الباحث القرآني

﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ونافِعٌ (يَرْتَدِدْ) بِدالَيْنِ، والباقُونَ بِدالٍ واحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، والأوَّلُ: لِإظْهارِ التَّضْعِيفِ، والثّانِي: لِلْإدْغامِ. قالَ الزَّجّاجُ: إظْهارُ الدّالَيْنِ هو الأصْلُ؛ لِأنَّ الثّانِيَ مِنَ المُضاعَفِ إذا سُكِّنَ ظَهَرَ التَّضْعِيفُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿إنْ يَمْسَسْكم قَرْحٌ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٤٠] ويَجُوزُ في اللُّغَةِ: إنْ يَمَسَّكم. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: رَوى صاحِبُ الكَشّافِ أنَّهُ كانَ أهْلُ الرِّدَّةِ إحْدى عَشْرَةَ فِرْقَةً: ثَلاثٌ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: بَنُو مُدْلِجٍ: ورَئِيسُهم ذُو الحِمارِ وهو الأسْوَدُ العَنْسِيُّ، وكانَ كاهِنًا ادَّعى النُّبُوَّةَ في اليَمَنِ واسْتَوْلى عَلى بِلادِها، وأخْرَجَ عُمّالَ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ وساداتِ اليَمَنِ، فَأهْلَكَهُ اللَّهُ عَلى يَدِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ بَيَّتَهُ فَقَتَلَهُ، وأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِقَتْلِهِ لَيْلَةَ قُتِلَ، فَسُرَّ المُسْلِمُونَ، وقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الغَدِ وأُتِيَ خَبَرُهُ في آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ. وبَنُو حَنِيفَةَ قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ، ادَّعى النُّبُوَّةَ وكَتَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ: «مِن مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إلى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ أمّا بَعْدُ: فَإنَّ الأرْضَ نِصْفُها لِي ونِصْفُها لَكَ، فَأجابَهُ الرَّسُولُ: مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلى مُسَيْلِمَةَ الكَذّابِ: أمّا بَعْدُ: فَإنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ والعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»، فَحارَبَهُ أبُو بَكْرٍ بِجُنُودِ المُسْلِمِينَ، وقُتِلَ (p-١٨)عَلى يَدَيْ وحْشِيٍّ قاتِلِ حَمْزَةَ، وكانَ يَقُولُ: قَتَلْتُ خَيْرَ النّاسِ في الجاهِلِيَّةِ وشَرَّ النّاسِ في الإسْلامِ، أرادَ في جاهِلِيَّتِي وفي إسْلامِي. وبَنُو أسَدٍ قَوْمُ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ: ادَّعى النُّبُوَّةَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ خالِدًا، فانْهَزَمَ بَعْدَ القِتالِ إلى الشّامِ ثُمَّ أسْلَمَ وحَسُنَ إسْلامُهُ. وسَبْعٌ في عَهْدِ أبِي بَكْرٍ: فَزارَةُ قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وغَطَفانُ قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ القُشَيْرِيِّ، وبَنُو سُلَيْمٍ قَوْمُ الفُجاءَةَ بْنِ عَبْدِ يالِيلَ، وبَنُو يَرْبُوعٍ قَوْمُ مالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وبَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ قَوْمُ سَجاحَ بِنْتِ المُنْذِرِ الَّتِي ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ وزَوَّجَتْ نَفْسَها مِن مُسَيْلِمَةَ الكَذّابِ، وكِنْدَةُ قَوْمُ الأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وبَنُو بَكْرِ بْنِ وائِلٍ بِالبَحْرَيْنِ قَوْمُ الحَطْمِ بْنِ زَيْدٍ، وكَفى اللَّهُ أمْرَهم عَلى يَدِ أبِي بَكْرٍ، وفِرْقَةٌ واحِدَةٌ في عَهْدِ عُمَرَ: غَسّانُ قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الأيْهَمِ، وذَلِكَ أنَّ جَبَلَةَ أسْلَمَ عَلى يَدِ عُمَرَ، وكانَ يَطُوفُ ذاتَ يَوْمٍ جارًّا رِداءَهُ، فَوَطِئَ رَجُلٌ طَرَفَ رِدائِهِ فَغَضِبَ فَلَطَمَهُ، فَتَظَلَّمَ إلى عُمَرَ فَقَضى لَهُ بِالقِصاصِ عَلَيْهِ، إلّا أنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَقالَ: أنا أشْتَرِيها بِألْفٍ، فَأبى الرَّجُلُ، فَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُ في الفِداءِ إلى أنْ بَلَغَ عَشَرَةَ آلافٍ، فَأبى الرَّجُلُ إلّا القَصاصَ، فاسْتَنْظَرَ عُمَرَ فَأنْظَرَهُ عُمَرُ، فَهَرَبَ إلى الرُّومِ وارْتَدَّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مَعْنى الآيَةِ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَتَوَلَّ مِنكُمُ الكُفّارَ فَيَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَلْيَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَأْتِي بِأقْوامٍ آخَرِينَ يَنْصُرُونَ هَذا الدِّينَ عَلى أبْلَغِ الوُجُوهِ. وقالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلِمَ اللَّهُ أنَّ قَوْمًا يَرْجِعُونَ عَنِ الإسْلامِ بَعْدَ مَوْتِ نَبِيِّهِمْ، فَأخْبَرَهم أنَّهُ سَيَأْتِي بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ إخْبارًا عَنِ الغَيْبِ، وقَدْ وقَعَ المُخْبَرُ عَلى وفْقِهِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ أُولَئِكَ القَوْمَ مَن هم ؟ فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، والحَسَنُ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ وابْنُ جُرَيْجٍ: هم أبُو بَكْرٍ وأصْحابُهُ؛ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ قاتَلُوا أهْلَ الرِّدَّةِ. وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ماتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وارْتَدَّتِ العَرَبُ، واشْتَهَرَ النِّفاقُ، ونَزَلَ بِأبِي ما لَوْ نَزَلَ بِالجِبالِ الرّاسِياتِ لَهاضَها. وقالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتِ الآيَةُ في الأنْصارِ؛ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الرَّسُولَ وأعانُوهُ عَلى إظْهارِ الدِّينِ. وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في أهْلِ اليَمَنِ، ورُوِيَ مَرْفُوعًا «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أشارَ إلى أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وقالَ: هم قَوْمُ هَذا»، وقالَ آخَرُونَ: هُمُ الفُرْسُ؛ لِأنَّهُ رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى عاتِقِ سَلْمانَ، وقالَ: هَذا وذَوُوهُ، ثُمَّ قالَ: لَوْ كانَ الدِّينُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيّا لَنالَهُ رِجالٌ مِن أبْناءِ فارِسَ» . وقالَ قَوْمٌ: إنَّها نَزَلَتْ في عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا دَفَعَ الرّايَةَ إلى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ خَيْبَرَ قالَ: لَأدْفَعَنَّ الرّايَةَ غَدًا إلى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ»، وهَذا هو الصِّفَةُ المَذْكُورَةُ في الآيَةِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم راكِعُونَ﴾ وهَذِهِ الآيَةُ في حَقِّ عَلِيٍّ، فَكانَ الأوْلى جَعْلُ ما قَبْلَها أيْضًا في حَقِّهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الأقْوالِ في هَذِهِ الآيَةِ. * * * ولَنا في هَذِهِ الآيَةِ مَقاماتٌ: المَقامُ الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى فَسادِ مَذْهَبِ الإمامِيَّةِ مِنَ الرَّوافِضِ، وتَقْرِيرُ مَذْهَبِهِمْ (p-١٩)أنَّ الَّذِينَ أقَرُّوا بِخِلافَةِ أبِي بَكْرٍ وإمامَتِهِ كُلَّهم كَفَرُوا وصارُوا مُرْتَدِّينَ؛ لِأنَّهم أنْكَرُوا النَّصَّ الجَلِيَّ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَنَقُولُ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَجاءَ اللَّهُ تَعالى بِقَوْمٍ يُحارِبُهم ويَقْهَرُهم ويَرُدُّهم إلى الدِّينِ الحَقِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، وكَلِمَةُ ”مَن“ في مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، فَهي تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن صارَ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الإسْلامِ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِقَوْمٍ يَقْهَرُهم ويَرُدُّهم ويُبْطِلُ شَوْكَتَهم، فَلَوْ كانَ الَّذِينَ نَصَّبُوا أبا بَكْرٍ لِلْخِلافَةِ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بِحُكْمِ الآيَةِ أنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يَقْهَرُهم ويُبْطِلُ مَذْهَبَهم، ولَمّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الأمْرُ بِالضِّدِّ، فَإنَّ الرَّوافِضَ هُمُ المَقْهُورُونَ المَمْنُوعُونَ عَنْ إظْهارِ مَقالاتِهِمُ الباطِلَةِ أبَدًا مُنْذُ كانُوا عَلِمْنا فَسادَ مَقالَتِهِمْ ومَذْهَبِهِمْ، وهَذا كَلامٌ ظاهِرٌ لِمَن أنْصَفَ. المَقامُ الثّانِي: أنّا نَدَّعِي أنَّ هَذِهِ الآيَةَ يَجِبُ أنْ يُقالَ: إنَّها نَزَلَتْ في حَقِّ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمُحارَبَةِ المُرْتَدِّينَ، وأبُو بَكْرٍ هو الَّذِي تَوَلّى مُحارَبَةَ المُرْتَدِّينَ عَلى ما شَرَحْنا، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ هو الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُحارَبَةُ المُرْتَدِّينَ، ولِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ﴾ وهَذا لِلِاسْتِقْبالِ لا لِلْحالِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَؤُلاءِ القَوْمُ غَيْرَ مَوْجُودِينَ في وقْتِ نُزُولِ هَذا الخِطابِ. فَإنْ قِيلَ: هَذا لازِمٌ عَلَيْكم؛ لِأنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كانَ مَوْجُودًا في ذَلِكَ الوَقْتِ. قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ القَوْمَ الَّذِينَ قاتَلَ بِهِمْ أبُو بَكْرٍ أهْلَ الرِّدَّةِ ما كانُوا مَوْجُودِينَ في الحالِ. والثّانِي: أنَّ مَعْنى الآيَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ قادِرِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِن هَذا الحِرابِ، وأبُو بَكْرٍ وإنْ كانَ مَوْجُودًا في ذَلِكَ الوَقْتِ إلّا أنَّهُ ما كانَ مُسْتَقِلًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ بِالحِرابِ والأمْرِ والنَّهْيِ، فَزالَ السُّؤالُ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ هو الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا يُمْكِنُ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ هو عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّ عَلِيًّا لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ قِتالٌ مَعَ أهْلِ الرِّدَّةِ، فَكَيْفَ تُحْمَلُ هَذِهِ الآيَةُ عَلَيْهِ ؟ . فَإنْ قالُوا: بَلْ كانَ قِتالُهُ مَعَ أهْلِ الرِّدَّةِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَن نازَعَهُ في الإمامَةِ كانَ مُرْتَدًّا. قُلْنا: هَذا باطِلٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ اسْمَ المُرْتَدِّ إنَّما يَتَناوَلُ مَن كانَ تارِكًا لِلشَّرائِعِ الإسْلامِيَّةِ، والقَوْمُ الَّذِينَ نازَعُوا عَلِيًّا ما كانُوا كَذَلِكَ في الظّاهِرِ، وما كانَ أحَدٌ يَقُولُ: إنَّهُ إنَّما يُحارِبُهم لِأجْلِ أنَّهم خَرَجُوا عَنِ الإسْلامِ، وعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يُسَمِّهِمْ ألْبَتَّةَ بِالمُرْتَدِّينَ، فَهَذا الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلاءِ الرَّوافِضُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بُهْتٌ عَلى جَمِيعِ المُسْلِمِينَ وعَلى عَلِيٍّ أيْضًا. الثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَ كُلُّ مَن نازَعَهُ في الإمامَةِ كانَ مُرْتَدًّا لَزِمَ في أبِي بَكْرٍ وفي قَوْمِهِ أنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بِحُكْمِ ظاهِرِ الآيَةِ أنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يَقْهَرُونَهم ويَرُدُّونَهم إلى الدِّينِ الصَّحِيحِ، ولَمّا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ألْبَتَّةَ عَلِمْنا أنَّ مُنازَعَةَ عَلِيٍّ في الإمامَةِ لا تَكُونُ رِدَّةً، وإذا لَمْ تَكُنْ رِدَّةً لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الآيَةِ عَلى عَلِيٍّ؛ لِأنَّها نازِلَةٌ فِيمَن يُحارِبُ المُرْتَدِّينَ، ولا يُمْكِنُ أيْضًا أنْ يُقالَ: إنَّها نازِلَةٌ في أهْلِ اليَمَنِ أوْ في أهْلِ فارِسَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهم مُحارَبَةٌ مَعَ المُرْتَدِّينَ، وبِتَقْدِيرِ أنْ يُقالَ: اتَّفَقَتْ لَهم هَذِهِ المُحارَبَةُ ولَكِنَّهم كانُوا رَعِيَّةً وأتْباعًا وأذْنابًا، وكانَ الرَّئِيسُ المُطاعُ الآمِرُ في تِلْكَ الواقِعَةِ هو أبُو بَكْرٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ حَمْلَ الآيَةِ عَلى مَن كانَ أصْلًا في هَذِهِ العِبادَةِ ورَئِيسًا مُطاعًا فِيها أوْلى مِن حَمْلِها عَلى الرَّعِيَّةِ والأتْباعِ والأذْنابِ، فَظَهَرَ بِما ذَكَرْنا مِنَ الدَّلِيلِ الظّاهِرِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأبِي بَكْرٍ. والوَجْهُ الثّانِي في بَيانِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأبِي بَكْرٍ: هو أنّا نَقُولُ: هَبْ أنَّ عَلِيًّا كانَ قَدْ حارَبَ (p-٢٠)المُرْتَدِّينَ، ولَكِنَّ مُحارَبَةَ أبِي بَكْرٍ مَعَ المُرْتَدِّينَ كانَتْ أعْلى حالًا وأكْثَرَ مَوْقِعًا في الإسْلامِ مِن مُحارَبَةِ عَلِيٍّ مَعَ مَن خالَفَهُ في الإمامَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ عُلِمَ بِالتَّواتُرِ أنَّهُ ﷺ لَمّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَتِ الأعْرابُ وتَمَرَّدُوا، وأنَّ أبا بَكْرٍ هو الَّذِي قَهَرَ مُسَيْلِمَةَ وطُلَيْحَةَ، وهو الَّذِي حارَبَ الطَّوائِفَ السَّبْعَةَ المُرْتَدِّينَ، وهو الَّذِي حارَبَ مانِعِيِ الزَّكاةِ، ولَمّا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ الإسْلامُ وعَظُمَتْ شَوْكَتُهُ وانْبَسَطَتْ دَوْلَتُهُ، أمّا لَمّا انْتَهى الأمْرُ إلى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَكانَ الإسْلامُ قَدِ انْبَسَطَ في الشَّرْقِ والغَرْبِ، وصارَ مُلُوكُ الدُّنْيا مَقْهُورِينَ، وصارَ الإسْلامُ مُسْتَوْلِيًا عَلى جَمِيعِ الأدْيانِ والمِلَلِ، فَثَبَتَ أنَّ مُحارَبَةَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أعْظَمُ تَأْثِيرًا في نُصْرَةِ الإسْلامِ وتَقْوِيَتِهِ مِن مُحارَبَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَعْلُومٌ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَعْظِيمُ قَوْمٍ يَسْعَوْنَ في تَقْوِيَةِ الدِّينِ ونُصْرَةِ الإسْلامِ، ولَمّا كانَ أبُو بَكْرٍ هو المُتَوَلِّي لِذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ هو المُرادَ بِالآيَةِ. المَقامُ الثّالِثُ في هَذِهِ الآيَةِ: وهو أنّا نَدَّعِي دَلالَةَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ إمامَةِ أبِي بَكْرٍ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى وصَفَ الَّذِينَ أرادَهم بِهَذِهِ الآيَةِ بِصِفاتٍ: أوَّلُها: أنَّهُ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ. فَلَمّا ثَبَتَ أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ هو أبُو بَكْرٍ ثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ﴾ وصْفٌ لِأبِي بَكْرٍ، ومَن وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ ظالِمًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ مُحِقًّا في إمامَتِهِ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ وهو صِفَةُ أبِي بَكْرٍ أيْضًا لِلدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، ويُؤَكِّدُهُ ما رُوِيَ في الخَبَرِ المُسْتَفِيضِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: «أرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أبُو بَكْرٍ» فَكانَ مَوْصُوفًا بِالرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ عَلى المُؤْمِنِينَ وبِالشِّدَّةِ مَعَ الكُفّارِ، ألا تَرى أنَّ في أوَّلِ الأمْرِ حِينَ كانَ الرَّسُولُ ﷺ في مَكَّةَ وكانَ في غايَةِ الضَّعْفِ كَيْفَ كانَ يَذُبُّ عَنِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكَيْفَ كانَ يُلازِمُهُ ويَخْدِمُهُ، وما كانَ يُبالِي بِأحَدٍ مِن جَبابِرَةِ الكُفّارِ وشَياطِينِهِمْ، وفي آخِرِ الأمْرِ أعْنِي وقْتَ خِلافَتِهِ كَيْفَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلى قَوْلِ أحَدٍ، وأصَرَّ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ المُحارَبَةِ مَعَ مانِعِيِ الزَّكاةِ حَتّى آلَ الأمْرُ إلى أنْ خَرَجَ إلى قِتالِ القَوْمِ وحْدَهُ، حَتّى جاءَ أكابِرُ الصَّحابَةِ وتَضَرَّعُوا إلَيْهِ ومَنَعُوهُ مِنَ الذَّهابِ، ثُمَّ لَمّا بَلَغَ بَعْثُ العَسْكَرِ إلَيْهِمُ انْهَزَمُوا وجَعَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ مَبْدَأً لِدَوْلَةِ الإسْلامِ، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ لا يَلِيقُ إلّا بِهِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ فَهَذا مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ أبِي بَكْرٍ وعَلِيٍّ، إلّا أنَّ حَظَّ أبِي بَكْرٍ فِيهِ أتَمُّ وأكْمَلُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مُجاهَدَةَ أبِي بَكْرٍ مَعَ الكُفّارِ كانَتْ في أوَّلِ البَعْثِ، وهُناكَ الإسْلامُ كانَ في غايَةِ الضَّعْفِ، والكُفْرُ كانَ في غايَةِ القُوَّةِ، وكانَ يُجاهِدُ الكُفّارَ بِمِقْدارِ قُدْرَتِهِ، ويَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِغايَةِ وُسْعِهِ، وأمّا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ إنَّما شَرَعَ في الجِهادِ يَوْمَ بَدْرٍ وأُحُدٍ، وفي ذَلِكَ الوَقْتِ كانَ الإسْلامُ قَوِيًّا وكانَتِ العَساكِرُ مُجْتَمِعَةً، فَثَبَتَ أنَّ جِهادَ أبِي بَكْرٍ كانَ أكْمَلَ مِن جِهادِ عَلِيٍّ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ كانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ في الزَّمانِ، فَكانَ أفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكم مَن أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ﴾ [الحَدِيدِ: ١٠] . والثّانِي: أنَّ جِهادَ أبِي بَكْرٍ كانَ في وقْتِ ضَعْفِ الرَّسُولِ ﷺ، وجِهادَ عَلِيٍّ كانَ في وقْتِ القُوَّةِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ وهَذا لائِقٌ بِأبِي بَكْرٍ؛ لِأنَّهُ مُتَأكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنكم والسَّعَةِ﴾ [النُّورِ: ٢٢] وقَدْ بَيَّنّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في أبِي بَكْرٍ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الصِّفاتِ لِأبِي بَكْرٍ أنّا بَيَّنّا بِالدَّلِيلِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ في أبِي بَكْرٍ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَتْ هَذِهِ الصِّفاتُ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ (p-٢١)لِأبِي بَكْرٍ، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ القَطْعُ بِصِحَّةِ إمامَتِهِ، إذْ لَوْ كانَتْ إمامَتُهُ باطِلَةً لَما كانَتْ هَذِهِ الصِّفاتُ لائِقَةً بِهِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفاتِ حالَ حَياةِ الرَّسُولِ ﷺ، ثُمَّ بَعْدَ وفاتِهِ لَمّا شَرَعَ في الإمامَةِ زالَتْ هَذِهِ الصِّفاتُ وبَطَلَتْ. قُلْنا: هَذا باطِلٌ قَطْعًا؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ﴾ فَأثْبَتَ كَوْنَهم مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حالَ إتْيانِ اللَّهِ بِهِمْ في المُسْتَقْبَلِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى شَهادَةِ اللَّهِ لَهُ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفاتِ حالَ مُحارَبَتِهِ مَعَ أهْلِ الرِّدَّةِ، وذَلِكَ هو حالُ إمامَتِهِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ إمامَتِهِ، أمّا قَوْلُ الرَّوافِضِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ في حَقِّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَلِيلِ أنَّهُ ﷺ قالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ» وكانَ ذَلِكَ هو عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَنَقُولُ: هَذا الخَبَرُ مِن بابِ الآحادِ، وعِنْدَهم لا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ في العَمَلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ في العِلْمِ ؟ وأيْضًا أنَّ إثْباتَ هَذِهِ الصِّفَةِ لِعَلِيٍّ لا يُوجِبُ انْتِفاءَها عَنْ أبِي بَكْرٍ، وبِتَقْدِيرِ أنْ يَدُلَّ عَلى ذَلِكَ لَكِنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ ذَلِكَ المَجْمُوعِ عَنْ أبِي بَكْرٍ، ومِن جُمْلَةِ تِلْكَ الصِّفاتِ كَوْنُهُ كَرّارًا غَيْرَ فَرّارٍ، فَلَمّا انْتَفى ذَلِكَ عَنْ أبِي بَكْرٍ لَمْ يَحْصُلْ مَجْمُوعُ تِلْكَ الصِّفاتِ لَهُ، فَكَفى هَذا في العَمَلِ بِدَلِيلِ الخِطابِ، فَأمّا انْتِفاءُ جَمِيعِ تِلْكَ الصِّفاتِ فَلا دَلالَةَ في اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَهو تَعالى إنَّما أثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَةَ المَذْكُورَةَ في هَذِهِ الآيَةِ حالَ اشْتِغالِهِ بِمُحارَبَةِ المُرْتَدِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَبْ أنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ ما كانَتْ حاصِلَةً في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِن حُصُولِها في الزَّمانِ المُسْتَقْبَلِ؛ ولِأنَّ ما ذَكَرْناهُ تَمَسُّكٌ بِظاهِرِ القُرْآنِ، وما ذَكَرُوهُ تَمَسُّكٌ بِالخَبَرِ المَذْكُورِ المَنقُولِ بِالآحادِ؛ ولِأنَّهُ مُعارَضٌ بِالأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى كَوْنِ أبِي بَكْرٍ مُحِبًّا لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ. وكَوْنِ اللَّهِ مُحِبًّا لَهُ وراضِيًا عَنْهُ، قالَ تَعالى في حَقِّ أبِي بَكْرٍ ﴿ولَسَوْفَ يَرْضى﴾ [اللَّيْلِ: ٢١] وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إنَّ اللَّهَ يَتَجَلّى لِلنّاسِ عامَّةً ويَتَجَلّى لِأبِي بَكْرٍ خاصَّةً» وقالَ: «ما صَبَّ اللَّهُ شَيْئًا في صَدْرِي إلّا وصَبَّهُ في صَدْرِ أبِي بَكْرٍ» وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ. وأمّا الوَجْهُ الثّانِي: وهو قَوْلُهم: الآيَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ دالَّةٌ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ نازِلَةً في عَلِيٍّ، فَجَوابُنا: أنّا لا نُسَلِّمُ دَلالَةَ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى إمامَةِ عَلِيٍّ وسَنَذْكُرُ الكَلامَ فِيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَهَذا ما في هَذا المَوْضِعِ مِنَ البَحْثِ واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ﴾ فَتَحْقِيقُ الكَلامِ في المَحَبَّةِ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٦٥] فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ، وفِيهِ دَقِيقَةٌ وهي أنَّهُ تَعالى قَدَّمَ مَحَبَّتَهُ لَهم عَلى مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وهَذا حَقٌّ؛ لِأنَّهُ لَوْلا أنَّ اللَّهَ أحَبَّهم وإلّا لَما وفَّقَهم حَتّى صارُوا مُحِبِّينَ لَهُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ وهو كَقَوْلِهِ ﴿أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفَتْحِ: ٢٩] قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: أذِلَّةٌ جَمْعُ ذَلِيلٍ، وأمّا ذَلُولٌ فَجَمْعُهُ ذُلُلٌ، ولَيْسَ المُرادُ بِكَوْنِهِمْ أذِلَّةً هو أنَّهم مُهانُونَ، بَلِ المُرادُ المُبالَغَةُ في وصْفِهِمْ بِالرِّفْقِ ولِينِ الجانِبِ، فَإنَّ مَن كانَ ذَلِيلًا عِنْدَ إنْسانٍ فَإنَّهُ ألْبَتَّةَ لا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ التَّكَبُّرِ والتَّرَفُّعِ، بَلْ لا يُظْهِرُ إلّا الرِّفْقَ واللِّينَ فَكَذا هَهُنا، فَقَوْلُهُ: ﴿أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ أيْ يُظْهِرُونَ الغِلْظَةَ والتَّرَفُّعَ عَلى الكافِرِينَ، وقِيلَ: يُعازُونَهم أيْ يُغالِبُونَهم مِن قَوْلِهِمْ: عَزَّهُ يُعِزُّهُ إذا غَلَبَهُ، كَأنَّهم (p-٢٢)مُشَدِّدُونَ عَلَيْهِمْ بِالقَهْرِ والغَلَبَةِ. فَإنْ قِيلَ: هَلّا قِيلَ: أذِلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أعِزَّةٌ عَلى الكافِرِينَ. قُلْنا: فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يُضَمِّنَ الذُّلَّ مَعْنى الرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: راحِمِينَ عَلَيْهِمْ مُشْفِقِينَ عَلَيْهِمْ عَلى وجْهِ التَّذَلُّلِ والتَّواضُعِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ كَلِمَةَ (عَلى) حَتّى يَدُلَّ عَلى عُلُوِّ مَنصِبِهِمْ وفَضْلِهِمْ وشَرَفِهِمْ، فَيُفِيدَ أنَّ كَوْنَهم أذِلَّةً لَيْسَ لِأجْلِ كَوْنِهِمْ ذَلِيلِينِ في أنْفُسِهِمْ، بَلْ ذاكَ التَّذَلُّلُ إنَّما كانَ لِأجْلِ أنَّهم أرادُوا أنْ يَضُمُّوا إلى عُلُوِّ مَنصِبِهِمْ فَضِيلَةَ التَّواضُعِ، وقُرِئَ (أذِلَّةً وأعِزَّةً) بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ ﴿ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ تَكُونَ هَذِهِ الواوُ لِلْحالِ، فَإنَّ المُنافِقِينَ كانُوا يُراقِبُونَ الكُفّارَ ويَخافُونَ لَوْمَهم، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ مَن كانَ قَوِيًّا في الدِّينِ فَإنَّهُ لا يَخافُ في نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ بِيَدِهِ ولِسانِهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. الثّانِي: أنْ تَكُونَ هَذِهِ الواوُ لِلْعَطْفِ، والمَعْنى أنَّ مِن شَأْنِهِمْ أنْ يُجاهِدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ لا لِغَرَضٍ آخَرَ، ومِن شَأْنِهِمْ أنَّهم صِلابٌ في نُصْرَةِ الدِّينِ لا يُبالُونَ بِلَوْمَةِ اللّائِمِينَ، واللَّوْمَةُ المَرَّةُ الواحِدَةُ مِنَ اللَّوْمِ، والتَّنْكِيرُ فِيها وفي اللّائِمِ مُبالَغَةٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا يَخافُونَ قَطُّ مِن لَوْمِ أحَدٍ مِنَ اللّائِمِينَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ فَقَوْلُهُ (ذَلِكَ) إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن وصْفِ القَوْمِ بِالمَحَبَّةِ والذِّلَّةِ والعِزَّةِ والمُجاهَدَةِ وانْتِفاءِ خَوْفِ اللَّوْمَةِ الواحِدَةِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وإحْسانِهِ، وذَلِكَ صَرِيحٌ في أنَّ طاعاتِ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى، والمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ اللَّفْظَ عَلى فِعْلِ الألْطافِ، وهو بَعِيدٌ لِأنَّ فِعْلَ الألْطافِ عامٌّ في حَقِّ الكُلِّ، فَلا بُدَّ في التَّخْصِيصِ مِن فائِدَةٍ زائِدَةٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فالواسِعُ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ، والعَلِيمُ إشارَةٌ إلى كَمالِ العِلْمِ، ولَمّا أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ سَيَجِيءُ بِأقْوامٍ هَذا شَأْنُهم وصِفَتُهم أكَّدَ ذَلِكَ بِأنَّهُ كامِلُ القُدْرَةِ فَلا يَعْجِزُ عَنْ هَذا المَوْعُودِ كامِلُ العِلْمِ فَيَمْتَنِعُ دُخُولُ الخُلْفِ في أخْبارِهِ ومَواعِيدِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب