الباحث القرآني

قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ البَقَرَةِ: مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ في مُدَدٍ شَتّى. وقِيلَ هي أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ إلّا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨١] فَإنَّها آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّماءِ، ونَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ في حِجَّةِ الوَداعِ بِمِنًى، وآياتُ الرِّبا أيْضًا مِن أواخِرِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ انْتَهى. وأخْرَجَ أبُو الضُّرَيْسِ في فَضائِلِهِ وأبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ في النّاسِخِ والمَنسُوخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ سُورَةُ البَقَرَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ في النّاسِخِ والمَنسُوخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: أوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِالمَدِينَةِ سُورَةُ البَقَرَةِ. وقَدْ ورَدَ في فَضْلِها أحادِيثُ مِنها ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ وأحْمَدُ والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «يُؤْتى بِالقُرْآنِ وأهْلِهِ الَّذِينَ كانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ في الدُّنْيا تَقَدَّمُهم سُورَةُ البَقَرَةِ وآلُ عِمْرانَ» قالَ: وضَرَبَ لَهُما رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ثَلاثَةَ أمْثالٍ ما نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قالَ: «كَأنَّهُما غَمامَتانِ أوْ كَأنَّهُما غَيابَتانِ أوْ كَأنَّهُما ظُلَّتانِ سَوْداوانِ أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوّافَّ تُحاجّانِ عَنْ صاحِبِهِما» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ والدّارِمِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ بُرَيْدَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ فَإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ وتَرْكَها حَسْرَةٌ ولا يَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ، ثُمَّ سَكَتَ ساعَةً ثُمَّ قالَ: تَعْلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ فَإنَّهُما الزَّهْراوانِ تُظِلّانِ صاحِبَهُما يَوْمَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ أوْ غَيابَتانِ أوْ فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوّافَّ» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وإسْنادُهُ حَسَنٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وأخْرَجَ نَحْوَهُ أبُو عُبَيْدٍ وأحْمَدُ وحُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ومُسْلِمٌ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَ نَحْوَهُ أيْضًا الطَّبَرانِيُّ وأبُو ذَرٍّ الهَرَوِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَ نَحْوَهُ أيْضًا البَزّارُ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ وأحْمَدُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكم مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ» . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ عَنْ أنَسٍ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ في الكامِلِ وابْنُ عَساكِرَ في تارِيخِهِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ النَّسائِيُّ والطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وأخْرَجَهُ الدّارِمِيُّ والبَيْهَقِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن حَدِيثِهِ بِنَحْوِهِ. وأخْرَجَ أبُو يَعْلى وابْنُ حِبّانَ والطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنامًا، وسَنامُ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ، مَن قَرَأها في بَيْتِهِ نَهارًا لَمْ يَدْخُلْهُ الشَّيْطانُ ثَلاثَةَ أيّامٍ، ومَن قَرَأها في بَيْتِهِ لَيْلًا لَمْ يَدْخُلْهُ الشَّيْطانُ ثَلاثَ لَيالٍ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والطَّبَرانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «البَقَرَةُ سَنامُ القُرْآنِ وذُرْوَتُهُ، نَزَلَ مَعَ كُلِّ آيَةٍ مِنها ثَمانُونَ مَلَكًا واسْتُخْرِجَتْ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ مِن تَحْتِ العَرْشِ فَوُصِلَتْ بِها» . وأخْرَجَ البَغَوِيُّ في مُعْجَمِ الصَّحابَةِ وابْنُ عَساكِرَ في تارِيخِهِ عَنْ رَبِيعَةَ الجَرَسِيِّ قالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أيُّ القُرْآنِ أفْضَلُ ؟ قالَ: السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيها البَقَرَةُ، قِيلَ: فَأيُّ البَقَرَةِ أفْضَلُ ؟ قالَ: آيَةُ الكُرْسِيِّ وخَواتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ نَزَلَتْ مِن تَحْتِ العَرْشِ» . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وأحْمَدُ والبُخارِيُّ في صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا ومُسْلِمٌ والنَّسائِيُّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قالَ «بَيْنَما هو يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ وفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إذْ جالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأ فَجالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأ فَجالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فانْصَرَفَ إلى ابْنِهِ يَحْيى وكانَ قَرِيبًا مِنها فَأشْفَقَ أنْ تُصِيبَهُ، فَلَمّا أخَذَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ فَإذا هو بِمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيها أمْثالُ المَصابِيحِ عَرَجَتْ إلى السَّماءِ حَتّى ما يَراها، فَلَمّا أصْبَحَ حَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أتَدْرِي ما ذاكَ ؟ قالَ: لا يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: تِلْكَ المَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، ولَوْ قَرَأْتَ لَأصْبَحَتْ تَنْظُرُ إلَيْها النّاسُ لا تَتَوارى مِنهم» ولِهَذا الحَدِيثِ ألْفاظٌ. وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ النَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ حِبّانَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ " «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بَعْثًا فاسْتَقْرَأ كُلَّ رَجُلٍ مِنهم " يَعْنِي ما مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ " فَأتى عَلى رَجُلٍ مِن أحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقالَ: ما مَعَكَ يا فُلانُ ؟ قالَ: مَعِي كَذا وكَذا وسُورَةُ البَقَرَةِ، قالَ: أمَعَكَ سُورَةُ البَقَرَةِ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: اذْهَبْ فَأنْتَ أمِيرُهم» . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنْ عُثْمانَ بْنِ أبِي العاصِ، قالَ: «اسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وأنا أصْغَرُ القَوْمِ الَّذِينَ وفَدُوا عَلَيْهِ مِن ثَقِيفٍ، وذَلِكَ أنِّي كُنْتُ قَرَأْتُ سُورَةَ البَقَرَةِ» . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الصَّلْصالِ بْنِ الدَّيَهْمَسِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «اقْرَءُوا سُورَةَ البَقَرَةِ في بُيُوتِكم ولا تَجْعَلُوها قُبُورًا قالَ: ومَن قَرَأ سُورَةَ البَقَرَةِ في (p-٢٢)لَيْلَةٍ تُوِّجَ بِتاجٍ في الجَنَّةِ» . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبّادٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حازِمٍ عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ أنَّ أشْياخَ أهْلِ المَدِينَةِ حَدَّثُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: «ألَمْ تَرَ إلى ثابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ لَمْ تَزَلْ دارُهُ البارِحَةَ تَزْهَرُ مَصابِيحَ، قالَ: فَلَعَلَّهُ قَرَأ سُورَةَ البَقَرَةِ، قالَ: فَسُئِلَ ثابِتٌ فَقالَ: قَرَأْتُ سُورَةَ البَقَرَةِ» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ وهَذا إسْنادٌ جَيِّدٌ، إلّا أنَّ فِيهِ إبْهامًا ثُمَّ هو مُرْسَلٌ. وقَدْ رَوى أئِمَّةُ الحَدِيثِ في فَضائِلِها أحادِيثَ كَثِيرَةً وآثارًا عَنِ الصَّحابَةِ واسِعَةً، ومِن فَضائِلِها ما هو خاصٌّ بِآيَةِ الكُرْسِيِّ، وما هو خاصٌّ بِخَواتِمِ هَذِهِ السُّورَةِ، وقَدْ سَبَقَ بَعْضُ ذَلِكَ، وما هو في فَضْلِها وفَضْلِ آلِ عِمْرانَ، وقَدْ سَبَقَ أيْضًا بَعْضٌ مِن ذَلِكَ وما هو في فَضْلِ السَّبْعِ الطِّوالِ، كَما أخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ عَنْ واثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «أُعْطِيتُ السَّبْعَ مَكانَ التَّوْراةِ، وأُعْطِيتُ المِئِينَ مَكانَ الإنْجِيلِ، وأُعْطِيتُ المَثانِي مَكانَ الزَّبُورِ، وفُضِّلْتُ بِالمُفَصَّلِ» وفي إسْنادِهِ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ وفِيهِ لِينٌ، وقَدْ رَواهُ بِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي هِلالٍ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ عائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «مَن أخَذَ السَّبْعَ فَهو خَيْرٌ» وقَدْ رَواهُ عَنْها أحْمَدُ في المُسْنَدِ بِاللَّفْظِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِنَ القُرْآنِ فَهو خَيْرٌ» . وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ [الحجرات: ٨٧] قالَ: هي السَّبْعُ الطِّوالُ البَقَرَةُ وآلُ عِمْرانَ والنِّساءُ والمائِدَةُ والأنْعامُ والأعْرافُ ويُونُسُ، وبِذَلِكَ قالَ مُجاهِدٌ ومَكْحُولٌ وعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ وأبُو مُحَمَّدٍ القارِي شَدّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ويَحْيى بْنُ الحارِثِ الذِّمارِيُّ.وقَدْ ورَدَ ما يَدُلُّ عَلى كَراهَةِ أنْ يَقُولَ القائِلُ: سُورَةُ البَقَرَةِ ولا سُورَةُ آلِ عِمْرانَ ولا سُورَةُ النِّساءِ وكَذا القُرْآنُ كُلُّهُ. فَأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لا تَقُولُوا: سُورَةَ البَقَرَةِ ولا سُورَةَ آلِ عِمْرانَ ولا سُورَةَ النِّساءِ وكَذا القُرْآنُ كُلُّهُ، ولَكِنْ قُولُوا: السُّورَةَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيها البَقَرَةُ، والسُّورَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيها آلُ عِمْرانَ، وكَذا القُرْآنُ كُلُّهُ» قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وفي إسْنادِهِ يَحْيى بْنُ مَيْمُونٍ الخَوّاصُّ وهو ضَعِيفُ الرِّوايَةِ لا يُحْتَجُّ بِهِ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: " لا تَقُولُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، ولَكِنْ قُولُوا السُّورَةَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيها البَقَرَةُ " . وقَدْ رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ خِلافَ هَذا. فَثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ رَمى الجَمْرَةَ مِن بَطْنِ الوادِي، فَجَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسارِهِ ومِنًى عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قالَ: هَذا مَقامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ ومُسْلِمٌ وأهْلُ السُّنَنِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ: " «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لَيْلَةً مِن رَمَضانَ فافْتَتَحَ البَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِها في رَكْعَةٍ، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّساءَ فَقَرَأها، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرانَ فَقَرَأها مُتَرَسِّلًا» الحَدِيثَ: وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ الضُّرَيْسِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «كُنْتُ أقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في اللَّيْلِ فَيَقْرَأُ بِالبَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ والنِّساءِ» . وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ في الشَّمائِلِ والنَّسائِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ الأشْجَعِيِّ قالَ: «قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقامَ فَقَرَأ سُورَةَ البَقَرَةِ لا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلّا وقَفَ» الحَدِيثَ. * * * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ: اخْتَلَفَ أهْلُ التَّأْوِيلِ في الحُرُوفِ الَّتِي في أوائِلِ السُّوَرِ فَقالَ الشَّعْبِيُّ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وجَماعَةٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ: هي سِرُّ اللَّهِ في القُرْآنِ، ولِلَّهِ في كُلِّ كِتابٍ مِن كُتُبِهِ سِرٌّ، فَهي مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ولا نُحِبُّ أنْ نَتَكَلَّمَ فِيها ولَكِنْ نُؤْمِنُ بِها، وتُمَدُّ كَما جاءَتْ. ورُوِيَ هَذا القَوْلُ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ. قالَ: وذَكَرَ أبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ عُمَرَ وعُثْمانَ وابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهم قالُوا: الحُرُوفُ المُقَطَّعَةُ مِنَ المَكْتُومِ الَّذِي لا يُفَسَّرُ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: لَمْ نَجِدِ الحُرُوفَ في القُرْآنِ إلّا في أوائِلِ السُّوَرِ، ولا نَدْرِي ما أرادَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ. قالَ: وقالَ جَمْعٌ مِنَ العُلَماءِ كَثِيرٌ: بَلْ نُحِبُّ أنْ نَتَكَلَّمَ فِيها ونَلْتَمِسَ الفَوائِدَ الَّتِي تَحْتَها والمَعانِيَ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْها. واخْتَلَفُوا في ذَلِكَ عَلى أقْوالٍ عَدِيدَةٍ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعَلِيٍّ أيْضًا أنَّ الحُرُوفَ المُقَطَّعَةَ في القُرْآنِ اسْمُ اللَّهِ الأعْظَمِ إلّا أنّا لا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنها. وقالَ قُطْرُبٌ والفَرّاءُ وغَيْرُهُما: هي إشارَةٌ إلى حُرُوفِ الهِجاءِ أعْلَمَ اللَّهُ بِها العَرَبَ حِينَ تَحَدّاهم بِالقُرْآنِ أنَّهُ مُؤْتَلِفٌ مِن حُرُوفٍ هي الَّتِي بِناءُ كَلامِهِمْ عَلَيْها لِيَكُونَ عَجْزُهم عَنْهُ أبْلَغَ في الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إذْ لَمْ يَخْرُجُ عَنْ كَلامِهِمْ. قالَ قُطْرُبٌ: كانَ يَنْفِرُونَ عِنْدَ اسْتِماعِ القُرْآنِ، فَلَمّا نَزَلَ ﴿الم﴾ ﴿المص﴾ اسْتَنْكَرُوا هَذا اللَّفْظَ، فَلَمّا أنْصَتُوا لَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالقُرْآنِ المُؤْتَلِفِ لِيُثْبِتَهُ في أسْماعِهِمْ وآذانِهِمْ ويُقِيمَ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. وقالَ قَوْمٌ: رُوِيَ أنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا أعْرَضُوا عَنِ القُرْآنِ بِمَكَّةَ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦] فَأنْزَلَها اسْتَغْرَبُوها فَيَفْتَحُونَ أسْماعَهم فَيَسْمَعُونَ القُرْآنَ بَعْدَها فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ. وقالَ جَماعَةٌ: هي حُرُوفٌ دالَّةٌ عَلى أسْماءٍ أُخِذَتْ مِنها وحُذِفَتْ بَقِيَّتُها، كَقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ الألِفُ مِنَ اللَّهِ واللّامُ مِن جِبْرِيلَ والمِيمُ مِن مُحَمَّدٍ. وذَهَبَ إلى هَذا الزَّجّاجُ فَقالَ: أذْهَبُ إلى أنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنها يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى. وقَدْ تَكَلَّمَتِ العَرَبُ بِالحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ كَقَوْلِهِ: ؎فَقُلْتُ لَها قِفِي، فَقالَتْ قافِ أيْ وقَفْتُ. وفِي الحَدِيثِ «مَن أعانَ عَلى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ» قالَ شَقِيقٌ: هو أنْ يَقُولَ في اقْتُلْ: اقْ كَما قالَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «كَفى بِالسَّيْفِ شا» أيْ شافِيًا، وفي نُسْخَةٍ شاهِدًا. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: هي أسْماءٌ لِلسُّوَرِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: هي أقْسامٌ أقْسَمَ اللَّهُ بِها لِشَرَفِها وفَضْلِها وهي مِن أسْمائِهِ. ومِن أدَقِّ ما أبْرَزَهُ المُتَكَلِّمُونَ في مَعانِي هَذِهِ الحُرُوفِ ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ فَإنَّهُ قالَ: واعْلَمْ أنَّكَ إذا تَأمَّلْتَ (p-٢٣)ما أوْرَدَهُ اللَّهُ عَزَّ سُلْطانُهُ في الفَواتِحِ مِن هَذِهِ الأسْماءِ وجَدْتَها نِصْفَ أسامِي حُرُوفِ المُعْجَمِ أرْبَعَةَ عَشَرَ سَواءً: وهي الألِفُ واللّامُ والمِيمُ والصّادُ والرّاءُ والكافُ والهاءُ والياءُ والعَيْنُ والطّاءُ والسِّينُ والحاءُ والقافُ والنُّونُ في تِسْعٍ وعِشْرِينَ سُورَةً عَلى عَدَدِ حُرُوفِ المُعْجَمِ، ثُمَّ إذا نَظَرْتَ في هَذِهِ الأرْبَعَةَ عَشَرَ وجَدْتَها مُشْتَمِلَةً عَلى أنْصافِ أجْناسِ الحُرُوفِ. بَيانُ ذَلِكَ أنَّ فِيها مِنَ المَهْمُوسَةِ نِصْفَها الصّادَ والكافَ والهاءَ والسِّينَ والحاءَ، ومِنَ المَجْهُورَةِ نِصْفَها الألِفَ واللّامَ والمِيمَ والرّاءَ والعَيْنَ والطّاءَ والقافَ والياءَ والنُّونَ، ومِنَ الشَّدِيدَةِ نِصْفَها الألِفَ والكافَ والطّاءَ والنُّونَ، ومِنَ الرِّخْوَةِ نِصْفَها اللّامَ والمِيمَ والرّاءَ والصّادَ والهاءَ والعَيْنَ والسِّينَ والحاءَ والياءَ والنُّونَ، ومِنَ المُطْبَقَةِ نِصْفَها الصّادَ والطّاءَ، ومِنَ المُنْفَتِحَةِ نِصْفَها الألِفَ واللّامَ والمِيمَ والرّاءَ والكافَ والهاءَ والعَيْنَ والسِّينَ والحاءَ والقافَ والياءَ والنُّونَ، ومِنَ المُسْتَعْلِيَةِ نِصْفَها القافَ والصّادَ والطّاءَ، ومِنَ المُنْخَفِضَةِ نِصْفَها الألِفَ واللّامَ والمِيمَ والرّاءَ والكافَ والهاءَ والتّاءَ والعَيْنَ والسِّينَ والحاءَ والنُّونَ، ومِن حُرُوفِ القَلْقَلَةِ نَصْفَها القافَ والطّاءَ. ثُمَّ إذا اسْتَقْرَيْتَ الكَلِمَ وتَراكِيبَها رَأيْتَ الحُرُوفَ الَّتِي ألْغى اللَّهُ ذِكْرَها مِن هَذِهِ الأجْناسِ المَعْدُودَةِ مَكْنُوزَةً بِالمَذْكُورَةِ مِنها، فَسُبْحانَ الَّذِي دَقَّتْ في كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَتُهُ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ وجُلَّهُ يَنْزِلُ مَنزِلَةَ كُلِّهِ، وهو المُطابِقُ لِلَطائِفِ التَّنْزِيلِ واخْتِصاراتِهِ، فَكَأنَّ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ عَدَّدَ عَلى العَرَبِ الألْفاظَ الَّتِي مِنها تَراكِيبُ كَلامِهِمْ إشارَةً إلى ما ذَكَرْتُ مِنَ التَّبْكِيتِ لَهم وإلْزامِ الحُجَّةِ إيّاهم، وما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعَمَّدَ بِالذِّكْرِ مِن حُرُوفِ المُعْجَمِ أكْثَرَها وُقُوعًا في تَراكِيبِ الكَلِمِ، أنَّ الألِفَ واللّامَ لَمّا تَكاثَرَ وُقُوعُهُما فِيها جاءَتا في مُعْظَمِ هَذِهِ الفَواتِحِ مُكَرَّرَتَيْنِ، وهي فَواتِحُ سُورَةِ البَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ والرُّومِ والعَنْكَبُوتِ ولُقْمانَ والسَّجْدَةِ والأعْرافِ والرَّعْدِ ويُونُسَ وإبْراهِيمَ وهُودٍ ويُوسُفَ والحِجْرِ انْتَهى. وأقُولُ: هَذا التَّدْقِيقُ لا يَأْتِي بِفائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِها، وبَيانُهُ أنَّهُ إذا كانَ المُرادُ مِنهُ إلْزامَ الحُجَّةِ والتَّبْكِيتِ كَما قالَ: فَهَذا مُتَيَسِّرٌ بِأنْ يُقالَ لَهم: هَذا القُرْآنُ هو مِنَ الحُرُوفِ الَّتِي تَتَكَلَّمُونَ بِها لَيْسَ هو مِن حُرُوفٍ مُغايِرَةٍ لَها، فَيَكُونُ هَذا تَبْكِيتًا وإلْزامًا يَفْهَمُهُ كُلُّ سامِعٍ مِنهم مِن دُونِ إلْغازٍ وتَعْمِيَةٍ وتَفْرِيقٍ لِهَذِهِ الحُرُوفِ في فَواتِحِ تِسْعٍ وعِشْرِينَ سُورَةً، فَإنَّ هَذا مَعَ ما فِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ الَّذِي لا يَسْتَوْفِيهِ سامِعُهُ إلّا بِسَماعِ جَمِيعِ هَذِهِ الفَواتِحِ، هو أيْضًا مِمّا لا يَفْهَمُهُ أحَدٌ مِنَ السّامِعِينَ ولا يَتَعَقَّلُ شَيْئًا مِنهُ فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ تَبْكِيتًا لَهُ وإلْزامًا لِلْحُجَّةِ أيًّا كانَ، فَإنَّ ذَلِكَ هو أمْرٌ وراءَ الفَهْمِ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ ولَمْ يَفْهَمِ السّامِعُ هَذا، ولا ذَكَرَ أهْلُ العِلْمِ عَنْ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الجاهِلِيَّةِ الَّذِينَ وقَعَ التَّحْدِيثُ لَهم بِالقُرْآنِ أنَّهُ بَلَغَ فَهْمُهُ إلى بَعْضِ هَذا فَضْلًا عَنْ كُلِّهِ. ثُمَّ كَوْنُ هَذِهِ الحُرُوفِ مُشْتَمِلَةً عَلى النِّصْفِ مِن جَمِيعِ الحُرُوفِ الَّتِي تَرَكَّبَتْ لُغَةُ العَرَبِ مِنها، وذَلِكَ النِّصْفُ مُشْتَمِلٌ عَلى أنْصافِ تِلْكَ الأنْواعِ مِنَ الحُرُوفِ المُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الأوْصافِ هو أمْرٌ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ فائِدَةٌ لِجاهِلِيٍّ ولا إسْلامِيٍّ ولا مُقِرٍّ ولا مُنْكِرٍ ولا مُسَلِّمٍ ولا مُعارِضٍ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَقْصِدًا مِن مَقاصِدِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ، الَّذِي أنْزَلَ كِتابَهُ لِلْإرْشادِ إلى شَرائِعِهِ والهِدايَةِ بِهِ. وهَبْ أنَّ هَذِهِ صِناعَةٌ عَجِيبَةٌ ونُكْتَةٌ غَرِيبَةٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمّا يَتَّصِفُ بِفَصاحَةٍ ولا بَلاغَةٍ حَتّى يَكُونَ مُفِيدًا أنَّهُ كَلامٌ بَلِيغٌ أوْ فَصِيحٌ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ الواقِعَةَ في الفَواتِحِ لَيْسَتْ مِن جِنْسِ كَلامِ العَرَبِ حَتّى يَتَّصِفَ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، وغايَةُ ما هُناكَ أنَّها مِن جِنْسِ حُرُوفِ كَلامِهِمْ ولا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِيما ذُكِرَ. وأيْضًا لَوْ فُرِضَ أنَّها كَلِماتٌ مُتَرَكِّبَةٌ بِتَقْدِيرِ شَيْءٍ قَبْلَها أوْ بَعْدَها لَمْ يَصِحَّ وصْفُها بِذَلِكَ، لِأنَّها تَعْمِيَةٌ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ لِلسّامِعِ إلّا بِأنْ يَأْتِيَ مَن يُرِيدُ بَيانَها بِمِثْلِ ما يَأْتِي بِهِ مَن أرادَ بَيانَ الألْغازِ والتَّعْمِيَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ بَلْ مِن عَكْسِهِما وضِدِّ رَسْمِهِما. وإذا عَرَفْتَ هَذا فاعْلَمْ أنَّ مَن تَكَلَّمَ في بَيانِ مَعانِي هَذِهِ الحُرُوفِ جازِمًا بِأنَّ ذَلِكَ هو ما أرادَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، فَقَدْ غَلِطَ أقْبَحَ الغَلَطِ ورَكِبَ في فَهْمِهِ ودَعْواهُ أعْظَمَ الشَّطَطِ، فَإنَّهُ إنْ كانَ تَفْسِيرُهُ لَها بِما فَسَّرَها بِهِ راجِعًا إلى لُغَةِ العَرَبِ وعُلُومِها فَهو كَذِبٌ بَحْتٌ، فَإنَّ العَرَبَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وإذا سَمِعَهُ السّامِعُ مِنهم كانَ مَعْدُودًا عِنْدَهُ مِنَ الرَّطانَةِ، ولا يُنافِي ذَلِكَ أنَّهم قَدْ يَقْتَصِرُونَ عَلى أحْرُفٍ أوْ حُرُوفٍ مِنَ الكَلِمَةِ الَّتِي يُرِيدُونَ النُّطْقَ بِها، فَإنَّهم لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلّا بَعْدَ أنْ تَقَدَّمَهُ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ ويُفِيدُ مَعْناهُ، بِحَيْثُ لا يَلْتَبِسُ عَلى سامِعِهِ كَمِثْلِ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ومِن هَذا القَبِيلِ ما يَقَعُ مِنهم مِنَ التَّرْخِيمِ، وأيْنَ هَذِهِ الفَواتِحُ الواقِعَةُ في أوائِلِ السُّوَرِ مِن هَذا ؟ وإذا تَقَرَّرَ لَكَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ اسْتِفادَةُ ما ادَّعَوْهُ مِن لُغَةِ العَرَبِ وعُلُومِها لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ إلّا أحَدُ أمْرَيْنِ: الأوَّلُ التَّفْسِيرُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ الَّذِي ورَدَ النَّهْيُ عَنْهُ والوَعِيدُ عَلَيْهِ، وأهْلُ العِلْمِ أحَقُّ النّاسِ بِتَجَنُّبِهِ والصَّدِّ عَنْهُ والتَّنَكُّبِ عَنْ طَرِيقِهِ، وهم أتْقى لِلَّهِ سُبْحانَهُ مِن أنْ يَجْعَلُوا كِتابَ اللَّهِ سُبْحانَهُ مِلْعَبَةً لَهم يَتَلاعَبُونَ بِهِ ويَضَعُونَ حَماقاتِ أنْظارِهِمْ وخُزَعْبَلاتِ أفْكارِهِمْ عَلَيْهِ. الثّانِي التَّفْسِيرُ بِتَوْقِيفٍ عَنْ صاحِبِ الشَّرْعِ، وهَذا هو المَهْيَعُ الواضِحُ والسَّبِيلُ القَوِيمُ، بَلِ الجادَّةُ الَّتِي ما سِواها مَرْدُومٌ والطَّرِيقَةُ العامِرَةُ الَّتِي ما عَداها مَعْدُومٌ، فَمَن وجَدَ شَيْئًا مِن هَذا فَغَيْرُ مُلْزَمٍ أنْ يَقُولَ بِمِلْءِ فِيهِ ويَتَكَلَّمَ بِما وصَلَ إلَيْهِ عِلْمُهُ، ومَن لَمْ يَبْلُغْهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ فَلْيَقُلْ لا أدْرِي، أوِ اللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ طَلَبِ فَهْمِ المُتَشابِهِ ومُحاوَلَةِ الوُقُوفِ عَلى عِلْمِهِ مَعَ كَوْنِهِ ألْفاظًا عَرَبِيَّةً وتَراكِيبَ مَفْهُومَةً، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَتَبُّعَ ذَلِكَ صَنِيعَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَكَيْفَ بِما نَحْنُ بِصَدَدِهِ ؟ فَإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُقالَ فِيهِ إنَّهُ مُتَشابِهُ المُتَشابِهِ عَلى فَرْضِ أنَّ لِلْفَهْمِ إلَيْهِ سَبِيلًا، ولِكَلامِ العَرَبِ فِيهِ مَدْخَلًا، فَكَيْفَ وهو خارِجٌ عَنْ ذَلِكَ عَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وانْظُرْ كَيْفَ فَهِمَ اليَهُودُ عِنْدَ سَماعِ ﴿الم﴾ فَإنَّهم لَمّا لَمْ يَجِدُوها عَلى نَمَطِ لُغَةِ العَرَبِ فَهِمُوا أنَّ الحُرُوفَ المَذْكُورَةَ رَمْزٌ إلى ما يَصْطَلِحُونَ عَلَيْهِ مِنَ العَدَدِ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ لَها، كَما أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: مَرَّ أبُو ياسِرِ بْنُ أخْطَبَ في رِجالٍ مِن يَهُودَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وهو يَتْلُو فاتِحَةَ (p-٢٤)سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ﴾ فَأتى أخاهُ حُيَيَّ بْنَ أخْطَبَ في رِجالٍ مِنَ اليَهُودِ فَقالَ: تَعْلَمُونَ واللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيما أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾، فَقالَ: أنْتَ سَمِعْتَهُ ؟ فَقالَ: نَعَمْ، فَمَشى حُيَيٌّ في أُولَئِكَ النَّفَرِ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ ألَمْ تَذْكُرْ أنَّكَ تَتْلُو فِيما أُنْزِلَ عَلَيْكَ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ قالَ: بَلى، قالُوا: أجاءَكَ بِهَذا جِبْرِيلُ مِن عِنْدِ اللَّهِ ؟ قالَ: نَعَمْ. قالُوا: لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَكَ الأنْبِياءَ ما نَعْلُمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنهم ما مُدَّةُ مُلْكِهِ وما أجَلُ أُمَّتِهِ غَيْرَكَ، فَقالَحُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ: وأقْبَلَ عَلى مَن كانَ مَعَهُ الألِفُ واحِدٌ واللّامُ ثَلاثُونَ والمِيمُ أرْبَعُونَ، فَهَذِهِ إحْدى وسَبْعُونَ سَنَةً، أفَتَدْخُلُونَ في دِينِ نَبِيٍّ إنَّما مُدَّةُ مُلْكِهِ وأجَلُ أُمَّتِهِ إحْدى وسَبْعُونَ سَنَةً ؟ ثُمَّ أقْبَلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ هَلْ مَعَ هَذا غَيْرُهُ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: وما ذاكَ ؟ قالَ: ﴿المص﴾، قالَ: هَذِهِ أثْقَلُ وأطْوَلُ الألِفُ واحِدَةٌ واللّامُ ثَلاثُونَ والمِيمُ أرْبَعُونَ والصّادُ تِسْعُونَ، فَهَذِهِ إحْدى وسِتُّونَ ومِائَةُ سَنَةٍ، هَلْ مَعَ هَذا يا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: وما ذاكَ ؟ قالَ: ﴿الر﴾ قالَ: هَذِهِ أثْقَلُ وأطْوَلُ الألِفُ واحِدَةٌ واللّامُ ثَلاثُونَ والرّاءُ مِائَتانِ، هَذِهِ إحْدى وثَلاثُونَ سَنَةً ومِائَتانِ، فَهَلْ مَعَ هَذا غَيْرُهُ ؟ قالَ: نَعَمْ ﴿المر﴾ قالَ: فَهَذِهِ أثْقَلُ وأطْوَلُ الألِفُ واحِدَةٌ واللّامُ ثَلاثُونَ والمِيمُ أرْبَعُونَ والرّاءُ مِائَتانِ، فَهَذِهِ إحْدى وسَبْعُونَ سَنَةً ومِائَتانِ، ثُمَّ قالَ: لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنا أمْرُكَ يا مُحَمَّدُ حَتّى ما نَدْرِي قَلِيلًا أُعْطِيتَ أمْ كَثِيرًا ثُمَّ قامُوا، فَقالَ أبُو ياسِرٍ لِأخِيهِ حُيَيٍّ ومَن مَعَهُ مِنَ الأحْبارِ: ما يُدْرِيكم لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذا لِمُحَمَّدٍ كُلِّهِ إحْدى وسَبْعُونَ وإحْدى وسِتُّونَ ومِائَةٌ وإحْدى وثَلاثُونَ ومِائَتانِ وإحْدى وسَبْعُونَ ومِائَتانِ، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وأرْبَعٌ وثَلاثُونَ سَنَةً، فَقالُوا: لَقَدْ تَشابَهَ عَلَيْنا أمْرُهُ، فَيَزْعُمُونَ أنَّ هَذِهِ الآياتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] فانْظُرْ ما بَلَغَتْ إلَيْهِ أفْهامُهم مِن هَذا الأمْرِ المُخْتَصِّ بِهِمْ مِن عَدَدِ الحُرُوفِ مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِن لُغَةِ العَرَبِ في شَيْءٍ، وتَأمَّلْ أيَّ مَوْضِعٍ أحَقُّ بِالبَيانِ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِن هَذا المَوْضِعِ، فَإنَّ هَؤُلاءِ المَلاعِينَ قَدْ جَعَلُوا ما فَهِمُوهُ عِنْدَ سَماعِ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ مِن ذَلِكَ العَدَدِ مُوجِبًا لِلتَّثْبِيطِ عَنِ الإجابَةِ لَهُ والدُّخُولِ في شَرِيعَتِهِ، فَلَوْ كانَ لِذَلِكَ مَعْنًى يُعْقَلُ ومَدْلُولٌ يُفْهَمُ، لَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ما ظَنُّوهُ بادِئَ بَدْءٍ حَتّى لا يَتَأثَّرَ عَنْهُ ما جاءُوا بِهِ مِنَ التَّشْكِيكِ عَلى مَن مَعَهم. فَإنْ قُلْتَ: هَلْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في هَذِهِ الفَواتِحِ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ ؟ قُلْتُ: لا أعْلَمُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ تَكَلَّمَ في شَيْءٍ مِن مَعانِيها، بَلْ غايَةُ ما ثَبَتَ عَنْهُ هو مُجَرَّدُ عَدَدِ حُرُوفِها، فَأخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «مَن قَرَأ حَرْفًا مِن كِتابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها، لا أقُولُ ﴿الم﴾ حَرْفٌ، ولَكِنْ ألِفٌ حَرْفٌ ولامٌ حَرْفٌ ومِيمٌ حَرْفٌ» ولَهُ طُرُقٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والبَزّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ والأشْجَعِيِّ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا. فَإنْ قُلْتَ: هَلْ رُوِيَ عَنِ الصَّحابَةِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ بِإسْنادٍ مُتَّصِلٍ بِقائِلِهِ أمْ لَيْسَ إلّا ما تَقَدَّمَ مِن حِكايَةِ القُرْطُبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعَلِيٍّ ؟ قُلْتُ: قَدْ رَوى ابْنُ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيُّ في كِتابِ الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: الم حَرْفٌ اشْتُقَّتْ مِن حُرُوفِ اسْمِ اللَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿الم﴾ و﴿حم﴾ و﴿ن﴾ قالَ: اسْمٌ مُقَطَّعٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في كِتابِ الأسْماءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا في قَوْلِهِ، ﴿الم﴾، و ﴿المص﴾، و ﴿المر﴾، و ﴿كهيعص﴾، و ﴿طه﴾، و ﴿طسم﴾، و ﴿طس﴾ و ﴿يس﴾، و ﴿ص﴾، و﴿حم﴾، و ﴿ق﴾، و ﴿ن﴾، قالَ: هو قَسَمٌ أقْسَمَهُ اللَّهُ وهو مِن أسْماءِ اللَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ " ﴿الم﴾ " قالَ: هي اسْمُ اللَّهِ الأعْظَمُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ في قَوْلِهِ: " ﴿الم﴾ " قالَ: ألِفٌ مِفْتاحُ اسْمِهِ اللَّهِ، ولامٌ مِفْتاحُ اسْمِهِ لَطِيفٍ، ومِيمٌ مِفْتاحُ اسْمِهِ مَجِيدٍ. وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذِهِ التَّفاسِيرِ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ فِيهِمْ عِكْرِمَةُ والشَّعْبِيُّ والسُّدِّيُّ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ والحَسَنُ. فَإنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِداءُ بِأحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ ؟ قالَ في تَفْسِيرِ شَيْءٍ مِن هَذِهِ الفَواتِحِ قَوْلًا صَحَّ إسْنادُهُ إلَيْهِ. قُلْتُ: لا لِما قَدَّمْنا، إلّا أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ قالَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ أخَذَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. فَإنْ قُلْتَ: هَذا مِمّا لا مَجالَ لِلِاجْتِهادِ فِيهِ ولا مَدْخَلَ لِلُغَةِ العَرَبِ فَلِمَ لا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ؟ قُلْتُ: تَنْزِيلُ هَذا مَنزِلَةَ المَرْفُوعِ، وإنْ قالَ بِهِ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الأُصُولِ وغَيْرِهِمْ، فَلَيْسَ مِمّا يَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُ المُنْصِفِينَ، ولا سِيَّما إذا كانَ في مِثْلِ هَذا المَقامِ وهو التَّفْسِيرُ لِكَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، فَإنَّهُ دُخُولٌ في أعْظَمِ الخَطَرِ بِما لا بُرْهانَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ إلّا مُجَرَّدَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الصَّحابِيِّ كُلَّ البُعْدِ أنْ يَقُولَ بِمَحْضِ رَأْيِهِ فِيما لا مَجالَ فِيهِ لِلِاجْتِهادِ، ولَيْسَ مُجَرَّدُ هَذا الِاسْتِبْعادِ مُسَوِّغًا لِلْوُقُوعِ في خَطَرِ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ. عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يَذْهَبَ بَعْضُ الصَّحابَةِ إلى تَفْسِيرِ بَعْضِ المُتَشابِهِ كَما تَجِدُهُ كَثِيرًا في تَفاسِيرِهِمُ المَنقُولَةِ عَنْهم ويَجْعَلَ هَذِهِ الفَواتِحَ مِن جُمْلَةِ المُتَشابِهِ، ثُمَّ هاهُنا مانِعٌ آخَرُ، وهو أنَّ المَرْوِيَّ عَنِ الصَّحابَةِ في هَذا مُخْتَلِفٌ مُتَناقِضٌ، فَإنْ عَمِلْنا بِما قالَهُ أحَدُهم دُونَ الآخَرِ كانَ تَحَكُّمًا لا وجْهَ لَهُ، وإنْ عَمِلْنا بِالجَمِيعِ كانَ عَمَلًا بِما هو مُخْتَلِفٌ مُتَناقِضٌ ولا يَجُوزُ. ثُمَّ هاهُنا مانِعٌ غَيْرُ هَذا المانِعِ، وهو أنَّهُ لَوْ كانَ شَيْءٌ لِما قالُوهُ مَأْخُوذًا عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لاتَّفَقُوا عَلَيْهِ ولَمْ يَخْتَلِفُوا كَسائِرِ ما هو مَأْخُوذٌ عَنْهُ، فَلَمّا اخْتَلَفُوا في هَذا عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ لَوْ كانَ عِنْدَهم شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في هَذا لَما تَرَكُوا حِكايَتَهُ عَنْهُ ورَفْعَهُ إلَيْهِ، لا سِيَّما عِنْدَ اخْتِلافِهِمْ واضْطِرابِ أقْوالِهِمْ في مِثْلِ هَذا الكَلامِ الَّذِي لا مَجالَ لِلُغَةِ العَرَبِ فِيهِ ولا مَدْخَلَ لَها. والَّذِي أراهُ لِنَفْسِي ولِكُلِّ مَن أحَبَّ السَّلامَةَ واقْتَدى بِسَلَفِ الأُمَّةِ أنْ لا يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، مَعَ الِاعْتِرافِ بِأنَّ في إنْزالِها حِكْمَةً لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولا تَبْلُغُها عُقُولُنا ولا تَهْتَدِي إلَيْها أفْهامُنا، وإذا انْتَهَيْتَ إلى السَّلامَةِ في (p-٢٥)مَداكَ فَلا تُجاوِزْهُ، وسَيَأْتِي لَنا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] كَلامٌ طَوِيلُ الذُّيُولِ، وتَحْقِيقُ تَقَبُّلِهِ صَحِيحاتُ الأفْهامِ وسَلِيماتُ العُقُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب