الوُضُوءِ، لَكِنَّ ذَلِكَ باطِلٌ لِأنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ أوْجَبَ التَّيَمُّمَ عَلى المُتَغَوِّطِ والمُجامِعِ إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما سَبَبًا لِوُجُوبِ الطَّهارَةِ عِنْدَ وُجُودِ الماءِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ وُجُوبُ الوُضُوءِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوى القِيامِ إلى الصَّلاةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى ما قُلْناهُ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذِهِ الآيَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلى كَوْنِ الوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاةِ ؟ والأصَحُّ أنَّها تَدُلُّ عَلَيْهِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى عَلَّقَ فِعْلَ الصَّلاةِ عَلى الطَّهُورِ بِالماءِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ مَتى عُدِمَ لا تَصِحُّ إلّا بِالتَّيَمُّمِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَما صَحَّ ذَلِكَ.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَ بِالصَّلاةِ مَعَ الوُضُوءِ، فالآتِي بِالصَّلاةِ بِدُونِ الوُضُوءِ تارِكٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وتارِكُ المَأْمُورِ بِهِ يَسْتَحِقُّ العِقابَ، ولا مَعْنى لِلْبَقاءِ في عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ إلّا ذَلِكَ، فَإذا ثَبَتَ هَذا ظَهَرَ كَوْنُ الوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاةِ بِمُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: النِّيَّةُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الوُضُوءِ والغُسْلِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ (p-١٢١)اللَّهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ.
واعْلَمْ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَسْتَدِلُّ لِذَلِكَ بِظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ.
أمّا الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإنَّهُ قالَ: الوُضُوءُ مَأْمُورٌ بِهِ، وكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا فالوُضُوءُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يَكُونَ شَرْطًا لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الوُضُوءَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكم وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾ ولا شَكَّ أنَّ قَوْلَهُ: ”فاغْسِلُوا وامْسَحُوا“ أمْرٌ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البَيِّنَةِ: ٥] واللّامُ في قَوْلِهِ: (لِيَعْبُدُوا) ظاهِرٌ لِلتَّعْلِيلِ، لَكِنَّ تَعْلِيلَ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى الباءِ لِما عُرِفَ مِن جَوازِ إقامَةِ حُرُوفِ الجَرِّ بَعْضِها مَقامَ بَعْضٍ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وما أُمِرُوا إلّا بِأنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، والإخْلاصُ عِبارَةٌ عَنِ النِّيَّةِ الخالِصَةِ، ومَتى كانَتِ النِّيَّةُ الخالِصَةُ مُعْتَبَرَةً كانَ أصْلُ النِّيَّةِ مُعْتَبَرًا. وقَدْ حَقَّقْنا الكَلامَ في هَذا الدَّلِيلِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِ في طَلَبِ زِيادَةِ الإتْقانِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ كُلَّ وُضُوءٍ مَأْمُورٌ بِهِ، وثَبَتَ أنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا، فَلَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ كُلَّ وُضُوءٍ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا أقْصى ما في البابِ أنَّ قَوْلَنا: كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا مَخْصُوصٌ في بَعْضِ الصُّوَرِ، لَكِنّا إنَّما أثْبَتْنا هَذِهِ المُقَدِّمَةَ بِعُمُومِ النَّصِّ، والعامُّ حُجَّةٌ في غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ.
وأمّا أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الوُضُوءِ، فَقالَ: إنَّهُ تَعالى أوْجَبَ غَسْلَ الأعْضاءِ الأرْبَعَةِ في هَذِهِ الآيَةِ ولَمْ يُوجِبِ النِّيَّةَ فِيها، فَإيجابُ النِّيَّةِ زِيادَةٌ عَلى النَّصِّ، والزِّيادَةُ عَلى النَّصِّ نَسْخٌ، ونَسْخُ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ وبِالقِياسِ لا يَجُوزُ.
وجَوابُنا: أنّا بَيَّنّا أنَّهُ إنَّما أوْجَبْنا النِّيَّةَ في الوُضُوءِ بِدَلالَةِ القُرْآنِ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّرْتِيبُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الوُضُوءِ، وقالَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُما اللَّهُ -: لَيْسَ كَذَلِكَ، احْتَجَّ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى قَوْلِهِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِابْتِداءِ بِغَسْلِ الوَجْهِ لِأنَّ الفاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وإذا وجَبَ التَّرْتِيبُ في هَذا العُضْوِ وجَبَ في غَيْرِهِ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
فَإنْ قالُوا: فاءُ التَّعْقِيبِ إنَّما دَخَلَتْ في جُمْلَةِ هَذِهِ الأعْمالِ فَجَرى الكَلامُ مَجْرى أنْ يُقالَ: إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَأْتُوا بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الأفْعالِ.
قُلْنا: فاءُ التَّعْقِيبِ إنَّما دَخَلَتْ عَلى الوَجْهِ لِأنَّ هَذِهِ الفاءَ مُلْتَصِقَةٌ بِذِكْرِ الوَجْهِ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الفاءَ بِواسِطَةِ دُخُولِها عَلى الوَجْهِ دَخَلَتْ عَلى سائِرِ الأعْمالِ، وعَلى هَذا دُخُولُ الفاءِ في غَسْلِ الوَجْهِ أصْلٌ، ودُخُولُها عَلى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأفْعالِ تَبَعٌ لِدُخُولِها عَلى غَسْلِ الوَجْهِ، ولا مُنافاةَ بَيْنَ إيجابِ تَقْدِيمِ غَسْلِ الوَجْهِ وبَيْنَ إيجابِ مَجْمُوعِ هَذِهِ الأفْعالِ، فَنَحْنُ اعْتَبَرْنا دَلالَةَ هَذِهِ الفاءِ في الأصْلِ والتَّبَعِ، وأنْتُمْ ألْغَيْتُمُوها في الأصْلِ واعْتَبَرْتُمُوها في التَّبَعِ، فَكانَ قَوْلُنا أوْلى.
والوَجْهُ الثّانِي: أنْ نَقُولَ: وقَعَتِ البَداءَةُ في الذِّكْرِ بِالوَجْهِ، فَوَجَبَ أنْ تَقَعَ البَداءَةُ بِهِ في العَمَلِ لِقَوْلِهِ: (p-١٢٢)﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾ [هُودٍ: ١١٢] ولِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«ابْدَءُوا بِما بَدَأ اللَّهُ بِهِ» “ وهَذا الخَبَرُ وإنْ ورَدَ في قِصَّةِ الصَّفا والمَرْوَةَ إلّا أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، أقْصى ما في البابِ أنَّهُ مَخْصُوصٌ في بَعْضِ الصُّوَرِ لَكِنَّ العامَّ حُجَّةٌ في غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ.
والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الأعْضاءَ لا عَلى وفْقِ التَّرْتِيبِ المُعْتَبَرِ في الحِسِّ، ولا عَلى وفْقِ التَّرْتِيبِ المُعْتَبَرِ في الشَّرْعِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّرْتِيبَ واجِبٌ.
بَيانُ المُقَدِّمَةِ الأُولى أنَّ التَّرْتِيبَ المُعْتَبَرَ في الحِسِّ أنْ يَبْدَأ مِنَ الرَّأْسِ نازِلًا إلى القَدَمِ، أوْ مِنَ القَدَمِ صاعِدًا إلى الرَّأْسِ، والتَّرْتِيبُ المَذْكُورُ في الآيَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وأمّا التَّرْتِيبُ المُعْتَبَرُ في الشَّرْعِ فَهو أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الأعْضاءِ المَغْسُولَةِ، ويُفْرِدَ المَمْسُوحَةَ عَنْها، والآيَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإنَّهُ تَعالى أدْرَجَ المَمْسُوحَ في أثْناءِ المَغْسُولاتِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّرْتِيبَ واجِبٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ إهْمالَ التَّرْتِيبِ في الكَلامِ مُسْتَقْبَحٌ، فَوَجَبَ تَنْزِيهُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى عَنْهُ، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ فِيما إذا صارَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ واجِبٌ، فَيَبْقى في غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلى وفْقِ الأصْلِ.
الرّابِعُ: أنَّ إيجابَ الوُضُوءِ غَيْرُ مَعْقُولِ المَعْنى، وذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الإتْيانِ بِهِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ورَدَ في النَّصِّ.
بَيانُ المَقامِ الأوَّلِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الحَدَثَ يَخْرُجُ مِن مَوْضِعٍ والغَسْلَ يَجِبُ مِن مَوْضِعٍ آخَرَ وهو خِلافُ المَعْقُولِ.
وثانِيها: أنَّ أعْضاءَ المُحْدِثِ طاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وكَلِمَةُ إنَّما لِلْحَصْرِ، وقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«المُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ حَيًّا ولا مَيِّتًا» “ وتَطْهِيرُ الطّاهِرِ مُحالٌ.
وثالِثُها: أنَّ الشَّرْعَ أقامَ التَّيَمُّمَ مَقامَ الوُضُوءِ، ولا شَكَّ أنَّهُ ضِدُّ النَّظافَةِ والوَضاءَةِ.
ورابِعُها: أنَّ الشَّرْعَ أقامَ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ مَقامَ الغَسْلِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا يُفِيدُ البَتَّةَ في نَفْسِ العُضْوِ نَظافَةً.
وخامِسُها: أنَّ الماءَ الكَدِرَ العَفِنَ يُفِيدُ الطَّهارَةَ، وماءَ الوَرْدِ لا يُفِيدُها، فَثَبَتَ بِهَذا أنَّ الوُضُوءَ غَيْرُ مَعْقُولِ المَعْنى، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ الِاعْتِمادُ فِيهِ عَلى مَوْرِدِ النَّصِّ، لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ المَذْكُورُ مُعْتَبَرًا إمّا لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ أوْ لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ لا نَعْرِفُها، فَلِهَذا السَّبَبِ أوْجَبْنا رِعايَةَ التَّرْتِيبِ المُعْتَبَرِ المَذْكُورِ في أرْكانِ الصَّلاةِ، بَلْ هَهُنا أوْلى، لِأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أرْكانَ الصَّلاةِ في كِتابِهِ مُرَتَّبَةً وذَكَرَ أعْضاءَ الوُضُوءِ في هَذِهِ الآيَةِ مَرْتَبَةً فَلَمّا وجَبَ التَّرْتِيبُ هُناكَ فَهَهُنا أوْلى.
واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى قَوْلِهِ فَقالَ: الواوُ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَكانَتِ الآيَةُ خالِيَةً عَنْ إيجابِ التَّرْتِيبِ، فَلَوْ قُلْنا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ كانَ ذَلِكَ زِيادَةً عَلى النَّصِّ، وهو نَسْخٌ وهو غَيْرُ جائِزٍ.
وجَوابُنا: أنّا بَيَّنّا دَلالَةَ الآيَةِ عَلى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ مِن جِهاتٍ أُخَرَ غَيْرِ التَّمَسُّكِ بِأنَّ الواوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: مُوالاةُ أفْعالِ الوُضُوءِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ في القَوْلِ الجَدِيدِ لِلشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ شَرْطٌ.
لَنا أنَّهُ تَعالى أوْجَبَ هَذِهِ الأعْمالَ، ولا شَكَّ أنَّ إيجابَها قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إيجابِها عَلى سَبِيلِ المُوالاةِ وإيجابِها عَلى سَبِيلِ التَّراخِي ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكَمَ في آخِرِ هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّ هَذا القَدْرَ يُفِيدُ حُصُولَ الطَّهارَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] فَثَبَتَ أنَّ الوُضُوءَ بِدُونِ المُوالاةِ يُفِيدُ حُصُولَ الطَّهارَةِ، فَوَجَبَ أنْ نَقُولَ بِجَوازِ الصَّلاةِ بِها لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«مِفْتاحُ الصَّلاةِ الطَّهارَةُ» “ .
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخارِجُ مِن غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَنْقُضُ الوُضُوءَ، وقالَ الشّافِعِيُّ (p-١٢٣)- رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يَنْقُضُ.
احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: ظاهِرُها يَقْتَضِي الإتْيانَ بِالوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ عَلى ما بَيَّنّا ذَلِكَ فِيما تَقَدَّمَ، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ عِنْدَما لَمْ يَخْرُجِ الخارِجُ النَّجِسُ مِنَ البَدَنِ فَيَبْقى مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ خُرُوجِ الخارِجِ النَّجِسِ، والشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَوَّلَ عَلى ما رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ احْتَجَمَ وصَلّى ولَمْ يَزِدْ عَلى غَسْلِ أثَرِ مَحاجِمِهِ» .
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: قالَ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا وُضُوءَ في الخارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إذا كانَ غَيْرَ مُعْتادٍ وسَلَّمَ في دَمِ الِاسْتِحاضَةِ، وقالَ رَبِيعَةُ: لا وُضُوءَ أيْضًا في دَمِ الِاسْتِحاضَةِ، لَنا التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ الآيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ العاشِرَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القَهْقَهَةُ في الصَّلاةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى الرُّكُوعِ والسُّجُودِ تَنْقُضُ الوُضُوءَ، وقالَ الباقُونَ: لا تَنْقُضُ، ولِأبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ الآيَةِ عَلى ما قَرَّرْناهُ.
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمْسُ المَرْأةِ يَنْقُضُ الوُضُوءَ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يَنْقُضُهُ، لِلشّافِعِيِّ أنْ يَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ الآيَةِ، قالَ: وهَذا العُمُومُ مُتَأكِّدٌ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ وحُجَّةُ الخَصْمِ خَبَرُ واحِدٍ، أوْ قِياسٌ، فَلا يَصِيرُ مُعارِضًا لَهُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَسُّ الفَرْجِ يَنْقُضُ الوُضُوءَ عِنْدَ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يَنْقُضُهُ، لِلشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنْ يَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ الآيَةِ، وهَذا العُمُومُ مُتَأكِّدٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«مَن مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» “ والخَبَرُ الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ الخَصْمُ عَلى خِلافِ عُمُومِ الآيَةِ فَكانَ التَّرْجِيحُ مَعَنا.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كانَ عَلى بَدَنِهِ أوْ وجْهِهِ نَجاسَةٌ فَغَسَلَها ونَوى الطَّهارَةَ عَنِ الحَدَثِ بِذَلِكَ الغَسْلِ هَلْ يَصِحُّ وُضُوءُهُ ؟ ما رَأيْتُ هَذِهِ المَسْألَةَ مَوْضُوعَةً في كُتُبِ أصْحابِنا. والَّذِي أقُولُهُ: إنَّهُ يَكْفِي لِأنَّهُ أمَرَ بِالغَسْلِ في قَوْلِهِ: ﴿فاغْسِلُوا﴾ وقَدْ أتى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنِ العُهْدَةِ لِأنَّهُ عِنْدَ احْتِياجِهِ إلى التَّبَرُّدِ والتَّنَظُّفِ لَوْ نَوى فَإنَّهُ يَصِحُّ وُضُوءُهُ، كَذا هَهُنا. وأيْضًا قالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» “ وهَذا الإنْسانُ نَوى فَيَجِبُ أنْ يَحْصُلَ لَهُ المَنوِيُّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ وقَفَ تَحْتَ مِيزابٍ حَتّى سالَ عَلَيْهِ الماءُ ونَوى رَفْعَ الحَدَثِ هَلْ يَصِحُّ وُضُوءُهُ أمْ لا ؟ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لا يَصِحُّ، لِأنَّهُ أمَرَ بِالغَسْلِ، والغَسْلُ عَمَلٌ وهو لَمْ يَأْتِ بِالعَمَلِ، ويُمْكِنْ أنْ يُقالَ: يَصِحُّ لِأنَّ الغَسْلَ عِبارَةٌ عَنِ الفِعْلِ المُفْضِي إلى الِانْغِسالِ، والوُقُوفُ تَحْتَ المِيزابِ يُفْضِي إلى الِانْغِسالِ فَكانَ ذَلِكَ الوُقُوفُ غَسْلًا.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ: إذا غَسَلَ هَذِهِ الأعْضاءَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَقَشَّرَتِ الجِلْدَةُ عَنْها فَلا شَكَّ أنَّ ما ظَهَرَ تَحْتَ الجَلْدَةِ غَيْرُ مَغْسُولٍ، إنَّما المَغْسُولُ هو تِلْكَ الجَلْدَةُ وقَدْ تَقَلَّصَتْ وسَقَطَتْ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ: الغَسْلُ عِبارَةٌ عَنْ إمْرارِ الماءِ عَلى العُضْوِ، فَلَوْ رَطَّبَ هَذِهِ الأعْضاءَ، ولَكِنْ ما سالَ الماءُ عَلَيْها لَمْ يَكْفِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بِإمْرارِ الماءِ عَلى العُضْوِ، وفي غُسْلِ الجَنابَةِ احْتِمالٌ أنْ يَكْفِيَ ذَلِكَ، والفَرْقُ أنَّ المَأْمُورَ بِهِ في الوُضُوءِ الغَسْلُ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ إمْرارِ الماءِ، وفي الجَنابَةِ المَأْمُورُ بِهِ الطُّهْرُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وذَلِكَ حاصِلٌ بِمُجَرَّدِ التَّرْطِيبِ.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أخَذَ الثَّلْجَ وأمَرَّهُ عَلى وجْهِهِ، فَإنْ كانَ الهَواءُ حارًّا يُذِيبُ الثَّلْجَ ويُسِيلُ (p-١٢٤)جازَ، وإنْ كانَ بِخِلافِهِ لَمْ يَجُزْ خِلافًا لِمالِكٍ والأوْزاعِيِّ. لَنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاغْسِلُوا﴾ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِالغَسْلِ، وهَذا لا يُسَمّى غَسْلًا، فَوَجَبَ أنْ لا يُجْزِي.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةَ عَشْرَةَ: التَّثْلِيثُ في أعْمالِ الوُضُوءِ سُنَّةٌ لا واجِبٌ، إنَّما الواجِبُ هو المَرَّةُ الواحِدَةُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِالغَسْلِ فَقالَ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكُمْ﴾ وماهِيَّةُ الغَسْلِ تَدْخُلُ في الوُجُودِ بِالمَرَّةِ الواحِدَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى رَتَّبَ عَلى هَذا القَدْرِ حُصُولَ الطِّهارَةِ فَقالَ: ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ فَثَبَتَ أنَّ المَرَّةَ الواحِدَةَ كافِيَةٌ في صِحَّةِ الوُضُوءِ ثُمَّ تَأكَّدَ هَذا بِما رُوِيَ أنَّهُ ﷺ «تَوَضَّأ مَرَّةً ثُمَّ قالَ: هَذا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلّا بِهِ» .
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةَ عَشْرَةَ: السِّواكُ سُنَّةٌ، وقالَ داوُدُ: واجِبٌ ولَكِنْ تَرْكُهُ لا يَقْدَحُ في الصَّلاةِ. لَنا أنَّ السِّواكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ في الآيَةِ، ثُمَّ حَكَمَ بِحُصُولِ الطَّهارَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ وإذا حَصَلَتِ الطَّهارَةُ حَصَلَ جَوازُ الصَّلاةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«مِفْتاحُ الصَّلاةِ الطَّهارَةُ» “ .
* * *
المَسْألَةُ العِشْرُونَ: التَّسْمِيَةُ في أوَّلِ الوُضُوءِ سُنَّةٌ، وقالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ: واجِبَةٌ، وإنْ تَرَكَها عامِدًا بَطَلَتِ الطَّهارَةُ، لَنا أنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ في الآيَةِ، ثُمَّ حَكَمَ بِحُصُولِ الطَّهارَةِ، وقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلالَةِ، ثُمَّ تَأكَّدَ هَذا بِما رُوِيَ أنَّهُ ﷺ قالَ: ”«مَن تَوَضَّأ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ومَن تَوَضَّأ ولَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كانَ طَهُورًا لِأعْضاءِ وُضُوئِهِ» “ .
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةُ والعِشْرُونَ: قالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ: تَقْدِيمُ غَسْلِ اليَدَيْنِ عَلى الوُضُوءِ واجِبٌ، وعِنْدَنا أنَّهُ سُنَّةٌ ولَيْسَ بِواجِبٍ، والِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ كَما قَرَّرْناهُ في السِّواكِ وفي التَّسْمِيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ والعِشْرُونَ: حَدُّ الوَجْهِ مِن مَبْدَأِ سَطْحِ الجَبْهَةِ إلى مُنْتَهى الذَّقَنِ طُولًا، ومِنَ الأُذُنِ إلى الأُذُنِ عَرْضًا، ولَفْظُ الوَجْهِ مَأْخُوذٌ مِنَ المُواجَهَةِ فَيَجِبُ غَسْلُ كُلِّ ذَلِكَ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ والعِشْرُونَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: يَجِبُ إيصالُ الماءِ إلى داخِلِ العَيْنِ، وقالَ الباقُونَ لا يَجِبُ، حُجَّةُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ وجَبَ غَسْلُ كُلِّ الوَجْهِ لِقَوْلِهِ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ والعَيْنُ جُزْءٌ مِنَ الوَجْهِ، فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ غَسْلُهُ. حُجَّةُ الفُقَهاءِ أنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ الآيَةِ ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ﴾ ولا شَكَّ أنَّ في إدْخالِ الماءِ في العَيْنِ حَرَجًا، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ والعِشْرُونَ: المَضْمَضَةُ والِاسْتِنْشاقُ لا يَجِبانِ في الوُضُوءِ والغُسْلِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعِنْدَ أحْمَدَ وإسْحاقَ رَحِمَهُما اللَّهُ واجِبانِ فِيهِما، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - واجِبٌ في الغُسْلِ، غَيْرُ واجِبٍ في الوُضُوءِ. لَنا أنَّهُ تَعالى أوْجَبَ غَسْلَ الوَجْهِ، والوَجْهُ هو الَّذِي يَكُونُ مُواجِهًا وداخِلَ الأنْفِ، والفَمُ غَيْرُ مُواجِهٍ فَلا يَكُونُ مِنَ الوَجْهِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إيصالُ الماءِ إلى الأعْضاءِ الأرْبَعَةِ يُفِيدُ الطَّهارَةَ لِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ والطَّهارَةُ تُفِيدُ جَوازَ الصَّلاةِ كَما بَيَّنّاهُ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ والعِشْرُونَ: غَسْلُ البَياضِ الَّذِي بَيْنَ العِذارِ والأُذُنِ واجِبٌ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ والشّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقالَ أبُو يُوسُفَ -رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يَجِبُ، لَنا أنَّهُ مِنَ الوَجْهِ، والوَجْهُ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالآيَةِ، (p-١٢٥)ولِأنّا أجْمَعْنا عَلى أنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ قَبْلَ نَباتِ الشَّعْرِ، فَحَيْلُولَةُ الشَّعْرِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الوَجْهِ لا تَسْقُطُ كالجَبْهَةِ لَمّا وجَبَ غَسْلُها قَبْلَ نَباتِ شَعْرِ الحاجِبِ وجَبَ أيْضًا بَعْدَهُ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ والعِشْرُونَ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ إيصالُ الماءِ إلى ما تَحْتَ اللِّحْيَةِ الخَفِيفَةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يَجِبُ. لَنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ يُوجِبُ غَسْلَ الوَجْهِ، والوَجْهُ اسْمٌ لِلْجِلْدَةِ المُمْتَدَّةِ مِنَ الجَبْهَةِ إلى الذَّقَنِ، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ كَثافَةِ اللِّحْيَةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ وعِنْدَ خِفَّةِ اللِّحْيَةِ لَمْ يَحْصُلْ هَذا الحَرَجُ، فَكانَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى وُجُوبِ غَسْلِهِ.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ والعِشْرُونَ: هَلْ يَجِبُ إمْرارُ الماءِ عَلى ما نَزَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنْ حَدِّ الوَجْهِ وعَلى الخارِجِ مِنها إلى الأُذُنَيْنِ عَرْضًا ؟ لِلشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ يَجِبُ.
والثّانِي: أنَّهُ لا يَجِبُ، وهو قَوْلُ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ والمُزَنِيِّ.
حُجَّةُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنّا تَوافَقْنا عَلى أنَّ في اللِّحْيَةِ الكَثِيفَةِ لا يَجِبُ إيصالُ الماءِ إلى مَنابِتِ الشُّعُورِ وهي الجِلْدُ، وإنَّما أسْقَطْنا هَذا التَّكْلِيفَ لِأنّا أقَمْنا ظاهِرَ اللِّحْيَةِ مَقامَ جِلْدَةِ الوَجْهِ في كَوْنِهِ وجْهًا، وإذا كانَ ظاهِرُ اللِّحْيَةِ يُسَمّى وجْهًا والوَجْهُ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالتَّمامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ لَزِمَ بِحُكْمِ هَذا الدَّلِيلِ إيصالُ الماءِ إلى ظاهِرِ جَمِيعِ اللِّحْيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ والعِشْرُونَ: لَوْ نَبَتَ لِلْمَرْأةِ لِحْيَةٌ يَجِبُ إيصالُ الماءِ إلى جِلْدَةِ الوَجْهِ وإنْ كانَتْ تِلْكَ اللِّحْيَةُ كَثِيفَةً، وذَلِكَ لِأنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ غَسْلِ الوَجْهِ، والوَجْهُ عِبارَةٌ عَنِ الجِلْدَةِ المُمْتَدَّةِ مِن مَبْدَأِ الجَبْهَةِ إلى مُنْتَهى الذَّقَنِ، تَرَكْنا العَمَلَ بِهِ في حَقِّ الرِّجالِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، ولِحْيَةُ المَرْأةِ نادِرَةٌ فَتَبْقى عَلى الأصْلِ.
واعْلَمْ أنَّهُ يَجِبُ إيصالُ الماءِ إلى ما تَحْتَ الشَّعْرِ الكَثِيفِ في خَمْسَةِ مَواضِعَ: العَنْفَقَةُ، والحاجِبانِ، والشّارِبانِ، والعِذارانِ، وأهْدابُ العَيْنَيْنِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ غَسْلِ كُلِّ جِلْدِ الوَجْهِ، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في اللِّحْيَةِ الكَثِيفَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وهَذِهِ الشُّعُورُ خَفِيفَةٌ فَلا حَرَجَ في إيصالِ الماءِ إلى الجِلْدَةِ، فَوَجَبَ أنْ تَبْقى عَلى الأصْلِ.
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ والعِشْرُونَ: قالَ الشَّعْبِيُّ: ما أقْبَلَ مِنَ الأُذُنِ مَعْدُودٌ مِنَ الوَجْهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ الوَجْهِ، وما أدْبَرَ مِنهُ فَهو مَعْدُودٌ مِنَ الرَّأْسِ فَيُمْسَحُ، وعِنْدَنا الأُذُنُ لَيْسَتِ البَتَّةَ مِنَ الوَجْهِ إذِ الوَجْهُ ما بِهِ المُواجَهَةُ، والأُذُنُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
* * *
المَسْألَةُ الثَّلاثُونَ: قالَ الجُمْهُورُ: غَسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ واجِبٌ مَعَهُما، وقالَ مالِكٌ وزُفَرُ رَحِمَهُما اللَّهُ: لا يَجِبُ غَسْلُ المِرْفَقَيْنِ، وهَذا الخِلافُ حاصِلٌ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾ حُجَّةُ زُفَرَ أنَّ كَلِمَةَ ”إلى“ لِانْتِهاءِ الغايَةِ، وما يُجْعَلُ غايَةً لِلْحُكْمِ يَكُونُ خارِجًا عَنْهُ كَما في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٨٧] فَوَجَبَ أنْ لا يَجِبَ غَسْلُ المِرْفَقَيْنِ.
والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ حَدَّ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنِ المَحْدُودِ بِمَقْطَعٍ مَحْسُوسٍ، وهَهُنا يَكُونُ الحَدُّ خارِجًا عَنِ المَحْدُودِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ فَإنَّ النَّهارَ مُنْفَصِلٌ عَنِ اللَّيْلِ انْفِصالًا مَحْسُوسًا لِأنَّ انْفِصالَ النُّورِ عَنِ الظُّلْمَةِ مَحْسُوسٌ، وقَدْ لا يَكُونُ كَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: بِعْتُكَ هَذا الثَّوْبَ مِن هَذا الطَّرَفِ إلى ذَلِكَ الطَّرَفِ، فَإنَّ طَرَفَ الثَّوْبِ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عَنِ الثَّوْبِ بِمَقْطَعٍ مَحْسُوسٍ.
(p-١٢٦)إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لا شَكَّ أنَّ امْتِيازَ المِرْفَقِ عَنِ السّاعِدِ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مُعَيَّنٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ إيجابُ الغَسْلِ إلى جُزْءٍ أوْلى مِن إيجابِهِ إلى جُزْءٍ آخَرَ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِإيجابِ غَسْلِ كُلِّ المِرْفَقِ.
الوَجْهُ الثّانِي مِنَ الجَوابِ: سَلَّمْنا أنَّ المِرْفَقَ لا يَجِبُ غَسْلُهُ، لَكِنَّ المِرْفَقَ اسْمٌ لِما جاوَزَ طَرَفَ العَظْمِ، فَإنَّهُ هو المَكانُ الَّذِي يُرْتَفَقُ بِهِ أيْ: يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، ولا نِزاعَ في أنَّ ما وراءَ طَرَفِ العَظْمِ لا يَجِبُ غَسْلُهُ، وهَذا الجَوابُ اخْتِيارُ الزَّجّاجِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةُ والثَّلاثُونَ: الرَّجُلُ إنْ كانَ أقْطَعَ، فَإنْ كانَ أقْطَعَ مِمّا دُونَ المِرْفَقِ وجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُ ما بَقِيَ مِنَ المِرْفَقِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ يَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، فَإذا سَقَطَ بَعْضُهُ بِالقَطْعِ وجَبَ غَسْلُ الباقِي بِحُكْمِ الآيَةِ، وأمّا إنْ كانَ أقْطَعَ مِمّا فَوْقَ المِرْفَقَيْنِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ لِأنَّ مَحَلَّ هَذا التَّكْلِيفِ لَمْ يَبْقَ أصْلًا، وأمّا إذا كانَ أقْطَعَ مِنَ المِرْفَقِ قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ إمْساسُ الماءِ لِطَرَفِ العَظْمِ، وذَلِكَ لِأنَّ غَسْلَ المِرْفَقِ لَمّا كانَ واجِبًا والمِرْفَقُ عِبارَةٌ عَنْ مُلْتَقى العَظْمَيْنِ، فَإذا وجَبَ إمْساسُ الماءِ لِمُلْتَقى العَظْمَيْنِ وجَبَ إمْساسُ الماءِ لِطَرَفِ العَظْمِ الثّانِي لا مَحالَةَ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ والثَّلاثُونَ: تَقْدِيمُ اليُمْنى عَلى اليُسْرى مَندُوبٌ ولَيْسَ بِواجِبٍ، وقالَ أحْمَدُ: هو واجِبٌ. لَنا أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الأيْدِيَ والأرْجُلَ ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَقْدِيمَ اليُمْنى عَلى اليُسْرى، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الواجِبَ هو غَسْلُ اليَدَيْنِ بِأيِّ صِفَةٍ كانَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ والثَّلاثُونَ: السُّنَّةُ أنْ يُصَبَّ الماءُ عَلى الكَفِّ بِحَيْثُ يَسِيلُ الماءُ مِنَ الكَفِّ إلى المِرْفَقِ، فَإنْ صَبَّ الماءَ عَلى المِرْفَقِ حَتّى سالَ الماءُ إلى الكَفِّ، فَقالَ بَعْضُهم: هَذا لا يَجُوزُ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ فَجَعَلَ المَرافِقَ غايَةَ الغَسْلِ، فَجَعَلَهُ مَبْدَأ الغَسْلِ خِلافَ الآيَةِ فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ. وقالَ جُمْهُورُ الفُقَهاءِ: أنَّهُ لا يُخِلُّ بِصِحَّةِ الوُضُوءِ إلّا أنَّهُ يَكُونُ تَرْكًا لِلسُّنَّةِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ والثَّلاثُونَ: لَوْ نَبَتَ مِنَ المِرْفَقِ ساعِدانِ وكَفّانِ وجَبَ غَسْلُ الكُلِّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ كَما أنَّهُ لَوْ نَبَتَ عَلى الكَفِّ أُصْبُعٌ زائِدَةٌ فَإنَّهُ يَجِبُ غَسْلُها بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ والثَّلاثُونَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى المَرافِقِ﴾ يَقْتَضِي تَحْدِيدَ الأمْرِ لا تَحْدِيدَ المَأْمُورِ بِهِ، يَعْنِي أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ أمْرٌ بِغَسْلِ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، فَإيجابُ الغَسْلِ مَحْدُودٌ بِهَذا الحَدِّ، فَبَقِيَ الواجِبُ هو هَذا القَدْرُ فَقَطْ، أمّا نَفْسُ الغَسْلِ فَغَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذا الحَدِّ لِأنَّهُ ثَبَتَ بِالأخْبارِ أنَّ تَطْوِيلَ الغُرَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ والثَّلاثُونَ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الواجِبُ في مَسْحِ الرَّأْسِ أقَلُّ شَيْءٍ يُسَمّى مَسْحًا لِلرَّأْسِ، وقالَ مالِكٌ: يَجِبُ مَسْحُ الكُلِّ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الواجِبُ مَسْحُ رُبْعِ الرَّأْسِ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ أنَّهُ لَوْ قالَ: مَسَحْتُ المِندِيلَ، فَهَذا لا يُصَدَّقُ إلّا عِنْدَ مَسْحِهِ بِالكُلِّيَّةِ أمّا لَوْ قالَ: مَسَحْتُ يَدِي بِالمِندِيلِ فَهَذا يَكْفِي في صِدْقِهِ مَسْحُ اليَدَيْنِ بِجُزْءٍ مِن أجْزاءِ ذَلِكَ المِندِيلِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ يَكْفِي في العَمَلِ بِهِ مَسْحُ اليَدِ بِجُزْءٍ مِن أجْزاءِ الرَّأْسِ، ثُمَّ ذَلِكَ الجُزْءُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ في الآيَةِ، فَإنْ أوْجَبْنا تَقْدِيرَهُ بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُ ذَلِكَ المِقْدارِ إلّا بِدَلِيلٍ (p-١٢٧)مُغايِرٍ لِهَذِهِ الآيَةِ، فَيَلْزَمُ صَيْرُورَةُ الآيَةِ مُجْمَلَةً وهو خِلافُ الأصْلِ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ يَكْفِي فِيهِ إيقاعُ المَسْحِ عَلى أيِّ جُزْءٍ كانَ مِن أجْزاءِ الرَّأْسِ كانَتِ الآيَةُ مُبِيِّنَةً مُفِيدَةً، ومَعْلُومٌ أنَّ حَمْلَ الآيَةِ عَلى مَحْمَلٍ تَبْقى الآيَةُ مَعَهُ مُفِيدَةً أوْلى مِن حَمْلِها عَلى مَحْمَلٍ تَبْقى الآيَةُ مَعَهُ مُجْمَلَةً، فَكانَ المَصِيرُ إلى ما قُلْناهُ أوْلى. وهَذا اسْتِنْباطٌ حَسَنٌ مِنَ الآيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ والثَّلاثُونَ: لا يَجُوزُ الِاكْتِفاءُ بِالمَسْحِ عَلى العِمامَةِ، وقالَ الأوْزاعِيُّ والثَّوْرِيُّ وأحْمَدُ: يَجُوزُ. لَنا أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ يَجِبُ المَسْحُ عَلى الرَّأْسِ، ومَسْحُ العِمامَةِ لَيْسَ مَسْحًا لِلرَّأْسِ واحْتَجُّوا بِما رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَسَحَ عَلى العِمامَةِ» .
جَوابُنا: لَعَلَّهُ مَسَحَ قَدْرَ الفَرْضِ عَلى الرَّأْسِ والبَقِيَّةَ عَلى العِمامَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ والثَّلاثُونَ: اخْتَلَفَ النّاسُ في مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ وفي غَسْلِهِما، فَنَقَلَ القَفّالُ في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأنَسِ بْنِ مالِكٍ وعِكْرِمَةَ والشَّعْبِيِّ وأبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الباقِرِ: أنَّ الواجِبَ فِيهِما المَسْحُ، وهو مَذْهَبُ الإمامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ. وقالَ جُمْهُورُ الفُقَهاءِ والمُفَسِّرِينَ: فَرْضُهُما الغَسْلُ، وقالَ داوُدُ الأصْفَهانِيُّ: يَجِبُ الجَمْعُ بَيْنَهُما وهو قَوْلُ النّاصِرِ لِلْحَقِّ مِن أئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ. وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: المُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ المَسْحِ والغَسْلِ.
حُجَّةُ مَن قالَ بِوُجُوبِ المَسْحِ مَبْنِيٌّ عَلى القِراءَتَيْنِ المَشْهُورَتَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿وأرْجُلَكُمْ﴾ فَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِالجَرِّ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ بِالنَّصْبِ، فَنَقُولُ: أمّا القِراءَةُ بِالجَرِّ فَهي تَقْتَضِي كَوْنَ الأرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلى الرُّءُوسِ، فَكَما وجَبَ المَسْحُ في الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ في الأرْجُلِ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: هَذا كُسِرَ عَلى الجِوارِ كَما في قَوْلِهِ: ”جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ“، وقَوْلِهِ:
؎كَبِيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلٍ
قُلْنا: هَذا باطِلٌ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الكَسْرَ عَلى الجِوارِ مَعْدُودٌ في اللَّحْنِ الَّذِي يُتَحَمَّلُ لِأجْلِ الضَّرُورَةِ في الشِّعْرِ، وكَلامُ اللَّهِ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ.
وثانِيها: أنَّ الكَسْرَ إنَّما يُصارُ إلَيْهِ حَيْثُ يَحْصُلُ الأمْنُ مِنَ الِالتِباسِ كَما في قَوْلِهِ: ”جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ“، فَإنَّ مِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الخَرِبَ لا يَكُونُ نَعْتًا لِلضَّبِّ بَلْ لِلْجُحْرِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ الأمْنُ مِنَ الِالتِباسِ غَيْرُ حاصِلٍ.
وثالِثُها: أنَّ الكَسْرَ بِالجِوارِ إنَّما يَكُونُ بِدُونِ حَرْفِ العَطْفِ، وأمّا مَعَ حَرْفِ العَطْفِ فَلَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ العَرَبُ، وأمّا القِراءَةُ بِالنَّصْبِ فَقالُوا أيْضًا: إنَّها تُوجِبُ المَسْحَ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ ”فَرُءُوسُكم“ في مَحَلِّ النَّصْبِ ولَكِنَّها مَجْرُورَةٌ بِالباءِ، فَإذا عَطَفْتَ الأرْجُلَ عَلى الرُّءُوسِ جازَ في الأرْجُلِ النَّصْبُ عَطْفًا عَلى مَحَلِّ الرُّءُوسِ، والجَرُّ عَطْفًا عَلى الظّاهِرِ، وهَذا مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ لِلنُّحاةِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عامِلُ النَّصْبِ في قَوْلِهِ: ﴿وأرْجُلَكُمْ﴾ هو قَوْلَهُ: ﴿وامْسَحُوا﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو قَوْلَهُ: ﴿فاغْسِلُوا﴾ لَكِنِ العامِلانِ إذا اجْتَمَعا عَلى مَعْمُولٍ واحِدٍ كانَ إعْمالُ الأقْرَبِ أوْلى، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ عامِلُ النَّصْبِ في قَوْلِهِ: ﴿وأرْجُلَكُمْ﴾ هو قَوْلَهُ: ﴿وامْسَحُوا﴾ فَثَبَتَ أنَّ قِراءَةَ ﴿وأرْجُلَكُمْ﴾ (p-١٢٨)بِنَصْبِ اللّامِ تُوجِبُ المَسْحَ أيْضًا، فَهَذا وجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى وُجُوبِ المَسْحِ، ثُمَّ قالُوا: ولا يَجُوزُ دَفْعُ ذَلِكَ بِالأخْبارِ لِأنَّها بِأسْرِها مِن بابِ الآحادِ، ونَسْخُ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ لا يَجُوزُ.
واعْلَمْ أنَّهُ لا يُمْكِنُ الجَوابُ عَنْ هَذا إلّا مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الأخْبارَ الكَثِيرَةَ ورَدَتْ بِإيجابِ الغَسْلِ، والغَسْلُ مُشْتَمِلٌ عَلى المَسْحِ ولا يَنْعَكِسُ، فَكانَ الغَسْلُ أقْرَبَ إلى الِاحْتِياطِ فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ يَجِبُ القَطْعُ بِأنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ يَقُومُ مَقامَ مَسْحِها.
والثّانِي: أنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ مَحْدُودٌ إلى الكَعْبَيْنِ، والتَّحْدِيدُ إنَّما جاءَ في الغَسْلِ لا في المَسْحِ، والقَوْمُ أجابُوا عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الكَعْبَ عِبارَةٌ عَنِ العَظْمِ الَّذِي تَحْتَ مَفْصِلِ القَدَمِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَجِبُ المَسْحُ عَلى ظَهْرِ القَدَمَيْنِ.
والثّانِي: أنَّهم سَلَّمُوا أنَّ الكَعْبَيْنِ عِبارَةٌ عَنِ العَظْمَيْنِ النّاتِئَيْنِ مِن جانِبَيِ السّاقِ، إلّا أنَّهُمُ التَزَمُوا أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَمْسَحَ ظُهُورَ القَدَمَيْنِ إلى هَذَيْنِ المَوْضِعَيْنِ، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى هَذا السُّؤالُ.
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ والثَّلاثُونَ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ أنَّ الكَعْبَيْنِ عِبارَةٌ عَنِ العَظْمَيْنِ النّاتِئَيْنِ مِن جانِبَيِ السّاقِ، وقالَتِ الإمامِيَّةُ وكُلُّ مَن ذَهَبَ إلى وُجُوبِ المَسْحِ: إنَّ الكَعْبَ عِبارَةٌ عَنْ عَظْمٍ مُسْتَدِيرٍ - مِثْلَ كَعْبِ البَقَرِ والغَنَمِ - مَوْضُوعٍ تَحْتَ عَظْمِ السّاقِ حَيْثُ يَكُونُ مَفْصِلُ السّاقِ والقَدَمِ، وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - . وكانَ الأصْمَعِيُّ يَخْتارُ هَذا القَوْلَ ويَقُولُ: الطَّرَفانِ النّاتِئانِ يُسَمَّيانِ المَنجِمَيْنِ. هَكَذا رَواهُ القَفّالُ في تَفْسِيرِهِ.
حُجَّةُ الجُمْهُورِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لَوْ كانَ الكَعْبُ ما ذَكَرَهُ الإمامِيَّةُ لَكانَ الحاصِلُ في كُلِّ رِجْلٍ كَعْبًا واحِدًا، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: ”وأرْجُلَكم إلى الكِعابِ“، كَما أنَّهُ لَمّا كانَ الحاصِلُ في كُلِّ يَدٍ مِرْفَقًا واحِدًا لا جَرَمَ قالَ: ﴿وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ .
والثّانِي: أنَّ العَظْمَ المُسْتَدِيرَ المَوْضُوعَ في المَفْصِلِ شَيْءٌ خَفِيٌّ لا يَعْرِفُهُ إلّا المُشَرِّحُونَ، والعَظْمانِ النّاتِئانِ في طَرَفَيِ السّاقِ مَحْسُوسانِ مَعْلُومانِ لِكُلِّ أحَدٍ، ومَناطُ التَّكالِيفِ العامَّةِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ أمْرًا ظاهِرًا، لا أمْرًا خَفِيًّا.
الثّالِثُ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«ألْصِقُوا الكِعابَ بِالكِعابِ» “ ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ ما ذَكَرْناهُ.
الرّابِعُ: أنَّ الكَعْبَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّرَفِ والِارْتِفاعِ، ومِنهُ جارِيَةٌ كاعِبٌ إذا نَتَأ ثَدْياها، ومِنهُ الكَعْبُ لِكُلِّ ما لَهُ ارْتِفاعٌ.
حُجَّةُ الإمامِيَّةِ: أنَّ اسْمَ الكَعْبِ واقِعٌ عَلى العَظْمِ المَخْصُوصِ المَوْجُودِ في أرْجُلِ جَمِيعِ الحَيَواناتِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ في حَقِّ الإنْسانِ كَذَلِكَ، وأيْضًا المَفْصِلُ يُسَمّى كَعْبًا، ومِنهُ كُعُوبُ الرُّمْحِ لِمَفاصِلِهِ، وفي وسَطِ القَدَمِ مَفْصِلٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الكَعْبُ هو هو.
والجَوابُ: أنَّ مَناطَ التَّكالِيفِ الظّاهِرَةِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ شَيْئًا ظاهِرًا، والَّذِي ذَكَرْناهُ أظْهَرُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الكَعْبُ هو هو.
* * *
المَسْألَةُ الأرْبَعُونَ: أثْبَتَ جُمْهُورُ الفُقَهاءِ جَوازَ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ. وأطْبَقَتِ الشِّيعَةُ والخَوارِجُ عَلى إنْكارِهِ، واحْتَجُّوا بِأنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكم وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾ يَقْتَضِي إمّا غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أوْ مَسْحَهُما، والمَسْحُ عَلى الخُفَّيْنِ لَيْسَ مَسْحًا لِلرِّجْلَيْنِ ولا غَسْلًا لَهُما، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ بِحُكْمِ نَصِّ هَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ قالُوا: إنَّ القائِلِينَ بِجَوازِ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ إنَّما يُعَوِّلُونَ عَلى الخَبَرِ، لَكِنَّ الرُّجُوعَ إلى القُرْآنِ أوْلى مِنَ الرُّجُوعِ إلى هَذا الخَبَرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ لا يَجُوزُ.
والثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في سُورَةِ المائِدَةِ، وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لا مَنسُوخَ فِيها البَتَّةَ إلّا قَوْلَهُ (p-١٢٩)تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ فَإنَّ بَعْضَهم قالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ القَوْلُ بِأنَّ وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَنسُوخٌ.
والثّالِثُ: أنَّ خَبَرَ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ بِتَقْدِيرِ أنَّهُ كانَ مُتَقَدِّمًا عَلى نُزُولِ الآيَةِ كانَ خَبَرُ الواحِدِ مَنسُوخًا بِالقُرْآنِ، ولَوْ كانَ بِالعَكْسِ كانَ خَبَرُ الواحِدِ ناسِخًا لِلْقُرْآنِ، ولا شَكَّ أنَّ الأوَّلَ أوْلى لِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ تَرْجِيحَ القُرْآنِ المُتَواتِرِ عَلى خَبَرِ الواحِدِ أوْلى مِنَ العَكْسِ.
وثانِيها: أنَّ العَمَلَ بِالآيَةِ أقْرَبُ إلى الِاحْتِياطِ.
وثالِثُها: أنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«إذا رُوِيَ لَكم عَنِّي حَدِيثٌ فاعْرِضُوهُ عَلى كِتابِ اللَّهِ فَإنْ وافَقَهُ فاقْبَلُوهُ وإلّا فَرُدُّوهُ» “ وذَلِكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ القُرْآنِ عَلى الخَبَرِ.
ورابِعُها: أنَّ قِصَّةَ مُعاذٍ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ القُرْآنِ عَلى الخَبَرِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ في بَيانِ ضَعْفِ هَذا الخَبَرِ: أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قالَتْ: لَأنْ تُقْطَعَ قَدَمايَ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أمْسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: لَأنْ أمْسَحَ عَلى جِلْدِ حِمارٍ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أمْسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ، وأمّا مالِكٌ فَإحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ أنَّهُ أنْكَرَ جَوازَ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ، ولا نِزاعَ أنَّهُ كانَ في عِلْمِ الحَدِيثِ كالشَّمْسِ الطّالِعَةِ، فَلَوْلا أنَّهُ عَرَفَ فِيهِ ضَعْفًا وإلّا لَما قالَ ذَلِكَ، والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ ما أباحَ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ لِلْمُقِيمِ، وأباحَهُ لِلْمُسافِرِ مَهْما شاءَ مِن غَيْرِ تَقْدِيرٍ فِيهِ.
وأمّا الشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ وأكْثَرُ الفُقَهاءِ فَإنَّهم جَوَّزُوهُ لِلْمُسافِرِ ثَلاثَةَ أيّامٍ بِلَيالِيها مِن وقْتِ الحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: ابْتِداؤُهُ مِن وقْتِ لُبْسِ الخُفَّيْنِ، وقالَ الأوْزاعِيُّ وأحْمَدُ: يُعْتَبَرُ وقْتُ المَسْحِ بَعْدَ الحَدَثِ: قالُوا: فَهَذا الِاخْتِلافُ الشَّدِيدُ بَيْنَ الفُقَهاءِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الخَبَرَ ما بَلَغَ مَبْلَغَ الظُّهُورِ والشُّهْرَةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ القَوْلُ بِأنَّ هَذِهِ الأقْوالَ لَمّا تَعارَضَتْ تَساقَطَتْ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلى ظاهِرِ كِتابِ اللَّهِ تَعالى.
الخامِسُ: أنَّ الحاجَةَ إلى مَعْرِفَةِ جَوازِ المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ حاجَةٌ عامَّةٌ في حَقِّ كُلِّ المُكَلَّفِينَ، فَلَوْ كانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لَعَرَفَهُ الكُلُّ، ولَبَلَغَ مَبْلَغَ التَّواتُرِ، ولَمّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ ضَعْفُهُ، فَهَذا جُمْلَةُ كَلامِ مَن أنْكَرَ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ.
وأمّا الفُقَهاءُ فَقالُوا: ظَهَرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ القَوْلُ بِهِ ولَمْ يَظْهَرْ مِنَ الباقِينَ إنْكارٌ، فَكانَ ذَلِكَ إجْماعًا مِنَ الصَّحابَةِ، فَهَذا أقْوى ما يُقالُ فِيهِ.
وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: «حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِن أصْحابِ الرَّسُولِ ﷺ أنَّهُ مَسَحَ عَلى الخُفَّيْنِ»، وأمّا إنْكارُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فَرُوِيَ أنَّ عِكْرِمَةَ رَوى ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمّا سُئِلَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْهُ فَقالَ: كَذَبَ عَلَيَّ. وقالَ عَطاءٌ: كانَ ابْنُ عُمَرَ يُخالِفُ النّاسَ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَمُتْ حَتّى وافَقَهم، وأمّا عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَرُوِيَ أنَّ شُرَيْحَ بْنَ هانِئٍ قالَ: سَألْتُها عَنْ مَسْحِ الخُفَّيْنِ فَقالَتِ: اذْهَبْ إلى عَلِيٍّ فاسْألْهُ فَإنَّهُ كانَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ في أسْفارِهِ، قالَ: فَسَألْتُهُ فَقالَ امْسَحْ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ عائِشَةَ تَرَكَتْ ذَلِكَ الإنْكارَ.
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةُ والأرْبَعُونَ: رَجُلٌ مَقْطُوعُ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ سَقَطَ عَنْهُ هَذانِ الفَرْضانِ وبَقِيَ عَلَيْهِ غَسْلُ الوَجْهِ ومَسْحُ الرَّأْسِ. فَإنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَن يُوَضِّئُهُ أوْ يُيَمِّمُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ أيْضًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكم وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾ مَشْرُوطٌ بِالقُدْرَةِ عَلَيْهِ لا مَحالَةَ، فَإذا فاتَتِ القُدْرَةُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ، فَهَذا جُمْلَةُ ما يَتَعَلَّقُ مِنَ المَسائِلِ بِآيَةِ الوُضُوءِ.
* * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ فَتَطَهَّرُوا، إلّا أنَّ التّاءَ تُدْغَمُ في الطّاءِ لِأنَّهُما مِن مَكانٍ واحِدٍ، فَإذا أُدْغِمَتِ التّاءُ في الطّاءِ سَكَنَ أوَّلُ الكَلِمَةِ فَزِيدَ فِيها ألِفُ الوَصْلِ لِيُبْتَدَأ بِها. فَقِيلَ: اطَّهَّرُوا.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الطَّهارَةِ الصُّغْرى ذَكَرَ بَعْدَها كَيْفِيَّةَ الطَّهارَةِ الكُبْرى، وهي الغُسْلُ مِنَ الجَنابَةِ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: لِحُصُولِ الجَنابَةِ سَبَبانِ:
الأوَّلُ: نُزُولُ المَنِيِّ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ» “ .
والثّانِي: التِقاءُ الخِتانَيْنِ، وقالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ ومُعاذٌ وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: لا يَجِبُ الغُسْلُ إلّا عِنْدَ نُزُولِ الماءِ. لَنا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا التَقى الخِتانانِ وجَبَ الغُسْلُ» “ .
واعْلَمْ أنَّ خِتانَ الرَّجُلِ هو المَوْضِعُ الَّذِي يُقْطَعُ مِنهُ جِلْدَةُ القُلْفَةِ، وأمّا خِتانُ المَرْأةِ فاعْلَمْ أنَّ شَفْرَيْها مُحِيطانِ بِثَلاثَةِ أشْياءَ: ثُقْبَةٌ في أسْفَلِ الفَرْجِ وهو مَدْخَلُ الذَّكَرِ ومَخْرَجُ الحَيْضِ والوَلَدِ، وثُقْبَةٌ أُخْرى فَوْقَ هَذِهِ مِثْلُ إحْلِيلِ الذَّكَرِ وهي مَخْرَجُ البَوْلِ لا غَيْرَ، والثّالِثُ فَوْقَ ثُقْبَةِ البَوْلِ مَوْضِعُ خِتانِها، وهُناكَ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ قائِمَةٌ مِثْلُ عُرْفِ الدِّيكِ، وقَطْعُ هَذِهِ الجِلْدَةِ هو خِتانُها، فَإذا غابَتِ الحَشَفَةُ حاذى خِتانَها خِتانُهُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فاطَّهَّرُوا﴾ أمْرٌ عَلى الإطْلاقِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ دُونَ عُضْوٍ، فَكانَ ذَلِكَ أمْرًا بِتَحْصِيلِ الطَّهارَةِ في كُلِّ البَدَنِ عَلى الإطْلاقِ؛ ولِأنَّ الطَّهارَةَ لَمّا كانَتْ مَخْصُوصَةً بِبَعْضِ الأعْضاءِ - لا جَرَمَ - ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى تِلْكَ الأعْضاءَ عَلى التَّعْيِينِ، فَهَهُنا لَمّا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنَ الأعْضاءِ عَلى التَّعْيِينِ عُلِمَ أنَّ هَذا الأمْرَ أمْرٌ بِطَهارَةِ كُلِّ البَدَنِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا التَّطْهِيرَ هو الِاغْتِسالُ كَما قالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ولا جُنُبًا إلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النِّساءِ: ٤٣] .
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الدَّلْكُ غَيْرُ واجِبٍ في الغُسْلِ، وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: واجِبٌ. لَنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاطَّهَّرُوا﴾ أمْرٌ بِتَطْهِيرِ البَدَنِ، وتَطْهِيرُ البَدَنِ لا يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلْكُ بِدَلِيلِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا سُئِلَ عَنِ الِاغْتِسالِ مِنَ الجَنابَةِ قالَ: ”«أمّا أنا فَأحْثِي عَلى رَأْسِي ثَلاثَ حَثَياتٍ خَفِيفاتٍ مِنَ الماءِ فَإذا أنا قَدْ طَهُرْتُ» “ أثْبَتَ حُصُولَ الطِّهارَةِ بِدُونِ الدَّلْكِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ التَّطْهِيرَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى الدَّلْكِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ مَسُّ المُصْحَفِ. وقالَ داوُدُ: يَجُوزُ. لَنا قَوْلُهُ: ﴿فاطَّهَّرُوا﴾ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِطاهِرٍ، وإلّا لَكانَ ذَلِكَ أمْرًا بِتَطْهِيرِ الطّاهِرِ وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، وإذا لَمْ يَكُنْ طاهِرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ مَسُّ المُصْحَفِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَمَسُّهُ إلّا المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقِعَةِ: ٧٩] .
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: لا يَجِبُ تَقْدِيمُ الوُضُوءِ عَلى الغُسْلِ، وقالَ أبُو ثَوْرٍ وداوُدُ: يَجِبُ. لَنا أنَّ قَوْلَهُ ﴿فاطَّهَّرُوا﴾ أمْرٌ بِالتَّطْهِيرِ، والتَّطْهِيرُ حاصِلٌ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِسالِ، ولا يَتَوَقَّفُ عَلى الوُضُوءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أمّا أنا فَأحْثِي عَلى رَأْسِي ثَلاثَ حَثَياتٍ فَإذا أنا قَدْ طَهُرْتُ» “ .
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: المَضْمَضَةُ والِاسْتِنْشاقُ غَيْرُ واجِبَيْنِ في الغُسْلِ، وقالَ أبُو (p-١٣١)حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُما واجِبانِ.
حُجَّةُ الشّافِعِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أمّا أنا فَأحْثِي عَلى رَأْسِي ثَلاثَ حَثَياتٍ فَإذا أنا قَدْ طَهُرْتُ» “ .
وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ الآيَةُ والخَبَرُ. أمّا الآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاطَّهَّرُوا﴾ وهَذا أمْرٌ بِأنْ يُطَهِّرُوا أنْفُسَهم، وتَطْهِيرُ النَّفْسِ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ أجْزاءِ النَّفْسِ. تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في الأجْزاءِ الباطِنَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ تَطْهِيرُها، وداخِلُ الفَمِ والأنْفِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُما، فَوَجَبَ بَقاؤُهُما تَحْتَ النَّصِّ، وأمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«بُلُّوا الشَّعَرَ وأنْقُوا البَشَرَةَ فَإنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنابَةً» “ فَقَوْلُهُ: ”بُلُّوا الشَّعَرَ“ يَدْخُلُ فِيهِ الأنْفُ؛ لِأنَّ في داخِلِهِ شَعَرًا، وقَوْلُهُ: ”وأنْقُوا البَشَرَةَ“ يَدْخُلُ فِيهِ جِلْدَةُ داخِلِ الفَمِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: شَعَرُ الرَّأْسِ إنْ كانَ مَفْتُولًا لا مَشْدُودًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ نَظَرَ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِن وُصُولِ الماءِ إلى جِلْدَةِ الرَّأْسِ وجَبَ نَقْضُهُ، وقالَ مالِكٌ لا يَجِبُ، وإنْ كانَ لا يَمْنَعُ لَمْ يَجِبْ وقالَ النَّخَعِيُّ: يَجِبُ. لَنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاطَّهَّرُوا﴾ عِبارَةٌ عَنْ إيصالِ الماءِ إلى جَمِيعِ أجْزاءِ البَدَنِ، فَإنْ كانَ شَدُّ بَعْضِ الشُّعُورِ بِالبَعْضِ مانِعًا مِنهُ وجَبَ إزالَةُ ذَلِكَ الشَّدِّ لِيَزُولَ ذَلِكَ المانِعُ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ مانِعًا مِنهُ لَمْ يَجِبْ إزالَتُهُ؛ لِأنَّ ما هو المَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ فَلا حاجَةَ إلَيْهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قالَ الأكْثَرُونَ: لا تَرْتِيبَ في الغُسْلِ، وقالَ إسْحاقُ: تَجِبُ البُداءَةُ بِأعْلى البَدَنِ لَنا أنَّ قَوْلَهُ ﴿فاطَّهَّرُوا﴾ أمْرٌ بِالتَّطْهِيرِ المُطْلَقِ، وذَلِكَ حاصِلٌ بِإيصالِ الماءِ إلى كُلِّ البَدَنِ، فَإذا حَصَلَ التَّطْهِيرُ وجَبَ أنْ يَكُونَ كافِيًا في الخُرُوجِ عَنِ العُهْدَةِ.
* * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أنْ يَتَيَمَّمَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ شَرَطَ فِيهِ عَدَمَ الماءِ؛ لِأنَّ عَدَمَ الماءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، فَلا مَعْنى لِضَمِّهِ إلى المَرَضِ، وإنَّما يَرْجِعُ قَوْلُهُ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ إلى المُسافِرِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَرَضُ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ:
أحَدُها: أنْ يَخافَ الضَّرَرَ والتَّلَفَ، فَهَهُنا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالِاتِّفاقِ.
الثّانِي: أنْ لا يَخافَ الضَّرَرَ ولا التَّلَفَ، فَهَهُنا قالَ الشّافِعِيُّ: لا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ، وقالَ مالِكٌ وداوُدُ يَجُوزُ، وحُجَّتُهُما أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ أنْواعِ المَرَضِ.
الثّالِثُ: أنْ يَخافَ الزِّيادَةَ في العِلَّةِ وبُطْءِ المَرَضِ، فَهَهُنا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ عَلى أصَحِّ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وبِهِ قالَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُما اللَّهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾ .
الرّابِعُ: أنْ يَخافَ بَقاءَ شَيْنٍ عَلى شَيْءٍ مِن أعْضائِهِ، قالَ في ”الجَدِيدِ“: لا يَتَيَمَّمُ. قالَ في ”القَدِيمِ“ يَتَيَمَّمُ وهو الأصَحُّ؛ لِأنَّهُ هو المُطابِقُ لِلْآيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إنْ كانَ المَرَضُ المانِعُ مِنِ اسْتِعْمالِ الماءِ حاصِلًا في بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ يَغْسِلُ ما لا ضَرَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كانَ أكْثَرُ البَدَنِ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ دُونَ التَّيَمُّمِ، وإنْ كانَ أكْثَرُهُ جَرِيحًا يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الأخْذُ (p-١٣٢)بِالِاحْتِياطِ، وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ المَرَضَ أحَدَ أسْبابِ جَوازِ التَّيَمُّمِ، والمَرَضُ إذا كانَ حالًّا في بَعْضِ أعْضائِهِ فَهو مَرِيضٌ فَكانَ داخِلًا تَحْتَ الآيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لَوْ ألْصَقَ عَلى مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ لَصُوقًا يَمْنَعُ وُصُولَ الماءِ إلى البَشَرَةِ ولا يَخافُ مِن نَزْعٍ ذَلِكَ اللَّصُوقِ التَّلَفَ، قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَلْزَمُهُ نَزْعُ اللَّصُوقِ عِنْدَ التَّيَمُّمِ حَتّى يَصِلَ التُّرابُ إلَيْهِ، وقالَ الأكْثَرُونَ: لا يَجِبُ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رِعايَةُ الِاحْتِياطِ، وحُجَّةُ الجُمْهُورِ أنَّ مَدارَ الأمْرِ في التَّيَمُّمِ عَلى التَّخْفِيفِ وإزالَةِ الحَرَجِ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ (الحَجِّ: ٨٧) فَإيجابُ نَزْعِ اللَّصُوقِ حَرَجٌ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجِبَ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ في السَّفَرِ القَصِيرِ، وقالَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِن أصْحابِنا: لا يَجُوزُ. لَنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ مُطْلَقٌ ولَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلُ أنَّ السَّفَرَ هَلْ هو طَوِيلٌ أوْ قَصِيرٌ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنّا إذا قُلْنا السَّفَرَ الطَّوِيلَ والقَصِيرَ سَبَبانِ لِلرُّخْصَةِ لِكَوْنِ لَفْظِ السَّفَرِ مُطْلَقًا وجَبَ أنْ نَقُولَ: المَرَضُ الخَفِيفُ والشَّدِيدُ سَبَبانِ لِلرُّخْصَةِ لِكَوْنِ لَفْظِ المَرَضِ مُطْلَقًا، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ السَّفَرَ القَصِيرَ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ انْصَرَفَ مِن قَوْمِهِ فَبَلَغَ مَوْضِعًا مُشْرِفًا عَلى المَدِينَةِ فَدَخَلَ وقْتُ العَصْرِ فَطَلَبَ الماءَ لِلْوُضُوءِ فَلَمْ يَجِدْ فَجَعَلَ يَتَيَمَّمُ، فَقالَ لَهُ مَوْلاهُ: أتَتَيَمَّمُ وها هي تَنْظُرُ إلَيْكَ جُدْرانُ المَدِينَةِ ؟ فَقالَ: أوَأعِيشُ حَتّى أبْلُغَها ؟ وتَيَمَّمَ وصَلّى، ودَخَلَ المَدِينَةَ والشَّمْسُ حَيَّةٌ بَيْضاءُ وما أعادَ الصَّلاةَ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: المُسافِرُ إذا كانَ مَعَهُ ماءٌ ويَخافُ العَطَشَ جازَ لَهُ أنْ يَتَيَمَّمَ لِقَوْلِهِ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ: ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ﴾ ولِأنَّ فَرْضَ الوُضُوءِ سَقَطَ عَنْهُ إذا أضَرَّ بِمالِهِ، بِدَلِيلِ أنَّهُ إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ إلّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الوُضُوءُ، فَإذا أضَرَّ بِنَفْسِهِ كانَ أوْلى.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: إذا كانَ مَعَهُ ماءٌ وكانَ حَيَوانٌ آخَرُ عَطْشانًا مُشْرِفًا عَلى الهَلاكِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الماءَ واجِبُ الصَّرْفِ إلى ذَلِكَ الحَيَوانِ؛ لِأنَّ حَقَّ الحَيَوانِ مُقَدَّمٌ عَلى الصَّلاةِ، ألا تَرى أنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ الصَّلاةِ عِنْدَ إشْرافِ صَبِيٍّ أوْ أعْمى عَلى غَرَقٍ أوْ حَرْقٍ، فَإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ ذَلِكَ الماءُ كالمَعْدُومِ، فَدَخَلَ حِينَئِذٍ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ .
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: إذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ماءٌ ولَكِنْ كانَ مَعَ غَيْرِهِ ماءٌ، ولا يُمْكِنُهُ أنْ يَشْتَرِيَ إلّا بِالغَبْنِ الفاحِشِ جازَ التَّيَمُّمُ لَهُ: لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ (الحَجِّ: ٧٨) رَفَعَ عَنْهُ تَحَمُّلَ الغَبْنِ الفاحِشِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ كالفاقِدِ لِلْماءِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ وكَذا القَوْلُ إذا كانَ يُباعُ الماءُ بِثَمَنِ المِثْلِ لَكِنَّهُ لا يَجِدُ ذَلِكَ الثَّمَنَ، أوْ كانَ مَعَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ لَكِنَّهُ يَحْتاجُ إلَيْهِ حاجَةً ضَرُورِيَّةً، فَأمّا إذا كانَ واجِدًا لِثَمَنِ المِثْلِ ولَمْ يَكُنْ بِهِ إلَيْهِ حاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَهُنا يَجِبُ شِراءُ الماءِ.
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: إذا وُهِبَ مِنَّةً ذَلِكَ الماءَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؟ قالَ أصْحابُنا: يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ولا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ الماءِ؛ لِأنَّ المِنَّةَ في قَبُولِ الهِبَةِ شاقَّةٌ، وأنا أتَعَجَّبُ مِنهم فَإنَّهم لَمّا جَعَلُوا هَذا القَدْرَ مِنَ الحَرَجِ سَبَبًا لِجَوازِ التَّيَمُّمِ فَلِمَ لَمْ يَجِدُوا خَوْفَ زِيادَةِ الألَمِ في المَرَضِ سَبَبًا لِجَوازِ التَّيَمُّمِ!
* * *
المَسْألَةُ العاشِرَةُ: إذا أُعِيرَ مِنَّهً الدَّلْوَ والرِّشاءَ، فَهَهُنا الأكْثَرُونَ قالُوا: لا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأنَّ المِنَّةَ في هَذِهِ الإعارَةِ قَلِيلَةٌ، وكانَ هَذا الإنْسانُ واجِدًا لِلْماءِ مِن غَيْرِ حَرَجٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ (p-١٣٣)دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ وِجْدانِ الماءِ.
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ﴾ كِنايَةٌ عَنْ قَضاءِ الحاجَةِ، وأكْثَرُ العُلَماءِ ألْحَقُوا بِهِ كُلَّ ما يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَواءٌ كانَ مُعْتادًا أوْ نادِرًا لِدَلالَةِ الأحادِيثِ عَلَيْهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِنْجاءُ واجِبٌ إمّا بِالماءِ وإمّا بِالأحْجارِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: غَيْرُ واجِبٍ.
حُجَّةُ الشّافِعِيِّ قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أحْجارٍ، وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ أوْجَبَ عِنْدَ المَجِيءِ مِنَ الغائِطِ الوُضُوءَ أوِ التَّيَمُّمَ ولَمْ يُوجِبْ غَسْلَ مَوْضِعِ الحَدَثِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ واجِبٍ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَمْسُ المَرْأةِ يَنْقُضُ الوُضُوءَ عِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، ولا يَنْقُضُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ يَدُلُّ عَلى انْتِقاضِ وُضُوءِ اللّامِسِ، أمّا انْتِقاضُ وُضُوءِ المَلْمُوسِ فَغَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنَ الآيَةِ، بَلْ إنَّما أُخِذَ مِنَ الخَبَرِ، أوْ مِنَ القِياسِ الجَلِيِّ.
* * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ، وهي مَحْصُورَةٌ في نَوْعَيْنِ:
أحَدُهُما: الكَلامُ في أنَّ الماءَ المُطَهِّرَ ما هو ؟ .
والثّانِي: الكَلامُ في أنَّ التَّيَمُّمَ كَيْفَ هو ؟
أمّا النَّوْعُ الأوَّلُ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الوُضُوءُ بِالماءِ المُسَخَّنِ جائِزٌ ولا يُكْرَهُ، وقالَ مُجاهِدٌ: يُكْرَهُ. لَنا وجْهانِ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ والغَسْلُ عِبارَةٌ عَنْ إمْرارِ الماءِ عَلى العُضْوِ وقَدْ أتى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنِ العُهْدَةِ.
الثّانِي: أنَّهُ قالَ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ عَلَّقَ جَوازَ التَّيَمُّمِ بِفِقْدانِ الماءِ، وهَهُنا لَمْ يَحْصُلْ فِقْدانُ الماءِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أصْحابُنا: الماءُ إذا قَصَدَ تَشْمِيسَهُ في الإناءِ كُرِهَ الوُضُوءُ بِهِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأحْمَدُ رَحِمَهُما اللَّهُ: لا يُكْرَهُ.
حُجَّةُ أصْحابِنا ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«مَنِ اغْتَسَلَ بِماءٍ مُشَمَّسٍ فَأصابَهُ وضَحٌ فَلا يَلُومَنَّ إلّا نَفْسَهُ» “ ومِن أصْحابِنا مَن قالَ: لا يُكْرَهُ ذَلِكَ مِن جِهَةِ الشَّرْعِ، بَلْ مِن جِهَةِ الطِّبِّ.
وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّهُ أمَرَ بِالغَسْلِ في قَوْلِهِ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ وهَذا غَسْلٌ فَيَكُونُ كافِيًا، الثّانِي أنَّهُ واجِدٌ لِلْماءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لا يُكْرَهُ الوُضُوءُ بِما فَضَلَ عَنْ وُضُوءِ المُشْرِكِ، وكَذا لا يُكْرَهُ الوُضُوءُ بِالماءِ الَّذِي يَكُونُ في أوانِي المُشْرِكِينَ. وقالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ: لا يَجُوزُ. لَنا أنَّهُ أُمِرَ بِالغَسْلِ وقَدْ أتى بِهِ؛ ولِأنَّهُ واجِدٌ لِلْماءِ فَلا يَتَيَمَّمُ. ورُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَوَضَّأ مِن مَزادَةِ مُشْرِكَةٍ»، وتَوَضَّأ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِن ماءٍ في جَرَّةِ نَصْرانِيَّةٍ.
* * *
(p-١٣٤)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: يَجُوزُ الوُضُوءُ بِماءِ البَحْرِ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ لا يَجُوزُ. لَنا أنَّهُ أُمِرَ بِالغَسْلِ وقَدْ أتى بِهِ؛ ولِأنَّ شَرْطَ جَوازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الماءِ، ومَن وجَدَ ماءَ البَحْرِ فَقَدْ وجَدَ الماءَ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَجُوزُ الوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ ذَلِكَ في السَّفَرِ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ قَوْلُهُ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ أوْجَبَ الشّارِعُ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ التَّيَمُّمَ، وعِنْدَ الخَصْمِ يَجُوزُ لَهُ التَّرْكُ لِلتَّيَمُّمِ بَلْ يَجِبُ، وذَلِكَ بِأنْ يَتَوَضَّأ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، فَكانَ ذَلِكَ عَلى خِلافِ الآيَةِ، فَإنْ تَمَسَّكُوا بِقِصَّةِ الجِنِّ قُلْنا: قِيلَ إنَّ ذَلِكَ كانَ ماءً نُبِذَتْ فِيهِ تُمَيْراتٌ لِإزالَةِ المُلُوحَةِ، وأيْضًا فَقِصَّةُ الجِنِّ كانَتْ بِمَكَّةَ وسُورَةُ المائِدَةِ آخِرُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ، فَجَعْلُ هَذا ناسِخًا لِذَلِكَ أوْلى.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: ذَهَبَ الأوْزاعِيُّ والأصَمُّ إلى أنَّهُ يَجُوزُ الوُضُوءُ والغُسْلُ بِجَمِيعِ المائِعاتِ الطّاهِرَةِ، وقالَ الأكْثَرُونَ: لا يَجُوزُ. لَنا أنَّ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ أوْجَبَ اللَّهُ التَّيَمُّمَ، وتَجْوِيزُ الوُضُوءِ بِسائِرِ المائِعاتِ يُبْطِلُ ذَلِكَ. احْتَجُّوا بِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ أمْرٌ بِمُطْلِقِ الغَسْلِ، وإمْرارُ المائِعِ عَلى العُضْوِ يُسَمّى غَسْلًا كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎فَيا حُسْنَها إذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَها
وإذا كانَ الغَسْلُ اسْمًا لِلْقَدْرِ المُشْتَرِكِ بَيْنَ ما يَحْصُلُ بِالماءِ وبَيْنَ ما يَحْصُلُ بِسائِرِ المائِعاتِ كانَ قَوْلُهُ ﴿فاغْسِلُوا﴾ إذْنًا في الوُضُوءِ بِكُلِّ المائِعاتِ.
قُلْنا: هَذا مُطْلَقٌ، والدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْناهُ مُقَيَّدٌ، وحَمْلُ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ هو الواجِبُ.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الماءُ المُتَغَيِّرُ بِالزَّعْفَرانِ تَغَيُّرًا فاحِشًا لا يَجُوزُ الوُضُوءُ بِهِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ أنَّ مِثْلَ هَذا الماءِ لا يُسَمّى ماءً عَلى الإطْلاقِ، فَواجِدُهُ غَيْرُ واجِدٍ لِلْماءِ، فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، وحُجَّةُأبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ واجِدَهُ واجِدٌ لِلْماءِ؛ لِأنَّ الماءَ المُتَغَيِّرَ بِالزَّعْفَرانِ ماءٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكانَ أصْلُ الماءِ مَوْجُودًا لا مَحالَةَ، فَواجِدُهُ يَكُونُ واجِدًا لِلْماءِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ عَلَّقَ جَوازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الماءِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: الماءُ الَّذِي تَغَيَّرَ وتَعَفَّنَ بِطُولِ المُكْثِ طاهِرٌ طَهُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ عَلَّقَ جَوازَ التَّيَمُّمِ عَلى عَدَمِ الماءِ، وهَذا الماءُ المُتَعَفِّنُ ماءٌ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ وُجُودِهِ.
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: قالَ مالِكٌ وداوُدُ: الماءُ المُسْتَعْمَلُ في الوُضُوءِ يَبْقى طاهِرًا طَهُورًا، وهو قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، والقَوْلُ الجَدِيدُ لِلشّافِعِيِّ أنَّهُ لَمْ يَبْقَ طَهُورًا ولَكِنَّهُ طاهِرٌ، وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في أكْثَرِ الرِّواياتِ: إنَّهُ نَجِسٌ. حُجَّةُ مالِكٍ أنَّ جَوازَ التَّيَمُّمِ مُعَلَّقٌ عَلى عَدَمِ وِجْدانِ الماءِ. وهو قَوْلُهُ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ وواجِدُ الماءِ المُسْتَعْمَلِ واجِدٌ لِلْماءِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ، وإذا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ جازَ لَهُ التَّوَضُّؤُ؛ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ. وأيْضًا قالَ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ (الفُرْقانِ: ٤٨) والطَّهُورُ هو الَّذِي يَتَكَرَّرُ مِنهُ هَذا الفِعْلُ كالضَّحُوكِ والقَتُولِ والأكُولِ والشَّرُوبِ، والتَّكْرارُ إنَّما يَحْصُلُ إذا كانَ المُسْتَعْمَلُ في الطَّهارَةِ يَجُوزُ اسْتِعْمالُهُ فِيها مَرَّةً أُخْرى.
* * *
المَسْألَةُ العاشِرَةُ: قالَ مالِكٌ: الماءُ إذا وقَعَتْ فِيهِ نَجاسَةٌ ولَمْ يَتَغَيَّرِ الماءُ بِتِلْكَ النَّجاسَةِ بَقِيَ طاهِرًا (p-١٣٥)طَهُورًا سَواءٌ كانَ قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا، وهو قَوْلُ أكْثَرِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ. وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كانَ أقَلَّ مِنَ القُلَّتَيْنِ يَنْجَسُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إنْ كانَ أقَلَّ مِن عَشَرَةٍ في عَشَرَةٍ يَنْجَسُ. حُجَّةُ مالِكٍ أنَّ اللَّهَ جَعَلَ في هَذِهِ الآيَةِ عَدَمَ الماءِ شَرْطًا لِجَوازِ التَّيَمُّمِ، وواجِدُ هَذا الماءِ الَّذِي فِيهِ النِّزاعُ واجِدٌ لِلْماءِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ. أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: هَذا المَعْنى مَوْجُودٌ عِنْدَ صَيْرُورَةِ الماءِ القَلِيلِ مُتَغَيِّرًا، إلّا أنّا نَقُولُ: العامُّ حُجَّةٌ في غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وأيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ أمْرٌ بِمُطْلَقِ الغَسْلِ، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في سائِرِ المائِعاتِ وفي الماءِ القَلِيلِ الَّذِي تَغَيَّرَ بِالنَّجاسَةِ، فَيَبْقى حُجَّةً في الباقِي. وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ تَأيَّدَ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«خُلِقَ الماءُ طَهُورًا لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلّا ما غَيَّرَ طَعْمَهُ أوْ رِيحَهُ أوْ لَوْنَهُ» “ ولا يُعارَضُ هَذا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» “ لِأنَّ القُرْآنَ أوْلى مِن خَبَرِ الواحِدِ، والمَنطُوقَ أوْلى مِنَ المَفْهُومِ.
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: يَجُوزُ الوُضُوءُ بِفَضْلِ ماءِ الجُنُبِ. وقالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ: لا يَجُوزُ بِفَضْلِ ماءِ المَرْأةِ إذا خَلَتْ بِهِ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ. لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ وواجِدُ هَذا الماءِ واجِدٌ لِلْماءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وإذا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ جازَ لَهُ الوُضُوءُ؛ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: أسْآرُ السِّباعِ طاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ، وكَذا سُؤْرُ الحِمارِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَجِسَةٌ. لَنا أنَّ واجِدَ هَذا السُّؤْرِ واجِدٌ لِلْماءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ ولِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فاغْسِلُوا﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ أنْواعِ الماءِ عَلى ما تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: الماءُ إذا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ ووَقَعَتْ فِيهِ نَجاسَةٌ مُغَيِّرَةٌ بَقِيَ طاهِرًا طَهُورًا عِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْجَسُ. لَنا أنَّهُ واجِدٌ لِلْماءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ ولِأنَّهُ أُمِرَ بِالغَسْلِ وقَدْ أتى بِهِ فَخَرَجَ عَنِ العُهْدَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: الماءُ الَّذِي تَفَتَّتَتِ الأوْراقُ فِيهِ، لِلنّاسِ فِيهِ تَفاصِيلُ، لَكِنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى كَوْنِهِ طاهِرًا مُطَهِّرًا ما لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الماءِ المُطْلَقِ، وبِالجُمْلَةِ فَهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ كُلَّما بَقِيَ اسْمُ الماءِ المُطْلَقِ كانَ طاهِرًا طَهُورًا.
* * *
النَّوْعُ الثّانِي: مِنَ المَسائِلِ المُسْتَخْرَجَةِ مِن هَذِهِ الآيَةِ مِن مَسائِلِ التَّيَمُّمِ.
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ والأكْثَرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لا بُدَّ في التَّيَمُّمِ مِنَ النِّيَّةِ، وقالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يَجِبُ. لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ والتَّيَمُّمُ عِبارَةٌ عَنِ القَصْدِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ تَيَمُّمُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، وعَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ إلى الرُّسْغَيْنِ، وعَنْ مالِكٍ إلى الكُوعَيْنِ، وعَنِ الزُّهْرِيِّ إلى الآباطِ.
لَنا: اليَدُ اسْمٌ لِهَذا العُضْوِ إلى الإبِطِ فَقَوْلُهُ ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكُمْ﴾ يَقْتَضِي المَسْحَ إلى الإبِطَيْنِ، تَرَكْنا العَمَلَ بِهَذا النَّصِّ في العَضُدَيْنِ؛ لِأنّا نَعْلَمُ أنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنِ الوُضُوءِ. ومَبْناهُ عَلى التَّخْفِيفِ بِدَلِيلِ أنَّ الواجِبَ تَطْهِيرُ أعْضاءٍ أرْبَعَةٍ في الوُضُوءِ، وفي التَّيَمُّمِ الواجِبُ تَطْهِيرُ عُضْوَيْنِ، وتَأكَّدَ هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِ تَعالى في آيَةِ التَّيَمُّمِ ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ﴾ فَإذا كانَ العَضُدانِ غَيْرَ مُعْتَبَرَيْنِ في (p-١٣٦)الوُضُوءِ فَبِأنْ لا يَكُونا مُعْتَبَرَيْنِ في التَّيَمُّمِ أوْلى، وإذا خَرَجَ العَضُدانِ عَنْ ظاهِرِ النَّصِّ بِهَذا الدَّلِيلِ بَقِيَ اليَدانِ إلى المِرْفَقَيْنِ فِيهِ، فالحاصِلُ أنَّهُ تَعالى إنَّما تَرَكَ تَقْيِيدَ التَّيَمُّمِ في اليَدَيْنِ بِالمِرْفَقَيْنِ؛ لِأنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الوُضُوءِ، فَتَقْيِيدُهُ بِهِما في الوُضُوءِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ هَذا التَّقْيِيدِ في التَّيَمُّمِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يَجِبُ اسْتِيعابُ العُضْوَيْنِ في التَّيَمُّمِ، ونَقَلَ الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ إذا يَمَّمَ الأكْثَرَ جازَ.
لَنا قَوْلُهُ: ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم مِنهُ﴾ والوَجْهُ واليَدُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ هَذَيْنِ العُضْوَيْنِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِالِاسْتِيعابِ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ أنَّ الباءَ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ فَكَذا هَهُنا.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا وضَعَ يَدَهُ عَلى الأرْضِ فَما لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الغُبارِ لَمْ يُجْزِهِ، وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ رَحِمَهُما اللَّهُ يُجْزِئُهُ.
لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم مِنهُ﴾ وكَلِمَةُ (مِنهُ) تَدُلُّ عَلى التَّمَسُّحِ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ التُّرابِ كَما أنَّ مَن قالَ: فُلانٌ يَمْسَحُ مِنَ الدُّهْنِ أفادَ هَذا المَعْنى، وقَدْ بالَغْنا في تَقْرِيرِ هَذا في تَفْسِيرِ آيَةِ التَّيَمُّمِ مِن سُورَةِ النِّساءِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلّا بِالتُّرابِ الخالِصِ، وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ بِالتُّرابِ وبِالرَّمْلِ وبِالخَزَفِ المَدْقُوقِ والجِصِّ والنُّورَةِ والزَّرْنِيخِ.
لَنا ما رُوِيَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: الصَّعِيدُ هو التُّرابُ، وأيْضًا التَّيَمُّمُ طَهارَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ المَعْنى، فَوَجَبَ الِاقْتِصارُ فِيهِ عَلى مَوْرِدِ النَّصِّ، والنَّصُّ المُفَصَّلُ إنَّما ورَدَ في التُّرابِ. قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«التُّرابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ولَوْ لَمْ يَجِدِ الماءَ عَشْرَ حِجَجٍ» “ وقالَ ”«جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وتُرابُها طَهُورًا» “ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: لَوْ وقَفَ عَلى مَهَبِّ الرِّياحِ فَسَفَتِ الرِّياحُ التُّرابَ عَلَيْهِ فَأمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ أوْ لَمْ يُمِرَّ، ظاهِرُ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّهُ لا يَكْفِي. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ يَكْفِي؛ لِأنَّهُ لَمّا وصَلَ الغُبارُ إلى أعْضائِهِ ثُمَّ أمَرَّ الغُبارَ عَلى تِلْكَ الأعْضاءِ فَقَدْ قَصَدَ إلى اسْتِعْمالِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ في أعْضائِهِ فَكانَ كافِيًا.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: المَذْهَبُ أنَّهُ إذا يَمَّمَهُ غَيْرُهُ صَحَّ، وقِيلَ لا يَصِحُّ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ أمْرٌ لَهُ بِالفِعْلِ ولَمْ يُوجَدْ.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلّا بَعْدَ دُخُولِ وقْتِ الصَّلاةِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ.
لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ والقِيامُ إلى الصَّلاةِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ وقْتِها.
* * *
والمَسْألَةُ التّاسِعَةُ: إذا ضَرَبَ رِجْلَهُ حَتّى ارْتَفَعَ عَنْهُ غُبارٌ قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لَهُ أنْ يَتَيَمَّمَ، وقالَ أبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يَجُوزُ. حُجَّةُ أبِي يُوسُفَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ والغُبارُ المُنْفَصِلُ عَنِ (p-١٣٧)التُّرابِ لا يُقالُ: إنَّهُ صَعِيدٌ طَيِّبٌ، فَوَجَبَ أنْ لا يُجْزِيَ.
* * *
المَسْألَةُ العاشِرَةُ: لا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرابٍ نَجِسٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ والنَّجِسُ لا يَكُونُ طَيِّبًا.
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: المُسافِرُ إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ بِقُرْبِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ إلّا بَعْدَ الطَّلَبِ عَنِ اليَمِينِ واليَسارِ، وإنْ كانَ هُناكَ وادٍ هَبَطَ إلَيْهِ، وإنْ كانَ جَبَلٌ صَعِدَهُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ عَدَمُ الماءِ لَمْ يَجِبْ طَلَبُهُ.
لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ جَعَلَ عَدَمَ وِجْدانِ الماءِ شَرْطًا لِجَوازِ التَّيَمُّمِ، وعَدَمُ الوِجْدانِ مَشْرُوطٌ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِن تَقْدِيمِ الطَّلَبِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: لا يَصِحُّ الطَّلَبُ إلّا بَعْدَ دُخُولِ وقْتِ الصَّلاةِ، فَإنْ طَلَبَ قَبْلَهُ يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ ثانِيًا بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ، إلّا أنْ يَحْصُلَ عِنْدَهُ يَقِينٌ أنَّ الأمْرَ بَقِيَ كَما كانَ ولَمْ يَتَغَيَّرْ.
لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا﴾ عِبارَةٌ عَنْ دُخُولِ الوَقْتِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا﴾ عِبارَةً عَنْ عَدَمِ الوِجْدانِ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ، وعَدَمُ الوِجْدانِ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الطَّلَبِ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: لا خِلافَ في جَوازِ التَّيَمُّمِ بَدَلًا عَنِ الوُضُوءِ. وأمّا التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الغَسْلِ في حِقِّ الجُنُبِ فَعَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ جَوازُهُ، وهو قَوْلُ أكْثَرِ الفُقَهاءِ. وعَنْ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ لا يَجُوزُ.
لَنا أنَّ قَوْلَهُ إمّا أنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالجِماعِ أوْ يَدْخُلُ فِيهِ الجِماعُ، فَوَجَبَ جَوازُ التَّيَمُّمِ بَدَلًا عَنِ الغَسْلِ لِقَوْلِهِ: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ .
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ، وإنْ لَمْ يُحْدِثْ كَما في الوُضُوءِ. وقالَ أحْمَدُ: يَجْمَعُ بَيْنَ الفَوائِتِ، ولا يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاتَيْ وقْتَيْنِ.
حُجَّةُ الشّافِعِيِّ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ .
وجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ أنَّ ظاهِرَهُ يَقْتَضِي الأمْرَ بِكُلِّ وُضُوءٍ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ إنْ وُجِدَ الماءُ، وبِالتَّيَمُّمِ إنْ فُقِدَ الماءُ، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في الوُضُوءِ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيَبْقى في التَّيَمُّمِ عَلى مُقْتَضى ظاهِرِ الآيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ في أوَّلِ الوَقْتِ ويَتَوَقَّعُ وِجْدانَهُ في آخِرِ الوَقْتِ جازَ لَهُ التَّيَمُّمُ في أوَّلِ الوَقْتِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: بَلْ يُؤَخِّرُ الصَّلاةَ إلى آخِرِ الوَقْتِ.
حُجَّةُ الشّافِعِيِّ: قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾، وقَوْلُهُ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ القِيامَ إلى الصَّلاةِ، بَلِ المُرادُ دُخُولُ وقْتِ الصَّلاةِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ عِنْدَ دُخُولِ الوَقْتِ إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ جازَ لَهُ التَّيَمُّمُ. (p-١٣٨)
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذا وجَدَ الماءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وقَبْلَ الشُّرُوعِ في الصَّلاةِ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ. وقالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ والشَّعْبِيُّ: لا يَبْطُلُ.
لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ شَرَطَ عَدَمَ وِجْدانِ الماءِ بِجَوازِ الشُّرُوعِ في الصَّلاةِ بِالتَّيَمُّمِ، ومَن وجَدَ الماءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وقَبْلَ الشُّرُوعِ في الصَّلاةِ فَقَدْ فاتَهُ هَذا الشَّرْطُ فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ لَهُ الشُّرُوعُ في الصَّلاةِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ ثُمَّ وجَدَ الماءَ لا يَلْزَمُهُ إعادَةُ الصَّلاةِ. قالَ طاوُسٌ: يَلْزَمُهُ.
لَنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ جَوَّزَ لَهُ الشُّرُوعَ في الصَّلاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ وِجْدانِ الماءِ، وقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ؛ لِأنَّ الإتْيانَ بِالمَأْمُورِ بِهِ سَبَبٌ لِلْإجْزاءِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةَ عَشْرَةَ: لَوْ وجَدَ الماءَ في أثْناءِ الصَّلاةِ لا يَلْزَمُهُ الخُرُوجُ مِنها، وبِهِ قالَ مالِكٌ وأحْمَدُ خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ والثَّوْرِيِّ، وهو اخْتِيارُ المُزَنِيِّ وابْنِ شُرَيْحٍ.
لَنا أنَّ عَدَمَ وِجْدانِ الماءِ يَقْتَضِي جَوازَ الشُّرُوعِ في الصَّلاةِ بِحُكْمِ التَّيَمُّمِ عَلى ما دَلَّتِ الآيَةُ عَلَيْهِ، فَقَدِ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ صَلاتُهُ صَحِيحَةً، فَإذا وجَدَ الماءَ في أثْناءِ الصَّلاةِ فَنَقُولُ: ما لَمْ يُبْطِلْ صَلاتَهُ لا يَصِيرُ قادِرًا عَلى اسْتِعْمالِ الماءِ، وما لَمْ يَصِرْ قادِرًا عَلى اسْتِعْمالِ الماءِ لا تَبْطُلُ صَلاتُهُ، فَيَتَوَقَّفُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى الآخَرِ، فَيَكُونُ دَوْرًا وهو باطِلٌ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ نَسِيَ الماءَ في رَحْلِهِ وتَيَمَّمَ وصَلّى ثُمَّ عَلِمَ وُجُودَ الماءِ لَزِمَهُ الإعادَةُ عَلى أحَدِ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهو قَوْلُ أحْمَدَ وأبِي يُوسُفَ، والقَوْلُ الثّانِي أنَّهُ لا يَلْزَمُهُ، وهو قَوْلُ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ. حُجَّةُ القَوْلِ الثّانِي أنَّهُ عاجِزٌ عَنِ الماءِ؛ لِأنَّ عَدَمَ الماءِ كَما أنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمالِ الماءِ، فَكَذَلِكَ النِّسْيانُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ، فَثَبَتَ أنَّهُ عِنْدَ النِّسْيانِ عاجِزٌ فِيهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ وحُجَّةُ القَوْلِ الأوَّلِ أنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ في ذَلِكَ النِّسْيانِ.
* * *
المَسْألَةُ العِشْرُونَ: إذا ضَلَّ رَحْلُهُ في الرِّحالِ فَفِيهِ الخِلافُ المَذْكُورُ، والأوْلى أنْ لا تَجِبَ الإعادَةُ.
* * *
المَسْألَةُ الحادِيَةُ والعِشْرُونَ: إذا نَسِيَ كَوْنَ الماءِ في رَحْلِهِ ولَكِنَّهُ اسْتَقْصى في الطَّلَبِ فَلَمْ يَجِدْهُ وتَيَمَّمَ وصَلّى ثُمَّ وجَدَهُ، فالأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ تَجِبُ الإعادَةُ؛ لِأنَّ العُذْرَ ضَعِيفٌ. وقالَ قَوْمٌ: لا تَجِبُ الإعادَةُ؛ لِأنَّهُ لَمّا اسْتَقْصى في الطَّلَبِ صارَ عاجِزًا عَنِ اسْتِعْمالِ الماءِ فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ .
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ والعِشْرُونَ: لَوْ صَلّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وجَدَ ماءً في بِئْرٍ بِجَنْبِهِ يُمْكِنُ اسْتِعْمالُ ذَلِكَ الماءِ، فَإنْ كانَ قَدْ عَلِمَهُ أوَّلًا ثُمَّ نَسِيَهُ فَهو كَما لَوْ نَسِيَ الماءَ في رَحْلِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِها قَطُّ، فَإنْ كانَ عَلَيْها عَلامَةٌ ظاهِرَةٌ لَزِمَهُ الإعادَةُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْها عَلامَةٌ فَلا إعادَةَ؛ لِأنَّهُ عاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمالِ الماءِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في المَسائِلِ الفِقْهِيَّةِ المُسْتَنْبَطَةِ مِن هَذِهِ الآيَةِ، وهي مِائَةُ مَسْألَةٍ، وقَدْ كَتَبْناها في مَوْضِعٍ ما كانَ مَعَنا شَيْءٌ مِنَ الكُتُبِ الفِقْهِيَّةِ المُعْتَبَرَةِ، وكانَ القَلْبُ مُشَوَّشًا بِسَبَبِ (p-١٣٩)اسْتِيلاءِ الكُفّارِ عَلى بِلادِ المُسْلِمِينَ. فَنَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَكْفِيَنا شَرَّهم، وأنْ يَجْعَلَ كَدَّنا في اسْتِنْباطِ أحْكامِ اللَّهِ مِن نَصِّ اللَّهِ سَبَبًا لِرُجْحانِ الحَسَناتِ عَلى السَّيِّئاتِ؛ إنَّهُ أعَزُّ مَأْمُولٍ وأكْرَمُ مَسْؤُولٍ.
* * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكم ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكم لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى مُرِيدٌ، وهَذا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الأئِمَّةِ، إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ كَوْنِهِ مُرِيدًا، فَقالَ الحَسَنُ النَّجّارُ: أنَّهُ مُرِيدٌ بِمَعْنى أنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ ولا مُكْرَهٍ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَكَوْنُهُ تَعالى مُرِيدًا صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: مَعْنى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِأفْعالِ نَفْسِهِ أنَّهُ دَعاهُ الدّاعِي إلى إيجادِها، ومَعْنى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِأفْعالِ غَيْرِهِ أنَّهُ دَعاهُ الدّاعِي إلى الأمْرِ بِها، وهو قَوْلُ الجاحِظِ وأبِي قاسِمٍ الكَعْبِيِّ وأبِي الحُسَيْنِ البَصْرِيِّ مِنَ المُعْتَزِلَةِ. وقالَ الباقُونَ: كَوْنُهُ مُرِيدًا صِفَةٌ زائِدَةٌ عَلى العِلْمِ، وهو الَّذِي سَمَّيْناهُ بِالدّاعِي، ثُمَّ مِنهم مَن قالَ: إنَّهُ مُرِيدٌ لِذاتِهِ، وهَذِهِ هي الرِّوايَةُ الثّانِيَةُ عَنِ الحَسَنِ النَّجّارِ. وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ مُرِيدٌ بِإرادَةٍ، ثُمَّ قالَ أصْحابُنا: مُرِيدٌ بِإرادَةٍ قَدِيمَةٍ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ البَصْرِيَّةُ: مُرِيدٌ بِإرادَةٍ مُحْدَثَةٍ لا في مَحَلِّهِ، وقالَتِ الكَرّامِيَّةُ: مُرِيدٌ بِإرادَةٍ مُحْدَثَةٍ قائِمَةٍ بِذاتِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ تَكْلِيفَ ما لا يُطاقُ لا يُوجَدُ؛ لِأنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ ما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ تَكْلِيفَ ما لا يُطاقُ أشَدُّ أنْواعِ الحَرَجِ. قالَ أصْحابُنا: لَمّا كانَ خِلافُ المَعْلُومِ مُحالَ الوُقُوعِ فَقَدْ لَزِمَكم ما ألْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنا.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ أصْلٌ كَبِيرٌ مُعْتَبَرٌ في الشَّرْعِ، وهو أنَّ الأصْلَ في المَضارِّ أنْ لا تَكُونَ مَشْرُوعَةً، ويَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ فَإنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ (الحَجِّ: ٧٨) ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ (البَقَرَةِ: ١٨٥) ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الأحادِيثِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ في الإسْلامِ» “ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُولِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَذَلِكَ في الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ما رَآهُ المُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهو عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» “ وأمّا بَيانُ أنَّ الأصْلَ في المَنافِعِ الإباحَةُ فَوُجُوهٌ:
أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ (البَقَرَةِ: ٢٩) .
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ (المائِدَةِ: ٤) وقَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ مِنَ الطَّيِّباتِ المُسْتَلَذّاتُ والأشْياءُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِها، وإذا ثَبَتَ هَذانِ الأصْلانِ فَعِنْدَ هَذا قالَ نُفاةُ القِياسِ: لا حاجَةَ البَتَّةَ أصْلًا إلى القِياسِ في الشَّرْعِ؛ لِأنَّ كُلَّ حادِثَةٍ تَقَعُ فَحُكْمُها المُفَصَّلُ إنْ كانَ مَذْكُورًا في الكِتابِ والسُّنَّةِ فَذاكَ هو المُرادُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإنْ كانَ مِن بابِ المَضارِّ حَرَّمْناهُ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ الأصْلَ في المَضارِّ الحُرْمَةُ، وإنْ كانَ مِن بابِ المَنافِعِ أبَحْناهُ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى إباحَةِ المَنافِعِ، ولَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَقْدَحَ في هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ بِشَيْءٍ مِنَ الأقْيِسَةِ؛ لِأنَّ القِياسَ المُعارِضَ لَهَذَيْنِ (p-١٤٠)الأصْلَيْنِ يَكُونُ قِياسًا واقِعًا في مُقابَلَةِ النَّصِّ، وأنَّهُ مَرْدُودٌ فَكانَ باطِلًا.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبࣰا فَٱطَّهَّرُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُم مِّنۡهُۚ مَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیَجۡعَلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ حَرَجࣲ وَلَـٰكِن یُرِیدُ لِیُطَهِّرَكُمۡ وَلِیُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق