الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِن أمْوالِ الناسِ بِالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هي مَواقِيتُ لِلنّاسِ والحَجِّ ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها ولَكِنَّ البِرُّ مِن اتَّقى وأْتُوا البُيُوتَ مِن أبْوابِها واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكم ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللهِ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ الخِطابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، والمَعْنى: لا يَأْكُلُ بَعْضُكم مالَ بَعْضٍ، فَأُضِيفَتِ الأمْوالُ إلى ضَمِيرِ المَنهِيِّ لَمّا كانَ كُلُّ واحِدٍ مَنهِيًّا عنهُ، وكَما قالَ اللهُ تَعالى: ﴿تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥]. ويَدْخُلُ في هَذِهِ الآيَةِ القِمارُ والخِداعُ والغُصُوبُ وجَحْدُ الحَقائِقِ وغَيْرُ ذَلِكَ، ولا يَدْخُلُ فِيهِ الغَبْنُ في البَيْعِ مَعَ مَعْرِفَةِ البائِعِ بِحَقِيقَةِ ما يَبِيعُ لِأنَّ الغَبْنَ كَأنَّهُ وهَبَهُ. وقالَ قَوْمٌ: المُرادُ بِالآيَةِ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ أيْ في المَلاهِي والقِيانِ، والشَرابِ، والبَطالَةِ، فَتَجِيءُ عَلى هَذا إضافَةُ المالِ إلى ضَمِيرِ المالِكِينَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتُدْلُوا بِها﴾ الآيَةُ، يُقالُ: أدْلى الرَجُلُ بِالحُجَّةِ، أو بِالأمْرِ الَّذِي يَرْجُو (p-٤٥٨)النَجاحَ بِهِ، تَشْبِيهًا بِالَّذِي يُرْسِلُ الدَلْوَ في البِئْرِ يَرْجُو بِها الماءَ. قالَ قَوْمٌ: مَعْنى الآيَةِ: تُسارِعُونَ في الأمْوالِ إلى المُخاصَمَةِ إذا عَلِمْتُمْ أنَّ الحُجَّةَ تَقُومُ لَكُمْ، إمّا بِألّا تَكُونَ عَلى الجاحِدِ بَيِّنَةٌ، أو يَكُونُ مالَ أمانَةٍ، كاليَتِيمِ ونَحْوِهِ، مِمّا يَكُونُ القَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ، فالباءُ في "بِها" باءُ السَبَبِ. وقِيلَ مَعْنى الآيَةِ: تَرْشُوا بِها عَلى أكْلِ أكْثَرِ مِنها، فالباءُ إلْزاقُ مُجَرَّدٍ، وهَذا القَوْلُ يَتَرَجَّحُ لِأنَّ الحُكّامَ مَظِنَّةُ الرِشا، إلّا مَن عُصِمَ وهو الأقَلُّ، وأيْضًا فَإنَّ اللَفْظَتَيْنِ مُتَناسِبَتانِ، "تُدْلُوا" مِن أرْسَلَ الدَلْوَ، والرِشْوَةُ مِنَ الرِشاءِ، كَأنَّها يُمَدُّ بِها لِتُقْضى الحاجَةُ. و"تَدْلُوا" في مَوْضِعِ جَزْمٍ عَطْفًا عَلى "تَأْكُلُوا"، وفي مُصْحَفٍ أُبَيٍّ: "وَلا تُدْلُوا" بِتَكْرارِ حَرْفِ النَهْيِ، وهَذِهِ القِراءَةُ تُؤَيَّدُ جَزْمَ "تُدْلُوا" في قِراءَةِ الجَماعَةِ. وقِيلَ: "تُدْلُوا" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الظَرْفِ، وهَذا مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ، أنَّ مَعْنى الظَرْفِ هو الناصِبُ، والَّذِي يُنْصَبُ في مِثْلِ هَذا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ "أنْ" مُضْمَرَةً. والفَرِيقُ: القِطْعَةُ والجُزْءُ و"بِالإثْمِ" مَعْناهُ: بِالظُلْمِ والتَعَدِّي، وسُمِّيَ ذَلِكَ إثْمًا لَمّا كانَ الإثْمُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِفاعِلِهِ، ﴿وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ إنَّكم مُبْطِلُونَ آثِمُونَ، وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في المَعْصِيَةِ والجُرْأةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ﴾ الآيَةُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والرَبِيعُ، (p-٤٥٩)وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ عَلى سُؤالِ قَوْمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ النَبِيَّ ﷺ عَنِ الهِلالِ. وما فائِدَةُ مُحاقِهِ وكَمالِهِ ومُخالَفَتِهِ لِحالِ الشَمْسِ؟ وجَمْعٌ وهو واحِدٌ في الحَقِيقَةِ مِن حَيْثُ كَوْنُهُ هِلالًا في شَهْرٍ غَيْرِ كَوْنِهِ هِلالًا في الآخَرِ، فَإنَّما جَمْعُ أحْوالِهِ مِنَ الهِلالِيَّةِ، والهِلالُ لَيْلَتانِ بِلا خِلافٍ ثُمَّ يَقْمُرُ، وقِيلَ: ثَلاثٌ، وقالَ الأصْمَعِيُّ: هو هِلالٌ حَتّى يَحْجُرَ ويَسْتَدِيرَ لَهُ كالخَيْطِ الرَقِيقِ، وقِيلَ: هو هِلالٌ حَتّى يُبْهِرَ بِضَوْئِهِ السَماءَ وذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعٍ. وقَوْلُهُ: "مَواقِيتُ" مَعْناهُ: لِمَحَلِّ الدُيُونِ وانْقِضاءِ العَدَدِ والأكْرِيَةِ وما أشْبَهَ هَذا مِن مَصالِحِ العِبادِ، ومَواقِيتُ الحَجِّ أيْضًا يُعْرَفُ بِها وقْتُهُ وأشْهُرُهُ. (p-٥٦٠)وَ"مَواقِيتُ" لا يَنْصَرِفُ، لِأنَّهُ جَمْعٌ لا نَظِيرَ لَهُ في الآحادِ، فَهو جَمْعٌ ونِهايَةُ جَمْعٍ، إذْ لَيْسَ يُجْمَعُ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: "والحَجُّ" بِكَسْرِ الحاءِ في جَمِيعِ القُرْآنِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿حَجَّ البَيْتَ﴾ [البقرة: ١٥٨] في آلِ عِمْرانَ، قالَ سِيبَوَيْهِ: الحَجُّ كالرَدِّ والشَدِّ، والحَجُّ كالذِكْرِ فَهُما مَصْدَرانِ بِمَعْنًى، وقِيلَ: الفَتْحُ مَصْدَرٌ، والكَسْرُ الِاسْمُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَيْسَ البِرُّ﴾ الآيَةُ، قالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ، والزُهْرِيُّ، وقَتادَةُ: سَبَبُها (p-٤٦١)أنَّ الأنْصارَ كانُوا إذا حَجُّوا أوِ اعْتَمَرُوا يَلْتَزِمُونَ تَشَرُّعا ألّا يَحُولَ بَيْنَهم وبَيْنَ السَماءِ حائِلٌ، فَكانُوا يَتَسَنَّمُونَ ظُهُورَ بُيُوتِهِمْ عَلى الجُدْرانِ، وقِيلَ: كانُوا يَجْعَلُونَ في ظُهُورِ بُيُوتِهِمْ فُتُوحًا يَدْخُلُونَ مِنها، ولا يَدْخُلُونَ مِنَ الأبْوابِ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا مِمّا يُشْبِهُهُ فاخْتَصَرْتُهُ، فَجاءَ رَجُلٌ مِنهم فَدَخَلَ مِن بابِ بَيْتِهِ فَعُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وقالَ إبْراهِيمُ: كانَ يَفْعَلُ ما ذَكَرَ قَوْمٌ مِن أهْلِ الحِجازِ. وقالَ السُدِّيُّ: «ناسٌ مِنَ العَرَبِ، وهُمُ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الحُمْسَ. قالَ: فَدَخَلَ النَبِيُّ ﷺ بابًا ومَعَهُ رَجُلٌ مِنهُمْ، فَوَقَفَ ذَلِكَ الرَجُلُ، وقالَ: "إنِّي أُحَمِّسُ" فَقالَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ::"وَأنا أُحَمِّسُ" فَنَزَلَتِ الآيَةُ.» ورَوى الرَبِيعُ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ دَخَلَ وخَلْفَهُ رَجُلٌ أنْصارِيٌّ فَدَخَلَ وخَرَقَ عادَةَ قَوْمِهِ، فَقالَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ: "لِمَ دَخَلْتَ وأنْتَ قَدْ أحْرَمْتَ؟" قالَ: دَخَلْتَ أنْتَ فَدَخَلْتُ بِدُخُولِكَ، فَقالَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ: "إنِّي أُحَمِّسُ" أيْ مِن قَوْمٍ لا يَدِينُونَ بِذَلِكَ، فَقالَ الرَجُلُ: "وَأنا دِينِي دِينُكَ" فَنَزَلَتِ الآيَةُ». وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الآيَةُ ضَرْبُ مَثَلٍ، المَعْنى: لَيْسَ البِرُّ أنْ تَسْألُوا الجُهّالَ، ولَكِنِ اتَّقُوا واسْألُوا العُلَماءَ، فَهَذا كَما يُقالُ: أتَيْتُ هَذا الأمْرَ مِن بابِهِ. وقالَ (p-٤٦٢)غَيْرُ أبِي عُبَيْدَةَ: المَعْنى: لَيْسَ البَرُّ أنْ تَشِذُّوا في الأسْئِلَةِ عَنِ الأهِلَّةِ وغَيْرِها، فَتَأْتُونَ الأُمُورَ عَلى غَيْرِ ما يَجِبُ، وهَذا يُحْتَمَلُ، والأوَّلُ أسَدُّ. وأمّا ما حَكاهُ المَهْدَوِيُّ، ومَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ مِن أنَّ الآيَةَ مَثَلٌ في جِماعِ النِساءِ فَبِعِيدٌ مُغَيَّرٌ نَمَطَ الكَلامِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ، ونافِعٌ بِخِلافٍ عنهُ: "البِيُوتَ" بِكَسْرِ الباءِ. وقَرَأ بَعْضُ القُرّاءِ: "وَلَكِنَّ البِرَّ" بِتَشْدِيدِ نُونِ "لَكُنَّ" ونَصْبِ "البِرَّ"، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ عَلى "مَن" في قَوْلِهِ: ﴿مَن آمَنَ بِاللهِ﴾ [البقرة: ١٧٧]، "واتَّقُوا مَعْناهُ: اجْعَلُوا بَيْنَكم وبَيْنَ عِقابِهِ وِقايَةً، و"لَعَلَّكُمْ" تَرَجٍّ في حَقِّ البَشَرِ، والفَلاحُ: دَرْكُ البُغْيَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ﴾ الآيَةُ، هي أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ في الأمْرِ بِالقِتالِ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ، والرَبِيعُ: مَعْناها: قاتِلُوا مَن قاتَلَكُمْ، وكَفُّوا عَمَّنْ كَفَّ عنكُمْ، ولا تَعْتَدُوا في قِتالِ مَن لَمْ يُقاتِلُوكُمْ، وهَذِهِ المُوادَعَةُ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ بَراءَةٍ وبِقَوْلِهِ: ﴿وَقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦]. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، ومُجاهِدٌ: مَعْنى الآيَةِ: قاتِلُوا الَّذِينَ هم بِحالَةِ مَن يُقاتِلُكُمْ، ولا تَعْتَدُوا في قَتْلِ النِساءِ والصِبْيانِ والرُهْبانِ وشَبَهِهِمْ، فَهي (p-٤٦٣)مُحْكَمَةٌ عَلى هَذا القَوْلِ، وقالَ قَوْمٌ: المَعْنى: لا تَعْتَدُوا في القِتالِ لِغَيْرِ وجْهِ اللهِ، كالحَمِيَّةِ وكَسْبِ الذِكْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب