الباحث القرآني

* اللغة: (الْمَرافِقِ) : جمع مرفق بكسر الميم وفتح الفاء، وبفتح الميم وكسر الفاء، وهو الموصل بين الساعد والعضد. وجمعه وثنّى الكعبين لأن للانسان مرفقا واحدا في كل يد، فناسب أن يذكر بالنسبة للجميع بالجمع، بعكس الكعبين فان الكعبين هما العظمان الناشزان من جانبي القدم، فناسب أن يذكر الاثنان من كل رجل. وسبب آخر وهو أن جمع المرفق لفظ مأنوس في الكلام، أما جمع الكعب فهو لفظ لا يخلو ذكره في الكلام، إذ يجمع على كعاب وكعوب وأكعب، وهذا أمر مرّده إلى الذوق وحده. (الْغائِطِ) : المطمئن من الأرض والمنخفض منها، ويقصد به هنا قضاء الحاجة كما سيأتي في باب البلاغة. * الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام الوضوء لأداء فريضة الصلاة، وهي أعظم الطاعات بعد الايمان. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بقوله فاغسلوا، وجملة قمتم في محل جر بالإضافة، والى الصلاة متعلقان بقمتم، والفاء رابطة، وجملة اغسلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ووجوهكم مفعول به (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) وأيديكم عطف على وجوهكم، والى حرف جر يدل على معنى الغاية والانتهاء مطلقا، ودخولها في الحكم وخروجها منه أمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله تعالى: «فنظرة إلى ميسرة» لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منتظرا في كلتا الحالين معسرا وموسرا. وكذلك «ثم أتموا الصيام إلى الليل» ولو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه في القرآن: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى» ومعلوم أنه لا يسري به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله تعالى: «إلى المرافق» و «إلى الكعبين» لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالأحوط، فحكموا بدخولها في الغسل. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) عطف على ما تقدم. وقد كثر الاختلاف حول هذه الباء، فقال بعضهم هي زائدة، وقال بعضهم: هي للتبعيض، كقول عمر بن أبي ربيعة: فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وقال بدر الدين بن مالك: وفيه تأييد لمذهب الشافعي في مسح بعض الرأس. وأنكر ذلك محب الدين أبو البقاء العكبري، وقال الشيخ شهاب الدين القرافي: إذا قلت: مسحت بالمنديل، وكتبت بالقلم، وطفت بالبيت، فمن المعلوم أنك ما مسحت بكل المنديل، ولا كتبت بكل القلم، ولا طفت بكل البيت، علوا وسفلا، وظهرا وبطنا، وإنما مسحت ببعض ذا وكتبت ببعض ذا وطفت بظاهر ذا، واختار ابن هشام والزمخشري أن تكون الباء للإلصاق، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. وقد أخذ مالك وأحمد بالاحتياط فأوجبا الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما روي أنه مسح على ناصيته، وقدّر الناصية بربع الرأس. وإنما أطلنا في هذا البحث لطرافته، ورياضته للذهن. والجار والمجرور متعلقان بامسحوا، وسيأتي مزيد بحث عنه. (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب: وأرجلكم، بالفتح، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين. وقرأها الباقون: ابن كثير وحمزة وأبو عمرو بالجر، والظاهر أنه عطف على الرأس، أي: وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. ومن هنا اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فجماهير أهل السنة على أن الواجب هو الغسل وحده، والشيعة والإمامية أنه المسح. وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية: يجب الجمع بينهما. وقد رأى ابن جرير الجمع بين القولين للاحتياط. وقد عللوا تأخيره في قراءة النصب بأن صب الماء مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث المسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقد أطالوا في التخريج والتأويل إطالة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب، وهي ناشئة عن الولع بالتحقيق والوصول إلى ما هو أجدى وأسلم، ولهذا جنح ابن جرير إلى الجمع، وفيه من حسن النية، وسلامة الطوية الشيء الكثير. (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الواو عاطفة، وإن شرطية، وكنتم كان واسمها، وهي فعل الشرط، وجنبا خبر كنتم، وجملة اطهروا جواب الشرط (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) الواو عاطفة وإن شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسمها ومرضى خبرها، أو حرف عطف، وعلى سفر متعلقان بمحذوف خبر ثان لكنتم، وجاء عطف على كنتم، وأحد فاعل جاء منكم متعلقان بمحذوف صفة لأحد، ومن الغائط متعلقان بجاء، وأو حرف عطف، ولامستم النساء عطف على ما تقدم (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) الفاء حرف عطف ولم تجدوا عطف أيضا، وماء مفعول به، والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة فتيمموا صعيدا في محل جزم جواب الشرط، وطيبا صفة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) عطف على ما تقدم، ومنه متعلقان بامسحوا (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة من شرائع الدين. وما نافية، يريد الله فعل وفاعل، واللام للتعليل، ويجعل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وأن المضمرة والفعل المضارع مصدر مؤول مفعول يريد والجعل إما بمعنى الإيجاد والخلق فيتعدى لمفعول به واحد، وعليكم متعلقان به، ومن حرف جر زائد، وحرج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول بجعل: وإما من الجعل، أي: التصيير، فيكون عليكم هو المفعول الثاني (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك وهي هنا مهملة لأنها مخففة ويريد فعل مضارع، وفاعله هو واللام للتعليل، ويطهركم منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بيريد. وليتم نعمته عليكم عطف عليه، ولعل واسمها، وجملة تشكرون في محل رفع خبرها، وجملة الرجاء حالية. * البلاغة: الكناية في قوله تعالى: «أو جاء أحد منكم من الغائط» فالمجيء من الغائط- وهو المطمئن أو المنخفض من الأرض- كناية عن الحدث، جريا على عادة العرب، وهي أن الإنسان منهم إذا أراد قضاء حاجة قصد مكانا منخفضا من الأرض وقضى حاجته فيه. * الفوائد: اشتملت آية الوضوء على فوائد هامة لا يجوز إغفالها، ونشير إليها فيما يلي: 1- استغنى ببناء القلة في قوله: «وأرجلكم» عن بناء الكثرة لأنها لم يستعمل لها بناء كثرة، وقد يستغني ببعض أبنية القلة عن بناء الكثرة وضعا واستعمالا اتكالا على القرينة. وقد وضع الشاطبيّ قاعدة جميلة نلخصها فيما يلي: «وحقيقة الوضع أن تكون العرب لم تضع أحد البناءين استغناء عنه بالآخر، والاستعمال أن تكون وضعتهما معا، ولكنها استغنت في بعض المواضع عن أحدهما بالآخر، فالأول: كأرجل جمع رجل، وأعناق جمع عنق، وأفئدة جمع فؤاد، قال تعالى: «وأرجلكم إلى الكعبين» ، «فاضربوا فوق الأعناق» ، «وأفئدتهم هواء» ، فاستغنى فيها ببناء القلة عن بناء الكثرة، لأنها لم يوضع لها بناء كثرة. والثاني: كأقلام. 2- لا شك في أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلا فعل ما يصدق عليه مسح، وليس في اللغة ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية، نحو: اضرب زيدا أو أطعنه، أو ارجمه. فإنه يوجد المعنى بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه، ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضاربا إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الافعال. 3- قال تعالى: «إذا قمتم إلى الصلاة» ، وفي الجنابة «وإن كنتم مرضى» لأن «إذا» تدخل على كائن أو منتظر لا محالة، «وإن» تدخل على أمر ربما كان وربما لا يكون. والقيام إلى الصلاة ملازم والجنابة ليست بملازمة، فإنها قد توجد وقد لا توجد. ولهذا درج المفسرون على تفسير «إذا قمتم» أي: إذا أردتم القيام، من إقامة المسبب مقام السبب، والقيام متسبب عن الإرادة، والارادة سببه. 4- من طريف الأبحاث اختلاف العلماء في دخول المرفق في الغسل، فقال قوم: إن المرفق داخل في مسمى اليد، لأن اليد من رأس الأنامل إلى الإبط. وهذا ينتقض بقولك: نمت البارحة إلى نصفها، ولا يجوز أن يقال: إنه نام البارحة كلها. وقال الجمهور بغسل المرفقين مع اليدين، وقال مالك وزفر لا يجب غسل المرفقين. وهذا الخلاف أيضا في الكعبين، حجة زفر أن «إلى» لانتهاء الغاية، والمنتهى غير النهاية، فلا يتعين غسل النهاية. والجواب من وجهين: آ- الأول مذهب الزجاج: قال: سلمنا أن المرفق لا يجب غسله، لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم، فإنه هو المكان الذي يرتفق به، أي يتكأ عليه. ولا نزاع في أن ما وراء أطراف العظم لا يجب غسله. ب- الثاني: أن حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود، كقوله تعالى: «ثم أتموا الصيام إلى الليل» فإن النهار منفصل عن الليل في الحسّ، وقد لا يكون منفصلا، كقولك: بعتك هذا الثوب من هنا إلى هنا. فهذا الحد غير منفصل، ولا شك في أن امتياز المرفق عن الساعد ليس منفصلا معينا، وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل إلى حيز أولى من إيجابه إلى حيز آخر، فوجب القول بغسل كل المرفق. وقال بعضهم: النهاية غير المتناهي، وغسل المرافق لم يفهم من الآية الكريمة، وإنما فهم من فعله صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا لو قلت: بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، لم تدخل الغاية هاهنا. وإذا قلت: بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط، دخل الحائطان في المبيع. والفرق بينهما أن الغاية في الأولى من جنس ما دخلت فيه فهي خارجة عنه، وكذلك المرفق من جنس اليد فهو خارج عن الغسل. وفي الثانية أن الغاية خارجة، لأن الحائط ليس من جنس البستان، فلهذا دخل الحائطان في المبيع. ألا ترى أن قوله تعالى: «ثم أتموا الصيام إلى الليل» لما كان الليل من غير جنس النهار اعتبر دخول أول الليل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، فقد أفطر الصائم» فاعتبر دخول الليل لأنه خارج عن النهار.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب