الباحث القرآني

ولَمّا أتَمَّ سُبْحانَهُ وتَعالى البَيانَ لِما أرادَهُ مِمّا شَرَعَهُ في شَهْرِ الصَّوْمِ لَيْلًا ونَهارًا وبَعْضَ ما تَبِعَ ذَلِكَ وكانَ كَثِيرٌ مِنَ الأحْكامُ يَدُورُ عَلى الهِلالِ لا سِيَّما أحَدَ قَواعِدِ الإسْلامِ الحَجَّ الَّذِي هو أخُو الصَّوْمِ وكانَتِ الأهِلَّةُ كالحُكّامِ تُوجِبُ أشْياءَ وتَنْفِي غَيْرَها كالصِّيامِ والدُّيُونِ والزَّكَواتِ وتُؤْكَلُ بِها الأمْوالُ حَقًّا أوْ باطِلًا وكانَ ذِكْرُ الشَّهْرِ وإكْمالُ (p-٩٨)العِدَّةِ قَدْ حَرَّكَ العَزْمَ لِلسُّؤالِ عَنْهُ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ﴾ وجَعَلَ ذَلِكَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ جَوابًا لِمَن كَأنَّهُ قالَ: هَلْ سَألُوا عَنِ الأهِلَّةِ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، وذَلِكَ لِتَقَدُّمِ ما يُثِيرُ العَزْمَ إلى السُّؤالِ عَنْها صَرِيحًا فَكانَ سَبَبًا لِلسُّؤالِ عَنِ السُّؤالِ عَنْها، وكَذا ما يَأْتِي مِن قَوْلِهِ ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥] ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ٢١٧] ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩] بِخِلافِ ما عُطِفَ عَلى ما قَبْلَهُ بِالواوِ كَما يَأْتِي، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ الأنْعامِ ما يَنْبَغِي مِن عِلْمِ النُّجُومِ وما لا يَنْبَغِي ﴿عَنِ الأهِلَّةِ﴾ أيِ الَّتِي تَقَدَّمَ أنَّهُ لَيْسَ البِرَّ تَوْلِيَةُ الوَجْهِ قِبَلَ مَشارِقِها ومَغارِبِها: ما سَبَبُ زِيادَتِها بَعْدَ كَوْنِها كالحَظِّ أوِ الخَيْطِ حَتّى تَتَكامَلَ وتَسْتَوِيَ ونَقْصِها بَعْدَ ذَلِكَ حَتّى تَدِقَّ (p-٩٩)وتَنْمَحِقَ؟ قالَ الحَرالِيُّ: وهي جَمْعُ هِلالٍ وهو ما يَرْفَعُ الصَّوْتَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَغَلَبَ عَلى رُؤْيَةِ الشَّهْرِ الَّذِي هو الهِلالُ - انْتَهى. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ما جَوابُهُمْ؟ قِيلَ: ﴿قُلْ﴾ مُعْرِضًا عَنْهُ لِما لَهم فِيهِ مِنَ الفِتْنَةِ لِأنَّهُ يَنْبَنِي عَلى النَّظَرِ في حَرَكاتِ الفَلَكِ وذَلِكَ يَجُرُّ إلى عِلْمِ تَسْيِيرِ النُّجُومِ وما يَتْبَعُهُ مِنَ الآثارِ الَّتِي تَقُودُ إلى الكَلامِ في الأحْكامِ المَنسُوبَةِ إلَيْها فَتَسْتَدْرِجُ إلى الإلْحادِ وقَدْ ضَلَّ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ والقُرُونِ الماضِيَةِ فاعْتَقَدُوا تَأْثِيرَها بِذَواتِها وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ناهِيًا عَنْ ذَلِكَ لِذَلِكَ: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ بابًا مِنَ السِّحْرِ زادَ ما زادَ» أخْرَجَهُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ (p-١٠٠)عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما؛ وقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: «مَن طَلَبَ عِلْمَ النُّجُومِ تَكَهَّنَ» مُرْشِدًا سُبْحانَهُ وتَعالى إلى ما فِيهِ صَلاحُهُمْ: ﴿هِيَ مَواقِيتُ﴾ جَمْعُ مِيقاتٍ مِنَ الوَقْتِ وهو الحَدُّ الواقِعُ بَيْنَ أمْرَيْنِ أحَدُهُما مَعْلُومٌ سابِقٌ والآخَرُ مَعْلُومٌ بِهِ لاحِقٌ. وقالَ الأصْبَهانِيُّ: والفَرْقُ بَيْنَ الوَقْتِ والمُدَّةِ والزَّمانِ أنَّ المُدَّةَ المُطْلَقَةَ امْتِدادُ حَرَكَةِ الفَلَكِ مِن مَبْدَئِها إلى الزَّمانِ، والزَّمانَ مُدَّةٌ مَقْسُومَةٌ، والوَقْتَ الزَّمانُ المَفْرُوضُ لِأمْرٍ ما. ﴿لِلنّاسِ﴾ في صَوْمِهِمْ كَما تَقَدَّمَ ومُعامَلاتِهِمْ لِيَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابِ ﴿والحَجِّ﴾ صَرَّحَ بِهِ لِأنَّهُ مِن أعْظَمِ (p-١٠١)مَداخِلِها. قالَ الحَرالِيُّ: وهو حَشْرُ العِبادِ إلى المَوْقِفِ في شُهُورِ آخِرِ السَّنَةِ، فَهو أمْرٌ دِينِيٌّ مُشْعِرٌ بِخَتْمِ الزَّمانِ وذَهابِهِ لِما فِيهِ مِن آيَةِ المَعادِ -ِ انْتَهى. ولَمّا كانُوا قَدِ اعْتادُوا في الحَجِّ فِعْلًا مُنْكَرًا وكانَ تَرْكُ المَأْلُوفاتِ أشَقَّ شَيْءٍ عَلى النُّفُوسِ، ولِذَلِكَ قالَ أهْلُ الطَّرِيقِ وساداتُ أهْلِ التَّحْقِيقِ: مَلاكُ القَصْدِ إلى اللَّهِ تَعالى خَلْعُ العاداتِ واسْتِجْدادُ قَبُولِ الأُمُورِ المُنْزَلاتِ مِن قَيُّومِ السَّماواتِ والأرْضِ، وبِذَلِكَ كانَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم ساداتِ أهْلِ الإسْلامِ، قالَ تَعالى عاطِفًا عَلى ﴿لَيْسَ البِرَّ﴾ [البقرة: ١٧٧] مُقَبِّحًا لِذَلِكَ الفِعْلِ عَلَيْهِمْ مُنَبِّهًا عَلى أنَّهم عَكَسُوا في سُؤالِهِمْ كَما عَكَسُوا في فِعالِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى حالٍ دَلَّ عَلَيْها السِّياقُ تَقْدِيرُها: والحالُ أنَّهُ لَيْسَ البِرُّ سُؤالَكم هَذا عَنْها ﴿ولَيْسَ البِرُّ﴾ وأكَّدَ النَّفْيَ بِزِيادَةِ الباءِ في قَوْلِهِ: ﴿بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ﴾ أيْ لا الحِسِّيَّةَ ولا المَعْنَوِيَّةَ ﴿مِن ظُهُورِها﴾ عِنْدَ القُدُومِ مِنَ الحَجِّ أوْ غَيْرِهِ كَما أنَّهُ (p-١٠٢)لَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَعْكِسُوا في مَقالِكم بِتَرْكِ السُّؤالِ عَمّا يَعْنِيكم والسُّؤالِ عَمّا لا يَعْنِيكم بَلْ يَعْنِيكم. ولَمّا نَفى البِرَّ عَنْ ذَلِكَ كَما نَفى في الأوَّلِ اسْتَدْرَكَ عَلى نَهْجِ الأوَّلِ فَقالَ: ﴿ولَكِنَّ البِرَّ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: بِالرَّفْعِ والتَّخْفِيفِ اسْتِدْراكًا لِما هو البِرُّ وإعْراضًا عَنِ الأوَّلِ، وبِالنَّصْبِ والتَّشْدِيدِ مَعَ الِالتِفاتِ إلى الأوَّلِ لِمَقْصِدِ طَرْحِهِ - انْتَهى. ﴿مَنِ اتَّقى﴾ فَجَعَلَ المُتَّقِي نَفْسَ البَرِّ إلْهابًا لَهُ إلى الإقْبالِ عَلى التَّقْوى لَمّا كانَتِ التَّقْوى حامِلَةً عَلى جَمِيعِ ما مَضى مِن خِلالِ الإيمانِ الماضِيَةِ اكْتَفى بِها. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فاتَّقُوا فَلا تَسْألُوا عَمّا لا يَهُمُّكم في دِينِكم عَطَفَ عَلَيْهِ: ﴿وأْتُوا البُيُوتَ (p-١٠١)مِن أبْوابِها﴾ حِسًّا في العَمَلِ ومَعْنًى في التَّلَقِّي، والبابُ المَدْخَلُ لِلشَّيْءِ المُحاطِ بِحائِطٍ يَحْجِزُهُ ويَحُوطُهُ - قالَهُ الحَرالِيُّ. وتَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ لَهُ بِغَيْرِ هَذا. ولَمّا كانَ الأمْرُ بِالتَّقْوى قَدْ تَقَدَّمَ ضِمْنًا وتَلْوِيحًا أتى بِهِ دالًّا عَلى عَظِيمِ جَدْواها ذِكْرًا وتَصْرِيحًا دَلالَةً عَلى التَّأْكِيدِ في تَرْكِهِمْ تِلْكَ العادَةَ لِاقْتِضاءِ الحالِ ذَلِكَ لِأنَّ مَنِ اعْتادَ شَيْئًا قَلَّ ما يَتْرُكُهُ وإنْ تَرَكَهُ طَرَقَهُ خاطِرُهُ وقْتًا ما فَقالَ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيِ المَلِكَ الأعْظَمَ في كُلِّ ما تَأْتُونَ وما تَذَرُونَ ووَطِّنُوا النُّفُوسَ وارْبِطُوا القُلُوبَ عَلى أنَّ جَمِيعَ أفْعالِهِ تَعالى حِكْمَةٌ وصَوابٌ مِن غَيْرِ اخْتِلاجِ شُبْهَةٍ ولا اعْتِراضِ شَكٍّ في ذَلِكَ حَتّى لا يُسْألَ عَنْهُ لِما في السُّؤالِ مِنَ الإيهامِ بِمُفارَقَةِ الشَّكِّ، ثُمَّ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ أيْ لِتَكُونَ حالُكم حالَ مَن يُرْجى دَوامُ التَّجَدُّدِ لِفَلاحِهِ وهو ظَفَرُهُ بِجَمِيعِ مَطالِبِهِ مِنَ البِرِّ وغَيْرِهِ، فَقَدْ دَلَّ سِياقُ الآيَةِ عَلى كَراهَةِ هَذا السُّؤالِ؛ وذَكَرَ الحَرالِيُّ أنَّ أكْثَرَ ما يَقَعُ فِيهِ سُؤالٌ يَكُونُ مِمّا أُلْبِسَ (p-١٠٤)فِتْنَةً أوْ شُرِبَ مِحْنَةً أوْ أُعْقِبَ بِعُقُوبَةٍ ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ﴾ [المائدة: ١٠١] وكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَسائِلَ وعابَها وقالَ: «دَعُونِي ما تَرَكْتُكم فَإنَّما أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكم كَثْرَةُ سُؤالِهِمْ» الحَدِيثَ ومِنهُ كُرْهُ الرَّأْيِ وتَكَلُّفُ تَوْلِيدِ المَسائِلِ لِأنَّهُ شُغْلٌ عَنْ عِلْمِ التَّأْصِيلِ وتَعَرُّضٌ لِوُقُوعِهِ كالَّذِي سَألَ عَنِ الرَّجُلِ يُبْتَلى في أهْلِهِ فابْتُلِيَ بِهِ، ويُقالُ: كَثْرَةُ تَوْلِيدِ مَسائِلِ السَّهْوِ أوْقَعَ فِيهِ. وقالَ: وهَذِهِ الآيَةُ كالجامِعَةِ المُوَطِّئَةِ لِما ذُكِرَ بَعْدَها مِن أمْرِ تَوْقِيتِ القِتالِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ كَما كانَ مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ حُكْمُ التَّحَرُّجِ مِنَ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ والتَّساهُلِ فِيهِ في أشْهُرِ الحِلِّ مَعَ كَوْنِهِ عَدْوى بِغَيْرِ حُكْمٍ حَقٍّ فَكانَ فِيهِ عَمَلٌ بِالفَسادِ وسَفْكُ الدِّماءِ - انْتَهى وفِيهِ تَصَرُّفٌ. فَمَحا سُبْحانَهُ ما أصْلَوْهُ مِن ذَلِكَ بِما شَرَعَهُ مِن أمْرِ القِتالِ لِكَوْنِهِ جِهادًا فِيهِ لِحَظٍّ مِن حُظُوظِ الدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب