الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ ولَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى وأْتُوا البُيُوتَ مِن أبْوابِها واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: ١٨٩].
الأَهِلَّةُ: واحدُها هِلالٌ، وهو أيضًا مفرَدٌ وجمعٌ، وهو مَقِيسٌ في «فِعالٍ» المضعَّفِ، نحوُ: عِنانٍ وأَعِنَّةٍ، والأَهِلَّةُ جمعٌ لمسمًّى وذاتٍ واحدةٍ، وهو القَمَرُ في أوَّلِ خروجِهِ كلَّ شهرٍ قَمَريٍّ في الليلةِ الأُولى والثانيةِ، ومِنهم مَن يسمِّيهِ هلالًا حتّى الليلةِ السابعةِ.
وقال الأَصمعيُّ: «هو هلالٌ حتّى يحجِّرَ ويستديرَ له كالخيطِ الرَّقيقِ».
والغالبُ تسميةُ الهلالِ في أوَّلِ الشهرِ، لأنّ الناسَ إذا رأَوْهُ، رفَعُوا أصواتَهُمْ إخبارًا عنه، وكلُّ رافِعٍ لصوتِهِ مُهِلٌّ، ولذا قال تَعالى: ﴿وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [المائدة: ٣]، يَعني: ما ذُبِحَ وذُكِرَ غيرُ اللهِ عليه.
وقد يُطلَقُ الهلالُ على القمرِ ليلةَ سِتٍّ وعشرينَ، وما بعدَها، لمشابهتِهِ الهلالَ عندَ خروجِهِ، وإنْ كانتِ العربُ لا تُهِلُّ لرؤيتِهِ عندَ خروجِهِ، وإنّما تُهِلُّ لرؤيتِهِ عندَ طلوعِه.
والهلالُ يكونُ أوَّلَ الشهرِ، والمُحاقُ (بكسرِ الميمِ وضمِّها) من الشهرِ: ثلاثُ ليالٍ مِن آخرِه، إذا امَّحَقَ الهلالُ فلَم يَكَدْ يُرى، قالَ:
أتَوْنِي بِها قَبْلَ المُحاقِ بِلَيْلَةٍ
فَكانَ مُحاقًا كُلُّهُ ذَلِكَ الشَّهْرُ
والسِّرارُ (بالفتحِ والكسرِ): حينَ يَسْتَسِرُّ الهلالُ في آخرِ الشهرِ.
سببُ سؤال الناس عن الهلال:
وممّا يحيِّرُ الناسَ: الأهلَّةُ طلوعًا وغيابًا، وزيادةً ونقصانًا، لاختلافِها عنِ الشمسِ، فالشمسُ تطلُعُ وتغيبُ على صفةٍ واحدةٍ بلا نقصانٍ ولا زيادةٍ، وأمّا الأهِلَّةُ، فتبدُو دقيقةً، ثمَّ تكبَرُ حتى تستديرَ بَدْرًا، فبيَّنَ اللهُ لنبيِّهِ وللناسِ الحِكْمةَ من ذلِك، أنّ أعمالَ الناسِ لا بُدَّ لانضباطِها مِن زمَنٍ تدورُ عليهِ، سواءٌ كان ذلك في أمورِ العباداتِ، أو المُعامَلاتِ، أو العاداتِ، فضَبَطَ مواعيدَ الناسِ في العملِ، والبيعِ والشراءِ، والمأكلِ والمَشْرَبِ، والنكاحِ والطلاقِ، والعِدَّةِ والحَمْلِ، والإيلاءِ والنذورِ، وغيرِ ذلك، ولذلك قالَ تعالى: ﴿مَواقِيتُ لِلنّاسِ﴾.
الحكمةُ مِن اختلافِ الأهلَّة:
وهذا المعنى في القرآنِ في مواضِعَ، كقولِه تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ﴾ [يونس: ٥].
وقولِه: ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ﴾ [الإسراء: ١٢].
والمعروفُ: أنّ إحصاءَ الأهِلَّةِ أيسَرُ مِن إحصاءِ أيامِ الشهرِ، لأنّ الأيامَ تُنسى ما لم تُضبَطْ بِالكتابةِ والوثائقِ، فيُعرَفُ منزِلةُ اليومِ من الشهرِ، فإذا اختَلَّ حسابُ الأيامِ، جاءَ هلالُ الشهرِ الآتي، وصحَّح على الناسِ وهَمَهُمْ في حسابِ الأيامِ السابقةِ، وهكذا كلَّما نَسُوا، جاءتِ الأهلةُ ضابطةً.
وقد جعَلَ اللهُ الأهلَّةَ على صفاتٍ متعدِّدةٍ منضبطةٍ، تدورُ عليها بلا خَلَلٍ ولا اضطِرابٍ، وتقوِّمُ الناسَ بضبطِ ما تُحدِثُهُ وتصنعُهُ من ضوابطَ زمنيَّةٍ، كالسّاعاتِ على الأفلاكِ، كالشمسِ والقمرِ طلوعًا وغروبًا ونقصانًا، وتختلُّ آلاتُهم ويُعيدونَ ضبطَها على ما خلَقَهُ اللهُ، وأتقَنَ ضَبْطَه.
هذا هو الإنسانُ يَضبِطُ ساعتَهُ الزمنيَّةَ وساعتَهُ الآليَّةَ كلَّما اختَلَّتْ على ضبطِ اللهِ لسَيْرِ الشمسِ والقمرِ المنضبِطِ منذُ أوَّلِ الخَلْقِ، ثمَّ هو يُفاخِرُ ويتكبَّرُ على اللهِ بدقتِهِ: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ ﴾ [عبس: ١٧].
وأولُ الإنسانِ لا يَعرِفُ معنى الأهِلَّةِ، والحِكْمةَ مِن إيجادِها وتنوُّعِها، وآخِرُهُ يُفاخِرُ ويُكابِرُ على اللهِ بدقَّتِه: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ﴾ [الزخرف: ١٥].
روى ابنُ جريرٍ، مِن حديثِ سعيدٍ، عن قَتادةَ، قولَه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ﴾، قال قَتادةُ: «سألُوا نبيَّ اللهِ ﷺ عن ذلكَ: لِمَ جُعِلَتْ هذه الأَهِلَّةُ؟ فأنزَلَ اللَّهُ فيها ما تَسْمَعُونَ: ﴿هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ﴾، فجعَلَها لِصَوْمِ المسلِمِينَ ولإفطارِهِم، ولِمَناسكِهم وحجِّهم، ولِعِدَّةِ نسائِهم، ومَحَلِّ دَيْنِهم، في أشياءَ، واللهُ أعلمُ بما يُصلِحُ خَلْقَه»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٨٠).]].
ورواه عنِ العَوْفِيِّ عنِ ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٣/٢٨٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٢٢).]].
وعباداتُ الخَلْقِ مركَّبةٌ مِن فِعْلٍ وزمَنٍ، ولهذا جاءتِ الشرائِعُ بِضبطِ الفعلِ بصفةٍ، وتحديدِ الزَّمَنِ بوقتٍ منه.
واللهُ إنّما أعلَمَ الناسَ بما يحتاجُونَ إليه في ظاهرِ الأمرِ مِن الأهِلَّةِ، ويُبْصِرونَ حكمتَهُ لو تأمَّلُوا بأدنى تأمُّلٍ، وترَكَ ما دون ذلك ممّا دَقَّ مِن منافعِ الأهِلَّةِ الذي ربَّما لا تُدرِكُهُ عقولُهم حينَها، ويستعصِي عليهم فهمُه، وربَّما شكَّكُوا في صدقِه.
وبهذا المَنهَجِ يتأسّى العالِمُ في تعليمِ الناسِ ونفعِهم، يُزِيلُ الإشكالَ، ويَغرِسُ الإيمانَ، ولا يخوضُ فيما يتسبَّبُ في عكسِ مقصودِهِ من غرسِ الشكِّ والجحودِ.
وفي الآيةِ: دليلٌ على قيمةِ الزمنِ، وأنّ اللهَ خلَقَ النَّيِّرَيْنِ الشمسَ والقمرَ، وهما أعظَمُ أجرامِ المَجَرَّةِ نفعًا، جعَلَهُما لمنافِعَ، مِن أهمِّها ضبطُ الوقتِ، ولمّا خلَقَهُما اللهُ لأَجْلِ زمنِ الناسِ، دلَّ على إكرامِ الله لِبني آدمَ، وأنّه فضَّلَهم على المخلوقاتِ، بأنْ سخَّر المخلوقاتِ لهم، ولَم يسخِّرْهُمْ للمخلوقاتِ كالشمسِ والقمرِ، وإنّما سخَّرَ اللهُ الناسَ له وحدَهُ، فأوجَبَ عبادتَهُ عليهم، ولكنَّ الإنسانَ كفورٌ مبينٌ.
وكلَّما كان الإنسانُ لِزَمَنِهِ أضبَطَ، كان لعَمَلِهِ أتقَنَ، وأضيَعُ الناسِ لحسابِ زمنِهِ أضيعُهُمْ لعَمَلِهِ، لأنّ أفضلَ الأعمالِ وأجوَدَها ما انضبَطَ بالزمنِ، وأقلَّها ما أُنجِزَ على التراخِي.
وفي الآيةِ: دليلٌ على وجوبِ معرِفةِ الآجالِ للبيعِ والمساقاةِ والمؤاجَرةِ عند عامَّةِ العلماءِ.
ثمَّ ذكَرَ اللهُ الحجَّ بِقولِه: ﴿قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ﴾، وهذا مِن بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، للاهتمامِ به، وذلك لبيانِ أنّ الأهِلَّةَ مواقيتُ للناسِ في سائرِ أعمالِهِم، ولضبطِ مواقيتِ الحجِّ.
وهذا لا يعنِي تقديمَ الحجِّ على ما يَسبِقُهُ مِن أركانِ الإسلامِ، كما في حديثِ ابنِ عُمَرَ في «الصحيحَيْنِ»: (بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسٍ...)، الحديثَ[[أخرجه البخاري (٨) (١/١١)، ومسلم (١٦) (١/٤٥).]]، وما في حديثِ أبِي هريرةَ في قصةِ جبريلَ حينَما سُئِلَ عن الإسلامِ، قالَ: «الإسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وتُقِيمَ الصَّلاةَ...»، الحديثَ[[أخرجه مسلم (٨) (١/٣٦).]]، وذلك لأنّ الصلاةَ إنّما تُعرَفُ مواقيتُها بالشمسِ، لا بالأَهِلَّةِ، ثمَّ إنّ الاهتمامَ بالحجِّ لكونِهِ يحتاجُ إلى ضبطٍ وتحرٍّ، فالناسُ يَجْهَلونَ أمْرَهُ أكثرَ مِن غيرِهِ كالصيامِ والزكاةِ التي تدورُ عليهم كلَّ حَوْلٍ، ولكنَّ الحَجَّ يجبُ في العُمْرِ مَرَّةً، وهو أقرَبُ لنسيانِ الأفرادِ، خاصَّةً النائِينَ عن مَكَّةَ لمعرِفةِ مواقيتِهِ، وأمّا ما يَرِدُ على الناسِ كلَّ يومٍ كالصلواتِ الخمسِ، فإنهم يَضبِطونَ وقتَهُ أكثرَ ممّا يَمُرُّ عليهم كلَّ سنةٍ، كصيامِ رمضانَ، وزكاةِ المالِ، وما يجبُ عليهم كلَّ سنةٍ أضبَطُ ممّا يجبُ عليهم في العمرِ مرةً، كالحجِّ، ولذا تَجِدُ عامَّةَ الناسِ يفقَهونَ أحكامَ الصلاةِ أكثرَ مِن الصيامِ والزكاةِ، ومسائلَ الصيامِ والزكاةِ أكثرَ مِن الحجِّ.
والعالِمُ الرَّبّانيُّ الحكيمُ يُدرِكُ قَدْرَ ما يحتاجُ إليه الناسُ في دينهم، فيهتمُّ به ولو كان غيرُهُ مِن أحكامِ الدِّينِ أوْلى منه، إذا كان واضحًا لهم ومستقِرًّا، فيخُصُّ ما يجهلونَهُ بمَزِيدِ بيانٍ، ولا يترُكُ الأهمَّ المعروفَ ويُهمِلُهُ، بل ينبِّهُ عليه تنبيهًا، حتّى لا يضعُفَ في القلوبِ.
أشهُرُ الحجِّ:
وفي الآيةِ: تنبيهٌ إلى مواقيتِ الحجِّ والزمنِ الذي يُعقَدُ فيه، وأشهُرُ الحجِّ: شوّالٌ وذو القَعْدةِ وعَشْرٌ من ذي الحِجَّةِ، قاله ابنُ عُمَرَ، كما رواهُ البيهقيُّ وغيرُهُ، مِن حديثِ عُبَيْدِ اللهِ، عن نافعٍ، عنه[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/٣٤٢).]].
وبنحوِه رواهُ عن ابنِ عباسٍ، مِن حديثِ خُصَيْفٍ، عن مِقسَمٍ، عنه[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/٣٤٢).]].
ورُوِيَ عن مالكٍ والشافعيِّ: أنّ ذا الحِجَّةِ كاملًا مِن أشهرِ الحجِّ.
والقولُ بتمامِ ذي الحِجَّةِ لا قيمةَ له في صحَّةِ الحَجِّ، لأنّ الحجَّ عَرَفةُ، وإنّما ثمَرَتُهُ في العُمْرةِ في أشهُرِ الحَجِّ وفضلِها، والطاعاتِ والقُرُباتِ، والمعتمِرُ بعدَ عَرَفةَ لا يُعدُّ متمتِّعًا حتّى عندَ مَن يقولُ بأنّ ذا الحجَّةِ كاملًا مِن أشهُرِ الحجِّ.
واتَّفَقَ الأئمَّةُ على أنّ الإحرامَ للحجِّ إنّما يكونُ في أشهُرِهِ، وهذا هو الذي شرَعَه اللهُ لعبادِه، ولكنِ اختلَفُوا في صِحَّةِ الإحرامِ وانعقادِهِ:
فذهَبَ مالكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ: إلى صحةِ الإحرامِ بالحجِّ في غيرِ أشهُرِه، وقال الشافعيُّ: الإحرامُ للحجِّ في غيرِ أشهُرِهِ لا يصحُّ، وإنّما ينقلبُ عُمْرةً.
وهو قولُ عطاءٍ وطاوُسٍ والأوزاعيِّ.
قال ابنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما: «مِن السُّنَّةِ ألاَّ يُحرِمَ بِالحَجِّ إلاَّ في أشْهُرِ الحَجِّ».
علَّقَه البخاريُّ مجزومًا به[[«صحيح البخاري» (٢/١٤١).]]، وأخرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبةَ مِن حديثِ الحكَمِ، عن مِقسَمٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٤٦١٧) (٣/٣٢٣).]].
وصحَّ عن جابرٍ، قال: «لا يُحرَمُ بالحجِّ إلاَّ في أشهُرِ الحجِّ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٤٦١٨) (٣/٣٢٣).]].
تقدُّمُ مشروعِيَّة الحجِّ:
ورُوِيَ عن عطاءٍ وطاوسٍ ومجاهِدٍ وغيرِهم[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٤٦١٩) (٣/٣٢٣).]].
وهذه الآيةُ مِن أوائلِ ما نزَلَ في المدينةِ، والحجُّ إنّما فرَضَهُ اللهُ على المسلِمِينَ بعدَ ذلك بزمنٍ، دَلالةً على مشروعيَّتِه، وأهميَّةِ حفظِ حدودِهِ ومعرفتِها، ولو لم يتمكَّنِ المسلِمُونَ مِن أدائِه، لقوَّةِ شَوْكةِ المشرِكِينَ.
وفيه: أنّ أحكامَ الدِّينِ التي لا يتمكَّنُ المسلِمُونَ مِن أدائِها يجبُ ألاَّ تُغيَّبَ عن الناسِ، بل تُعلَّمُ ويُفقَّهُ الناسُ فيها، وذلك كالجهادِ في سبيلِ اللهِ زَمَنَ ضعفِ المسلِمِينَ وعدَمِ قُوَّتِهم، فإغفالُ أحكامِهِ وإخفاؤُها بحُجَّةِ عدمِ مناسبةِ وقتِهِ خطأٌ، لأنّ حِفْظَ الدِّينِ وتقريرَهُ شيءٌ، وتَرْكَ العملِ به شيءٌ، فإنّ الناسَ إذا تَرَكُوا بعضَ الدِّينِ للعجزِ عن إقامتِهِ لِضَعْفِهم، توارَثَ أجيالٌ التَّرْكَ، ثمَّ ظنُّوهُ عدَمًا، وعدمُ العملِ بالعِلْمِ ينبغي ألاَّ يضيِّعَ العِلمَ نفسَهُ.
أحوالُ حجِّ العربِ في الجاهليَّة:
وكانتِ العربُ في الجاهليَّةِ ـ ومنهمُ الأنصارُ في المدينةِ ـ إذا أحرَمُوا للحجِّ والعُمْرةِ عاقدِينَ لها مِن بيوتِهم، لم يُجِيزُوا لأنفسِهِمْ دخولَ البيوتِ مِن الأبوابِ، ويَرَوْنَ ذلك مِن المحظوراتِ عليهم، وكذلك الاستظلالُ تحتَ أسْقُفِ بيوتِهم، وكانوا يشدِّدونَ على أنفسِهم في ذلك، فإذا احتاجُوا إلى بيوتِهم، دخَلُوها مِن الأسوارِ ومِن ظهورِها، وربَّما دخَلُوها مِن غيرِ أبوابِها كالنوافذِ ونحوِها.
روى ابنُ جريرٍ، عنِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، في قولِ اللَّهِ ـ تعالى ذِكْرُهُ ـ: ﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها﴾، يقولُ: «ليس البِرُّ بأنْ تأتُوا البيوتَ مِن كُوّاتٍ في ظهورِ البيوتِ، وأبوابٍ في جُنُوبِها، تجعلُها أهلُ الجاهليَّةِ، فنُهُوا أن يدخُلُوا منها، وأُمِرُوا أن يدخُلُوا مِن أبوابِها»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٨٥).]].
وروى نحوَهُ عبدُ الرزّاقِ[[في «تفسيره» (١/٧٢ ـ ٧٣).]]، وعنه ابنُ جريرٍ، عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْريِّ[[«تفسير الطبري» (٣/٢٨٦).]].
ورواهُ ابنُ جريرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ أبي جَعْفرٍ، عن أبيهِ، عن الربيعِ[[«تفسير الطبري» (٣/٢٨٨).]].
وأمّا سُكّانُ مكَّةَ والذين يَسكُنونَ حَرَمَها الذين يُسمُّونَ أنفُسَهم «الحُمْسَ» جمع أحْمَسَ، فلم يكونُوا يَفْعَلونَ ذلك، وهم قُرَيْشٌ وثَقِيفٌ، وخُزاعةُ وكِنانةُ، وجُشَمُ ومُدلِجٌ، وبنو نَصْرِ بنِ مُعاوِيةَ، وعَدْوانُ وعَضَلٌ، وبنو الحارثِ بنِ عبدِ مَنافٍ.
وقد تحمَّسَ بنو عامرِ بنِ صَعْصَعةَ، وهم كِلابٌ وكَعْبٌ وعامرٌ وكَلْبٌ، وليسوا مِن ساكِني الحَرَمِ، فجَعَلوا أنفُسَهم في حُكْمِ سُكّانِ مكَّةَ، لأنّ أُمَّهم قرشيَّةٌ، وهي مَجْدُ بنتُ تَيْمِ بنِ غالبِ بنِ فِهْرٍ.
وقد ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ البَراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه، قال: «كانَتِ الأَنْصارُ إذا حَجُّوا فَجاؤُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِن قِبَلِ أبْوابِ بُيُوتِهِمْ، ولَكِنْ مِن ظُهُورِها، فَجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصارِ، فَدَخَلَ مِن قِبَلِ بابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ»[[أخرجه البخاري (١٨٠٣) (٣/٨)، ومسلم (٣٠٢٦) (٤/٢٣١٩).]].
وقد نَفى اللهُ ما يتوهَّمونَهُ من البِرِّ بتركِ أبوابِ البيوتِ، والدخولِ مِن ظهورِها، وبيَّن أنّ البِرَّ الحقيقيَّ هو تقوى اللهِ على وجهِ الحقيقةِ، ﴿ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى﴾، وتقوى اللهِ أنْ يَبتعِدَ العبدُ عن أسبابِ عذابِ اللهِ وسَخَطِه، وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ العِبْرةَ بالموافَقَةِ لهديِ اللهِ ورسولِه، وليس لمجرَّدِ صدقِ الإنسانِ في احتسابِه.
وتقديمُهُ للتقوى على دخولِ البيوتِ من الأبوابِ، لأنّ دخولَ البيوتِ مِن الأبوابِ ومِن ظهورِها ليس دِينًا ولا بِرًّا، وإنّما البِرُّ هو ما أمَرَ اللهُ به ووَجَّهَ إليه، فيُتَّقى اللهُ به، وأنّ اعتقادَ أنّ دخولَ البيوتِ مِن ظهورِها دِينٌ وبِرٌّ جعَلَ الدخولَ مِن الأبوابِ من البِرِّ، لمخالَفةِ البِدْعةِ في الدِّينِ، وفي هذا دليلٌ على أنّ إظهارَ العاداتِ التي تُخالِفُ ما يتوهَّمُهُ الناسُ دِينًا مِن البِرِّ، وهو وإن كان في ذاتِهِ عادةً إلاَّ أنّه يُظهِرُ مخالَفَةَ الإحداثِ.
{"ayah":"۞ یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِیَ مَوَ ٰقِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَیۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُوا۟ ٱلۡبُیُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُوا۟ ٱلۡبُیُوتَ مِنۡ أَبۡوَ ٰبِهَاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق