الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٥٤] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ لَمّا نَهى تَعالى - فِيما سَلَفَ - عَنْ مَوْلاةِ اليَهُودِ والنَّصارى، وبَيَّنَ أنَّ مُوالاتَهم مُسْتَدْعِيَةٌ لِلِارْتِدادِ عَنِ الدِّينِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّهُ مِنهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] وقَوْلِهِ: ﴿حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ [المائدة: ٥٣] - شَرَعَ في بَيانِ حالِ المُرْتَدِّينَ عَلى الإطْلاقِ. ونَوَّهَ بِقُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ. فَأعْلَمَ أنَّهُ مَن تَوَلّى عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ وإقامَةِ شَرِيعَتِهِ، فَإنَّ اللَّهَ سَيَسْتَبْدِلُ بِهِ مَن هو خَيْرٌ لَها مِنهُ، وأشَدُّ مَنَعَةً، وأقْوَمُ سَبِيلًا. كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨] وقالَ تَعالى: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيُّها النّاسُ ويَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ [النساء: ١٣٣] (p-٢٠٣٣)وقالَ تَعالى: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر: ١٦] ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: ١٧] أيْ: بِمُمْتَنِعٍ ولا صَعْبٍ. وفِي هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ: الأُولى: قالَ المُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الآيَةُ مِنَ الكائِناتِ الَّتِي أُخْبِرَ عَنْها في القُرْآنِ قَبْلَ كَوْنِها. وقَدْ وقَعَ المُخْبَرُ بِهِ عَلى وفْقِها. فَيَكُونُ مُعْجِزًا. فَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ ارْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ إحْدى عَشْرَةَ فِرْقَةً: ثَلاثٌ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. (بَنُو مُدْلِجٍ) ورَئِيسُهم ذُو الحِمارِ - بِحاءٍ مُهْمَلَةٍ وضَبَطَهُ بَعْضُهم بِالمُعْجَمَةِ - وهو الأسْوَدُ العَنْسِيُّ - بِالنُّونِ نِسْبَةً إلى عَنْسٍ قَبِيلَةٍ بِاليَمَنِ - وكانَ كاهِنًا ثُمَّ تَنَبَّأ بِاليَمَنِ، واسْتَوْلى عَلى بِلادِهِ، وأخْرَجَ عُمّالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ وإلى ساداتِ اليَمَنِ. فَأهْلَكَهُ اللَّهُ عَلى يَدَيْ فَيْرُوزَ الدَّيْلِمِيِّ. بَيَّتَهُ فَقَتَلَهُ. وأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَتْلِهِ لَيْلَةَ قُتِلَ. فَسُرَّ المُسْلِمُونَ. وقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الغَدِ في آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ. و(بَنُو حَنِيفَةَ) قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ: تَنَبَّأ وكَتَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مِن مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ (p-٢٠٣٤)إلى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ. أمّا بَعْدُ؛ فَإنَّ الأرْضَ نِصْفُها لِي ونِصْفُها لَكَ. فَأجابَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلى مُسَيْلِمَةَ الكَذّابِ. أمّا بَعْدُ، فَإنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ والعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. فَحارَبَهُ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجُنُودِ المُسْلِمِينَ، وقُتِلَ عَلى يَدَيْ وحْشِيٍّ، قاتِلِ حَمْزَةَ، وكانَ يَقُولُ: قَتَلْتُ خَيْرَ النّاسِ في الجاهِلِيَّةِ، وشَرَّ النّاسِ في الإسْلامِ. أرادَ: في جاهِلِيَّتِي وإسْلامِي. و(بَنُو أسَدٍ) قَوْمُ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ: تَنَبَّأ في حَياةِ النَّبِيِّ ﷺ، وكَثُرَ جَمْعُهُ، وماتَ (p-٢٠٣٥)ﷺ وهو عَلى ذَلِكَ. فَبَعَثَ إلَيْهِ أبُو بَكْرٍ خالِدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فَقَصَدَهُ. فانْهَزَمَ طُلَيْحَةُ بَعْدَ القِتالِ إلى الشّامِ. ثُمَّ أسْلَمَ وحَسُنَ إسْلامُهُ. وسَبْعٌ في عَهْدِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فَزارَةُ) قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ. و(قَوْمُ غَطَفانَ) قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ الشِّيرِيِّ. و(بَنُو سُلَيْمٍ) قَوْمُ الفُجاءَةِ بْنِ عَبْدِ يالِيلَ - بِيائَيْنِ ولامَيْنِ كَهابِيلَ - صَنَمٌ سُمِّيَ هَذا بِهِ. و(بَنُو يَرْبُوعٍ) قَوْمُ مالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ. و(بَعْضُ تَمِيمٍ) قَوْمُ سِجاحَ بِنْتِ المُنْذِرِ. كانَتْ كاهِنَةً ثُمَّ تَنَبَّأتْ وزَوَّجَتْ نَفْسَها مُسَيْلِمَةَ الكَذّابَ ثُمَّ أسْلَمَتْ وحَسُنَ إسْلامُها. و(كِنْدَةُ) قَوْمُ الأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ. و(بَنُو بَكْرِ بْنِ وائِلٍ) بِالبَحْرِينِ، قَوْمُ الحُطَمِ - كَزُفَرَ - بْنِ زَيْدٍ. وكَفى اللَّهُ أمْرَهم عَلى يَدَيْ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفِرْقَةٌ واحِدَةٌ في عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (غَسّانُ) قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الأيْهَمِ، نَصَّرَتْهُ اللَّطْمَةُ وسَيَّرَتْهُ إلى بِلادِ الرُّومِ بَعْدَ إسْلامِهِ. والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ ماتَ عَلى رِدَّتِهِ وقِيلَ: إنَّهُ أسْلَمَ. ورَوى الواقِدِيُّ: أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلى أحْبارِ الشّامِ - لَمّا لَحِقَ بِهِمْ – (p-٢٠٣٦)كِتابًا فِيهِ: أنَّ جَبَلَةَ ورَدَ إلَيَّ في سَراةِ قَوْمِهِ، فَأسْلَمَ فَأكْرَمْتُهُ. ثُمَّ سارَ إلى مَكَّةَ فَطافَ فَوَطِئَ إزارَهُ رَجُلٌ مِن بَنِي فَزارَةَ، فَلَطَمَهُ جَبَلَةُ فَهَشَّمَ أنْفَهُ وكَسَرَ ثَناياهُ. (وقِيلَ: قَلَعَ عَيْنَهُ، ويَدُلُّ لَهُ ما سَيَأْتِي) فاسْتَعْدى الفَزارِيُّ عَلى جَبَلَةَ إلَيَّ. فَحَكَمْتُ إمّا بِالعَفْوِ أوْ بِالقِصاصِ. فَقالَ: أتُقْتَصُّ مِنِّي وأنا مَلِكٌ وهو سُوقَةٌ؟ فَقُلْتُ: شَمَلَكَ وإيّاهُ الإسْلامُ. فَما تَفْضُلُهُ إلّا بِالعافِيَةِ. فَسَألَ جَبَلَةُ التَّأْخِيرَ إلى الغَدِ. فَلَمّا كانَ مِنَ اللَّيْلِ رَكِبَ مَعَ بَنِي عَمِّهِ ولَحِقَ بِالشّامِ مُرْتَدًّا. ورُوِيَ أنَّهُ نَدِمَ عَلى ما فَعَلَ وأنْشَدَ: ؎تَنَصَّرْتُ بَعْدَ الحَقِّ عارًا لِلَطْمَةٍ ولَمْ يَكُ فِيها، لَوْ صَبَرْتُ لَها، ضَرَرْ ؎فَأدْرَكَنِي فِيها لِجاجُ حَمِيَّةٍ ∗∗∗ فَبِعْتُ لَها العَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالعَوَرْ ؎فَيا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي ولَيْتَنِي ∗∗∗ صَبَرْتُ عَلى القَوْلِ الَّذِي قالَهُ عُمَرْ هَذا ما في "الكَشّافِ" و"العِنايَةِ". وقالَ الخَطّابِيُّ: أهْلُ الرِّدَّةِ كانُوا صِنْفَيْنِ: صِنْفًا ارْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ ونابَذُوا المِلَّةَ وعَدَلُوا إلى الكُفْرِ. وهَذِهِ الفِرْقَةُ طائِفَتانِ: إحْداهُما: - أصْحابُ مُسَيْلِمَةَ الكَذّابِ مِن بَنِي حَنِيفَةَ وغَيْرِهِمُ (p-٢٠٣٧)الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَلى دَعْواهُ في النُّبُوَّةِ، أصْحابُ الأسْوَدِ العَنْسِيِّ ومَنِ اسْتَجابَهُ مِن أهْلِ اليَمَنِ. وهَذِهِ الفِرْقَةُ بِأسْرِها مُنْكِرَةٌ لِنُبُوَّةِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ. مُدَّعِيَةٌ النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ. فَقاتَلَهم أبُو بَكْرٍ حَتّى قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ بِاليَمامَةِ، والعَنْسِيَّ بِصَنْعاءَ. وانْفَضَّتْ جُمُوعُهم وهَلَكَ أكْثَرُهم. والطّائِفَةُ الأُخْرى: - ارْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ. فَأنْكَرُوا الشَّرائِعَ وتَرَكُوا الصَّلاةَ والزَّكاةَ وغَيْرَهُما مِن أُمُورِ الدِّينِ، وعادُوا إلى ما كانُوا عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ يُسْجَدُ لِلَّهِ في الأرْضِ إلّا في ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ مَكَّةَ، ومَسْجِدِ المَدِينَةِ، ومَسْجِدِ عَبْدِ القَيْسِ. قالَ؛ والصِّنْفُ الآخَرُ: هُمُ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاةِ وبَيْنَ الزَّكاةِ، فَأنْكَرُوا وُجُوبَها ووُجُوبَ أدائِها إلى الإمامِ، وهَؤُلاءِ -عَلى الحَقِيقَةِ- أهْلُ البَغْيِ وإنَّما لَمْ يُدْعَوْا بِهَذا الِاسْمِ في ذَلِكَ الزَّمَنِ خُصُوصًا، لِدُخُولِهِمْ في غِمارِ أهْلِ الرِّدَّةِ، وأُضِيفَ الِاسْمُ في الجُمْلَةِ إلى أهْلِ الرِّدَّةِ، إذْ كانَتْ أعْظَمَ الأمْرَيْنِ وأهَمَّهُما. انْظُرْ تَتِمَّةَ هَذا المَبْحَثِ في "نَيْلِ الأوْطارِ" في كِتابِ الزَّكاةِ. قالَ الشَّوْكانِيُّ: فَأمّا مانِعُو الزَّكاةِ مِنهُمْ، المُقِيمُونَ عَلى أصْلِ الدِّينِ، فَإنَّهم أهْلُ بَغْيٍ. ولَمْ يُسَمَّوْا عَلى الِانْفِرادِ كُفّارًا، وإنْ كانَتِ الرِّدَّةُ قَدْ أُضِيفَتْ إلَيْهِمْ لِمُشارَكَتِهِمُ المُرْتَدِّينَ في مَنعِ بَعْضِ ما مَنَعُوهُ مِن حُقُوقِ الدِّينِ، وذَلِكَ أنَّ الرِّدَّةَ اسْمٌ لُغَوِيٌّ. فَكُلُّ مَنِ انْصَرَفَ عَنْ أمْرٍ كانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ، فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْهُ. وقَدْ وُجِدَ مِن هَؤُلاءِ القَوْمِ الِانْصِرافُ عَنِ الطّاعَةِ ومَنعِ الحَقِّ. وانْقَطَعَ عَنْهُمُ اسْمُ الثَّناءِ والمَدْحِ، وعَلِقَ بِهِمُ الِاسْمُ القَبِيحُ، لِمُشارَكَتِهِمُ القَوْمَ الَّذِينَ كانَ ارْتِدادُهم حَقًّا. الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ﴾ مَذْهَبُ السَّلَفِ في المَحَبَّةِ المُسْنَدَةِ لَهُ تَعالى. أنَّها ثابِتَةٌ لَهُ تَعالى بِلا كَيْفٍ ولا تَأْوِيلٍ، ولا مُشارَكَةٍ لِلْمَخْلُوقِ في شَيْءٍ مِن خَصائِصِها. كَما تَقَدَّمَ في الفاتِحَةِ فِي: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣] فَتَأْوِيلُ مِثْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَها - بِإثابَتِهِ تَعالى لَهم أحْسَنَ الثَّوابِ، وتَعْظِيمِهِمْ والثَّناءِ عَلَيْهِمْ (p-٢٠٣٨)والرِّضا عَنْهم - تَفْسِيرٌ بِاللّازِمِ، مَنزَعٌ كَلامِيٌّ لا سَلَفِيٌّ. وقَدْ أنْكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا كَوْنَ مَحَبَّةِ العِبادِ لِلَّهِ حَقِيقِيَّةً، وفَسَّرَها بِالطّاعَةِ وابْتِغاءِ المَرْضاةِ. فَرَدَّهُ صاحِبُ "الِانْتِصافِ" بِأنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ. وهو مِنَ المَجازِ الَّذِي يُسَمّى فِيهِ المُسَبَّبُ بِاسْمِ السَّبَبِ، والمَجازُ الَّذِي لا يُعْدَلُ إلَيْهِ عَنِ الحَقِيقَةِ، إلّا بَعْدَ تَعَذُّرِها، فَلْيَمْتَحِنْ حَقِيقَةَ المَحَبَّةِ لُغَةً بِالقَواعِدِ، لِيَنْظُرَ: أهِيَ ثابِتَةٌ لِلْعَبْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِاللَّهِ تَعالى أمْ لا؟ إذِ المَحَبَّةُ، لُغَةً: مَيْلُ المُتَّصِفِ بِها إلى أمْرٍ مُلِذٍّ. واللَّذّاتُ الباعِثَةُ عَلى المَحَبَّةِ مُنْقَسِمَةٌ إلى مُدْرَكٍ بِالحُسْنِ: كَلَذَّةِ الذَّوْقِ في المَطْعُومِ، ولَذَّةِ النَّظَرِ واللَّمْسِ في الصُّوَرِ المُسْتَحْسَنَةِ، ولَذَّةِ الشَّمِّ في الرَّوائِحِ العَطِرَةِ، ولَذَّةِ السَّمْعِ في النَّغَماتِ الحَسَنَةِ، وإلى لَذَّةٍ تُدْرَكُ بِالعَقْلِ: كَلَذَّةِ الجاهِ والرِّياسَةِ والعُلُومِ وما يَجْرِي مَجْراها. فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ في اللَّذّاتِ الباعِثَةِ عَلى المَحَبَّةِ ما لا يُدْرِكُهُ إلّا العَقْلُ دُونَ الحِسِّ، ثُمَّ تَتَفاوَتُ المَحَبَّةُ ضَرُورَةً بِحَسْبِ تَفاوُتِ البَواعِثِ عَلَيْها، وإذا تَفاوَتَتِ المَحَبَّةُ بِحَسْبِ تَفاوُتِ البَواعِثِ، فَلَذّاتُ العُلُومِ أيْضًا مُتَفاوِتَةٌ بِحَسْبِ تَفاوُتِ المَعْلُوماتِ، فَلَيْسَ مَعْلُومٌ أكْمَلَ ولا أجْمَلَ مِنَ المَعْبُودِ الحَقِّ. فاللَّذَّةُ الحاصِلَةُ في مَعْرِفَتِهِ تَعالى، ومَعْرِفَةِ جَلالِهِ وكَمالِهِ، تَكُونُ أعْظَمَ. والمَحَبَّةُ المُنْبَعِثَةُ عَنْها تَكُونُ أمْكَنَ، وإذا حَصَلَتْ هَذِهِ المَحَبَّةُ بَعَثَتْ عَلى الطّاعاتِ والمُوافَقاتِ. فَقَدْ تَحَصَّلَ مِن ذَلِكَ أنَّ مَحَبَّةَ العَبْدِ (p-٢٠٣٩)مُمْكِنَةٌ، بَلْ واقِعَةٌ مِن كُلِّ مُؤْمِنٍ، فَهي مِن لَوازِمِ الإيمانِ وشُرُوطِهِ، والنّاسُ فِيها مُتَفاوِتُونَ بِحَسْبِ تَفاوُتِ إيمانِهِمْ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، وجَبَ تَفْسِيرُ مَحَبَّةِ العَبْدِ لِلَّهِ بِمَعْناها الحَقِيقِيِّ لُغَةً، وكانَتِ الطّاعَةُ والمُوافَقاتُ كالمُسَبَّبِ عَنْها والمُغايِرِ لَها. ألا تَرى إلى «الأعْرابِيِّ الَّذِي سَألَ عَنِ السّاعَةِ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ما أعْدَدْتَ لَها؟ قالَ: ما أعْدَدْتُ لَها كَبِيرَ عَمَلٍ. ولَكِنْ حُبَّ اللَّهِ ورَسُولِهِ. فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أنْتَ مَعَ مَن أحْبَبْتَ». فَهَذا الحَدِيثُ ناطِقٌ بِأنَّ المَفْهُومَ مِنَ المَحَبَّةِ لِلَّهِ غَيْرُ الأعْمالِ والتِزامِ الطّاعاتِ؛ لِأنَّ الأعْرابِيَّ نَفاها وأثْبَتَ الحُبَّ، وأقَرَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى ذَلِكَ. ثُمَّ إذا ثَبَتَ إجْراءُ مَحَبَّةِ العَبْدِ لِلَّهِ تَعالى عَلى حَقِيقَتِها لُغَةً، فالمَحَبَّةُ في اللُّغَةِ. إذا تَأكَّدَتْ سُمِّيَتْ عِشْقًا، فَمَن تَأكَّدَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ تَعالى، وظَهَرَتْ آثارُ تَأكُّدِها عَلَيْهِ مِنَ اسْتِيعابِ الأوْقاتِ في ذِكْرِهِ وطاعَتِهِ - فَلا تَمْنَعُ أنْ تُسَمّى مَحَبَّتُهُ عِشْقًا؛ إذِ العِشْقُ لَيْسَ إلّا المَحَبَّةَ البالِغَةَ. انْتَهى. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذِهِ صِفاتُ المُؤْمِنِينَ الكُمَّلِ، أنْ يَكُونَ أحَدُهم مُتَواضِعًا لِأخِيهِ ووَلِيِّهِ، مُتَعَزِّزًا عَلى خَصْمِهِ وعَدُوِّهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: هَلّا قِيلَ: أذِلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْتُ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: - أنْ يُضَمَّنَ الذُّلُّ مَعْنى الحُنُوِّ والعَطْفِ كَأنَّهُ قِيلَ: عاطِفِينَ عَلَيْهِمْ عَلى وجْهِ التَّذَلُّلِ والتَّواضُعِ. (p-٢٠٤٠)والثّانِي: أنَّهم -مَعَ شَرَفِهِمْ وعُلُوِّ طَبَقَتِهِمْ وفَضْلِهِمْ عَلى المُؤْمِنِينَ - خافِضُونَ لَهم أجْنِحَتَهم.. وقُرِئَ: (أذِلَّةً وأعِزَّةً) بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ. وفِي "الحَواشِي": أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ تَكْمِيلٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا وصَفَهم بِالتَّذَلُّلِ، رُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ لَهم في نَفْسِهِمْ حَقارَةً. فَقالَ: ومَعَ ذَلِكَ هم أعِزَّةٌ عَلى الكافِرِينَ، كَقَوْلِهِ: ؎جُلُوسٌ في مَجالِسِهِمْ رِزانٌ وإنْ ∗∗∗ ضَيْفٌ ألَمَّ بِهِمْ خُفُوفُ واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى فَضْلِ التَّواضُعِ لِلْمُؤْمِنِينَ والشِّدَّةِ عَلى الكُفّارِ. الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ (الواوُ) لِلْحالِ عَلى مَعْنى: أنَّهم يُجاهِدُونَ، وحالُهم في المُجاهَدَةِ خِلافُ حالِ المُنافِقِينَ، فَإنَّهم كانُوا مُوالِينَ لِلْيَهُودِ. فَإذا خَرَجُوا في جَيْشِ المُؤْمِنِينَ خافُوا أوْلِياءَهُمُ اليَهُودَ، فَلا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِمّا يَعْلَمُونَ أنَّهُ يَلْحَقُهم فِيهِ لَوْمٌ مِن جِهَتِهِمْ؛ وأمّا المُؤْمِنُونَ فَكانُوا يُجاهِدُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ قَطُّ. وأنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ عَلى أنَّ مِن صِفَتِهِمُ المُجاهَدَةَ في سَبِيلِ اللَّهِ. وأنَّهم صِلابٌ في دِينِهِمْ. إذا شَرَعُوا في أمْرٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ - إنْكارٌ مُنْكَرٍ أوْ أمْرٌ بِمَعْرُوفٍ - مَضَوْا فِيهِ كالمَسامِيرِ المُحْماةِ، لا يُرْعِبُهم قَوْلُ قائِلٍ ولا اعْتِراضُ مُعْتَرِضٍ ولا لَوْمَةُ لائِمٍ. يَشُقُّ عَلَيْهِ جِدُّهم في إنْكارِهِمْ وصَلابَتِهِمْ في أمْرِهِمْ. و(اللَّوْمَةُ) المَرَّةُ مِنَ اللَّوْمِ. وفِيها وفي التَّنْكِيرِ مُبالَغَتانِ. كَأنَّهُ قِيلَ: لا يَخافُونَ شَيْئًا قَطُّ مِن لَوْمِ أحَدٍ مِنَ اللُّوّامِ. انْتَهى. وفِيهِ وُجُوبُ التَّمَسُّكِ بِالحَقِّ وإنْ لامَهُ لائِمٌ. وإنَّهُ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِهِ صَيَّرَهُ مَحَلَّةً أعْلى مِمَّنْ تَمَسَّكَ بِهِ مِن غَيْرِ لَوْمٍ؛ لِأنَّهُ تَعالى مَدَحَ مَن هَذا حالُهُ. وفِيهِ أيْضًا، أنَّ خَوْفَ المَلامَةِ لَيْسَ عُذْرًا في تَرْكِ أمْرٍ شَرْعِيٍّ. (p-٢٠٤١)رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: «أمَرَنِي خَلِيلِي ﷺ بِسَبْعٍ: أمَرَنِي بِحُبِّ المَساكِينِ والدُّنُوِّ مِنهُمْ، وأمَرَنِي أنْ أنْظُرَ إلى مَن هو دُونِي ولا أنْظُرَ إلى مَن هو فَوْقِي، وأمَرَنِي أنْ أصِلَ الرَّحِمَ وإنْ أدْبَرَتْ، وأمَرَنِي أنْ لا أسْألَ أحَدًا شَيْئًا، وأمَرَنِي أنْ أقُولَ بِالحَقِّ وإنْ كانَ مُرًّا، وأمَرَنِي أنْ لا أخافَ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وأمَرَنِي أنْ أُكْثِرَ مِن قَوْلِ (لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ) فَإنَّهُنَّ كَنْزٌ تَحْتَ العَرْشِ». ورَوى الإمامُ أحْمَدُ أيْضًا عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««ألا، لا يَمْنَعَنَّ أحَدَكم رَهْبَةُ النّاسِ أنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إذا رَآهُ أوْ شَهِدَهُ. فَإنَّهُ لا يُقَرِّبُ مِن أجَلٍ ولا يُباعِدُ مِن رِزْقٍ أنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أوْ أنْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ»» . ورُوِيَ أيْضًا عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««لا يُحَقِّرَنَّ أحَدُكم نَفْسَهُ، أنْ يَرى أمْرًا لِلَّهِ فِيهِ مَقالٌ فَلا يَقُولُ فِيهِ. فَيُقالُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ: ما مَنَعَكَ أنْ تَكُونَ قُلْتَ في كَذا وكَذا؟ فَيَقُولُ: مَخافَةُ النّاسِ، فَيَقُولُ: إيّايَ أحَقُّ أنْ تَخافَ»» . ورَوى الشَّيْخانِ عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ قالَ: «بايَعَنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ (p-٢٠٤٢)عَلى السَّمْعِ والطّاعَةِ في المَنشَطِ والمَكْرَهِ. وأنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ. وأنْ نَقُولَ بِالحَقِّ حَيْثُما كُنّا، لا نَخافُ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ». الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ﴾ الإشارَةُ إلى ما ذُكِرَ مِن حُبِّ اللَّهِ إيّاهُمْ، وحُبِّهِمْ لِلَّهِ وذِلَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وعِزَّتِهِمْ عَلى الكافِرِينَ، وجِهادِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ، وعَدَمِ مُبالاتِهِمْ لِلَوْمِ اللُّوّامِ. فالمَذْكُورُ كُلُّهُ فَضْلُ اللَّهِ الَّذِي فَضَّلَ بِهِ أوْلِياءَهُ. قالَ المَهايِمِيُّ: أمّا المَحَبَّتانِ فَظاهِرٌ. وكَذا العِزَّةُ عَلى الكُفّارِ والجِهادُ. وأمّا الذِّلَّةُ عَلى المُؤْمِنِينَ فَلِأنَّهُ تَواضُعٌ مُوجِبٌ لِلرَّفْعِ. وأمّا عَدَمُ خَوْفِ المَلامَةِ فَلِما فِيهِ مِن تَحْقِيقِ المَوَدَّةِ مَعَ اللَّهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ أيْ: مِمَّنْ يُرِيدُ بِهِ مَزِيدَ إكْرامٍ مِن سِعَةِ جُودِهِ واللَّهُ واسِعٌ أيْ: كَثِيرُ الفَواضِلِ، جَلَّ جَلالُهُ. ولَمّا نَهى عَنْ مُوالاةِ اليَهُودِ والنَّصارى، أشارَ إلى مَن يَتَعَيَّنُ لِلْمُوالاةِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب