الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ قال أبو جعفر: ذكر أن رسول الله ﷺ سُئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، جوابا لًهُم فيما سألوا عنه. ذكر الأخبار بذلك: ٣٠٦٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قوله:"يَسألُونك عن الأهلة قُلْ هيَ مواقيت للناس"، قال قتادة: سألوا نبيَّ الله ﷺ عن ذلك: لم جُعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تَسمعون:"هي مَواقيتُ للناس"، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجّهم، ولعدة نسائهم وَمحلّ دَينهم في أشياء، والله أعلم بما يُصلح خلقه. ٣٠٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا أنهم قالوا للنبي ﷺ: لم خُلقت الأهلة؟ فأنزل الله تعالى:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج" جعلها الله مواقيتَ لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وَحلّ ديونهم [[هكذا جاء في هذه الآثار ٣٠٦٨، ٣٠٧٠، ٣٠٧٢، ٣٠٧٣"حل ديونهم". والذي في كتب اللغة: "حل الدين يحل حلولا ومحلا (بكسر الحاء) ": أي وجب. وأستظهر أن يكون هذا المصدر"حلا" بفتح الحاء كنظائرها من اللغة كقولهم: "صد يصد صدا وصدودا"، ولو كسرت الحاء لكان وجها. وهذه الرواية قاضية على صحة هذا المصدر.]] . ٣٠٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مواقيتُ للناس والحج" قال: هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونُسكهم. ٣٠٧٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال الناس: لم خلقت الأهلة؟ فنزلت:"يسألونك عن الأهلة قُل هي مواقيت للناس"، لصَومهم وإفطارهم وَحجهم وَمَناسكهم - قال: قال ابن عباس: ووقتَ حجهم، وعدة نسائهم، وَحلّ دَينهم. ٣٠٧١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس" فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج. ٣٠٧٢ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، يعني: حَلّ دينهم، ووقت حجهم، وعدة نسائهم. ٣٠٧٣- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: سأل الناسُ رسول الله ﷺ عن الأهلة، فنزلت هذه الآية:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حَلّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم. ٣٠٧٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي: أنه سئل عن قوله:"مواقيت للناس"، قال: هي مواقيتُ الشهر: هكذا وهكذا وهكذا - وقبض إبهامه - فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثَلاثين [[الخبر: ٣٠٧٤- جابر: هو ابن يزيد الجعفي، بينا أنه ضعيف جدا، في: ٢٣٤٠. وأما شيخه"عبد الله بن يحيى": فما عرفت من هو؟ وأكبر ظني أن الاسم محرف، لم أستطع الوصول إلى صحته. وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير، ولا السيوطي. وإنما أشار إليه ابن كثير إشارة ١: ٤٣٠. وقد ورد معناه مرفوعا، في حديث صحيح، رواه الحاكم ١: ٤٢٣، من حديث عبد الله بن عمر. وصححه ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير ١: ٤٣٠، من رواية عبد الرزاق، ثم أشار إلى رواية الحاكم إياه. وذكره السيوطي ١: ٢٠٣-٢٠٤، ونسبه أيضًا للبيهقي.]] . * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية - إذا كان الأمرُ على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنهُ قوله في ذلك-: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ - فقلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة = التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه = مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حَلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس. * * * وأما قوله"والحج"، فإنه يعني: وللحجِّ، يقول: وجعلها أيضًا ميقاتًا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) ﴾ قال أبو جعفر: قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون - إذا أحرموا - بيوتَهم من قبل أبوابها. * ذكر من قال ذلك: ٣٠٧٥- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حَجوا ورَجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظُهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية:"وليسَ البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها" [[الحديث: ٣٠٧٥- رواه أبو داود الطيالسي: ٧١٧، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه البخاري مطولا ٣: ٤٩٤، عن أبي الوليد، عن شعبة، بهذا الإسناد. وذكره السيوطي ١: ٢٠٤، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وسيأتي معناه بإسناد آخر، عقبه.]] . ٣٠٧٦ - حدثني سفيان بن وكيع، قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كانوا في الجاهلية إذا أحرموا، أتُوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها، فنزلت:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها"..الآية [[الحديث: ٣٠٧٦- هو مكرر ما قبله. وهو في تفسير وكيع، كما ذكر السيوطي ١: ٢٠٤. ورواه البخاري ٨: ١٣٧، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، بهذا الإسناد.]] . ٣٠٧٧ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال، سمعت داود، عن قيس بن حبتر: أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه، ولا دارا من بابها أو بيتا، فدخل رسول الله ﷺ وأصحابه دارا، وكان رجل من الأنصار يقال له:"رفاعة بن تابوت" فجاء فتسوَّر الحائط، ثم دخل على رسول الله ﷺ. فلما خرَج من باب الدار - أو قال: من باب البيت - خرج معه رفاعة، قال: فقال رسول الله ﷺ: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، رأيتُك خرجتَ منه، فخرجت منه! فقال رسول الله ﷺ: إنّي رجلٌ أحْمس! فقال: إن تكن رَجلا أحْمس، فإنّ ديننا واحد! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليسَ البر بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" [[الحديث: ٣٠٧٧- داود: هو ابن أبي هند، مضت ترجمته: ١٦٠٨. قيس بن حبتر النهشلي التميمي: تابعي ثقة، وثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما. "حبتر": بفتح الحاء المهملة والتاء المثناة بينهما باء موحدة ساكنة. ووقع في المطبوعة هنا"جبير"، وهو تصحيف. ووقع أيضًا هكذا مصحفا في المواضع التي سنشير إليها من الفتح والإصابة والدر المنثور، في هذا الحديث. وهذا إسناد مرسل، لأنه عن تابعي مرفوعا، فهو ضعيف. والحديث ذكره السيوطي ١: ٢٠٤، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر. وذكره الحافظ في الإصابة ٢: ٢٠٩، من تفسير عبد بن حميد. وذكره أيضًا في الفتح ٣: ٤٩٤، مختصرا، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، وصرح في الموضعين بأنه حديث مرسل. الأحمس: هو المتشدد فيه دينه الصلب. ثم كانت الحمس (جمع أحمس) هم قريش. وخزاعة، لنزولها مكة ومجاورتها قريشا، وكل من ولدت قريش من العرب وكنانة، وجديلة قيس - وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، وبنو عامر بن صعصعة، وكل من نزل مكة من قبائل العرب. فكانت الحمس قد شددوا في دينهم على أنفسهم، فكانوا إذا نسكوا لم يسلأوا سمنا، ولم يطبخوا أقطا، ولم يدخروا لبنا، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا، ولا يبتنون في حجهم شعرا ولا وبرا ولا صوفا ولا قطنا، ولا يأكلون لحما، ولا يلبسون إلا جديدا، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم، ولا يمشون المسجد بأقدامهم تعظيما لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات، يقولون: "نحن أهل الله"، ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم، ويطوفون بالصفا والمروة إذا انصرفوا من مزدلفة، ويسكنون في ظعنهم قباب الأدم الحمر (المحبر لابن حبيب: ١٧٨-١٨٠، ثم سيرة ابن هشام ١: ٢١١-٢١٦ / والطبري في التفسير رقم: ٣٨٤٠) .]] . ٣٠٧٨ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظُهورها" يقول: ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كُوَّات في ظهور البيوت، وأبواب في جنوبها، تجعلها أهل الجاهلية. فنُهوا أن يدخلوا منها، وأمِروا أن يدخلوا من أبوابها. ٣٠٧٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٣٠٨٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان ناسٌ من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها، فنزلت:"ولكن البر من اتقى" الآية. ٣٠٨١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" قال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نَقب كُوَّة في ظهر بيته فجعل سُلَّمًا، فجعل يدخل منها. قال: فجاء رسول الله ﷺ ذات يوم ومعه رجل من المشركين، قال: فأتى الباب ليدخل، فدخل منه. قال: فانطلق الرجل ليدخل من الكوة. قال: فقال رسول الله ﷺ: ما شأنك؟ فقال: إنّي أحمس! فقال رسول الله ﷺ: وأنا أحمس. ٣٠٨٢- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كان ناسٌ من الأنصار إذا أهلُّوا بالعمرة لم يَحل بينهم وبين السماء شيء يتحرَّجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سَقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من وَرَائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. فتخرج إليه من بيته، حتى بلغنا أن رسول الله ﷺ أهلَّ زمنَ الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره، من الأنصار من بني سَلِمة، فقال له النبي ﷺ: إنّي أحمس! قال الزهري: وكانت الحُمس لا يبالون ذلك. فقال الأنصاري: وأنا أحمس! يقول: وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها". ٣٠٨٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت" الآية كلها. قال قتادة: كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية، إذا أهلَّ أحدُهم بحجّ أو عمرة لا يدخلُ دارا من بابها، إلا أن يتسور حائطا تسوُّرًا، وأسلموا وهم كذلك. فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها. ٣٠٨٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" فإن ناسا من العرَب كانوا إذا حجُّوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا يَنقبون في أدبارِها، فلما حجّ رسول الله ﷺ حجة الوداع، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم. فلما بلغ رسول الله ﷺ باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل، قال: يا رسول الله، إني أحمس! - يقول: إنّي محرم - وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون"الحُمس"، قال رسول الله ﷺ: وأنا أيضا أحمس! فادخل. فدخل الرجل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وأتوا البيوت من أبوابها". ٣٠٨٦ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها"، وأنّ رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدُهم من عَدوِّه شيئا أحرم فأمِن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نَقبا من ظَهر بيته. فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة كان بها رجلٌ محرم كذلك - وأنّ أهل المدينة كانوا يُسمُّون البستان"الحُشّ" - وأن رسول الله ﷺ دَخل بُستانًا، فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجلٌ من ورائه: يا فلان، إنك محرم وقد دخلت! فقال: أنا أحمس! فقال: يا رسول الله، إن كنت محرما فأنا محرم، وإن كنت أحمسَ فأنا أحمسُ! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها"، إلى آخر الآية، فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها. ٣٠٨٧ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وليسَ البر بأنْ تأتوا البيوتَ من ظهورها ولكن البر مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال: كان أهل المدينة وغيرُهم إذا أحرمُوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوَّرُوها، فكان إذا أحرم أحدُهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قِبَل ظَهره. وأن النبي ﷺ دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجلٌ على أثره ممن قد أحرم، فأنكروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجل فاجرٌ! فقال له النبي ﷺ: لم دخلت من الباب وقد أحرمت؟ فقال: رأيتك يا رسول الله دخلتَ فدخلتُ على أثرك! فقال النبي ﷺ: إنّي أحمس! - وقريش يومئذ تُدعى الحُمس - فلما أن قال ذلك النبي ﷺ قال الأنصاري: إن ديني دينك! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها" الآية. ٣٠٨٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" قال: كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرَوْنه برًّا، فقال:"البر"، ثم نعت"البر" وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها = قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: كانت هذه الآية في الأنصار، يأتون البيوت من ظهورها، يتبرَّرُون بذلك. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البر من اتقى الله فخافه وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيانُ البيوت من ظهورها فلا برَّ لله فيه، فأتوها من حيثُ شئتُم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غيرُ جائزٍ لكم اعتقادُه، لأنه مما لم أحرمه عليكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واتقوا الله أيها الناس، فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، واجتناب ما نهاكم عنه، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاءَ في جَنَّاته والخلودَ في نعيمه. * * * وقد بينا معنى"الفلاح" فيما مضى قبلُ بما يدل عليه [[انظر ما سلف ١: ٢٤٩-٢٥٠.]] . * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية. فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كفّ عنهم، ثم نُسخت ب"براءة". * ذكر من قال ذلك: ٣٠٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله:"وقاتلُوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين" قال: هذه أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من يقاتله، ويكفُّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت"براءة"- ولم يذكر عبد الرحمن:"المدينة". ٣٠٩٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" إلى آخر الآية، قال: قد نسخ هذا! وقرأ قول الله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [سورة التوبة: ٣٦] ، وهذه الناسخة، وقرأ: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ حتى بلغ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ إلى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة التوبة: ١-٥] . * * * وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار، لم ينسخ. وإنما الاعتداءُ الذي نهاهم الله عنه، هو نهيه عن قتل النساء والذَّراريّ. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابتٌ حُكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية. * ذكر من قال ذلك: ٣٠٩١ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن صَدقة الدمشقي، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله:"وقاتلوا في سَبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحب المعتدين"، قال: فكتب إليّ:"إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم". ٣٠٩٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" لأصحاب محمد ﷺ، أمروا بقتال الكفار. ٣٠٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ٣٠٩٤ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم. ٣٠٩٥- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة:"إني وَجَدتُ آية في كتاب الله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد. * * * وقد دَللنا على معنى"النسخ"، والمعنى الذي من قبَله يَثبت صحة النسخ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع [[انظر ما سلف ٢: ٤٧١-٤٨٣، وهذا الجزء ٣: ٣٨٥.]] . * * * فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا -: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله = وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده = يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال [[في المطبوعة في الموضعين: "فيه قتال"، وهو خطأ.]] من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا، فذلك معنى قوله:"قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" لأنه أباح الكف عمّن كف، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا. فمعنى قوله:"ولا تعتدوا": لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابَين والمجوس،"إنّ الله لا يُحب المعتدين" الذين يجاوزون حدوده، فيستحلُّون ما حرَّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حَرَّم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم [[انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف ٢: ٣٠٧، وهذا الجزء ٣: ٣٧٦ ثم: ٥٧٣.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب