الباحث القرآني

مدنية، وهي مائتان وست وثمانون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك- ضاد- اسم سمى به «ضه» من ضرب إذا تهجيته، وكذلك: را، با: اسمان لقولك: ره، به وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها وهي حروف وحدان والأسامى عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى فلم يغفلوها، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا. ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى: التهليل، والحولقة، والحيعلة، والبسملة وحكمها- ما لم تلهها العوامل- أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال: واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. تقول: هذه ألف، وكتبت ألفاً، ونظرت إلى ألف وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها، فحقك أن تلفظ به موقوفا. ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناسا مختلفة ليرفع حسبانها، كيف تصنع وكيف تلقيها أغفالا من سمة الإعراب؟ فتقول: دار، غلام، جارية، ثوب، بساط. ولو أعربت ركبت شططا. فإن قلت: لم قضيت لهذه الألفاظ بالاسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت: قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف، مستعملين الحرف في معنى الكلمة، وذلك أن قولك: «ألف» دلالته على أوسط حروف «قال، وقام» دلالة «فرس» على الحيوان المخصوص، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين. ألا ترى أنّ الحرف: ما دلّ على معنى في غيره، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك: با، تا. وبالتفخيم كقولك: يا، ها. وبالتعريف، والتنكير، والجمع والتصغير، والوصف، والإسناد، والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة. ثم إنى عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه: قال الخليل يوما- وسأل أصحابه-: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف [[قال محمود رحمه اللَّه: «وقد سأل الخليل أصحابه كيف ينطقون بالكاف ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: وسألهم أيضا كيف ينطقون بالقاف من يقبل؟ فقالوا: قاف، كقولهم الأول، فأجابهم كجوابه الأول وقال: أما أنا فأقول: اقه، فألحق رضى اللَّه عنه أولا هاء السكت لأن الحرف المنطوق به متحرك، وثانيا همزة الوصل لأنه ساكن.]] التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول: باء، كاف فقال: إنما جئتم بالاسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: كه، به. وذكر أبو على في كتاب الحجة في: (يس) : وإمالة يا، أنهم قالوا: يا زيد، في النداء فأمالوا وإن كان حرفا، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يس أجدر. ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت: من أى قبيل هي من الأسماء، أمعربة أم مبنية؟ قلت: بل هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضية وموجبه. والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء: أنها لو بنيت لحذى بها حذو: كيف، وأين، وهؤلاء. ولم يقل: ص، ق، ن مجموعا فيها بين الساكنين. فإن قلت: فلم لفظ المتهجى بما آخره ألف منها مقصورا، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء، وياء، وهاء وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة فإذا جعلتها اسما مددت فقلت: كتبت لاء؟ قلت: هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل والسبب في أن قصرت متهجاة، ومدّت حين مسها الإعراب: أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز، واستعمالها فيه أكثر. فإن قلت: قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، وأنها من قبيل المعربة، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت: فيه أوجه: أحدها وعليه إطباق الأكثر: أنها أسماء السور. وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب «باب أسماء السور» وهي في ذلك على ضربين: أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو: كهيعص، والمر. والثاني: ما يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسما فردا كص وق ون، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد ك «حم وطس ويس» فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسماء واحد كدارابجرد فالنوع الأول محكي ليس إلا وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب، والحكاية قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح ابن أوفى العبسي [[قوله «قال قاتل محمد بن طلحة ... الخ» هكذا نسبه البخاري لشريح في تفسير غافر. ولفظه: ويقال إن (حم) اسم. لقول شريح بن أبى أوفى، فذكره. ونسب ذلك لغير شريح، ففي الطبقات لابن سعد والمستدرك للحاكم من رواية الواقدي عن محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه قال: كان محمد بن طلحة يوم الجمل مع أبيه، فنهى على رضى اللَّه عنه عن قتله وقال: من رأى صاحب البرنس الأسود فلا يقتله- يعنيه- فقتله رجل من بنى أسد بن خزيمة يقال له: طلحة بن مدلج، وقيل: شداد بن معاوية العبسي. وقيل عصام بن متشعر وعليه الأكثر. وهو الذي يقول في قتله. فذكره. قلت: وهو من جملة أبيات. أولها: وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم]] يُذَكِّرُنِى حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ [[وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم شككت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعا ... عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم لشريح بن أوفى العبسي يوم الجمل، حين أمر أبو طلحة محمد بن طلحة أن يبرز للقتال، وكان من قرابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكان كلما حمل عليه رجل قال: نشدتك بحم لما فيها من آية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) حتى حمل عليه العبسي فقتله وأنشأ يقول: ورب أشعث من أثر العبادة كثير القيام والعمل بآيات ربه، أو القيام في الليل بتلاوتها، قليل الأذى، وروى الكرى: أى النوم، وروى القذى: وهو ما يتساقط في العين فيغمضها: كنى بقلته عن قلة النوم فيما ترى العين: أى في رأى العين، شككت: أى خرقت له بالرمح جيب: أى طوق قميصه، كناية عن طعنه به في صدره أو من خلفه حتى نفذ من صدره، أو نظمت وربطت جيب قميصه بصدره فسقط مطروحا على يديه ووجهه. وعبر بالفم مبالغة في التنكيل ولأنه أول ما يلقى الأرض من الوجه، وذلك بلا سبب غير أنه ليس تابعاً لعلى بن أبى طالب، وهكذا حال كل من لا يتبع الحق، وهو أنه يعاقب ويهان. يذكرني حاميم، والحال أن رمحي مختلط في ثيابه وأضلاعه. وقيل المعنى: والحال أن الرماح مختلطة والحرب قائمة، وقوله فهلا، فيه نوع توبيخ: أى كان من حقه أن يذكرني بها قبل التقدم للحرب.]] فأعرب حاميم ومنعها الصرف، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها لاجتماع سببى منع الصرف فيها، وهما: العلمية، والتأنيث. والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى. كقولك: دعني من تمرتان، وبدأت بالحمد للَّه، وقرأت سورة أنزلناها. قال: وَجَدْنا في كِتَابِ بَنى تَمِيم ... أَحَقُّ الْخَيْلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ [[وجدنا في كتاب بنى تميم ... أحق الخيل بالركض المعار يضمر بالأصائل فهو نهد ... أقب مقلص فيه اقورار كأن سراته والخيل شعث ... غداة وجيفها مسد مغار كأن حفيف منخره إذا ما ... كتمن الربو كير مستعار لبشر بن أبى خازم الأسدى، وقيل للطرماح. والركض: ضرب الراكب دابته برجله، وعار الفرس: ذهب هاهنا وهاهنا مرحا عند انفلاته، وأعاره صاحبه فهو معار. قال أبو عبيدة: والناس يرونه أى يظنون المعار من العارية وهو خطأ. ويروى: المعار بكسر الميم. ويروى: يشمر، بدل يضمر. والأصائل جمع أصيل كالآصال وهي أواخر النهار. أى يترك بلا علف من أول النهار فيجوع حتى يكون ضامر البطن في آخره، أو يهيأ ويرسل للقتال في آخر النهار فما بال أوله. والنهد: غليظ الجنبين مرتفع الأضلاع، والأقب، رقيق الخصر، والمقلص- كمعظم على اسم المفعول- المشمر المشرف طويل القوائم، ويجوز جعله على اسم الفاعل بمعنى المتشمر المكتنز اللحم. يقال: قلصه بالتشديد شمره، فقلص هو أيضا: أى تشمر، ويقال قلصت الناقة كذلك: إذا استمرت على السير. والاقورار: رقة الجسم ونحافته. والسراة: أعلى الظهر. والوجيف: سرعة سير الخيل. والمسد: الحبل. شبه السراة به في الامتداد والصلابة، وقوله: والخيل شعث، جملة حالية، والشعث جمع أشعث، أو شعث، وغداة: ظرف له. والحفيف: دوى الجري والطيران. يقال: حف الفرس حفيفاً، وأحففته: إذا حملته على الحفيف، وضمير كتمن للخيل. والربو: الزيادة وما ارتفع من الأرض، والنفس العالي، وانتفاخ الفرس من عدو أو فزع. يقال منه: ربا يربو، إذا أخذه الربو: أى إذا ضاقت مناخر الخيل عن إخراج النفس لعجزها، كان منخر فرسي واسعاً كالكير- وهو منفخة الحداد- لعلو نفسه وتردده، وجعله مستعارا ليدل على أنه تداولته الأيدى. يقول: وجدنا في كلام جدودنا هذا الكلام، فأحق مبتدأ، والمعار خبره، والجملة محكية محلها نصب بوجدنا.]] وقال ذو الرّمّة: سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً ... فَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعى بِلَالا [[لذي الرمة يمدح بلالا أبا بريدة، وهما لقب وكنية لعامر بن أبى موسى الأشعرى، كان أمير البصرة وقاضيها، وصيدح: اسم ناقة الشاعر. والناس رفع بالابتداء: أى سمعت هذا الكلام فحكاه على ما كان عليه، ولم ينصب الناس، لأنه يقتضى أن فعل الانتجاع مما يسمع وليس كذلك، لأنه بمعنى يرتحلون طالبين غيثاً، أو بمعنى يطلبون غيثاً أى مطراً أو كلأ نابتاً منه. وروى بنصب الناس، فيكون ينتجعون غيثاً: بمعنى يتكلمون بطلبه. وروى رأيت الناس. قال ابن القطاع: ولا يصح معه الرفع، وذلك لأن الروية لا تقع على اللفظ، وشبه تهيئتها وإعدادها للسير إليه ليسوقها أو سوقها إليه بأمره لها بالسير إليه، وطلبه لترتب السير على كل على طريق التصريح، ويجوز أنه شبهها بالعاقل فخاطبها بذلك على سبيل المكنية: أى اطلبى بلالا، فانه أنفع مما يطلبه الناس، ولما سمع بلال ذلك قال: يا غلام اعلف صيدح قتا ونوى، والقت: نوع من النبات الطري.]] وقال آخر: تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَداً ... وَفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِى [[روى الرحيل بالرفع على أنه مبتدأ، وغداً- أى في غد- خبره، وبالنصب: مصدر لفعل محذوف، وذلك كله على الحكاية. وروى بالجر على الأصل، وغدا. ظرف للرحيل، وفي ترحالهم: أى مع رحيلهم نفسي- أى روحي- فكأن محبوبه أخذ روحه وغادره ميتا لتعلق قلبه به، ويجوز أنه استعارها لمحبوبه على طريق التصريحية، لأن به حياته وسروره، فكأنه يموت بمفارقته لاغتمامه]] وروى منصوبا ومجرورا. ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيت زيدا، من زيداً؟ وقال سيبويه: سمعت من العرب: لا من أين يافتى. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: ص، وق، ون مفتوحات؟ [[قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فما وجه من قرأ ص وق ون مفتوحات ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه تعالى: كلامه على الوجه الأول يوجب كونها معربة، وعلى الوجه الثاني يحتمل أن يكون أراد أن الفتحة- لالتقاء الساكنين- نشأت عن سكون الحكاية، فإنها إنما تحكى ساكنة مجردة من سمة الاعراب، فلا تكون الحركة إذاً إعرابا، إذ لا مقتضى له مع الحكاية، ولا بناء إذ هي معربة عنده على هذا التقدير. ويحتمل أن يكون أراد أنها مبنية فتكون الحركة مثلها في أين وكيف حركة بناء، والأول هو الظاهر من مراده إذ حتم قبل أنها معربة، على أن سيبويه نص في كتابه على ما أورده بلفظه قال: وأما (ص) فلا يحتاج إلى أن يجعل اسما أعجميا، لأن وزنه في كلامهم. ولكنه يجوز أن يكون اسما للسورة فلا يصرف. ويجوز أن يكون أيضا (يس وص) اسمين غير متمكنين فيلزمان الفتح كما ألزمت الأسماء غير المتمكنة للحركات نحو: كيف، وأين، وحيث، وأمس اه كلام سيبويه. وفيه رد على الزمخشري رحمه اللَّه في حتمه أن تكون معربة وأن فتحتها نصب أو لالتقاء الساكنين العارض للحكاية على ما ظهر من مقوله آنفاً، وسيأتى له أيضا ما يدل على أنه لا يجوز بناؤها البتة. أقول: بعد تسليم أن الأول هو الظاهر من مراده، فما ذكره- حكاية عن سيبويه- غير وارد عليه، لأنه اختار أحد الوجهين.]] قلت: الأوجه أن يقال: ذاك نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت. وانتصابها بفعل مضمر. نحو: اذكر وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في: حم، وطس، ويس لو قرئ به. وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ: يس. ويجوز أن يقال: حرّكت لالتقاء الساكنين، كما قرأ من قرأ: وَلَا الضَّالِّينَ. فإن قلت: هلا زعمت أنها مقسم بها؟ [[قال محمود رحمه اللَّه: «هلا زعمت أنها مقسم بها ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وله البقاء على أنها منصوبة على القسم، وجعل الواو عاطفة على مذهب الخليل وسيبويه في أمثاله، ويسلك حينئذ في العطف سبيل: ولا سابق شيئا إذا كان جائياً فان المقسم به وإن كان منصوباً لأنه محل يعهد وفيه الخبر، فعطف بالجر رعاية لذلك العهد، وهاهنا أولى بالصحة منه بيت زهير المذكور لأن انتصاب المقسم به إنما نشأ عن حذف حرف الجر الذي هو أصل في القسم، وانتصاب خبر ليس أصل في نفسه، ليس ناشئا عن حذف. غايته أن حرف الجر قد يصحب خبرها دخيلا، فمراعاة الأصل أجدر من مراعاة العارض، فقد تحرر في فتح ص وجهان: أحدهما أن يكون إعرابا وهو إما جرى على الوجه الذي أبداه الزمخشري، أو نصب على الوجه الذي نقلته عن سيبويه، ثانيهما أنه لا إعراب ولا بناء وهو عروضه على الوقف في الحكاية.]] وأنها نصبت قولهم: نعم اللَّه لأفعلن، وآي اللَّه لأفعلن، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة: أَلَا رُبَّ مَنْ قَلْبى لَهُ اللَّهَ نَاصِح [[ألا رب من قلبي له اللَّه ناصح ... ومن قلبه لي في الظباء السوانح لذي الرمة. و «من» نكرة موصوفة. و «قلبي» مبتدأ. «اللَّه» قسم نصب على حذف الجار وإعمال فعل القسم المقدر. و «ناصح» خبر، والجملة صفة «من» و «السوانح» المسرعات جهة اليمين، كما أن «البوارح» المسرعات جهة الشمال. يقول: رب شخص قلبي له ناصح خالص واللَّه. ورب شخص قلبه لي غير خالص بل نافر عنى كأنه من الظباء المسرعات نفوراً. وأعاد الموصوف- وإن كان المقصود ذكر الصفة فقط- تنبيها على استقلال كل من الصفتين بقصد الاخبار به. هذا، ويحتمل أن المعنى: أن قلبه لي ناصح أيضا لأن بعض العرب يتيمن بالسوانح. وفيه تلويح بتشبيه محبوبته بالظبية.]] وقال آخر: فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ [[إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة اللَّه الثريد «ما» زائده. وأدم يأدم كضرب يضرب، إذا وفق وأصلح، وكذلك آدم بمد الهمزة، فتأدمه: تصلحه وتهيئه للأكل. وأمانة اللَّه رفع على الابتداء، والخبر محذوف، أى: قسمي أو نصب بفعل القسم المقدر بعد حذف الجار، أى: أقسم بأمانة اللَّه أو جر بواو القسم مقدرة، لكن البصريون خصوا هذا بلفظ الجلالة. يقول: إذا كان الخبز مأدوما باللحم وممزوجا به، فذلك هو الثريد دون ما عداه وحق أمانة اللَّه.]] ؟ قلت: إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك. قال الخليل في قوله عزّ وجلّ: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) : الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء. قال سيبويه: قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاما آخر، فيكون كقولك باللَّه لأفعلنّ، باللَّه لأخرجنّ اليوم. ولا يقوى أن تقول: وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرها قال: وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ فثم هاهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فان قلت: فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، فقد جاء عنهم: اللَّه لأفعلن مجرورا، ونظيره قولهم: لاه أبوك غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. قلت: هذا لا يبعد عن الصواب، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضى اللَّه عنه أنه قال: أقسم اللَّه بهذه الحروف [[موقوف رواه البيهقي في الأسماء والصفات، من طريق معاوية بن صالح، عن على بن طلحة عنه بلفظ: الحروف المقطعة في أوائل السور كلها أقسام أقسم اللَّه بها. ورواه ابن مردويه من هذا الوجه في تفسير طه. قال: طه وأشباهها قسم أقسم اللَّه بها. وهي من أسماء اللَّه تعالى.]] . فإن قلت: فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر [[قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا تحقق لك مخالفته لما نقلته من نص سيبويه من أنها غير متمكنة. ويدلك على أن فتحتها التي قال قبل إنها لالتقاء الساكنين فتحة بناء، أنه إنما أراد السكون العارض في الحكاية لا سكون البناء وهو مخالف لنص سيبويه كما نبهت عليه أيضا.]] ؟ قلت: وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين، والذي يبسط من عذر المحرّك: أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامى، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبنيات، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء» . فإن قلت: هل تسوّغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في المعربة [[قال محمود رحمه اللَّه: «هل تسوغ لي في المحكية ارادة القسم كما سوغت لي في المعربة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وقد منع الزمخشري أن يكون ص منصوبا على القسم لما تقدم، وأجاز أن يكون حم في الحديث المذكور منصوبة على القسم، بخلاف حم في القرآن، فتلك يتعين أن يكون نصبها على إضمار الفعل، أو مجرورة على القسم. وأما النصب مع القسم فلا يجيزه إلا في الحديث، والفرق عنده أن المانع من إجازته في القرآن مجيء المعطوف بعده مخالفا له في الاعراب، إذ المعطوفات كلها مجرورة، ويتعذر عنده القسم في التواني خوفا من جمع قسمين على مقسم واحد، ولا كذلك الحديث فانه لم يأت بعده ما يأباه فلذلك خص جواز هذا الوجه بالحديث. وأما على الوجه الذي أو صحته فيعم جواز ذلك القرآن والحديث جميعاً.]] من إرادة معنى القسم؟ قلت: لا عليك في ذلك، وأن تقدّر حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل: (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ، كأنه قيل: أقسم بهذه السورة، وبالكتاب المبين: إنا جعلناه. وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلم «حم لا يبصرون» [[أخرجه أصحاب السنن الثلاثة، من رواية المهلب عمن سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول «إن بيتكم العدو فليكن شعاركم حم لا يبصرون» قال الحاكم: المبهم هو البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما. ثم أخرجه كذلك وهو في النسائي أيضاً، وفي الباب عن أنس رضى اللَّه عنه في الأوسط للطبراني. وفي لدلائل لأبى نعيم عنه في غزوة حنين. وعن شيبة بن عثمان في الطبراني أيضاً وعن أبى دجانة الأنصارى في آخر الدلائل للبيهقي، في حديث طويل]] فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار وإضماره. فان قلت: فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت: كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ، كما قال عز من قائل: (قُرْآناً عَرَبِيًّا) . فان قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف [[قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صورة الحروف ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: على هذا المعنى من خروج خط المصحف عن قياس الخط اعتمد القاضي رضى اللَّه عنه في كتاب الانتصار، في الجواب عما نقل عن عثمان رضى اللَّه عنه: أن عكرمة لما عرض عليه المصحف وجد فيه حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فان العرب ستقيمها بألسنتها. فلو كان الكاتب من ثقيف والمملل من هذين لم يوجد فيه هذه الحروف، قال القاضي: وإنما قال عثمان رضى اللَّه عنه ذلك لأن ثقيفاً كانت أبصر بالهجهاء، وهذيلا كانت تظهر الهمزة، والهمزة إذا ظهرت في لفظ المملل كتبها الكاتب على صورتها فما أراد عثمان رضى اللَّه عنه إلا أن تلك الحروف كتبت على خلاف قياس الخط، مثل كتابة: الصلوة، والزكاة، بالواو لا بالألف قال القاضي: وإنما أخذ اللَّه على الحفظة أن لا يغيروا التلاوة، أما الخط فلم يأخذ عليهم رسماً بعينه، حتى لا يسوغ الخروج من قياس رسم خاص من رسوم الخط اه كلامه]] أنفسها، لا على صور أساميها؟ قلت: لأنّ الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب: اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضاً فإن شهرة أمرها، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها، وأنّ اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها [[قوله «لا يحلى بطائل منها» في الصحاح: وقولهم لم يحل منه بطائل: أى لم يستفد منه كبير فائدة ولا يتكلم به إلا مع الجحد (ع)]] وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده: أمنت وقوع اللبس فيها: [[قوله «أمنت وقوع اللبس فيها» أى تلك الأمور الأربعة، أمنت القارئ وقوع اللبس في الفواتح. (ع)]] وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بنى عليها علم الخط والهجاء ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد اللَّه بن درستويه في كتابه: المترجم بكتاب الكتاب المتمم: في الخط والهجاء خطان لا يقاسان: خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه. الوجه الثاني: أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد [[قال محمود رحمه اللَّه: «الوجه الثاني أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: إنما أردت هذا الفصل في كلام الزمخشري لأنه غاية الصناعة، ونهاية البراعة، لولا الإخلال بلطيفة لو سلكها لتمت فصاحته، وهي أنه بنى أول الكلام على النفي وطول فيه، حتى انتهى إلى الإثبات، فكان أول الكلام رهيناً لآخره يفهم على الضد متى ينقضي على البعد، فهو كما انتقد على أبى الطيب قوله في الخيل: ولا ركبت بها إلا إلى ظفر ... ولا حصلت بها إلا على أمل فانه صدر الصدر والعجز بما صورته الدعاء على المخاطب في العرض مستدركا بعد، وإنما يؤاخذ بهذا مثل أبى الطيب والزمخشري لأن لهما في مراتب الفصاحة علوا يفطن السامع لمثل هذا النقد]] كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم [[قوله «ولم تظهر معجزتهم» لعله بفتح الميم والجيم مقابل مقدرة (ع)]] عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل [[قوله «على التساجل» أى التفاخر بأن تصنع مثل صنعه في جرى أو سقى، وأصله من السجل: بمعنى الدلو الذي فيه ماء. واقتضاب الخطب: ارتجالها أفاده الصحاح (ع)]] في اقتصاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة [[قوله «التي بزت بلاغة» أى غلبت وسلبت (ع)]] كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى [[قوله «الخارج من قوى» لعله عن (ع)]] الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر. وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، ولناصره على الأوّل أن يقول: إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوبا في أساليبهم واستعمالاتهم، والعرب لم تتجاوز ما سموا به [[قوله «لم تتجاوز ما سموا به» لعله: بما، أو لعله: فيما. (ع)]] مجموع اسمين، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، والقول بأنها أسماء السور حقيقة: يخرج إلى ما ليس في لغة العرب، ويؤدّى أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً. فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه، أجابك بأن له محملا سوى ما يذهب إليه، وأنه نظير قول الناس: فلان يروى: قفا نبك، وعفت الديار. ويقول الرجل لصاحبه: ما قرأت؟ فيقول (الحمد لله) و (براءة من الله ورسوله) و (يوصيكم الله في أولادكم) و (الله نور السماوات والأرض) . وليست هذه الجمل بأسامى هذه القصائد وهذه السور والآي، وإنما تعنى رواية القصيدة التي ذاك استهلالها، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول: التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت اسما واحداً على طريقة حضر موت، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية، كما سموا: بتأبط شراً، وبرق نحره، وشاب قرناها. وكما لو سمى: بزيد منطلق، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً، لأنها تسمية مؤلف بمفرده، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه، كقولهم: صاد، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً. الوجه الثالث: أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام: الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامى الحروف، فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل: (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) . فكان حكم النطق بذلك - مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله- حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحى، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد. واعلم أنك إذا تأملت ما أورده اللَّه عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء. وجدتها نصف أسامى حروف المعجم [[قال محمود رحمه اللَّه: «واعلم أنك إذا تأملت ما أورده اللَّه عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامى حروف المعجم ... الخ» . قال أحمد: بقي عليه من الأصناف الحروف الشديدة، وقد ذكر تعالى نصفها: الهمزة المعبر عنها بالألف، والكاف، والقاف، والطاء. والمطبقة، وقد ذكر تعالى نصفها: الصاد، والطاء. والمنفتحة، وقد ذكر نصفها: الألف، والحاء، والراء، والسين، والعين، والقاف، والكاف، واللام، والميم، والنون، والهاء، والياء. وحروف الصفير لما كانت ثلاثا: السين، والصاد، والزاى لم يكن لها نصف فذكر منها اثنين: السين، والصاد. وتلك العادة المأنوسة فيما يقصد إلى تنصيفه فلا يمكن فيتم الكسر. ألا ترى طلاق العبد وعدة الأمة ونحو ذلك؟ والحروف اللينة وهي ثلاثة: الألف، والياء، والواو. وذكر منها اثنين: الألف، والياء كحروف الصفير. والمكرر وهو الراء. والهاوي وهو الألف. والمنحرف وهو اللام. وقد ذكرها. ولم يبق من أصناف الحروف خارجا عن هذا النمط إلا ما بين الشديد والرخو، فانه لم يقتصر منها على النصف لأن ما ذكر منها زائداً على النصف اندرج في غيرها من الأصناف، فلم يمكن الاقتصار لها كالشديدة والرخوة فلم يكن بها عناية. وأما حروف الذلاقة والمصمتة فالصحيح أن لا يعدا صنفين، ولمن عدهما صنفين متميزين خبط طويل في جهة تميزهما، حتى أبعد الزمخشري في مفصله في تميزهما فقال: حروف الذلاقة التي يعتمد الناطق فيها على ذلق اللسان- أى طرفه- وهو تمييز مردود جداً لأن من جملتها: الميم، والباء، والفاء. ولا مدخل لطرف اللسان فيها، ثم لا يتم على هذا التمييز مطابقتها للمصمتة، إذ المصمتة مفسرة عنده بأنها حروف تكون عن تركيب كلمة رباعية فما زاد منها حتى يدرج معها أحد حروف الذلاقة، فكيف المقابلة بين الخروج من طرف اللسان وبين الصمت؟ فالحق أنهما صنفان ضعيف تميزهما، فلم يعتبر جريانهما على النمط المستمر في غيرهما من الأصناف البين امتيازها. وعد الزمخشري في هذا النمط حروف القلقلة، وذكر أن المذكور منها النصف: القاف، والطاء ووهم فإنها خمسة أحرف، لم يذكر منها في الفواتح سوى الحرفين المذكورين. وعلى الجملة فلا يقدم الناظر تخريج ما لم يحر على هذا النمط من الأصناف على وجه يمكن الاستئناس إليه.]] أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون- في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف. ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى اللَّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن اللَّه عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. ومما يدل على أنه تغمد [[قوله «تغمد» لعله «تعمد» بالعين المهملة. (ع)]] بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم [[قال محمود رحمه اللَّه: «ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم أن الألف واللام ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: الألف المذكورة في الفواتح يحتمل أن يكون المراد بها الهمزة اللينة، وقد اضطرب فيها كلام الزمخشري في هذا الفصل، فعند ما عد الحروف أربعة عشر حرفا في الفواتح قال: إنها نصف حروف العربية، فهذا يدل على أن جملتها ثمانية وعشرون حرفا، فلا بد من سقوط أحد الحرفين من هذا العدد إما اللينة أو الهمزة، وإلا كانت تسعة وعشرين. والظاهر أن الساقط الهمزة وعند ما قال: في تسع وعشرين على عدد الحروف اقتضى هذا دخول الأليين في العدد. والظاهر من كلامه أن الألف عنده هي اللينة، فلذلك على تسميتها بالألف بأن النطق لما تعذر بها أولا استقرت الهمزة مكانها وفاء بمراعاة تلك اللطيفة التي قدمها من جعل مسمى الحرف أول اسمه. وأما عند النحاة فالألف المعدودة في حروف المعجم مفردة هي الهمزة وأما اللينة فهي المعدودة مع اللام حيث يقولون: لام ألف، ويكتبونها على صورة «لا» .]] . أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين. وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر. فان قلت: فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ ومالها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. فان قلت: فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت: هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك. فإن قلت: فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت: إذا كان الغرض هو التنبيه- والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة- كان تطلب وجه الاختصاص ساقطا، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً، لم يقل له: لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك ولذلك لا يقال: لم سمى هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟ ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت: ما بالهم عدوّا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفى لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور. أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها. وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعدّ آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، وحم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص وق ون ثلاثتها لم تعدّ آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدّوا شيئا منها آية. فإن قلت: فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت: كما عدّ الرحمن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف. فإن قلت: ما حكمها في باب الوقف؟ قلت: يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا: (الم اللَّهُ) أى هذه الم ثم ابتدأ فقال (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) . فإن قلت: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ [[قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: ما محل هذه الفواتح من الاعراب ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وإنما جاز النصب مع القسم فيما لا يعقبه معطوف مجرور. فأما ما يعقبه معطوف مجرور مثل ص وق ون فانه لا يجيز فيه النصب مع القسم البتة، ويحمله على إضمار فعل، أو على أن الفتح في موضع الجر. وأما على وجه بدئه فيما تقدم فيجوز النصب مع القسم في جميعها فجدد به عهداً. وعلى النصب بإضمار فعل أعربها سيبويه في كتابه.]] قلت: نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت: ما محلها؟ قلت: يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع: فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة اللَّه واللَّه على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدّدة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب