الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ أيْ: إذا أرَدْتُمُ القِيامَ إلى الصَلاةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ﴾ [النَحْلُ: ٩٨] أيْ: إذا أرَدْتَ أنْ تَقْرَأ القُرْآنَ، فَعَبِّرْ عَنْ إرادَةِ الفِعْلِ بِالفِعْلِ، لِأنَّ الفِعْلَ مُسَبَّبٌ عَنِ الإرادَةِ، فَأُقِيمَ المُسَبَّبُ مَقامَ السَبَبِ، لِمُلابَسَةٍ بَيْنَهُما طَلَبًا لِلْإيجازِ، ونَحْوُهُ: كَما تَدِينُ تُدانُ، عَبَّرَ عَنِ الفِعْلِ الِابْتِدائِيِّ، الَّذِي هو سَبَبُ الجَزاءِ، بِلَفْظِ الجَزاءِ، الَّذِي هو مُسَبَّبٌ عَنْهُ. وتَقْدِيرُهُ: وأنْتُمْ مُحَدِّثُونَ. عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أوْ مِنَ النَوْمِ، لِأنَّهُ دَلِيلُ الحَدَثِ، «وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ والصَحابَةُ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلاةٍ. » وقِيلَ: كانَ الوُضُوءُ لِكُلِّ صَلاةٍ واجِبًا أوَّلَ ما فُرِضَ، ثُمَّ نَسَخَ ﴿وَأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ "إلى" تُفِيدُ مَعْنى الغايَةِ مُطْلَقًا، فَأمّا دُخُولُها في الحُكْمِ وخُرُوجُها فَأمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَلِيلِ. فَما فِيهِ دَلِيلٌ عَلى الخُرُوجِ ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البَقَرَةُ: ٢٨٠]، لِأنَّ الإعْسارَ عِلَّةُ الإنْظارِ وبِوُجُودِ المَيْسَرَةِ تَزُولُ العِلَّةُ، ولَوْ دَخَلَتِ المُيَسَّرَةُ فِيهِ لَكانَ مَنظَرًا في الحالَتَيْنِ مُعْسِرًا ومُوسِرًا. وكَذَلِكَ ﴿أتِمُّوا الصِيامَ إلى اللَيْلِ﴾ [البَقَرَةُ: ١٨٧] لَوْ دَخَلَ اللَيْلُ (p-٤٣٠)لَوَجَبَ الوِصالُ. ومِمّا فِيهِ دَلِيلٌ عَلى الدُخُولِ، قَوْلُكَ: حَفِظْتُ القُرْآنَ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ، لِأنَّ الكَلامَ مَسُوقٌ لِحِفْظِ القُرْآنِ كُلِّهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ [الإسْراءُ: ١] لِوُقُوعِ العِلْمِ بِأنَّهُ ﷺ لا يُسْرى بِهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ مِن غَيْرِ أنْ يَدْخُلَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿إلى المَرافِقِ﴾ لا دَلِيلَ فِيهِ عَلى أحَدِ الأمْرَيْنِ، فَأخَذَ الجُمْهُورُ بِالِاحْتِياطِ، فَحَكَمُوا بِدُخُولِها في الغَسْلِ، وأخَذَ زُفَرُ وداوُدُ بِالمُتَيَقَّنِ فَلَمْ يُدْخِلاها. وعَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّهُ كانَ يُدِيرُ الماءَ عَلى مِرْفَقَيْهِ. »﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ المُرادُ: إلْصاقُ المَسْحِ بِالرَأْسِ، وماسِحُ بَعْضِهِ ومُسْتَوْعِبُهُ بِالمَسْحِ كِلاهُما مُلْصِقٌ لِلْمَسْحِ بِرَأْسِهِ، فَأخَذَ مالِكٌ بِالِاحْتِياطِ فَأوْجَبَ الِاسْتِيعابَ، والشافِعِيُّ بِاليَقِينِ فَأوْجَبَ أقَلَّ ما يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ المَسْحِ. وأخَذْنا بِبَيانِ النَبِيِّ ﷺ، وهو ما رُوِيَ: «أنَّهُ مَسَحَ عَلى ناصِيَتِهِ. » وقُدِّرَتِ الناصِيَةُ بِرُبُعِ الرَأْسِ. (وَأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ) بِالنَصْبِ: شامِيٌّ، ونافِعٌ، وعَلِيٌّ، وحَفْصٌ. والمَعْنى: فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ، وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ، وامْسَحُوا بِرُؤُوسِكم عَلى التَقْدِيمِ والتَأْخِيرِ. غَيْرُهم بِالجَرِّ بِالعَطْفِ عَلى الرُؤُوسِ، لِأنَّ الأرْجُلَ مِن بَيْنِ الأعْضاءِ الثَلاثَةِ المَغْسُولَةِ، تُغْسَلُ بِصَبِّ الماءِ عَلَيْها، فَكانَتْ مَظِنَّةَ لِلْإسْرافِ المَنهِيِّ عَنْهُ، فَعُطِفَتْ عَلى المَمْسُوحِ لا لِتُمْسَحَ، ولَكِنْ لِيُنَبَّهَ عَلى وُجُوبِ الِاقْتِصادِ في صَبِّ الماءِ عَلَيْها. وقِيلَ: "إلى الكَعْبَيْنِ" فَجِيءَ بِالغايَةِ إماطَةً لِظَنِّ ظانٍّ يَحْسَبُها مَمْسُوحَةً، لِأنَّ المَسْحَ لَمْ تُضْرَبْ لَهُ غايَةٌ في الشَرِيعَةِ. وقالَ في "جامِعِ العُلُومِ": إنَّها مَجْرُورَةٌ لِلْجِوارِ، وقَدْ صَحَّ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ رَأى قَوْمًا يَمْسَحُونَ عَلى أرْجُلِهِمْ، فَقالَ: "وَيْلٌ لِلْأعْقابِ مِنَ النارِ". » وعَنْ عَطاءٍ: واللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحَدًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَسَحَ عَلى القَدَمَيْنِ، وإنَّما أمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الأعْضاءِ لِيُطَهِّرَها مِنَ الأوْساخِ، الَّتِي تَتَّصِلُ بِها، لِأنَّها تَبْدُو كَثِيرًا. والصَلاةُ: (p-٤٣١)خِدْمَةُ اللهِ تَعالى، والقِيامُ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَطَهِّرًا مِنَ الأوْساخِ أقْرَبُ إلى التَعْظِيمِ، فَكانَ أكْمَلَ في الخِدْمَةِ، كَما في الشاهِدِ إذا أرادَ أنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ، ولِهَذا قِيلَ: إنَّ الأوْلى أنْ يُصَلِّيَ الرَجُلُ في أحْسَنِ ثِيابِهِ، وإنَّ الصَلاةَ مُتَعَمِّمًا أفْضَلُ مِنَ الصَلاةِ مَكْشُوفَ الرَأْسِ، لِما أنَّ ذَلِكَ أبْلَغُ في التَعْظِيمِ ﴿وَإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ فاغْسِلُوا أبْدانَكم ﴿وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ﴾ قالَ الرازِيُّ: مَعْناهُ: وجاءَ، حَتّى لا يَلْزَمَ المَرِيضَ والمُسافِرَ التَيَمُّمُ بِلا حَدَثٍ. ﴿مِنَ الغائِطِ﴾ المَكانِ المُطْمَئِنِّ، وهو كِنايَةٌ عَنْ قَضاءِ الحاجَةِ. ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِساءَ﴾ جامَعْتُمْ، ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم مِنهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ﴾ في بابِ الطَهارَةِ، حَتّى لا يُرَخَّصَ لَكم في التَيَمُّمِ. ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ بِالتُرابِ إذا أعْوَزَكُمُ التَطَهُّرُ بِالماءِ ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ ولِيَتِمَّ بِرُخَصِهِ إنْعامَهُ عَلَيْكم بِعَزائِمِهِ. ﴿لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ نِعْمَتَهُ فَيُثِيبَكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب