الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ .
تَقَضّى تَحْذِيرُهم مِن أعْدائِهِمْ في الدِّينِ، وتَجْنِيبِهِمْ أسْبابَ الضَّعْفِ فِيهِ، فَأقْبَلَ عَلى تَنْبِيهِهِمْ إلى أنَّ ذَلِكَ حِرْصٌ عَلى صَلاحِهِمْ في مُلازَمَةِ الدِّينِ والذَّبِّ عَنْهُ، وأنَّ اللَّهَ لا يَنالُهُ نَفْعٌ مِن ذَلِكَ، وأنَّهم لَوِ ارْتَدَّ مِنهم فَرِيقٌ أوْ نَفَرٌ لَمْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وسَيَكُونُ لِهَذا الدِّينِ أتْباعٌ وأنْصارٌ وإنْ صَدَّ عَنْهُ مَن صَدَّ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكم ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧]، وقَوْلِهِ: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أنْ هَداكم لِلْإيمانِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الحجرات: ١٧] .
فَجُمْلَةُ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ﴾ إلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ ما قَبْلَها وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٥٥]، دَعَتْ لِاعْتِراضِها مُناسَبَةُ الإنْذارِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَتَوَلَّهم مِنكم فَإنَّهُ مِنهُمْ﴾ [المائدة: ٥١] . فَتَعْقِيبُها بِهَذا الِاعْتِراضِ إشارَةٌ إلى أنَّ اتِّخاذَ اليَهُودِ (p-٢٣٥)والنَّصارى أوْلِياءَ ذَرِيعَةٌ لِلِارْتِدادِ، لِأنَّ اسْتِمْرارَ فَرِيقٍ عَلى مُوالاةِ اليَهُودِ والنَّصارى مِنَ المُنافِقِينَ وضُعَفاءِ الإيمانِ يُخْشى مِنهُ أنْ يَنْسَلَّ عَنِ الإيمانِ فَرِيقٌ. وأنْبَأ المُتَرَدِّدِينَ ضُعَفاءَ الإيمانِ بِأنَّ الإسْلامَ غَنِيٌّ عَنْهم إنْ عَزَمُوا عَلى الِارْتِدادِ إلى الكُفْرِ.
وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ ”مَن يَرْتَدِدْ“ بِدالَيْنِ عَلى فَكِّ الإدْغامِ، وهو أحَدُ وجْهَيْنِ في مِثْلِهِ، وهو لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، وكَذَلِكَ هو مَرْسُومٌ في مُصْحَفِ المَدِينَةِ ومُصْحَفِ الشّامِ. وقَرَأ الباقُونَ بِدالٍ واحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ بِالإدْغامِ، وهو لُغَةُ تَمِيمٍ. وبِفَتْحٍ عَلى الدّالِ فَتْحَةَ تَخَلُّصٍ مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ لِخِفَّةِ الفَتْحِ، وكَذَلِكَ هو مَرْسُومٌ في مُصْحَفِ مَكَّةَ ومُصْحَفِ الكُوفَةِ ومُصْحَفِ البَصْرَةِ.والِارْتِدادُ مُطاوِعُ الرَّدِّ، والرَّدُّ هو الإرْجاعُ إلى مَكانٍ أوْ حالَةٍ، قالَ تَعالى رُدُّوها عَلَيَّ. وقَدْ يُطْلَقُ الرَّدُّ بِمَعْنى التَّصْيِيرِ ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ [النحل: ٧٠] . وقَدْ لُوحِظَ في إطْلاقِ اسْمِ الِارْتِدادِ عَلى الكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ ما كانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الإسْلامِ مِنَ الشِّرْكِ وغَيْرِهِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْمُ الِارْتِدادِ عَلى الخُرُوجِ مِنَ الإسْلامِ ولَوْ لَمْ يَسْبِقْ لِلْمُرْتَدِّ عَنْهُ اتِّخاذُ دِينٍ قَبْلَهُ.
وجُمْلَةُ ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾ إلَخْ جَوابُ الشَّرْطِ، وقَدْ حُذِفَ مِنها العائِدُ عَلى الشَّرْطِ الِاسْمِيِّ، وهو وعْدٌ بِأنَّ هَذا الدِّينَ لا يَعْدَمُ أتْباعًا بَرَرَةً مُخْلِصِينَ. ومَعْنى هَذا الوَعْدِ إظْهارُ الِاسْتِغْناءِ عَنِ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وعَنِ المُنافِقِينَ، وقِلَّةُ الِاكْتِراثِ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا﴾ [التوبة: ٤٧] وتَطْمِينُ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ الحَقِّ بِأنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُهم بِالمُرْتَدِّينَ خَيْرًا مِنهم. فَذَلِكَ هو المَقْصُودُ مِن جَوابِ الشَّرْطِ فاسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِذِكْرِ ما يَتَضَمَّنُهُ حَتّى كانَ لِلشَّرْطِ جَوابانِ.
وفِي نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ في أواخِرِ حَياةِ الرَّسُولِ ﷺ إيماءٌ إلى ما سَيَكُونُ مِنِ ارْتِدادِ كَثِيرٍ مِنَ العَرَبِ عَنِ الإسْلامِ مِثْلَ أصْحابِ الأسْوَدِ العَنْسِيِّ بِاليَمَنِ، وأصْحابِ طَلْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ في بَنِي أسَدٍ، وأصْحابِ مُسَيْلِمَةَ بْنِ حَبِيبٍ الحَنَفِيِّ بِاليَمامَةِ. ثُمَّ إلى ما كانَ بَعْدَ وفاةِ الرَّسُولِ ﷺ مِنِ ارْتِدادِ قَبائِلَ كَثِيرَةٍ مِثْلَ فَزارَةَ وغَطَفانَ وبَنِي تَمِيمٍ وكِنْدَةَ ونَحْوِهِمْ.
(p-٢٣٦)قِيلَ: لَمْ يَبْقَ إلّا أهْلُ ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ المَدِينَةِ ومَسْجِدِ مَكَّةَ ومَسْجِدِ جُؤاثى في البَحْرَيْنِ (أيْ مِن أهْلِ المُدُنِ الإسْلامِيَّةِ يَوْمَئِذٍ) . وقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وعْدَهُ ونَصَرَ الإسْلامَ فَأخْلَفَهُ أجْيالًا مُتَأصِّلَةً فِيهِ قائِمَةً بِنُصْرَتِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾، الإتْيانُ هُنا الإيجادُ، أيْ يُوجِدُ أقْوامًا لِاتِّباعِ هَذا الدِّينِ بِقُلُوبٍ تُحِبُّهُ وتَجْلِبُ لَهُ ولِلْمُؤْمِنِينَ الخَيْرَ وتَذُودُ عَنْهم أعْداءَهم، وهَؤُلاءِ القَوْمُ قَدْ يَكُونُونَ مِن نَفْسِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا، إذا رَجَعُوا إلى الإسْلامِ خالِصَةً قُلُوبُهم مِمّا كانَ يُخامِرُها مِنَ الإعْراضِ مِثْلَ مُعْظَمِ قَبائِلِ العَرَبِ وسادَتِهِمُ الَّذِينَ رَجَعُوا إلى الإسْلامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ زَمَنَ أبِي بَكْرٍ، فَإنَّ مَجْمُوعَهم غَيْرُ مَجْمُوعِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا، فَصَحَّ أنْ يَكُونُوا مِمَّنْ شَمِلَهُ لَفْظُ ”بِقَوْمٍ“ وتَحَقَّقَ فِيهِمُ الوَصْفُ وهو مَحَبَّةُ اللَّهِ إيّاهم ومَحَبَّتُهم رَبَّهم ودِينَهُ، فَإنَّ المَحَبَّتَيْنِ تَتْبَعانِ تَغَيُّرَ أحْوالِ القُلُوبِ لا تَغَيُّرَ الأشْخاصِ فَإنَّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِي كَرِبَ الَّذِي كانَ مِن أكْبَرِ عُصاةِ الرِّدَّةِ أصْبَحَ مِن أكْبَرِ أنْصارِ الإسْلامِ في يَوْمِ القادِسِيَّةِ، وهَكَذا.
ودَخَلَ في قَوْلِهِ: ”بِقَوْمٍ“ الأقْوامُ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإسْلامِ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلُ عَرَبِ الشّامِ مِنَ الغَساسِنَةِ، وعَرَبِ العِراقِ ونَبَطِهِمْ، وأهْلِ فارِسَ، والقِبْطِ، والبَرْبَرِ، وفِرِنْجَةِ إسْبانِيَّةَ، وصِقِلِّيَةَ، وسِرْدانِيَّةَ، وتُخُومِ فِرانْسا، ومِثْلُ التُّرْكِ والمَغُولِ، والتَّتارِ، والهِنْدِ، والصِّينِ، والإغْرِيقِ، والرُّومِ، مِنَ الأُمَمِ الَّتِي كانَ لَها شَأْنٌ عَظِيمٌ في خِدْمَةِ الإسْلامِ وتَوْسِيعِ مَمْلَكَتِهِ بِالفُتُوحِ وتَأْيِيدِهِ بِالعُلُومِ ونَشْرِ حَضارَتِهِ بَيْنَ الأُمَمِ العَظِيمَةِ، فَكُلُّ أُمَّةٍ أوْ فَرِيقٍ أوْ قَوْمٍ تَحَقَّقَ فِيهِمْ وصْفُ ﴿يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ فَهم مِنَ القَوْمِ المُنَوَّهِ بِهِمْ، أمّا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كانُوا مِن قَبْلُ وثَبَتُوا فَأُولَئِكَ أعْظَمُ شَأْنًا وأقْوى إيمانًا فَأتاهُمُ المُؤَيِّدُونَ زُرافاتٍ ووُحْدانًا.
ومَحَبَّةُ اللَّهِ عَبْدَهُ رِضاهُ عَنْهُ وتَيْسِيرُ الخَيْرِ لَهُ، ومَحَبَّةُ العَبْدِ رَبَّهُ انْفِعالُ النَّفْسِ نَحْوَ تَعْظِيمِهِ والأُنْسِ بِذِكْرِهِ وامْتِثالُ أمْرِهِ والدِّفاعُ عَنْ دِينِهِ. فَهي صِفَةٌ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِن كَثْرَةِ تَصَوُّرِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعالى ونِعَمِهِ حَتّى تَتَمَكَّنَ مِن قَلْبِهِ، فَمَنشَؤُها السَّمْعُ (p-٢٣٧)والتَّصَوُّرُ. ولَيْسَتْ هي كَمَحَبَّةِ اسْتِحْسانِ الذّاتِ، ألا تَرى أنّا نُحِبُّ النَّبِيءَ ﷺ مِن كَثْرَةِ ما نَسْمَعُ مِن فَضائِلِهِ وحِرْصِهِ عَلى خَيْرِنا في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وتَقْوى هَذِهِ المَحَبَّةُ بِمِقْدارِ كَثْرَةِ مُمارَسَةِ أقْوالِهِ وذِكْرِ شَمائِلِهِ وتَصَرُّفاتِهِ وهَدْيِهِ، وكَذَلِكَ نُحِبُّ الخُلَفاءَ الأرْبَعَةَ لِكَثْرَةِ ما نَسْمَعُ مِن حُبِّهِمُ الرَّسُولَ ومِن بَذْلِهِمْ غايَةَ النُّصْحِ في خَيْرِ المُسْلِمِينَ، وكَذَلِكَ نُحِبُّ حاتِمًا لِما نَسْمَعُ مِن كَرَمِهِ. وقَدْ قالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأةُ أبِي سُفْيانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «ما كانَ أهْلُ خِباءٍ أحَبَّ إلَيَّ مِن أنْ يَذِلُّوا مِن أهْلِ خِبائِكَ، وقَدْ أصْبَحْتُ وما أهْلُ خِباءٍ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَعُزُّوا مِن أهْلِ خِبائِكَ» .
والأذِلَّةُ والأعِزَّةُ وصْفانِ مُتَقابِلانِ وُصِفَ بِهِما القَوْمُ بِاخْتِلافِ المُتَعَلِّقِ بِهِما، فالأذِلَّةُ جَمْعُ الذَّلِيلِ وهو المَوْصُوفُ بِالذُّلِّ. والذُّلُّ بِضَمِّ الذّالِ وبِكَسْرِها الهَوانُ والطّاعَةُ، فَهو ضِدُّ العِزِّ ﴿ولَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأنْتُمْ أذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: ١٢٣] . وفي بَعْضِ التَّفاسِيرِ: الذُّلُّ بِضَمِّ الذّالِ ضِدُّ العِزِّ وبِكَسْرِ الذّالِ ضِدُّ الصُّعُوبَةِ، ولا يُعْرَفُ لِهَذِهِ التَّفْرِقَةِ سَنَدٌ في اللُّغَةِ. والذَّلِيلُ جَمْعُهُ الأذِلَّةُ، والصِّفَةُ الذُّلُّ ﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤] . ويُطْلَقُ الذُّلُّ عَلى لِينِ الجانِبِ والتَّواضُعِ، وهو مَجازٌ، ومِنهُ ما في هَذِهِ الآيَةِ.
فالمُرادُ هُنا الذُّلُّ بِمَعْنى لِينِ الجانِبِ وتَوْطِئَةِ الكَنَفِ، وهو شِدَّةُ الرَّحْمَةِ والسَّعْيُ لِلنَّفْعِ، ولِذَلِكَ عُلِّقَ بِهِ قَوْلُهُ: عَلى المُؤْمِنِينَ. ولِتَضْمِينِ ”أذِلَّةٍ“ مَعْنى مُشْفِقِينَ حانِينَ عُدِّيَ بِـ ”عَلى“ دُونَ اللّامِ، أوْ لِمُشاكَلَةِ (عَلى) الثّانِيَةِ في قَوْلِهِ: عَلى الكافِرِينَ.
والأعِزَّةُ جَمْعُ العَزِيزِ فَهو المُتَّصِفُ بِالعِزِّ وهو القُوَّةُ والِاسْتِقْلالُ، ولِأجْلِ ما في طِباعِ العَرَبِ مِنَ القُوَّةِ صارَ العِزُّ في كَلامِهِمْ يَدُلُّ عَلى مَعْنى الِاعْتِداءِ، فَفي المَثَلِ (مَن عَزَّ بَزَّ) . وقَدْ أصْبَحَ الوَصْفانِ مُتَقابِلَيْنِ، فَلِذَلِكَ قالَ السَّمَوْألُ أوِ الحارِثِيُّ:
؎وما ضَرَّنا أنّا قَلِيلٌ وجارُنا عَزِيزٌ وجارُ الأكْثَرِينَ ذَلِيلُ
وإثْباتُ الوَصْفَيْنِ المُتَقابِلَيْنِ لِلْقَوْمِ صِناعَةٌ عَرَبِيَّةٌ بَدِيعِيَّةٌ، وهي المُسَمّاةُ الطِّباقَ، وبُلَغاءُ العَرَبِ يُغَرِّبُونَ بِها، وهي عَزِيزَةٌ في كَلامِهِمْ، وقَدْ جاءَ كَثِيرٌ مِنها في (p-٢٣٨)القُرْآنِ. وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ صِفاتِهِمْ تُسَيِّرُها آراؤُهُمُ الحَصِيفَةُ فَلَيْسُوا مُنْدَفِعِينَ إلى فِعْلٍ ما إلّا عَنْ بَصِيرَةٍ، ولَيْسُوا مِمَّنْ تَنْبَعِثُ أخْلاقُهُ عَنْ سَجِيَّةٍ واحِدَةٍ بِأنْ يَكُونَ لَيِّنًا في كُلِّ حالٍ، وهَذا هو مَعْنى الخُلُقِ الأقْوَمِ، وهو الَّذِي يَكُونُ في كُلِّ حالٍ بِما يُلائِمُ ذَلِكَ الحالَ، قالَ:
؎حَلِيمٌ إذا ما الحِلْمُ زَيَّنَ أهْـلَـهُ ∗∗∗ مَعَ الحِلْمِ في عَيْنِ العَدُوِّ مَهِيبُ
وقالَ تَعالى ﴿أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] .
وقَوْلُهُ: ﴿يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ صِفَةٌ ثالِثَةٌ، وهي مِن أكْبَرِ العَلاماتِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ الإيمانِ. والجِهادُ: إظْهارُ الجُهْدِ، أيِ الطّاقَةِ في دِفاعِ العَدُوِّ، ونِهايَةُ الجُهْدِ التَّعَرُّضُ لِلْقَتْلِ، ولِذَلِكَ جِيءَ بِهِ عَلى صِيغَةِ مَصْدَرِ ”فاعَلَ“ لِأنَّهُ يُظْهِرُ جُهْدَهُ لِمَن يُظْهِرُ لَهُ مِثْلَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ صِفَةٌ رابِعَةٌ، وهي عَدَمُ الخَوْفِ مِنَ المَلامَةِ، أيْ في أمْرِ الدِّينِ، كَما هو السِّياقُ.
واللَّوْمَةُ: الواحِدَةُ مِنَ اللَّوْمِ. وأُرِيدَ بِها هُنا مُطْلَقُ المَصْدَرِ، كاللَّوْمِ لِأنَّها لَمّا وقَعَتْ في سِياقِ النَّفْيِ فَعَمَّتْ زالَ مِنها مَعْنى الوَحْدَةِ كَما يَزُولُ مَعْنى الجَمْعِ في الجَمْعِ المُعَمَّمِ بِدُخُولِ (ال) الجِنْسِيَّةِ لِأنَّ (لا) في عُمُومِ النَّفْيِ مِثْلُ (ال) في عُمُومِ الإثْباتِ، أيْ لا يَخافُونَ جَمِيعَ أنْواعِ اللَّوْمِ مِن جَمِيعِ اللّائِمِينَ إذِ اللَّوْمُ مِنهُ شَدِيدٌ، كالتَّقْرِيعِ، وخَفِيفٌ؛ واللّائِمُونَ: مِنهُمُ اللّائِمُ المُخِيفُ والحَبِيبُ: فَنَفى عَنْهم خَوْفَ جَمِيعِ أنْواعِ اللَّوْمِ. فَفي الجُمْلَةِ ثَلاثَةُ عُمُوماتٍ: عُمُومُ الفِعْلِ في سِياقِ النَّفْيِ، وعُمُومُ المَفْعُولِ، وعُمُومُ المُضافِ إلَيْهِ. وهَذا الوَصْفُ عَلامَةٌ عَلى صِدْقِ إيمانِهِمْ حَتّى خالَطَ قُلُوبَهم بِحَيْثُ لا يَصْرِفُهم عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الإغْراءِ واللَّوْمِ لِأنَّ الِانْصِياعَ لِلْمَلامِ آيَةُ ضَعْفِ اليَقِينِ والعَزِيمَةِ.
ولَمْ يَزَلِ الإعْراضُ عَنْ مَلامِ اللّائِمِينَ عَلامَةً عَلى الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ وأصالَةِ الرَّأْيِ. وقَدْ عَدَّ فُقَهاؤُنا في وصْفِ القاضِي أنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا بِاللّائِمَةِ عَلى أحَدِ تَأْوِيلَيْنِ في عِبارَةِ المُتَقَدِّمِينَ، واحْتِمالُ التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ عَلى اعْتِبارِ كِلَيْهِما شَرْعًا.
(p-٢٣٩)وجُمْلَةُ ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ تَذْيِيلٌ. واسْمُ الإشارَةِ إشارَةٌ إلى مَجْمُوعِ صِفاتِ الكَمالِ المَذْكُورَةِ.
و ”واسِعٌ“ وصْفٌ بِالسَّعَةِ، أيْ عَدَمِ نِهايَةِ التَّعَلُّقِ بِصِفاتِهِ ذاتِ التَّعَلُّقِ، وتَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ إنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٧٣] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕمࣲۚ ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق