الباحث القرآني

﴿الم﴾ تَحَيَّرَ المُفَسِّرُونَ في مَحَلِّ هاتِهِ الحُرُوفِ الواقِعَةِ في أوَّلٍ هاتِهِ السُّوَرِ، وفي فَواتِحِ سُوَرٍ أُخْرى عِدَّةٍ جَمِيعُها تِسْعٌ وعِشْرُونَ سُورَةً ومُعْظَمُها في السُّوَرِ المَكِّيَّةِ، وكانَ بَعْضُها في ثانِي سُورَةٍ نَزَلَتْ وهي ن والقَلَمِ، وأخْلِقْ بِها أنْ تَكُونَ مَثارَ حَيْرَةٍ ومَصْدَرَ أقْوالٍ مُتَعَدِّدَةٍ وأبْحاثٍ كَثِيرَةٍ، ومَجْمُوعُ ما وقَعَ مِن حُرُوفِ الهِجاءِ أوائِلُ السُّوَرِ أرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وهي نِصْفُ حُرُوفِ الهِجاءِ وأكْثَرُ السُّوَرِ الَّتِي وقَعَتْ فِيها هَذِهِ الحُرُوفُ: السُّوَرُ المَكِّيَّةُ عَدا البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ، والحُرُوفُ الواقِعَةُ في السُّوَرِ هي: ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي، بَعْضُها تَكَرَّرَ في سُوَرٍ وبَعْضُها لَمْ يَتَكَرَّرْ وهي مِنَ القُرْآنِ لا مَحالَةَ ومِنَ المُتَشابِهِ في تَأْوِيلِها. ولا خِلافَ أنَّ هاتِهِ الفَواتِحَ حِينَ يَنْطِقُ بِها القارِئُ أسْماءُ الحُرُوفِ التَّهَجِّي الَّتِي يُنْطَقُ في الكَلامِ بِمُسَمَّياتِها وأنَّ مُسَمَّياتِها الأصْواتُ المُكَيَّفَةُ بِكَيْفِيّاتٍ خاصَّةٍ تَحْصُلُ في مَخارِجِ الحُرُوفِ ولِذَلِكَ إنَّما يَقُولُ القارِئُ (ألِفْ لامْ مِيمْ) مَثَلًا ولا يَقُولُ (ألَمَ) وإنَّما كَتَبُوها في المَصاحِفِ بِصُوَرِ الحُرُوفِ الَّتِي يُتَهَجّى بِها في الكَلامِ الَّتِي يَقُومُ رَسْمُ شَكْلِها مَقامَ المَنطُوقِ بِهِ في الكَلامِ ولَمْ يَكْتُبُوها بِدَوالِّ ما يَقْرَءُونَها بِهِ في القُرْآنِ لِأنَّ المَقْصُودَ التَّهَجِّي بِها وحُرُوفُ التَّهَجِّي تُكْتَبُ بِصُوَرِها لا بِأسْمائِها. وقِيلَ لِأنَّ رَسْمَ المُصْحَفِ سُنَّةٌ لا يُقاسُ عَلَيْهِ وهَذا أوْلى إنَّهُ لَأشْمَلُ لِلْأقْوالِ المُنْدَرِجَةِ تَحْتَها، وإلى هُنا خَلُصَ أنَّ الأرْجَحَ مِن تِلْكَ الأقْوالِ ثَلاثَةٌ وهي كَوْنُها - تِلْكَ الحُرُوفُ - لِتُبَكِّتَ المُعانِدِينَ وتَسْجِيلًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ المُعارَضَةِ، أوْ كَوْنِها أسْماءً لِلسُّوَرِ الواقِعَةِ هي فِيها، أوْ كَوْنِها أقْسامًا أقْسَمَ بِها لِتَشْرِيفِ قَدْرِ الكِتابَةِ، وتَنْبِيهِ العَرَبِ الأُمِّيِّينَ إلى (p-٢٠٧)فَوائِدِ الكِتابَةِ لِإخْراجِهِمْ مِن حالَةِ الأُمِّيَّةِ، وأرْجَحُ هَذِهِ الأقْوالِ الثَّلاثَةِ هو أوَّلُها، فَإنَّ الأقْوالَ الثّانِيَ والسّابِعَ والثّامِنَ والثّانِيَ عَشَرَ والخامِسَ عَشَرَ والسّادِسَ عَشَرَ يُبْطِلُها أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ لَوْ كانَتْ مُقْتَضَبَةً مِن أسْماءٍ أوْ كَلِماتٍ لَكانَ حَقٌّ أنْ يُنْطَقَ بِمُسَمَّياتِها لا بِأسْمائِها؛ لِأنَّ رَسْمَ المُصْحَفِ سُنَّةٌ لا يُقاسُ عَلَيْها، وهَذا أوْلى لِأنَّهُ أشْمَلُ لِلْأقْوالِ. وعُرِفَتِ اسْمِيَّتُها مِن دَلِيلَيْنِ: أحَدُهُما اعْتِوارُ أحْوالِ الأسْماءِ عَلَيْها مِثْلَ التَّعْرِيفِ حِينَ تَقُولُ: الألِفُ، والباءُ، ومِثْلُ الجَمْعِ حِينَ تَقُولُ: الجِيماتُ، وحِينَ الوَصْفِ حِينَ تَقُولُ: ألِفٌ مَمْدُودَةٌ والثّانِي ما حَكاهُ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ: قالَ الخَلِيلُ يَوْمًا وسَألَ أصْحابَهُ كَيْفَ تَلْفِظُونَ بِالكافِ الَّتِي في لَكَ والباءِ الَّتِي في ضَرْبٍ فَقِيلَ نَقُولُ: كافْ. باءْ. فَقالَ: إنَّما جِئْتُمْ بِالِاسْمِ ولَمْ تَلْفِظُوا بِالحَرْفِ وقالَ أقُولُ كِهِ، وبِهِ يَعْنِي بِهاءٍ وقَعَتْ في آخِرِ النُّطْقِ بِهِ لِيَعْتَمِدَ عَلَيْها اللِّسانُ عِنْدَ النُّطْقِ إذا بَقِيَتْ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ لا يَظْهَرُ في النُّطْقِ بِهِ مُفْرَدًا. والَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِن أقْوالِ العُلَماءِ بَعْدَ حَذْفِ مُتَداخِلِهِ وتَوْحِيدِ مُتَشاكِلِهِ يُؤَوَّلُ إلى واحِدٍ وعِشْرِينَ قَوْلًا ولِشِدَّةِ خَفاءِ المُرادِ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ لَمْ أرَ بُدًّا مِنَ اسْتِقْصاءِ الأقْوالِ عَلى أنَّنا نَضْبِطُ انْتِشارَها بِتَنْوِيعِها إلى ثَلاثَةِ أنْواعٍ: النَّوْعُ الأوَّلُ يَرْجِعُ إلى أنَّها رُمُوزٌ اقْتُضِبَتْ مِن كَلِمٍ أوْ جُمَلٍ، فَكانَتْ أسْرارًا يَفْتَحُ غَلْقَها مَفاتِيحُ أهْلِ المَعْرِفَةِ ويَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذا النَّوْعِ ثَمانِيَةُ أقْوالٍ: الأوَّلُ أنَّها عِلْمٌ اسْتَأْثَرَ (اللَّهُ تَعالى) بِهِ ونُسِبَ هَذا إلى الخُلَفاءِ الأرْبَعَةِ في رِواياتٍ ضَعِيفَةٍ ولَعَلَّهم يُثْبِتُونَ إطْلاعَ اللَّهِ عَلى المَقْصُودِ مِنها رَسُولِهِ ﷺ وقالَهُ الشَّعْبِيُّ وسُفْيانُ. والثّانِي أنَّها حُرُوفٌ مُقْتَضَبَةٌ مِن أسْماءٍ وصِفاتٍ لِلَّهِ تَعالى المُفْتَتَحَةُ بِحُرُوفٍ مُماثِلَةٍ لِهَذِهِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ رَواهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ القُرَظِيِّ أوِ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ فَـ (الم) مَثَلًا. الألِفُ إشارَةٌ إلى أحَدٍ أوْ أوَّلٍ أوْ أزَلِيٍّ، واللّامُ إلى لَطِيفٍ، والمِيمُ إلى مَلِكٍ أوْ مَجِيدٍ، ونَحْوُ ذَلِكَ، وعَلى هَذا يُحْتاجُ في بَيانِها إلى تَوْقِيفٍ وأنّى لَهم بِهِ، الثّالِثُ أنَّها رُمُوزٌ لِأسْماءِ اللَّهِ تَعالى وأسْماءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ والمَلائِكَةُ الم مَثَلًا، الألِفُ مِنَ اللَّهِ، واللّامُ مِن جِبْرِيلَ والمِيمُ مِن مُحَمَّدٍ، قالَهُ الضَّحّاكُ، ولا بُدَّ مِن تَوْقِيفٍ في كُلِّ فاتِحَةٍ مِنها، ولَعَلَّنا سَنُنَبِّهُ عَلى ذَلِكَ في مَواضِعِهِ، الرّابِعُ جَزَمَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ في البابِ الثّامِنِ والتِّسْعِينَ والمِائَةِ في الفَصْلِ ٢٧ مِنهُ مِن كِتابِهِ الفُتُوحاتِ أنَّ هاتِهِ الحُرُوفَ المُقَطَّعَةَ في أوائِلِ (p-٢٠٨)السُّوَرِ أسْماءٌ لِلْمَلائِكَةِ وأنَّها إذا تُلِيَتْ كانَتْ كالنِّداءِ لِمَلائِكَتِها فَتُصْغِي أصْحابُ تِلْكَ الأسْماءِ إلى ما يَقُولُهُ التّالِي بَعْدَ النُّطْقِ بِها، فَيَقُولُونَ صَدَقْتَ إنْ كانَ ما بَعْدَها خَبَرٌ، ويَقُولُونَ هَذا مُؤْمِنٌ حَقًّا نَطَقَ حَقًّا وأخْبَرَ بِحَقٍّ فَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وهَذا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ وهو دَعْوى. الخامِسُ أنَّها رُمُوزٌ كُلُّها لِأسْماءِ النَّبِيءِ ﷺ وأوْصافِهِ خاصَّةً قالَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صالِحٍ المَعْرُوفُ بِابْنِ مُلُوكَةَ التُّونِسِيِّ في رِسالَةٍ لَهُ قالَ إنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِن حُرُوفِ الهِجاءِ في فَواتِحِ السُّوَرِ مُكَنًّى بِهِ عَنْ طائِفَةٍ مِن أسْمائِهِ الكَرِيمَةِ وأوْصافِهِ الخاصَّةِ، فالألِفُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ جُمْلَةِ أسْمائِهِ المُفْتَتَحَةِ بِالألِفِ كَأحْمَدَ وأبِي القاسِمِ، واللّامُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ صِفاتِهِ مِثْلَ لُبِّ الوُجُودِ، والمِيمُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ ونَحْوَهُ مِثْلَ مُبَشِّرٍ ومُنْذِرٍ، فَكُلُّها مُنادى بِحَرْفِ نِداءٍ مُقَدَّرٍ بِدَلِيلِ ظُهُورِ ذَلِكَ الحَرْفِ في يس. ولَمْ يَعْزُ هَذا القَوْلَ إلى أحَدٍ، وعَلَّقَ عَلى هَذِهِ الرِّسالَةِ تِلْمِيذُهُ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدٌ مُعاوِيَةُ تَعْلِيقَةً أكْثَرَ فِيها مِنَ التَّعْدادِ، ولَيْسَتْ مِمّا يَنْثَلِجُ لِمَباحِثِهِ الفُؤادُ وهي وأصْلُها مَوْجُودَةٌ بِخَزْنَةِ جامِعِ الزَّيْتُونَةِ بِتُونِسَ عَدَدَ ٥١٤ ويَرُدُّ هَذا القَوْلَ التِزامُ حَذْفِ حَرْفِ النِّداءِ وما قالَهُ مِن ظُهُورِهِ في يس مَبْنِيٌّ عَلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّ يس بِمَعْنى يا سَيِّدُ وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الياءَ فِيهِ حَرْفٌ مِن حُرُوفِ الهِجاءِ ولِأنَّ الشَّيْخَ نَفْسَهُ عَدَّ يس بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الحُرُوفِ الدّالَّةِ عَلى الأسْماءِ مَدْلُولًا لِنَحْوِ الياءِ مِن كهيعص القَوْلُ السّادِسُ أنَّها رُمُوزٌ لِمُدَّةِ دَوامِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِحِسابِ الجُمَلِ قالَهُ أبُو العالِيَةِ أخْذًا بِقِصَّةٍ رَواها ابْنُ إسْحاقَ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وثّابٍ قالَ: «جاءَ أبُو ياسِرِ بْنُ أخْطَبَ وحُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ وكَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ فَسَألُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الم وقالُوا: هَذا أجَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ السِّنِينَ إحْدى وسَبْعُونَ سَنَةً فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ وقالَ لَهم: ”ص“ و”المر“ فَقالُوا اشْتَبَهَ عَلَيْنا الأمْرُ فَلا نَدْرِي أبِالقَلِيلِ نَأْخُذُ أمْ بِالكَثِيرِ» اهـ. ولَيْسَ في جَوابِ رَسُولِ اللَّهِ إيّاهم بِعِدَّةِ حُرُوفٍ أُخْرى مِن هَذِهِ الحُرُوفِ المُتَقَطِّعَةِ في أوائِلِ السُّوَرِ تَقْرِيرٌ لِاعْتِبارِها رُمُوزًا لِأعْدادِ مُدَّةِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وإنَّما أرادَ إبْطالَ ما فَهِمُوهُ بِإبْطالِ أنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِزَعْمِهِمْ عَلى نَحْوِ (p-٢٠٩)الطَّرِيقَةِ المُسَمّاةِ بِالنَّقْضِ في الجَدَلِ ومَرْجِعُها إلى المَنعِ والمانِعِ لا مَذْهَبَ لَهُ. وأمّا ضَحِكُهُ ﷺ فَهو تَعَجُّبٌ مِن جَهْلِهِمْ. القَوْلُ السّابِعُ أنَّها رُمُوزٌ كُلُّ حَرْفٍ رَمَزَ إلى كَلِمَةٍ فَنَحْوُ ”الم“ أنا اللَّهُ أعْلَمُ، و”المر“ أنا اللَّهُ أرى، و”المص“ أنا اللَّهُ أعْلَمُ وأفْصِلُ. رَواهُ أبُو الضُّحى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ويُوهِنُهُ أنَّهُ لا ضابِطَ لَهُ لِأنَّهُ أخَذَ مَرَّةً بِمُقابَلَةِ الحَرْفِ بِحَرْفِ أوَّلِ الكَلِمَةِ، ومَرَّةً بِمُقابَلَتِهِ بِحَرْفٍ وسَطِ الكَلِمَةِ أوْ آخِرِها. ونَظَّرُوهُ بِأنَّ العَرَبَ قَدْ تَتَكَلَّمُ بِالحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ بَدَلًا مِن كَلِماتٍ تَتَألَّفُ مِن تِلْكَ الحُرُوفِ نَظْمًا ونَثْرًا، مِن ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎بِالخَيْرِ خَيِّراتٌ وإنْ شَرٌّ فا ولا أُرِيدُ الشَّرَّ إلّا أنْ تا أرادَ وإنْ شَرٌّ فَشَرٍّ وأرادَ إلّا أنْ تَشا، فَأتى بِحَرْفٍ مِن كُلِّ جُمْلَةٍ. وقالَ الآخَرُ قُرْطُبِيٌّ: ؎ناداهم ألا الجِمُوا ألا تا ∗∗∗ قالُوا جَمِيعًا كُلُّهم ألا فا أرادَ بِالحَرْفِ الأوَّلِ ألا تَرْكَبُونَ، وبِالثّانِي ألا فارْكَبُوا. وقالَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ عامِلُ عُثْمانَ يُخاطِبُ عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ: ؎قُلْتُ لَها قِفِي لَنا قالَتْ قافْ ∗∗∗ لا تَحْسِبَنِّي قَدْ نَسِيتُ الإيجافْ أرادَ قالَتْ وقَفْتُ. وفي الحَدِيثِ «مَن أعانَ عَلى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ» قالَ شَقِيقٌ: هو أنْ يَقُولَ اُقْ مَكانَ اقْتُلْ. وفي الحَدِيثِ أيْضًا «كَفى بِالسَّيْفِ شا» أيْ شاهِدًا. وفي كامِلِ المُبَرِّدِ مِن قَصِيدَةٍ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسى القُمِّيِّ وهو مُوَلَّدٌ: ؎ولُبْسُ العَجاجَةِ والخافِقا ∗∗∗ تِ تُرِيكَ المَنا بِرُؤُوسِ الأسَلِ أيْ تُرِيكَ المَنايا. وفي تَلْعٍ مِن صِحاحِ الجَوْهَرِيِّ قالَ لَبِيِدٌ: ؎دَرَسَ المَنا بِمَتالِعٍ فَأبانَ ∗∗∗ فَتَقادَمَتْ بِالحَبْسِ فالسُّوبانِ أرادَ دَرَسَ المَنازِلَ. وقالَ عَلْقَمَةُ الفَحْلُ خَصائِصَ ص ٨٢: ؎كَأنَّ إبْرِيقَهم ظَبْيٌ عَلى شَرَفٍ ∗∗∗ مُفَدَّمٌ بِسَبا الكَتّانِ مَلْثُومُ أرادَ بِسَبائِبَ الكَتّانِ. وقالَ الرّاجِزُ: (p-٢١٠) ؎حِينَ ألْقَتْ بِقُباءِ بَرْكِها ∗∗∗ واسْتَمَرَّ القَتْلُ في عَبْدِ الأشَلِ أيْ عَبْدُ الأشْهَلِ. وقَوْلُ أبِي دُؤادٍ: ؎يَدْرِينَ حَنْدَلَ حائِرٌ لِجَنُوبِها ∗∗∗ فَكَأنَّما تُذْكى سَنابِكُها الحُبا أرادَ الحُباحِبَ. وقالَ الأخْطَلُ: ؎أمْسَتْ مَناها بِأرْضٍ ما يُبَلَّغُها ∗∗∗ بِصاحِبِ الهَمِّ إلّا الجَسْرَةُ الأُجُدُ أرادَ مَنازِلَها. ووَقَعَ (طِرازِ المُجالِسِ - المَجْلِسِ) لِلْمُتَأخِّرِينَ مِن هَذا كَثِيرٌ مَعَ التَّوْرِيَةِ كَقَوْلِ ابْنِ مَكانِسَ: ؎لَمْ أنْسَ بَدْرًا زارَنِي لَيْلَةً ∗∗∗ مُسْتَوْفِزًا مَطْلَعًا لِلْخَطَرِ ؎فَلَمْ يَقُمْ إلّا بِمِقْدارِ ما ∗∗∗ قُلْتُ لَهُ أهْلًا وسَهْلًا ومَرْ أرادَ بَعْضَ كَلِمَةِ مَرْحَبًا. وقَدْ أكْثَرْتُ مِن شَواهِدِهِ تَوْسِعَةً في مَواقِعِ هَذا الِاسْتِعْمالِ الغَرِيبِ ولَسْتُ أُرِيدُ بِذَلِكَ تَصْحِيحَ حَمْلِ حُرُوفِ فَواتِحِ السُّوَرِ عَلى ذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَحْسُنُ تَخْرِيجُ القُرْآنِ عَلَيْهِ ولَيْسَ مَعَها ما يُشِيرُ إلَيْهِ مَعَ التَّوْرِيَةِ بِجَعْلِ مَرَّ مِنَ المُرُورِ. القَوْلُ الثّامِنُ أنَّها إشاراتٌ إلى أحْوالٍ مِن تَزْكِيَةِ القَلْبِ، وجَعَلَها في الفُتُوحاتِ في البابِ الثّانِي إيماءً إلى شُعَبِ الإيمانِ، وحاصِلُهُ أنَّ جُمْلَةَ الحُرُوفِ الواقِعَةِ في أوائِلِ سُوَرِ القُرْآنِ عَلى تَكْرارِ الحُرُوفِ ثَمانِيَةً وسَبْعُونَ حَرْفًا والثَّمانِيَةُ هُنا هي حَقِيقَةُ البِضْعِ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالكَشْفِ فَيَكُونُ عَدَدُ الحُرُوفِ ثَمانِيَةً وسَبْعِينَ وقَدْ قالَ النَّبِيءُ ﷺ «الإيمانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً» فَهَذِهِ الحُرُوفُ هي شُعَبُ الإيمانِ، ولا يَكْمُلُ لِأحَدٍ أسْرارَ الإيمانِ حَتّى يَعْلَمَ حَقائِقَ هَذِهِ الحُرُوفِ في سُوَرِها. وكَيْفَ يَزْعُمُ زاعِمٌ أنَّها وارِدَةٌ في مَعانٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ مَعَ ثُبُوتِ تَلَقِّي السّامِعِينَ لَها بِالتَّسْلِيمِ مِن مُؤْمِنٍ ومُعانِدٍ، ولَوْلا أنَّهم فَهِمُوا مِنها مَعْنًى مَعْرُوفًا دَلَّتْ عَلَيْهِ القَرائِنُ لَسَألَ السّائِلُونَ وتَوَرَّكَ المُعانِدُونَ. قالَ القاضِي أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ ”لَوْلا أنَّ العَرَبَ كانُوا يَعْرِفُونَ لَها مَدْلُولًا مُتَداوَلًا بَيْنَهم لَكانُوا أوَّلَ مَن أنْكَرَ ذَلِكَ عَلى النَّبِيءِ ﷺ بَلْ تَلا عَلَيْهِمْ حم فُصِّلَتْ و“ ص ”وغَيْرَهُما فَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ مَعَ تَشَوُّفِهِمْ إلى عَثْرَةٍ وحِرْصِهِمْ عَلى زَلَّةٍ“ قُلْتُ وقَدْ سَألُوا عَنْ أوْضَحَ مِن هَذا فَقالُوا وما الرَّحْمانُ، وأمّا ما اسْتَشْهَدُوا (p-٢١١)بِهِ مِن بَيْتِ زُهَيْرٍ وغَيْرِهِ فَهو مِن نَوادِرِ كَلامِ العَرَبِ، ومِمّا أُخْرِجَ مَخْرَجَ الألْغازِ والتَّمْلِيحِ وذَلِكَ لا يُناسِبُ مَقامَ الكِتابِ المَجِيدِ. النَّوْعُ الثّانِي يَجْمَعُ الأقْوالَ الرّاجِعَةَ إلى أنَّ هاتِهِ الحُرُوفَ وُضِعَتْ بِتِلْكَ الهَيْئاتِ أسْماءً أوْ أفْعالًا وفِيهِ مِنَ الأقْوالِ أرْبَعَةٌ. التّاسِعُ في عِدادِ الأقْوالِ في أوَّلِها لِجَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ والمُتَكَلِّمِينَ واخْتارَهُ الفَخْرُ أنَّها أسْماءٌ لِلسُّوَرِ الَّتِي وقَعَتْ فِيها، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ ونُسِبَ لِسِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ بابِ أسْماءِ السُّوَرِ مِن أبْوابِ ما لا يَنْصَرِفُ أوْ لِلْخَلِيلِ ونَسَبَهُ صاحِبُ الكَشّافِ لِلْأكْثَرِ ويُعَضِّدُهُ وُقُوعُ هاتِهِ الحُرُوفِ في أوائِلِ السُّوَرِ فَتَكُونُ هاتِهِ الحُرُوفُ قَدْ جُعِلَتْ أسْماءً بِالعَلامَةِ عَلى تِلْكَ السُّوَرِ، وسُمِّيَتْ بِها كَما نَقُولُ الكُرّاسَةَ ب والرِّزْمَةَ ج ونَظَّرَهُ القُفّالُ بِما سَمَّتِ العَرَبُ بِأسْماءِ الحُرُوفِ كَما سَمَّوْا لامَ الطّائِيَّ والِدِ حارِثَةَ، وسَمَّوُا الذَّهَبَ: عَيْنٌ، والسَّحابَ: غَيْنٌ، والحُوتَ نُونْ، والجَبَلَ قافْ، وأقُولُ: وحاءُ قَبِيلَةٌ مِن مَذْحِجٍ، وقالَ شُرَيْحُ بْنُ أوْفى العَنْسِيُّ أوِ العَبْسِيُّ: ؎يُذَكِّرُنِي حامِيمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ∗∗∗ فَهَلّا تَلا حامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ يُرِيدُ ﴿حم﴾ [الشورى: ١] ﴿عسق﴾ [الشورى: ٢] الَّتِي فِيها ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ [الشورى: ٢٣] ويَبْعُدُ هَذا القَوْلُ بُعْدًا ما إنِ الشَّأْنُ أنْ يَكُونَ الِاسْمُ غَيْرَ داخِلٍ في المُسَمّى وقَدْ وجَدْنا هَذِهِ الحُرُوفَ مَقْرُوءَةً مَعَ السُّوَرِ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ، عَلى أنَّهُ يَرُدُّهُ اتِّحادُ هَذِهِ الحُرُوفِ في عِدَّةِ سُوَرٍ مِثْلَ ”الم“ و”الر“ و”حم“ . وأنَّهُ لَمْ تُوضَعْ أسْماءُ السُّوَرِ الأُخْرى في أوائِلِها. القَوْلُ العاشِرُ وقالَ جَماعَةٌ إنَّها أسْماءٌ لِلْقُرْآنِ اصْطُلِحَ عَلَيْها قالَهُ الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ وقَتادَةُ. ويُبْطِلُهُ أنَّهُ قَدْ وقَعَ بَعْدَ بَعْضِها ما لا يُناسِبُها لَوْ كانَتْ أسْماءً لِلْقُرْآنِ، نَحْوَ ﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢]، و﴿الم﴾ [العنكبوت: ١] ﴿أحَسِبَ النّاسُ﴾ [العنكبوت: ٢] القَوْلُ الحادِيَ عَشَرَ أنَّ كُلَّ حُرُوفٍ مُرَكَّبَةٍ مِنها هي اسْمٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ كانَ يَقُولُ يا كهيعص يا حم عسق وسَكَتَ عَنِ الحُرُوفِ المُفْرَدَةِ فَيَرْجِعُ بِها إلى ما يُناسِبُها أنْ تَنْدَرِجَ تَحْتَهُ مِنَ الأقْوالِ ويُبْطِلَهُ عَدَمُ الِارْتِباطِ بَيْنَ بَعْضِها وبَيْنَ ما بَعْدَهُ لِأنْ يَكُونَ (p-٢١٢)خَبَرًا أوْ نَحْوَهُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ مِثْلَ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] و﴿المص﴾ [الأعراف: ١] ﴿كِتابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [الأعراف: ٢] الثّانِيَ عَشَرَ قالَ الماوَرْدِيُّ هي أفْعالٌ فَإنَّ حُرُوفَ ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] ﴿كِتابٌ﴾ [الأعراف: ٢] فِعْلُ ألَمَّ بِمَعْنى نَزَلَ فالمُرادُ ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] أيْ نُزِّلَ عَلَيْكم، ويُبْطِلُ كَلامَهُ أنَّها لا تُقْرَأُ بِصِيَغِ الأفْعالِ عَلى أنَّ هَذا لا يَتَأتّى في جَمِيعِها نَحْوَ ”كهيعص“ و”المص“ و”الر“ ولَوْلا غَرابَةُ هَذا القَوْلِ لَكانَ حَرِيًّا بِالإعْراضِ عَنْهُ. النَّوْعُ الثّالِثُ تَنْدَرِجُ فِيهِ الأقْوالُ الرّاجِعَةُ إلى أنَّ هاتِهِ الحُرُوفَ حُرُوفُ هِجاءٍ مَقْصُودَةٍ بِأسْمائِها لِأغْراضٍ داعِيَةٍ لِذَلِكَ وفِيهِ مِنَ الأقْوالِ: القَوْلُ الثّالِثَ عَشَرَ أنَّ هاتِهِ الحُرُوفَ أقْسَمَ اللَّهُ تَعالى بِها كَما أقْسَمَ بِالقَلَمِ تَنْوِيهًا بِها لِأنَّ مُسَمَّياتِها تَألَّفَتْ مِنها أسْماءُ اللَّهِ تَعالى وأُصُولُ التَّخاطُبِ والعُلُومِ قالَهُ الأخْفَشُ، وقَدْ وهَنَ هَذا القَوْلُ بِأنَّها لَوْ كانَتْ مُقْسَمًا بِها لَذُكِرَ حَرْفُ القَسَمِ إذْ لا يُحْذَفُ إلّا مَعَ اسْمِ الجَلالَةِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ وبِأنَّها قَدْ ورَدَ بَعْدَها في بَعْضِ المَواضِعِ قَسَمٌ نَحْوَ ﴿ن والقَلَمِ﴾ [القلم: ١] و﴿حم﴾ [الزخرف: ١] ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ [الزخرف: ٢] قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: وقَدِ اسْتَكْرَهُوا الجَمْعَ بَيْنَ قَسَمَيْنِ عَلى مُقْسَمٍ واحِدٍ حَتّى قالَ الخَلِيلُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١] ﴿والنَّهارِ إذا تَجَلّى﴾ [الليل: ٢] أنَّ الواوَ الثّانِيَةَ هي الَّتِي تَضُمُّ الأسْماءَ لِلْأسْماءِ أيْ واوَ العَطْفِ، والجَوابُ عَنْ هَذا أنَّ اخْتِصاصَ الحَذْفِ بِاسْمِ الجَلالَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وأنَّ كَراهِيَةَ جَمْعِ قَسَمَيْنِ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِ الواوِ التّالِيَةِ لَهاتِهِ الفَواتِحِ واوَ العَطْفِ عَلى أنَّهم قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ قَسَمَيْنِ، قالَ النّابِغَةُ: ؎واللَّهِ واللَّهِ لَنِعْمَ الفَتى ال ∗∗∗ حارِثُ لا النَّكْسُ ولا الخامِلُ القَوْلُ الرّابِعَ عَشَرَ أنَّها سِيقَتْ مَساقَ التَّهَجِّي مَسْرُودَةً عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ في التَّهْجِيَةِ تَبْكِيتًا لِلْمُشْرِكِينَ وإيقاظًا لِنَظَرِهِمْ في أنَّ هَذا الكِتابَ المَتْلُوَّ عَلَيْهِمْ وقَدْ تُحُدُّوا بِالإتْيانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ هو كَلامٌ مُؤَلَّفٌ مِن عَيْنِ حُرُوفِ كَلامِهِمْ كَأنَّهُ يُغْرِيهِمْ بِمُحاوَلَةِ المُعارَضَةِ ويَسْتَأْنِسُ لِأنْفُسِهِمْ بِالشُّرُوعِ في ذَلِكَ بِتَهَجِّي الحُرُوفِ ومُعالَجَةِ النُّطْقِ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِمُعامَلَتِهِمْ مُعامَلَةَ مَن لَمْ يَعْرِفْ تَقاطِيعَ اللُّغَةِ. فَيُلَقِّنُها كَتَهَجِّي الصِّبْيانِ في أوَّلِ تَعَلُّمِهِمْ بِالكِتابِ حَتّى يَكُونَ عَجْزُهم عَنِ المُعارَضَةِ بَعْدَ هَذِهِ المُحاوَلَةِ عَجْزًا لا مَعْذِرَةَ لَهم فِيهِ، وقَدْ ذَهَبَ إلى هَذا القَوْلِ المُبَرِّدُ وقُطْرُبُ والفَرّاءُ، قالَ في الكَشّافِ وهَذا القَوْلُ مِنَ القُوَّةِ والخَلاقَةِ بِالقَبُولِ بِمَنزِلَةٍ، وقُلْتُ وهو الَّذِي نَخْتارُهُ وتَظْهَرُ المُناسَبَةُ لِوُقُوعِها في فَواتِحِ السُّوَرِ أنَّ كُلَّ سُورَةٍ مَقْصُودَةٍ بِالإعْجازِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ (p-٢١٣)فَناسَبَ افْتِتاحُ ما بِهِ الإعْجازُ بِالتَّمْهِيدِ لِمُحاوَلَتِهِ ويُؤَيِّدُ هَذا القَوْلَ أنَّ التَّهَجِّيَ ظاهِرٌ في هَذا المَقْصِدِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْألُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أمْرِهِ وأنَّ التَّهَجِّيَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهم لِلتَّعْلِيمِ فَإذا ذَكَرْتَ حُرُوفَ الهِجاءِ عَلى تِلْكَ الكَيْفِيَّةِ المَعْهُودَةِ في التَّعْلِيمِ في مَقامٍ غَيْرِ صالِحٍ لِلتَّعْلِيمِ عَرَفَ السّامِعُونَ أنَّهم عُومِلُوا مُعامَلَةَ المُتَعَلِّمِ لِأنَّ حالَهم كَحالِهِ في العَجْزِ عَنِ الإتْيانِ بِكَلامٍ بَلِيغٍ، ويُعَضِّدُ هَذا الوَجْهَ تَعْقِيبُ هاتِهِ الحُرُوفِ في غالِبِ المَواقِعِ بِذِكْرِ القُرْآنِ وتَنْزِيلِهِ أوْ كِتابَتِهِ إلّا في ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] و﴿الم﴾ [العنكبوت: ١] ﴿أحَسِبَ النّاسُ﴾ [العنكبوت: ٢] و﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢] ووَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ تِلْكَ الحُرُوفِ بِالتَّهَجِّي دُونَ بَعْضٍ، وتَكْرِيرِ بَعْضِها لِأمْرٍ لا نَعْلَمُهُ ولَعَلَّهُ لِمُراعاةِ فَصاحَةِ الكَلامِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ مُعْظَمَ مَواقِعِ هَذِهِ الحُرُوفِ في أوائِلِ السُّوَرِ المَكِّيَّةِ عَدا البَقَرَةَ عَلى قَوْلِ مَن جَعَلُوها كُلَّها مَدَنِيَّةً وآلَ عِمْرانَ، ولَعَلَّ ذَلِكَ لِأنَّهُما نَزَلَتا بِقُرْبِ عَهْدِ الهِجْرَةِ مِن مَكَّةَ وأنَّ قَصْدَ التَّحَدِّي في القُرْآنِ النّازِلِ بِمَكَّةَ قَصْدٌ أوْلى، ويُؤَيِّدُهُ أيْضًا الحُرُوفُ الَّتِي أسْماؤُها مَخْتُومَةٌ بِألِفٍ مَمْدُودَةٍ مِثْلَ الياءِ والهاءِ والرّاءِ والطّاءِ والحاءِ قُرِئَتْ فَواتِحُ السُّوَرِ مَقْصُودَةً عَلى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُتَهَجّى بِها لِلصِّبْيانِ في الكِتابِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ كَما سَيَأْتِي قَرِيبًا في آخِرِ هَذا المَبْحَثِ مِن تَفْسِيرِ الم. القَوْلُ الخامِسَ عَشَرَ أنَّها تَعْلِيمٌ لِلْحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ حَتّى إذا ورَدَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُؤَلَّفَةً كانُوا قَدْ عَلِمُوها كَما يَتَعَلَّمُ الصِّبْيانُ الحُرُوفَ المُقَطَّعَةَ، ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَها مُرَكَّبَةً قالَهُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيى، يَعْنِي إذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَن يُحْسِنُ الكِتابَةَ إلّا بَعْضُ المُدُنِ كَأهْلِ الحِيرَةِ وبَعْضُ طَيْءٍ وبَعْضُ قُرَيْشٍ وكِنانَةَ مِن أهْلِ مَكَّةَ، ولَقَدْ تَقَلَّبَتْ أحْوالُ العَرَبِ في القِراءَةِ والكِتابَةِ تَقَلُّباتٍ مُتَنَوِّعَةٍ في العُصُورِ المُخْتَلِفَةِ، فَكانُوا بادِئَ الأمْرِ أهْلَ كِتابَةٍ لِأنَّهم نَزَحُوا إلى البِلادِ العَرَبِيَّةِ مِنَ العِراقِ بَعْدَ تَبَلْبُلِ الألْسُنِ، والعِراقُ مَهْدُ القِراءَةِ والكِتابَةِ وقَدْ أثْبَتَ التّارِيخُ أنَّ ضَخْمَ بْنَ إرَمَ أوَّلُ مَن عَلَّمَ العَرَبَ الكِتابَةَ ووَضَعَ حُرُوفَ المُعْجَمِ التِّسْعَةَ والعِشْرِينَ، ثُمَّ إنَّ العَرَبَ لَمّا بادُوا أيْ سَكَنُوا البادِيَةَ تَناسَتِ القَبائِلُ البادِيَةُ بِطُولِ الزَّمانِ القِراءَةَ والكِتابَةَ، وشَغَلَهم حالُهم عَنْ تَلَقِّي مَبادِئِ العُلُومِ، فَبَقِيَتِ الكِتابَةُ في الحَواضِرِ كَحَواضِرِ اليَمَنِ والحِجازِ، ثُمَّ لَمّا تَفَرَّقُوا بَعْدَ سَيْلِ العَرِمِ نَقَلُوا الكِتابَةَ إلى المَواطِنِ الَّتِي نَزَلُوها فَكانَتْ طَيْءٌ بِنَجْدٍ يَعْرِفُونَ القِراءَةَ والكِتابَةَ، وهُمُ الفِرْقَةُ الوَحِيدَةُ مِنَ القَحْطانِيِّينَ بِبِلادِ نَجْدٍ ولِذَلِكَ يَقُولُ أهْلُ الحِجازِ ونَجْدٍ أنَّ الَّذِينَ وضَعُوا الكِتابَةَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِن بَنِي بُولانَ مِن طَيْءٍ يُرِيدُونَ مِنَ الوَضْعِ أنَّهم عَلَّمُوها لِلْعَدْنانِيِّينَ بِنَجْدٍ، وكانَ أهْلُ الحِيرَةِ يُعَلِّمُونَ الكِتابَةَ فالعَرَبُ بِالحِجازِ تَزْعُمُ (p-٢١٤)أنَّ الخَطَّ تَعَلَّمُوهُ عَنْ أهْلِ الأنْبارِ والحِيرَةِ، وقِصَّةُ المُتَلَمِّسِ في كُتُبِ الأدَبِ تُذَكِّرُنا بِذَلِكَ إذْ كانَ الَّذِي قَرَأ لَهُ الصَّحِيفَةَ غُلامٌ مِن أُغَيْلِمَةِ الحَيْرَةِ. ولَقَدْ كانَ الأوْسُ والخَزْرَجُ مَعَ أنَّهم مِن نازِحَةِ القَحْطانِيِّينَ، قَدْ تَناسَوُا الكِتابَةَ إذْ كانُوا أهْلَ زَرْعٍ وفُرُوسِيَّةٍ وحُرُوبٍ، فَقَدْ ورَدَ في السِّيَرِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ الأنْصارِ يُحْسِنُ الكِتابَةَ بِالمَدِينَةِ وكانَ في أسْرى المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَن يُحْسِنُ ذَلِكَ فَكانَ مَن لا مالَ لَهُ مِنَ الأسْرى يُفْتَدى بِأنْ يُعَلِّمَ عَشَرَةً مِن غِلْمانِ أهْلِ المَدِينَةِ الكِتابَةَ فَتَعَلَّمَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ في جَماعَةٍ، وكانَتِ الشِّفاءُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ القُرَشِيَّةُ تُحْسِنُ الكِتابَةَ وهي عَلَّمَتْها لِحَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ. ويُوجَدُ في أساطِيرِ العَرَبِ ما يَقْتَضِي أنَّ أهْلَ الحِجازِ تَعَلَّمُوا الكِتابَةَ مِن أهْلِ مَدْيَنَ في جِوارِهِمْ فَقَدْ ذَكَرُوا قِصَّةً وهي أنَّ المَحْضَ بْنَ جَنْدَلٍ مِن أهْلِ مَدْيَنَ وكانَ مَلِكًا كانَ لَهُ سِتَّةُ أبْناءٍ وهم: أبْجَدُ، وهَوَّزُ، وحُطِّي، وكَلَمُنُ، وسَعْفَصُ، وقَرَشْتُ. فَجَعَلَ أبْناءَهُ مُلُوكًا عَلى بِلادِ مَدْيَنَ وما حَوْلَها فَجَعَلَ أبْجَدَ بِمَكَّةَ وجَعَلَ هَوَّزَ وحُطِّيَ بِالطّائِفِ ونَجْدٍ، وجَعَلَ الثَّلاثَةَ الباقِينَ بِمَدْيَنَ، وأنَّ كَلَمُنْ كانَ في زَمَنِ شُعَيْبٍ وهو مِنَ الَّذِينَ أخَذَهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ قالُوا فَكانَتْ حُرُوفُ الهِجاءِ أسْماءُ هَؤُلاءِ المُلُوكِ ثُمَّ ألْحَقُوا بِها ثَخَذَ وضَغَظَ فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ القِصَّةَ مَصْنُوعَةً لِتَلْقِينِ الأطْفالِ حُرُوفِ المُعْجَمِ بِطَرِيقَةٍ سَهْلَةٍ تُناسِبُ عُقُولَهم وتَقْتَضِي أنَّ حُرُوفَ ثَخَذْ وضَغَظْ لَمْ تَكُنْ في مُعْجَمِ أهْلِ مَدْيَنَ فَألْحَقَها أهْلُ الحِجازِ، وحَقًّا إنَّها مِنَ الحُرُوفِ غَيْرِ الكَثِيرَةِ الِاسْتِعْمالِ ولا المَوْجُودَةِ في كُلِّ اللُّغاتِ إلّا أنَّ هَذا القَوْلَ يُبْعِدُهُ عَدَمُ وُجُودِ جَمِيعِ الحُرُوفِ في فَواتِحِ السُّوَرِ بَلِ المَوْجُودُ نِصْفُها كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ مِن كَلامِ الكَشّافِ. القَوْلُ السّادِسَ عَشَرَ أنَّها حُرُوفٌ قُصِدَ مِنها تَنْبِيهُ السّامِعِ مِثْلَ النِّداءِ المَقْصُودِ بِهِ التَّنْبِيهُ في قَوْلِكَ يا فَتى لِإيقاظِ ذِهْنِ السّامِعِ قالَهُ ثَعْلَبٌ والأخْفَشُ وأبُو عُبَيْدَةَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَما يَقُولُ في إنْشادِ أشْهَرِ القَصائِدِ لا وبَلْ لا، قالَ الفَخْرُ في تَفْسِيرِ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ: إنَّ الحَكِيمَ إذا (p-٢١٥)خاطَبَ مَن يَكُونُ مَحِلَّ الغَفْلَةِ أوْ مَشْغُولَ البالِ يُقَدِّمُ عَلى الكَلامِ المَقْصُودِ شَيْئًا لِيَلْفِتَ المُخاطَبَ إلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ المُقَدَّمِ ثُمَّ يَشْرَعُ في المَقْصُودِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ المُقَدَّمُ كَلامًا مِثْلَ النِّداءِ وحُرُوفِ الِاسْتِفْتاحِ، وقَدْ يَكُونُ المُقَدَّمُ صَوْتًا كَمَن يُصَفِّقُ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ السّامِعُ فاخْتارَ الحَكِيمُ لِلتَّنْبِيهِ حُرُوفًا مِن حُرُوفِ التَّهَجِّي لِتَكُونَ دَلالَتُها عَلى قَصْدِ التَّنْبِيهِ مُتَعَيِّنَةً إذْ لَيْسَ لَها مَفْهُومٌ فَتَمَحَّضَتْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى غَرَضٍ مُهِمٍّ. القَوْلُ السّابِعَ عَشَرَ أنَّها إعْجازٌ بِالفِعْلِ وهو أنَّ النَّبِيءَ الأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ قَدْ نَطَقَ بِأُصُولِ القِراءَةِ كَما يَنْطِقُ بِها مَهَرَةُ الكَتَبَةِ فَيَكُونُ النُّطْقُ بِها مُعْجِزَةً وهَذا بَيِّنُ البُطْلانِ لِأنَّ الأُمِّيَّ لا يَعْسُرُ عَلَيْهِ النُّطْقُ بِالحُرُوفِ. القَوْلُ الثّامِنَ عَشَرَ أنَّ الكُفّارَ كانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ سَماعِ القُرْآنِ فَقالُوا ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦] فَأُورِدَتْ لَهم هَذِهِ الحُرُوفُ لِيُقْبِلُوا عَلى طَلَبِ فَهْمِ المُرادِ مِنها فَيَقَعُ إلَيْهِمْ ما يَتْلُوها بِلا قَصْدٍ، قالَهُ قُطْرُبٌ وهو قَرِيبٌ مِنَ القَوْلِ السّادِسَ عَشَرَ. القَوْلُ التّاسِعَ عَشَرَ أنَّها عَلامَةٌ لِأهْلِ الكِتابِ وُعِدُوا بِها مِن قِبَلِ أنْبِيائِهِمْ أنَّ القُرْآنَ يُفْتَتَحُ بِحُرُوفٍ مُقَطَّعَةٍ. القَوْلُ العِشْرُونَ قالَ التَّبْرِيزِيُّ عَلِمَ اللَّهُ أنَّ قَوْمًا سَيَقُولُونَ بِقِدَمِ القُرْآنِ فَأراهم أنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِن حُرُوفٍ كَحُرُوفِ الكَلامِ، وهَذا وهْمٌ لِأنَّ تَأْلِيفَ الكَلامِ مِن أصْواتِ الكَلِماتِ أشَدُّ دَلالَةً عَلى حُدُوثِهِ مِن دَلالَةِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ لِقِلَّةِ أصْواتِها. القَوْلُ الحادِي والعِشْرُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها ثَناءٌ أثْنى اللَّهُ بِهِ عَلى نَفْسِهِ وهو يَرْجِعُ إلى القَوْلِ الأوَّلِ أوِ الثّانِي. هَذا جُمّاعُ الأقْوالِ، ولا شَكَّ أنَّ قِراءَةَ كافَّةِ المُسْلِمِينَ إيّاها بِأسْماءِ حُرُوفِ الهِجاءِ مِثْلَ ألِفْ. لامْ. مِيمْ دُونَ أنْ يَقْرَءُوا ألَمْ وأنَّ رَسْمَها في الخَطِّ بِصُورَةِ الحُرُوفِ يُزَيِّفُ جَمِيعَ أقْوالِ النَّوْعِ الأوَّلِ ويُعَيِّنُ الِاقْتِصارَ عَلى النَّوْعَيْنِ الثّانِي والثّالِثِ في الجُمْلَةِ، عَلى أنَّ ما يَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَيْنِكَ النَّوْعَيْنِ مُتَفاوِتٌ في دَرَجاتِ القَبُولِ، فَإنَّ الأقْوالَ الثّانِيَ، والسّابِعَ، والثّامِنَ، والثّانِيَ عَشَرَ، والخامِسَ عَشَرَ، والسّادِسَ عَشَرَ، يُبْطِلُها أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ لَوْ كانَتْ مُقْتَضَبَةً مِن أسْماءٍ أوْ كَلِماتٍ لَكانَ الحَقُّ أنْ يُنْطَقَ بِسَمِيّاتِها لا بِأسْمائِها. فَإذا تَعَيَّنَ هَذانِ النَّوْعانِ وأسْقَطْنا ما كانَ مِنَ الأقْوالِ المُنْدَرِجَةِ تَحْتَهُما واهِيًا، خَلَصَ أنَّ الأرْجَحَ مِن تِلْكَ الأقْوالِ ثَلاثَةٌ: وهي كَوْنُ تِلْكَ الحُرُوفِ لِتَبْكِيتِ المُعانِدِينَ وتَسْجِيلًا (p-٢١٦)لِعَجْزِهِمْ عَنِ المُعارَضَةِ، أوْ كَوْنُها أسْماءً لِلسُّوَرِ الواقِعَةِ هي فِيها، أوْ كَوْنُها أقْسامًا أقْسَمَ بِها لِتَشْرِيفِ قَدْرِ الكِتابَةِ وتَنْبِيهِ العَرَبِ الأُمِّيِّينَ إلى فَوائِدِ الكِتابَةِ لِإخْراجِهِمْ مِن حالَةِ الأُمِّيَّةِ. وأرْجَحُ هَذِهِ الأقْوالِ الثَّلاثَةِ هو أوَّلُها. قالَ في الكَشّافِ: ما ورَدَ في هَذِهِ الفَواتِحِ مِن أسْماءِ الحُرُوفِ هو نِصْفُ أسامِي حُرُوفِ المُعْجَمِ إذْ هي أرْبَعَةَ عَشَرَ وهي: الألِفُ، واللّامُ، والمِيمُ، والصّادُ، والرّاءُ، والكافُ، والهاءُ، والياءُ، والعَيْنُ، والطّاءُ، والسِّينُ، والحاءُ، والقافُ، والنُّونُ، في تِسْعٍ وعِشْرِينَ سُورَةً عَلى عَدَدِ حُرُوفِ المُعْجَمِ، وهَذِهِ الأرْبَعَةَ عَشَرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى أنْصافِ أجْناسِ صِفاتِ الحُرُوفِ فَفِيها مِنَ المَهْمُوسَةِ نِصْفُها: الصّادُ، والكافُ، والهاءُ، والسِّينُ والحاءُ، ومِنَ المَجْهُورَةِ نِصْفُها: الألِفُ، واللّامُ، والمِيمُ، والرّاءُ، والعَيْنُ، والطّاءُ، والقافُ، والياءُ، والنُّونُ، ومِنَ الشَّدِيدَةِ نِصْفُها: الألِفُ، والكافُ، والطّاءُ، والقافُ، ومِنَ الرَّخْوَةِ نِصْفُها: اللّامُ، والمِيمُ، والرّاءُ، والصّادُ والهاءُ، والعَيْنُ، والسِّينُ، والحاءُ، والياءُ، والنُّونُ. ومِنَ المُطْبَقَةِ نِصْفُها: الصّادُ، والطّاءُ. ومِنَ المُنْفَتِحَةِ نِصْفُها: الألِفُ، واللّامُ، والمِيمُ، والرّاءُ، والكافُ، والهاءُ، والعَيْنُ، والسِّينُ، والقافُ، والياءُ، والنُّونُ. ومِنَ المُسْتَعْلِيَةِ نِصْفُها القافُ، والصّادُ، والطّاءُ. ومِنَ المُسْتَفِلَةِ نَصِفُها: الألِفُ، واللّامُ، والمِيمُ، والرّاءُ، والكافُ، والهاءُ، والياءُ، والعَيْنُ، والسِّينُ، والحاءُ، والنُّونُ. ومِن حُرُوفِ القَلْقَلَةِ نَصِفُها: القافُ، والطّاءُ. ثُمَّ إنَّ الحُرُوفَ الَّتِي أُلْغِيَ ذِكْرُها مَكْثُورَةً بِالمَذْكُورَةِ، فَسُبْحانَ الَّذِي دَقَّتْ في كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَتُهُ اهـ. وزادَ البَيْضاوِيُّ عَلى ذَلِكَ أصْنافًا أُخْرى مِن صِفاتِ الحُرُوفِ لا نُطِيلُ بِها فَمَن شاءَ فَلْيُراجِعْها. ومَحْصُولُ كَلامِهِما أنَّهُ قَدْ قُضِيَ بِذِكْرِ ما ذُكِرَ مِنَ الحُرُوفِ وإهْمالُ ذِكْرِ ما أُهْمِلَ مِنها حَقُّ التَّمْثِيلِ لِأنْواعِ الصِّفاتِ بِذِكْرِ النِّصْفِ، وتَرْكِ النِّصْفِ مِن بابِ ولْيُقَسْ ما لَمْ يُقَلْ لِحُصُولِ الغَرَضِ وهو الإشارَةُ إلى العِنايَةِ بِالكِتابَةِ، وحَقُّ الإيجازِ في الكَلامِ. فَيَكُونُ ذِكْرُ مَجْمُوعِ هَذِهِ الفَواتِحِ في سُوَرِ القُرْآنِ مِنَ المُعْجِزاتِ العِلْمِيَّةِ وهي المَذْكُورَةُ في الوَجْهِ الثّالِثِ مِن وُجُوهِ الإعْجازِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في المُقَدِّمَةِ العاشِرَةِ مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ. وكَيْفِيَّةُ النُّطْقِ أنْ يُنْطَقَ بِها مَوْقُوفَةً دُونَ عَلاماتِ إعْرابٍ عَلى حُكْمِ الأسْماءِ المَسْرُودَةِ إذْ لَمْ تَكُنْ مَعْمُولَةً لِعَوامِلَ فَحالُها كَحالِ الأعْدادِ المَسْرُودَةِ حِينَ تَقُولُ ثَلاثَهْ أرْبَعَهْ خَمْسَهْ (p-٢١٧)وكَحالِ أسْماءِ الأشْياءِ الَّتِي تُمْلى عَلى الجارِدِ لَها، إذْ تَقُولُ مَثَلًا: ثَوْب، بِساط، سَيْف، دُونَ إعْرابٍ، ومَن أعْرَبَها كانَ مُخْطِئًا. ولِذَلِكَ نَطَقَ القُرّاءُ بِها ساكِنَةً سُكُونَ المَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَما كانَ مِنها صَحِيحُ الآخِرِ نُطِقَ بِهِ ساكِنًا نَحْوَ ألِفْ، لامْ، مِيمْ. وما كانَ مِن أسْماءِ الحُرُوفِ مَمْدُودَ الآخِرِ نُطِقَ بِهِ في أوائِلِ السُّورِ ألِفًا مَقْصُورًا لِأنَّها مَسُوقَةٌ مَساقَ المُتَهَجّى بِها وهي في حالَةِ التَّهَجِّي مَقْصُورَةٌ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِأنَّ التَّهَجِّيَ إنَّما يَكُونُ غالِبًا لِتَعْلِيمِ المُبْتَدِئِ، واسْتِعْمالُها في التَّهَجِّي أكْثَرُ فَوَقَعَتْ في فَواتِحِ السُّوَرِ مَقْصُورَةً لِأنَّها عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ أوْ مَأْخُوذَةً مِنهُ. ولَكِنَّ النّاسَ قَدْ يَجْعَلُونَ فاتِحَةَ إحْدى السُّوَرِ كالِاسْمِ لَها فَيَقُولُونَ قَرَأْتُ (﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]) كَما يَجْعَلُونَ أوَّلَ كَلِمَةٍ مِنَ القَصِيدَةِ اسْمًا لِلْقَصِيدَةِ فَيَقُولُونَ قَرَأْتُ قِفا نَبْكِ وبانَتْ سُعادُ فَحِينَئِذٍ قَدْ تُعامَلُ جُمْلَةُ الحُرُوفِ الواقِعَةِ في تِلْكَ الفاتِحَةِ مُعامَلَةَ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ فَيَجْرِي عَلَيْها مِنَ الإعْرابِ ما هو لِنَظائِرِ تِلْكَ الصِّيغَةِ مِنَ الأسْماءِ فَلا يُصْرَفُ حامِيمُ كَما قالَ شُرَيْحُ بْنُ أوْفى العَنْسِيُّ المُتَقَدِّمُ آنِفًا: ؎يُذَكِّرُنِي حامِيمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ∗∗∗ فَهَلّا تَلا حامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ وكَما قالَ الكُمَيْتُ: ؎قَرَأْنا لَكم في آلِ حامِيمَ آيَةً ∗∗∗ تَأوَّلَها مِنّا فَقِيهٌ ومُعْرِبٌ ولا يُعْرَبُ ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] إذْ لا نَظِيرَ لَهُ في الأسْماءِ إفْرادًا ولا تَرْكِيبًا. وأمّا ﴿طسم﴾ [الشعراء: ١] فَيُعْرَبُ إعْرابَ المُرَكَّبِ المَزْجِيِّ نَحْوَ حَضْرَمَوْتَ ودارابَجِرْدَ وقالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّكَ إذا جَعَلْتَ هُودَ اسْمَ السُّورَةِ لَمْ تَصْرِفْها فَتَقُولُ قَرَأْتُ هُودَ لِلْعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ قالَ لِأنَّها تَصِيرُ بِمَنزِلَةِ امْرَأةٍ سَمَّيْتَها بِعَمْرٍو. ولَكَ في الجَمِيعِ أنْ تَأْتِيَ بِهِ في الإعْرابِ عَلى حالِهِ مِنَ الحِكايَةِ ومَوْقِعِ هاتِهِ الفَواتِحِ مَعَ ما يَلِيها مِن حَيْثُ الإعْرابِ، فَإنْ جَعَلَتْها حُرُوفًا لِلتَّهَجِّي تَعْرِيضًا بِالمُشْرِكِينَ وتَبْكِيتًا لَهم فَظاهِرٌ أنَّها حِينَئِذٍ مَحْكِيَّةٌ ولا تَقْبَلُ إعْرابًا، لِأنَّها حِينَئِذٍ بِمَنزِلَةِ أسْماءِ الأصْواتِ لا يُقْصَدُ إلّا صُدُورُها فَدَلالَتُها تُشْبِهُ الدَّلالَةَ العَقْلِيَّةَ فَهي تَدُلُّ عَلى أنَّ النّاطِقَ بِها يُهَيِّئُ السّامِعَ إلى ما يَرِدُ بَعْدَها مِثْلَ سَرْدِ الأعْدادِ الحِسابِيَّةِ عَلى مَن يُرادُ مِنهُ أنْ يَجْمَعَ حاصِلَها (p-٢١٨)أوْ يَطْرَحَ، أوْ يَقْسِمَ، فَلا إعْرابَ لَها مَعَ ما يَلِيها، ولا مَعْنى لِلتَّقْدِيرِ بِالمُؤَلَّفِ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ الإعْلامُ بِمَقْصُودٍ لِظُهُورِهِ وإنَّما المَقْصُودُ ما يَحْصُلُ عِنْدَ تَعْدادِها مِنَ التَّعْرِيضِ لِأنَّ الَّذِي يَتَهَجّى الحُرُوفَ لِمَن يُنافِي في حالُهُ أنْ يُقْصَدَ تَعْلِيمُهُ يَتَعَيَّنُ مِنَ المَقامِ أنَّهُ يَقْصِدُ التَّعْرِيضَ. وإذا قَدَّرْتَها أسْماءً لِلسُّوَرِ أوْ لِلْقُرْآنِ أوْ لِلَّهِ تَعالى مُقْسَمًا بِها فَقِيلَ إنَّ لَها أحْكامًا مَعَ ما يَلِيها مِنَ الإعْرابِ بَعْضُها مُحْتاجٌ لِلتَّقْدِيرِ الكَثِيرِ، فَدَعْ عَنْكَ الإطالَةَ بِها فَإنَّ الزَّمانَ قَصِيرٌ. وهاتِهِ الفَواتِحُ قُرْآنٌ لا مَحالَةَ ولَكِنِ اخْتُلِفَ في أنَّها آياتٌ مُسْتَقِلَّةٌ والأظْهَرُ أنَّها لَيْسَتْ بِآياتٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ هي أجْزاءٌ مِنَ الآياتِ المُوالِيَةِ لَها عَلى المُخْتارِ مِن مَذاهِبِ جُمْهُورِ القُرّاءِ. ورُوِيَ عَنْ قُرّاءِ الكُوفَةِ أنَّ بَعْضَها عَدُّوهُ آياتٍ مُسْتَقِلَّةً وبَعْضُها لَمْ يَعُدُّوهُ وجَعَلُوهُ جُزْءَ آيَةٍ مَعَ ما يَلِيهِ، ولَمْ يَظْهَرْ وجْهُ التَّفْصِيلِ حَتّى قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: إنَّ هَذا لا دَخْلَ لِلْقِياسِ فِيهِ. والصَّحِيحُ عَنِ الكُوفِيِّينَ أنَّ جَمِيعَها آياتٍ وهو اللّائِقُ بِأصْحابِ هَذا القَوْلِ إذِ التَّفْصِيلُ تَحَكُّمٌ؛ لِأنَّ الدَّلِيلَ مَفْقُودٌ. والوَجْهُ عِنْدِي أنَّها آياتٌ لِأنَّ لَها دَلالَةً تَعْرِيضِيَّةً كِنائِيَّةً إذِ المَقْصُودُ إظْهارُ عَجْزِهِمْ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهي تُطابِقُ مُقْتَضى الحالِ مَعَ ما يَعْقُبُها مِنَ الكَلامِ ولا يُشْتَرَطُ في دَلالَةِ الكَلامِ عَلى مَعْنًى كِنائِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَرِيحٌ بَلْ تُعْتَبَرُ دَلالَةُ المُطابَقَةِ في هَذِهِ الحُرُوفِ تَقْدِيرِيَّةً إنْ قُلْنا بِاشْتِراطِ مُلازَمَةِ دَلالَةِ المُطابَقَةِ لِدَلالَةِ الِالتِزامِ. ويَدُلُّ لِإجْراءِ السَّلَفِ حُكْمَ أجْزاءِ الآياتِ عَلَيْها أنَّهم يَقْرَءُونَها إذا قَرَءُوا الآيَةَ المُتَّصِلَةَ بِها، فَفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ في كِتابِ التَّفْسِيرِ في ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الرُّومِ. فَنَزَلَتْ ﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢]، وفِيهِ أيْضًا فَخَرَجَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ في نَواحِي مَكَّةَ ﴿الم﴾ [الروم: ١] ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢] وفي سِيرَةِ ابْنِ إسْحاقَ مِن رِوايَةِ ابْنِ هِشامٍ عَنْهُ «فَقَرَأ رَسُولُ اللَّهِ عَلى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ﴿حم﴾ [فصلت: ١] ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت: ٢] حَتّى بَلَغَ قَوْلَهُ ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ [فصلت»: ١٣] الحَدِيثَ. وعَلى هَذا الخِلافِ اخْتُلِفَ في إجْزاءِ قِراءَتِها في الصَّلاةِ عِنْدَ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ في قِراءَةِ السُّورَةِ مَعَ الفاتِحَةِ بِآيَةٍ واحِدَةٍ مِثْلَ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب