الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ﴾ وابْنُ كَعْبٍ والضَّحّاكُ الحَسَنُ وقَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهم: نَزَلَتْ خِطابًا (p-٥١١)لِلْمُؤْمِنِينَ عامَّةً إلى يَوْمِ القِيامَةِ؛ ومَن يَرْتَدَّ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وهي إخْبارٌ عَنِ الغَيْبِ.
وتَعَرَّضَ المُفَسِّرُونَ هُنا لِمَنِ ارْتَدَّ في قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ نَخْتَصِرُها فَنَقُولُ: ارْتَدَّ في زَمانِ الرَّسُولِ، ﷺ، مَذْحِجٌ ورَئِيسُهم عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ ذُو الخِمارِ، وهو الأسْوَدُ العَنْسِيُّ قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ عَلى فِراشِهِ، وأخْبَرَ الرَّسُولُ، ﷺ، بِقَتْلِهِ، وسَمّى قاتِلَهُ لَيْلَةَ قُتِلَ. وماتَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، مِنَ الغَدِ، وأتى خَبَرُ قَتْلِهِ في آخِرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ وبَنُو حَنِيفَةَ رَئِيسُهم مُسَيْلِمَةُ قَتَلَهُ وحْشِيٌّ، وبَنُو أسَدٍ رَئِيسُهم طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ هَزَمَهُ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وأفْلَتَ ثُمَّ أسْلَمَ وحَسُنَ إسْلامُهُ. هَذِهِ ثَلاثُ فِرَقٍ ارْتَدَّتْ في حَياةِ الرَّسُولِ، وتَنَبَّأ رُؤَساؤُهم. وارْتَدَّ في خِلافَةِأبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَبْعُ فِرَقٍ. فَزارَةُ: قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وغَطَفانُ: قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ القُشَيْرِيِّ، وسُلَيْمٌ: قَوْمُ الفُجاءَةِ بْنِ عَبْدِ يالِيلَ، ويَرْبُوعٌ: قَوْمُ مالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وبَعْضُ تَمِيمٍ: قَوْمُ سَجاحِ بِنْتِ المُنْذِرِ وقَدْ تَنَبَّأتْ وتَزَوَّجَها مُسَيْلِمَةُ وقالَ: الشّاعِرُ:
؎أضْحَتْ نَبِيَّتُنا أُنْثى نَطِيفُ بِها وأصْبَحَتْ أنْبِياءُ اللَّهِ ذُكْرانا
وقالَ أبُو العَلاءِ المَعَرِّيُّ:
؎أمَّتْ سَجاحِ ووالاها مُسَيْلِمَةُ ∗∗∗ كَذّابَةٌ في بَنِي الدُّنْيا وكَذّابُ
وكِنْدَةُ: قَوْمُ الأشْعَثِ، وبَكْرُ بْنُ وائِلٍ بِالبَحْرَيْنِ: قَوْمُ الحُطَمِ بْنِ يَزِيدَ. وكَفى اللَّهُ أمْرَهم عَلى يَدَيْ أبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وفِرْقَةٌ في عَهْدِ عُمَرَ: غَسّانُ: قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الأيْهَمِ نَصَّرَتْهُ اللَّطْمَةُ وسَيَّرَتْهُ إلى بَلَدِ الرُّومِ بَعْدَ إسْلامِهِ.
وفِي القَوْمِ الَّذِينَ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ: أبُو بَكْرٍ وأصْحابُهُ، أوْ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وأصْحابُهُما، أوْ قَوْمُ أبِي مُوسى، أوْ أهْلُ اليَمَنِ ألْفانِ مِنَ البَحْرِ وخَمْسَةُ آلافٍ مِن كِنْدَةَ وبَجِيلَةَ، وثَلاثَةُ آلافٍ مِن أخْلاطِ النّاسِ جاهَدُوا أيّامَ القادِسِيَّةِ أيّامَ عُمَرَ. أوِ الأنْصارُ، أوْ هُمُ المُهاجِرُونَ، أوْ أحْياءٌ مِنَ اليَمَنِ مِن كِنْدَةَ وبَجِيلَةَ وأشْجَعَ لَمْ يَكُونُوا وقْتَ النُّزُولِ قاتَلَ بِهِمْ أبُو بَكْرٍ في الرِّدَّةِ، أوِ القُرْبى، أوْ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ قاتَلَ الخَوارِجَ؛ أقْوالٌ تِسْعَةٌ. وفي المُسْتَدْرَكِ لِأبِي عَبْدِ اللَّهِ الحاكِمِ بِإسْنادٍ: أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ أشارَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، إلى أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ فَقالَ قَوْمٌ: هَذا، وهَذا أصَحُّ الأقْوالِ، وكانَ لَهم بَلاءٌ في الإسْلامِ زَمانَ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وعامَّةُ فَتُوحِ عُمَرَ عَلى أيْدِيهِمْ.
وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ: مَن يَرْتَدِدْ؛ بِدالَيْنِ مَفْكُوكًا، وهي لُغَةُ الحِجازِ. والباقُونَ بِواحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ وهي لُغَةُ تَمِيمٍ. والعائِدُ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ مِن جُمْلَةِ الجَزاءِ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى، تَقْدِيرُهُ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ غَيْرِهِمْ، أوْ مَكانَهم. ويُحِبُّونَهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: يُحِبُّهم، فَهو في مَوْضِعِ جَرٍّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ، تَقْدِيرُهُ: وهم يُحِبُّونَهُ. انْتَهى. وهَذا ضَعِيفٌ لا يُسَوَّغُ مِثْلُهُ في القُرْآنِ. ووَصَفَ تَعالى هَؤُلاءِ القَوْمَ بِأنَّهُ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ، مَحَبَّةُ اللَّهِ لَهم هي تَوْفِيقُهم لِلْإيمانِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ﴾ [الحجرات: ٧] وإثابَتُهُ عَلى ذَلِكَ وعَلى سائِرِ الطّاعاتِ، وتَعْظِيمُهُ إيّاهم، وثَناؤُهُ عَلَيْهِمْ، ومَحَبَّتُهم لَهُ وطاعَتُهُ واجْتِنابُ نَواهِيهِ، وامْتِثالُ مَأْمُوراتِهِ. وقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلى مَحَبَّتِهِمْ إذْ هي أشْرَفُ وأسْبَقُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأمّا ما يَعْتَقِدُهُ أجْهَلُ النّاسِ وأعْداهم لِلْعِلْمِ وأهْلِهِ، وأمْقُتُهم لِلشَّرْعِ، وأسْوَأُهم طَرِيقَةً، وإنْ كانَتْ طَرِيقَتُهُ عِنْدَ أمْثالِهِ مِنَ السُّفَهاءِ والجَهَلَةِ شَيْئًا، وهُمُ: الفِرْقَةُ المُنْفَعِلَةُ والمُتَفَعِّلَةُ مِنَ الصُّوفِ وما يَدِينُونَ بِهِ مِنَ المَحَبَّةِ والعِشْقِ والتَّغَنِّي عَلى كَراسِيِّهِمْ، خَرَّبَها اللَّهُ، وفي مَراقِصِهِمْ، عَطَّلَها اللَّهُ، بِأبْياتِ الغَزَلِ المَقُولَةِ في المُرْدانِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهم شُهَداءَ اللَّهِ وصَعَقاتِهِمُ الَّتِي تُشْبِهُ صَعْقَةَ مُوسى عِنْدَ دَكِّ الطُّورِ، فَتَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ومِن كَلِماتِهِ كَما أنَّهُ بِذاتِهِ يُحِبُّهم، كَذَلِكَ يُحِبُّونَ ذاتَهُ، فَإنَّ الهاءَ راجِعَةٌ إلى الذّاتِ دُونَ النُّعُوتِ والصِّفاتِ. ومِنها الحُبُّ، شَرْطُهُ أنْ تَلْحَقَهُ سَكَراتُ المَحَبَّةِ، فَإذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقِيقَةً. انْتَهى كَلامُ (p-٥١٢)الزَّمَخْشَرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى. وقالَ بَعْضُ المُعاصِرِينَ: قَدْ عَظُمَ أمْرُ هَؤُلاءِ المُنْفَعِلَةِ عِنْدَ العامَّةِ وكَثُرَ القَوْلُ فِيهِمْ بِالحُلُولِ والوَحْدَةِ، وسِرِّ الحُرُوفِ، وتَفْسِيرِ القُرْآنِ عَلى طَرِيقِ القَرامِطَةِ الكُفّارِ الباطِنِيَّةِ، وادِّعاءِ أعْظَمِ الخَوارِقِ لِأفْسَقِ الفُسّاقِ، وبُغْضِهِمْ في العِلْمِ وأهْلِهِ، حَتّى إنَّ طائِفَةً مِنَ المُحَدِّثِينَ قَصَدُوا قِراءَةَ الحَدِيثِ عَلى شَيْخٍ في خانِقاتِهِمْ يَرْوِي الحَدِيثَ فَبِنَفْسِ ما قَرَءُوا شَيْئًا مِن حَدِيثِ الرَّسُولِ خَرَجَ شَيْخُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ هم يَقْتَدُونَ بِهِ، وقَطَعَ قِراءَةَ الحَدِيثِ، وأخْرَجَ الشَّيْخَ المُسَمِّعَ والمُحَدِّثِينَ وقالَ: رُوحُوا إلى المَدارِسِ شَوَّشْتُمْ عَلَيْنا. ولا يُمَكِّنُونَ أحَدًا مِن قِراءَةِ القُرْآنِ جَهْرًا، ولا مِنَ الدَّرْسِ لِلْعِلْمِ. وقَدْ صَحَّ أنَّ بَعْضَهم مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِالدَّهْرِ عَلى طَرِيقَتِهِمْ، سَمِعَ ناسًا في جامِعٍ يَقْرَءُونَ القُرْآنَ فَصَعِدَ كُرْسِيَّهُ الَّذِي يَهْدِرُ عَلَيْهِ فَقالَ: يا أصْحابَنا شَوَّشُوا عَلَيْنا، وقامَ نافِضًا ثَوْبَهُ، فَقامَ أصْحابُهُ وهو يَدُلُّهم لِقُرّاءِ القُرْآنِ، فَضَرَبُوهم أشَدَّ الضَّرْبِ، وسُلَّ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ مِنَ أتْباعِ ذَلِكَ الهادِرِ وهو لا يَنْهاهم عَنْ ذَلِكَ. وقَدْ عَلَّمَ أصْحابَهُ كَلامًا افْتَعَلُوهُ عَلى بَعْضِ الصّالِحِينَ حَفَّظَهم إيّاهُ يَسْرُدُونَهُ حِفْظًا كالسُّورَةِ مِنَ القُرْآنِ، وهو مَعَ ذَلِكَ لا يُعَلِّمُهم فَرائِضَ الوُضُوءِ، ولا سُنَنَهُ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِها مِن تَكالِيفِ الإسْلامِ. والعَجَبُ أنَّ كُلًّا مِن هَؤُلاءِ الرُّءُوسِ يُحْدِثُ كَلامًا جَدِيدًا يُعَلِّمُهُ أصْحابَهُ حَتّى يَصِيرَ لَهم شِعارًا، ويَتْرُكُ ما صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ، ﷺ، مِنَ الأدْعِيَةِ المَأْثُورَةِ المَأْمُورِ بِها وفي كِتابِ اللَّهِ تَعالى عَلى غَثاثَةِ كَلامِهِمْ، وعامِّيَّتِهِ، وعَدَمِ فَصاحَتِهِ، وقِلَّةِ مَحْصُولِهِ، وهم مُسْتَمْسِكُونَ بِهِ كَأنَّهُ جاءَهم بِهِ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ. ولَنْ تَرى أطْوَعَ مِنَ العَوامِّ لِهَؤُلاءِ يَبْنُونَ لَهُمُ الخَوانِقَ والرُّبُطَ، ويَرْصُدُونَ لَهُمُ الأوْقافَ، وهم أبْغَضُ النّاسِ في العِلْمِ والعُلَماءِ، وأحَبُّهم لِهَذِهِ الطَّوائِفِ. والجاهِلُونَ لِأهْلِ العِلْمِ أعْداءٌ.
﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ هو جَمْعُ ذَلِيلٍ لا جَمْعُ ذَلُولٍ الَّذِي هو نَقِيضُ الضَّعْفِ، لِأنَّ ذَلُولًا لا يُجْمَعُ عَلى أذِلَّةٍ بَلْ ذَلَلٍ، وعُدِّيَ أذِلَّةٍ بِعَلى وإنْ كانَ الأصْلُ بِاللّامِ، لِأنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنى الحُنُوِّ والعَطْفِ كَأنَّهُ قالَ: عاطِفِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ عَلى وجْهِ التَّذَلُّلِ والتَّواضُعِ. قِيلَ: أوْ لِأنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: عَلى فَضْلِهِمْ عَلى المُؤْمِنِينَ عَلى وجْهِ التَّذَلُّلِ والتَّواضُعِ. قِيلَ: أوْ لِأنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: عَلى فَضْلِهِمْ عَلى المُؤْمِنِينَ، والمَعْنى أنَّهم يَذِلُّونَ ويَخْضَعُونَ لِمَن فُضِّلُوا عَلَيْهِ مَعَ شَرَفِهِمْ وعُلُوِّ مَكانِهِمْ، وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] وجاءَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ بِالِاسْمِ الَّذِي فِيهِ المُبالَغَةُ، لِأنَّ أذِلَّةً جَمْعُ ذَلِيلٍ وأعِزَّةً جَمْعُ عَزِيزٍ، وهُما صِفَتا مُبالَغَةٍ، وجاءَتِ الصِّفَةُ قَبْلَ هَذا بِالفِعْلِ في قَوْلِهِ: ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ﴾ لِأنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلى الثُّبُوتِ، فَلَمّا كانَتْ صِفَةَ مُبالَغَةٍ، وكانَتْ لا تَتَجَدَّدُ بَلْ هي كالغَرِيزَةِ، جاءَ الوَصْفُ بِالِاسْمِ؛ ولَمّا كانَتْ قَبْلُ تَتَجَدَّدُ، لِأنَّها عِبارَةٌ عَنْ أفْعالِ الطّاعَةِ والثَّوابِ المُتَرَتِّبِ عَلَيْها، جاءَ الوَصْفُ بِالفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ. ولَمّا كانَ الوَصْفُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالمُؤْمِنِ أوْكَدَ، ولِمَوْصُوفِهِ الَّذِي قُدِّمَ عَلى الوَصْفِ المُتَعَلِّقِ بِالكافِرِ، ولِشَرَفِ المُؤْمِنِ أيْضًا، ولَمّا كانَ الوَصْفُ الَّذِي بَيْنَ المُؤْمِنِ ورَبِّهِ أشْرَفَ مِنَ الوَصْفِ الَّذِي بَيْنَ المُؤْمِنِ والمُؤْمِنِ، قُدِّمَ قَوْلُهُ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ عَلى قَوْلِهِ: أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الوَصْفَ إذا كانَ بِالِاسْمِ وبِالفِعْلِ لا يَتَقَدَّمُ الوَصْفُ بِالفِعْلِ عَلى الوَصْفِ بِالِاسْمِ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
؎وفَـرْعٍ يُغَشِّـي المَتْـنَ أسْـوَدَ فَـاحِـمٍ
إذْ جاءَ ما ادَّعى أنَّهُ يَكُونُ في الضَّرُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقُدِّمَ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ، وهو فِعْلٌ، عَلى قَوْلِهِ: أذِلَّةٍ؛ وهو اسْمٌ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩٢] وقُرِئَ شاذًّا أذِلَّةً، وهو اسْمٌ وكَذا أعِزَّةً نَصْبًا عَلى الحالِ مِنَ النَّكِرَةِ إذا قُرِّبَتْ مِنَ المَعْرِفَةِ بِوَصْفِها. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: غُلَظاءَ عَلى الكافِرِينَ مَكانَ أعِزَّةٍ.
(p-٥١٣)﴿يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ: في نُصْرَةِ دِينِهِ. وظاهِرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ أنَّها صِفَةٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِئْنافَ أخْبارٍ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في أعِزَّةٍ.
﴿ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ أيْ: هم صِلابٌ في دِينِهِ، لا يُبالُونَ بِمَن لامَ فِيهِ. فَمَتى شَرَعُوا في أمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، أمْضَوْهُ لا يَمْنَعُهُمُ اعْتِراضُ مُعْتَرِضٍ، ولا قَوْلُ قائِلٍ؛ هَذانِ الوَصْفانِ أعْنِي: الجِهادَ والصَّلابَةَ في الدِّينِ، هُما نَتِيجَةُ الأوْصافِ السّابِقَةِ؛ لِأنَّ مَن أحَبَّ اللَّهَ لا يَخْشى إلّا إيّاهُ، ومَن كانَ عَزِيزًا عَلى الكافِرِ جاهِدًا في إخْمادِهِ واسْتِئْصالِهِ؛ وناسَبَ تَقْدِيمُ الجِهادِ عَلى انْتِفاءِ الخَوْفِ مِنَ اللّائِمِينَ لِمُجاوَرَتِهِ ﴿أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾، ولِأنَّ الخَوْفَ أعْظَمُ مِنَ الجِهادِ، فَكانَ ذَلِكَ تَرَقِّيًا مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى. ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الواوُ في: ولا يَخافُونَ واوَ الحالِ؛ أيْ: يُجاهِدُونَ، وحالُهم في المُجاهَدَةِ غَيْرُ حالِ المُنافِقِينَ، فَإنَّهم كانُوا مُوالِينَ لِلْيَهُودِ، فَإذا خَرَجُوا في جَيْشِ المُؤْمِنِينَ خافُوا أوْلِياءَهُمُ اليَهُودَ وتَخاذَلُوا وخَذَلُوا حَتّى لا يَلْحَقُهم لَوْمٌ مِن جِهَتِهِمْ. وأمّا المُؤْمِنُونَ فَكانُوا يُجاهِدُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ، لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ. ولَوْمَةٌ لِلْمَرَّةِ الواحِدَةِ؛ وهي نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ. فَتَعُمُّ؛ أيْ: لا يَخافُونَ شَيْئًا قَطُّ مِنَ اللَّوْمِ.
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ الظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الأوْصافِ الَّتِي تَحَلّى بِها المُؤْمِنُ. ذَكَرَ أنَّ ذَلِكَ هو فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن أرادَ، لَيْسَ ذَلِكَ بِسابِقَةٍ مِمَّنْ أعْطاهُ إيّاهُ، بَلْ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الإحْسانِ مِنهُ تَعالى لِمَن أرادَ الإحْسانَ إلَيْهِ. وقِيلَ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى حُبِّ اللَّهِ لَهم وحُبِّهِمْ لَهُ. وقِيلَ: إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾، وهو: لِينُ الجانِبِ، وتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلى المُؤْمِنِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أنَّ لَهُ لُطْفًا. انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ. ويُؤْتِيهِ اسْتِئْنافٌ، أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أوْ حالٌ.
﴿واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ: واسْعُ الإحْسانِ والإفْضالِ عَلِيمٌ بِمَن يَضَعُ ذَلِكَ فِيهِ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕمࣲۚ ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق