الباحث القرآني

2- سُورَةُ البَقَرَةِ هَذا هو الِاسْمُ المَشْهُورُ، وفي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: هَذا مَقامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ، وهو مُعارِضٌ لِما رُوِيَ مِن مَنعِ ذَلِكَ، وتَعَيَّنَ أنْ يُقالَ: السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيها البَقَرَةُ، وكَذا في سُوَرِ القُرْآنِ كُلِّهِ، ومِن ثَمَّةَ أجازَ الجُمْهُورُ ذَلِكَ مِن غَيْرِ كَراهَةٍ، ويُمْكِنُ أنْ يُوَفَّقَ بِأنَّهُ كانَ مَكْرُوهًا في بَدْءِ الإسْلامِ لِاسْتِهْزاءِ الكُفّارِ، ثُمَّ بَعْدَ سُطُوعِ نُورِهِ نُسِخَ النَّهْيُ عَنْهُ، فَشاعَ مِن غَيْرِ نَكِيرٍ، ووَرَدَ في الحَدِيثِ بَيانًا لِجَوازِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الكَلامِ عَلى هَذا، وكانَ خالِدُ بْنُ مَعْدانَ يُسَمِّيها فُسْطاطَ القُرْآنِ، ووَرَدَ في حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ في مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ، وذَلِكَ لِعَظَمِها، ولِما جُمِعَ فِيها مِنَ الأحْكامِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ في غَيْرِها، حَتّى قالَ بَعْضُ الأشْياخِ: إنَّ فِيها ألْفَ أمْرٍ، وألْفَ نَهْيٍ، وألْفَ خَبَرٍ، قِيلَ: وفِيها خَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا، ولِهَذا أقامَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ثَمانِيَ سِنِينَ عَلى تَعَلُّمِها، ووَرَدَ في حَدِيثِ المُسْتَدْرَكِ تَسْمِيَتُها سَنامَ القُرْآنِ، وسَنامُ كُلِّ شَيْءٍ أعْلاهُ، وكَأنَّهُ لِذَلِكَ أيْضًا، ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «(أيُّ القُرْآنِ أفْضَلُ؟ فَقالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: سُورَةُ البَقَرَةِ، ثُمَّ قالَ: وأيُّها أفْضَلُ؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: آيَةُ الكُرْسِيِّ)،» وهي مَدَنِيَّةٌ، وآياتُها مِائَتانِ وسَبْعٌ وثَمانُونَ عَلى المَشْهُورِ، وقِيلَ: سِتٌّ وثَمانُونَ، وفِيها آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ وقَدْ نَزَلَتْ في حَجَّةِ الوَداعِ، يَوْمَ النَّحْرِ، ولا تَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِها مَدَنِيَّةً، كَما لا يَخْفى، ووَجْهُ مُناسَبَتِها لِسُورَةِ الفاتِحَةِ أنَّ الفاتِحَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى بَيانِ الرُّبُوبِيَّةِ أوَّلًا، والعُبُودِيَّةِ ثانِيًا، وطَلَبِ الهِدايَةِ في المَقاصِدِ الدِّينِيَّةِ، والمَطالِبِ اليَقِينِيَّةِ ثالِثًا، وكَذا سُورَةُ البَقَرَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلى بَيانِ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ أوَّلًا، كَما في ﴿يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ وأمْثالِهِ، وعَلى العِباداتِ، وما يَتَعَلَّقُ بِها ثانِيًا، وعَلى طَلَبِ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ في العاجِلِ والآجِلِ آخِرًا، وأيْضًا في آخِرِ الفاتِحَةِ طَلَبُ الهِدايَةِ، وفي أوَّلِ البَقَرَةِ إيماءٌ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ ولَمّا افْتَتَحَ سُبْحانَهُ الفاتِحَةَ بِالأمْرِ الظّاهِرِ، وكانَ وراءَ كُلِّ ظاهِرٍ باطِنٌ افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِما بَطَنَ سِرُّهُ وخَفِيَ إلّا عَلى مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى أمْرُهُ، فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿الم﴾ هي وسائِرُ الألْفاظِ الَّتِي يُتَهَجّى بِها (كَبا تا ثا)، أسْماءٌ مُسَمَّياتُها الحُرُوفُ المَبْسُوطَةُ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنها الكَلِمَةُ لِصِدْقِ حَدِّ الِاسْمِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، واعْتِوارِ خَواصِّهِ المُجْمَعِ عَلَيْها عَلى كُلٍّ مِنها، ويُحْكى عَنِ الخَلِيلِ أنَّهُ سَألَ أصْحابَهُ: كَيْفَ تَنْطِقُونَ في الباءِ مِن: ضَرَبَ، والكافِ مِن: لَكَ؟ فَقالُوا: باءٌ كافٌ، فَقالَ: إنَّما جِئْتُمْ بِالِاسْمِ لا الحَرْفِ (p-99)وأنا أقُولُ: (بَهْ – كَهْ)، وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «(مَن قَرَأ حَرْفًا مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها، لا أقُولُ: (الم) حَرْفٌ، ولَكِنْ ألِفٌ حَرْفٌ، ولامٌ حَرْفٌ ومِيمٌ حَرْفٌ)،» فالمُرادُ بِهِ غَيْرُ المُصْطَلَحِ، إذْ هو عُرْفٌ جَدِيدٌ، بَلِ المَعْنى اللُّغَوِيُّ، وهو واحِدُ حُرُوفِ المَبانِي، فَمَعْنى: (ألِفٌ حَرْفٌ) إلَخْ، مُسَمّى ألِفٍ، وهَكَذا، ولَعَلَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَمّى ذَلِكَ حَرْفًا بِاسْمِ مَدْلُولِهِ، فَهو مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لَهُ، وما قِيلَ: إنَّهُ سَمّاهُ حَرْفًا مَجازًا لِكَوْنِهِ اسْمَ الحَرْفِ، وإطْلاقُ أحَدِ المُتَلازِمَيْنِ عَلى الآخَرِ مَجازٌ مَشْهُورٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإنْ أُرِيدَ مِن (ألَمْ) مُفْتَتَحَ سُورَةِ الفِيلِ، يَكُونُ المُرادُ أيْضًا مِنهُ مُسَمّاهُ، وتَكُونُ الحَسَناتُ ثَلاثِينَ، وفائِدَةُ النَّفْيِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالحَرْفِ فِيمَن قَرَأ حَرْفًا الكَلِمَةَ، وإنْ أُرِيدَ نَحْوُ ما هُنا فالمُرادُ نَفْسُهُ، ويَكُونُ عَدَدُ الحَسَناتِ حِينَئِذٍ تِسْعِينَ، وفائِدَةُ الِاسْتِئْنافِ دَفْعُ أنْ يُرادَ بِالحَرْفِ الجُمْلَةُ المُسْتَقِلَّةُ، كَما في الإبانَةِ لِأبِي نَصْرٍ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: آخِرُ حَرْفٍ عارَضَ بِهِ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ﴿الم﴾ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمَعْنى: لا أقُولُ أنَّ مَجْمُوعَ الأسْماءِ الثَّلاثَةِ: حَرْفٌ، بَلْ مُسَمّى كُلٍّ مِنها حَرْفٌ، وإنَّما لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الحُرُوفَ مِن حَيْثُ إنَّها أجْزاءٌ، بِأنْ يُقابَلَ ألِفُ حَرْفٍ ولامُ حَرْفِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ في عَدَدِ الحَسَناتِ الحُرُوفُ المَقْرُوءَةُ الَّتِي هي المُسَمَّياتُ، سَواءٌ كانَتْ أجْزاءً لَها، أوْ لِكَلِماتٍ أُخَرَ، لا مِن حَيْثُ إنَّها أجْزاءٌ لِتِلْكَ الأسْماءِ، فَيَكُونُ عَدَدُ الحَسَناتِ في نَحْوِ ضَرْبِ ثَلاثِينَ. والحاصِلُ أنَّ الحُرُوفَ المَذْكُورَةَ مِن حَيْثُ إنَّها مُسَمَّياتُ تِلْكَ الأسْماءِ أجْزاءٌ لِجَمِيعِ الكَلِمِ مُفْرَدَةً بِقِراءَتِها، ومِن حَيْثُ إنَّها أجْزاءُ تِلْكَ الأسْماءِ لا تَكُونُ مُفْرَدَةً إلّا عِنْدَ قِراءَةِ تِلْكَ الأسْماءِ، والمُعْتَبَرُ في عَدَدِ الحَسَناتِ الِاعْتِبارُ الأوَّلُ دُونَ الثّانِي، ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، ثُمَّ إنَّهم راعَوْا في هَذِهِ التَّسْمِيَةِ لَطِيفَةً حَيْثُ جَعَلُوا المُسَمّى صَدْرَ كُلِّ اسْمٍ لَهُ، كَما قالَهُ ابْنُ جِنِّي، وذَلِكَ لِيَكُونَ تَأْدِيَتُها بِالمُسَمّى أوَّلَ ما يَقْرَعُ السَّمْعَ، ألا تَرى أنَّكَ إذا قُلْتَ: جِيمٌ، فَأوَّلُ حُرُوفِهِ جِيمٌ، وإذا قُلْتَ: ألِفٌ، فَأوَّلُ حُرُوفِهِ ألِفٌ، الَّتِي نَطَقْتَ بِها هَمْزَةً، ولَمّا لَمْ يُمْكِنْ لِلْواضِعِ أنْ يَبْتَدِئَ بِالألِفِ الَّتِي هي مَدَّةٌ ساكِنَةٌ دَعَمَها بِاللّامِ قَبْلَها مُتَحَرِّكَةً لِيُمْكِنَ الِابْتِداءُ بِها، فَقالُوا: لا كَما - لا - كَما يَقُولُهُ المُعَلِّمُونَ لامٌ ألِفٌ، فَإنَّهُ خَطَأٌ، وخُصَّ اللّامُ بِالدِّعامَةِ لِأنَّهم تَوَصَّلُوا إلى اللّامِ بِأُخْتِها في التَّعْرِيفِ، فَكَأنَّهم قَصَدُوا ضَرْبًا مِنَ المُعارَضَةِ، فالألِفُ هي أوَّلُ حَرْفِ المُعْجَمِ صُورَةُ الهَمْزَةِ في الحَقِيقَةِ، ويُضاهِي هَذا في إيداعِ اللَّفْظِ دِلالَةً عَلى المَعْنى البَسْمَلَةُ، والحَمْدَلَةُ، والحَوْقَلَةُ، وتَسْمِيَةُ النُّحاةِ نَحْتًا، وحُكْمُ أسْماءِ الحُرُوفِ سُكُونُ الأعْجازِ ما لَمْ تَكُنْ مَعْمُولَةً، وهَلْ هي مُعْرَبَةٌ أمْ مَبْنِيَّةٌ أمْ لا؟ ولا خِلافَ مَبْنِيٌّ عَلى الِاخْتِلافِ في تَفْسِيرِ المُعْرَبِ والمَبْنِيِّ، فالخِلافُ لَفْظِيٌّ، ولِلنّاسِ فِيما يَعْشَقُونَ مَذاهِبُ، والبَحْثُ مُسْتَوْفًى في كُتُبِنا النَّحْوِيَّةِ، وقَدْ كَثُرَ الكَلامُ في شَأْنِ أوائِلِ السُّوَرِ، والَّذِي أطْبَقَ عَلَيْهِ الأكْثَرُ وهو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وغَيْرِهِ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ أنَّها أسْماءٌ لَها، وسُمِّيَتْ بِها إشْعارًا بِأنَّها كَلِماتٌ مَعْرُوفَةُ التَّرْكِيبِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ وحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعالى لَمْ تَتَساقَطْ مَقْدِرَتُهم دُونَ مُعارَضَتِها، وذَلِكَ كَما سَمَّوْا بِلامٍ والِدَ حارِثَةَ بْنِ لامٍ الطّائِيِّ، وبِصادٍّ النَّحّاسَ، وبِقافٍ الجَبَلَ، واسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِأنَّها لَوْ لَمْ تَكُنْ مُفْهِمَةً كانَ الخِطابُ بِها كالخِطابِ بِالمُهْمَلِ، والتَّكَلُّمِ بِالزِّنْجِيِّ، مَعَ العَرَبِيِّ، ولَمْ يَكُنِ القُرْآنُ بِأسْرِهِ بَيانًا وهُدًى، ولَما أمْكَنَ التَّحَدِّي بِهِ، وإنْ كانَتْ مُفْهِمَةً، فَأمّا أنْ يُرادَ بِها السُّوَرُ الَّتِي هي مُسْتَهَلُّها عَلى أنَّها ألْقابُها بِناءً عَلى ذَلِكَ الإشْعارِ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، والثّانِي باطِلٌ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ ما وُضِعَتْ لَهُ في لُغَةِ العَرَبِ، وظاهِرٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أوْ غَيْرُهُ، وهو باطِلٌ، لِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (p-100)فَلا يُحْمَلُ عَلى ما لَيْسَ في لُغَتِهِمْ، وعُورِضَ بِوُجُوهٍ، الأوَّلُ أنّا نَجِدُ سُوَرًا كَثِيرَةً افْتُتِحَتْ بِـ(الم)، و(حم)، والمَقْصُودُ رَفْعُ الِاشْتِباهِ، الثّانِي لَوْ كانَتْ أسْماءً لَوَرَدَتْ، ولاشْتَهَرَتْ بِها، والشُّهْرَةُ بِخِلافِها كَسُورَةِ البَقَرَةِ، وآلِ عِمْرانَ، الثّالِثُ أنَّ العَرَبَ لَمْ تَتَجاوَزْ ما سَمَّوْا بِهِ مَجْمُوعَ اسْمَيْنِ كَبَعْلَبَكَّ، ولَمْ يُسَمِّ أحَدٌ مِنهم بِمَجْمُوعِ ثَلاثَةِ أسْماءِ وأرْبَعَةٍ وخَمْسَةٍ، فالقَوْلُ بِأنَّها أسْماءُ السُّوَرِ خُرُوجٌ عَنْ لُغَتِهِمُ، الرّابِعُ أنَّهُ يُؤَدِّي إلى اتِّحادِ الِاسْمِ والمُسَمّى، الخامِسُ أنَّ هَذِهِ الألْفاظَ داخِلَةٌ في السُّوَرِ، وجُزْءُ الشَّيْءِ مُتَقَدِّمٌ عَلى الشَّيْءِ بِالرُّتْبَةِ، واسْمُ الشَّيْءِ مُتَأخِّرٌ عَنْهُ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا مُتَأخِّرًا مَعًا، وهو مُحالٌ، وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِما يُجابُ عَنِ الأعْلامِ المُشْتَرَكَةِ مِن أنَّها لَيْسَتْ بِوَضْعٍ واحِدٍ، وعَنِ الثّانِي بِأنَّهُ ورَدَ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(يس قَلْبُ القُرْآنِ)،» و«(مَن قَرَأ (حم) حُفِظَ إلى أنْ يُصْبِحَ)،» وفي السُّنَنِ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَجَدَ في (ص)،» وإذا ثَبَتَ في البَعْضِ ثَبَتَ في الجَمِيعِ، إذْ لا فارِقَ مَعَ أنَّ شُهْرَةَ أحَدِ العَلَمَيْنِ لا يَضُرُّ عَلَمِيَّةَ الآخَرِ، فَكَمْ مِن مُسَمًّى لا يُعْرَفُ اسْمُهُ إلّا بَعْدَ التَّنْقِيرِ لِاشْتِهارِهِ بِغَيْرِهِ كَأبِي هُرَيْرَةَ، وذِي اليَدَيْنِ، وعَدَمُ اشْتِهارِ بَعْضِها لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فَتُرِكَ لِاحْتِياجِهِ إلى ضَمِيمَةٍ، كَـ(الم) هُنا، وعَنِ الثّالِثِ بِأنَّ التَّسْمِيَةَ بِثَلاثَةِ أسْماءٍ مَثَلًا إنَّما تَمْتَنِعُ إذا رُكِّبَتْ، وجُعِلَتِ اسْمًا واحِدًا، فَأمّا إذا نُثِرَتْ نَثْرَ أسْماءِ الأعْدادِ فَلا، لِأنَّها مِن بابِ التَّسْمِيَةِ بِما حَقُّهُ أنْ يُحْكى. وقَدْ ورَدَتِ التَّسْمِيَةُ بِثَلاثَةِ ألْفاظٍ، كَشابَ قَرْناها، وسُرَّ مَن رَأى، ودارَبَجَرْدَ، وسِوى سِيبَوَيْهِ بَيَّنَ التَّسْمِيَةَ بِالجُمْلَةِ، والبَيْتِ مِنَ الشِّعْرِ، وطائِفَةٍ مِن أسْماءِ حُرُوفِ المُعْجَمِ، وعَنِ الرّابِعِ بِأنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مِن تَسْمِيَةِ مُؤَلَّفٍ بِمُفْرَدٍ، والمُفْرَدُ غَيْرُ المُؤَلَّفِ، فَلا اتِّحادَ، ألا تَرى أنَّهم جَعَلُوا اسْمَ الحَرْفِ مُؤَلَّفًا مِنهُ ومِن غَيْرِهِ، (كَصادٍ)، فَهُما مُتَغايِرانِ ذاتًا وصِفَةً، وعَنِ الخامِسِ بِأنَّ تَأخُّرَ ما هو مُتَقَدِّمٌ بِاعْتِبارِ آخَرَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، والجُزْءُ مُقَدَّمٌ مِن حَيْثُ ذاتُهُ مُؤَخَّرٌ مِن حَيْثُ وصْفِهِ، وهو الِاسْمِيَّةُ، فَلا مَحْذُورَ، وقالَ بَعْضُهم: كَوْنُها أسْماءَ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ أقْرَبُ إلى التَّحْقِيقِ لِظُهُورِهِ وعَدَمِ التَّجَوُّزِ فِيهِ، وسَلامَتِهِ، مِمّا يَرُدُّ عَلى غَيْرِهِ، ولِأنَّهُ الأمْرُ المُحَقَّقُ، وأوْفَقُ لِلَطائِفِ التَّنْزِيلِ لِدَلالَتِهِ عَلى الإعْجازِ قَصْدًا، ووُقُوعُ الِاشْتِراكِ في الأعْلامِ مِن واضِعٍ واحِدٍ، فَإنَّهُ يَعُودُ بِالنَّقْضِ عَلى ما هو مَقْصُودُ العَلَمِيَّةِ، وكَلامُ سِيبَوَيْهِ وغَيْرِهِ لَيْسَ نَصًّا فِيها لِاحْتِمالِ أنَّهم أرادُوا أنَّها جارِيَةٌ مَجْراها، كَما يَقُولُونَ: قَرَأْتُ: بانَتْ سُعادُ، و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ أيْ ما أوَّلُهُ ذَلِكَ، فَلَمّا غَلَبَ جَرَيانُها عَلى الألْسِنَةِ صارَتْ بِمَنزِلَةِ الأعْلامِ الغالِبَةِ، فَذُكِرَتْ في بابِ العَلَمِ، وأُثْبِتَتْ لَها أحْكامُهُ، عَلى أنَّ ما ذُكِرَ في الِاعْتِراضِ الثّالِثِ مِمّا لا مَحِيصَ عَنْهُ، إذْ عَدَمُ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ بِثَلاثَةِ أسْماءٍ وأرْبَعَةٍ وخَمْسَةٍ في كَلامِ العَرَبِ مِمّا لا شَكَّ فِيهِ، وما نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ مُجَرَّدُ قِياسٍ مُحْتاجٍ لِلْإثْباتِ، كَما ذَكَرَهُ السَّيِّدُ السَّنَدُ، هَذا ووَراءَ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ أقْوالٌ أخْشى مِن نَقْلِها المَلالَ، والَّذِي يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ عَلَمٌ مَسْتُورٌ وسِرٌّ مَحْجُوبٌ عَجَزَتِ العُلَماءُ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ إدْراكِهِ، وقَصُرَتْ خُيُولُ الخَيالِ عَنْ لَحاقِهِ، ولِهَذا قالَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: لِكُلِّ كِتابٍ سِرٌّ، وسِرُّ القُرْآنِ أوائِلُ السُّوَرِ، وقالَ الشَّعْبِيُّ: سِرُّ اللَّهِ تَعالى، فَلا تَطْلُبُوهُ ؎بَيْنَ المُحِبِّينَ سِرٌّ لَيْسَ يُفْشِيهِ قَوْلٌ ولا قَلَمٌ لِلْخَلْقِ يَحْكِيهِ فَلا يَعْرِفُهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلّا الأوْلِياءُ الوَرَثَةُ، فَهم يَعْرِفُونَهُ مِن تِلْكَ الحَضْرَةِ، وقَدْ تَنْطِقُ لَهُمُ الحُرُوفُ عَمّا فِيها، كَما كانَتْ تَنْطِقُ لِمَن سَبَّحَ بِكَفِّهِ الحَصى، وكَلَّمَهُ الضَّبُّ والظَّبْيُ، كَما صَحَّ ذَلِكَ مِن رِوايَةِ أجْدادِنا أهْلِ البَيْتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، بَلْ مَتى جَنى العَبْدُ ثَمَرَةَ شَجَرَةِ قُرَبِ النَّوافِلِ عَلِمَها، وغَيْرَها بِعِلْمِ اللَّهِ تَعالى الَّذِي لا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ، وما ذَكَرَهُ المُسْتَدِلُّ سابِقًا مِن أنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُفْهِمَةً كانَ الخِطابُ بِها كالخِطابِ بِالمُهْمَلِ إلَخْ، فَمُهْمَلٌ مِنَ القَوْلِ، وإنْ جَلَّ قائِلُهُ لِأنَّهُ إنْ أرادَ إفْهامَ جَمِيعِ النّاسِ، فَلا نُسَلِّمُ أنَّهُ مَوْجُودٌ في العَلَمِيَّةِ، وإنْ أرادَ إفْهامَ (p-101)المُخاطَبِ بِها، وهو هُنا الرَّسُولُ ﷺ، فَهو مِمّا لا يَشُكُّ فِيهِ مُؤْمِنٌ، وإنْ أرادَ جُمْلَةً مِنَ النّاسِ فَيا حَيْهَلا، إذْ أرْبابُ الذَّوْقِ يَعْرِفُونَها، وهم كَثِيرُونَ في المُحَمَّدِيِّينَ والحَمْدُ لِلَّهِ ؎نُجُومُ سَماءٍ كُلَّما انْقَضَّ كَوْكَبٌ ∗∗∗ بَدا كَوْكَبٌ تَأوِي إلَيْهِ كَواكِبُهُ وجَهْلُ أمْثالِنا بِالمُرادِ مِنها لا يَضُرُّ فَإنَّ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي كُلِّفْنا بِها ما لا نَعْرِفُ وجْهَ الحِكْمَةِ فِيهِ، كَرَمْيِ الجَمَراتِ، والسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ، والرَّمْلِ والِاضْطِّباعِ، والطّاعَةُ في مِثْلِهِ أدَلُّ عَلى كَمالِ الِانْقِيادِ، ونِهايَةِ التَّسْلِيمِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَأْمُرَنا مَن لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ جَلَّ شَأْنُهُ بِما لَمْ نَقِفْ عَلى مَعْناهُ مِنَ الأقْوالِ، ويَكُونُ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ ظُهُورَ كَمالِ الِانْقِيادِ مِنَ المَأْمُورِ لِلْآمِرِ، ونِهايَةَ التَّسْلِيمِ، والِامْتِثالِ لِلْحَكِيمِ القادِرِ. ؎لَوْ قالَ تِيهًا قِفْ عَلى جَمْرِ الغَضى ∗∗∗ لَوَقَفْتُ مُمْتَثِلًا ولَمْ أتَوَقَّفِ عَلى أنَّ فِيهِ فائِدَةً أُخْرى هي أنَّ الإنْسانَ إذا وقَفَ عَلى المَعْنى، وأحاطَ بِهِ سَقَطَ وقْعُهُ عَنِ القَلْبِ، وإذا لَمْ يَقِفْ عَلى المَقْصُودِ مِنهُ مَعَ القَطْعِ بِأنَّ المُتَكَلِّمَ بِهِ حَكِيمٌ، فَإنَّهُ يَبْقى قَلْبُهُ إلَيْهِ أبَدًا، ومُتَلَفِّتًا نَحْوَهُ سَرْمَدًا، ومُتَفَكِّرًا فِيهِ، وطائِرًا إلى وكْرِهِ بِقُدّامَيْ ذِهْنِهِ، وخَوافِيهِ، وبابُ التَّكْلِيفِ اشْتِغالُ السِّرِّ بِذِكْرِ المَحْبُوبِ، والتَّفَكُّرُ فِيهِ، وفي كَلامِهِ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعالى أنَّ في بَقاءِ العَبْدِ مُلْتَفِتَ الذِّهْنِ مُشْتَغِلَ الخاطِرِ بِذَلِكَ أبَدًا مَصْلَحَةً عَظِيمَةً، ومِنَّةً مِنهُ عَلَيْهِ جَسِيمَةً، رُبَّما يَرْقى بِواسِطَتِها إلى حَظائِرِ القُدْسِ ومَعالِمِ الأُنْسِ، وأوَّلُ العِشْقِ خَيالٌ، وهَذا لا يُنافِي كَوْنَ القُرْآنِ عَرَبِيًّا مُبِينًا مَثَلًا لِأنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن عَلِمْتَ. وأمّا التَّحَدِّي فَلَيْسَ بِجَمِيعِ أجْزائِهِ، وكَوْنُ أوَّلِ السُّورَةِ مِمّا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مِمّا يُتَحَدّى بِهِ غَيْرُ مُسْلِمٍ، ومِن عَجائِبِ هَذِهِ الفَواتِحِ أنَّها نِصْفُ حُرُوفِ المُعْجَمِ، عَلى قَوْلٍ، وهي مَوْجُودَةٌ في تِسْعٍ وعِشْرِينَ سُورَةً عَدَدِ الحُرُوفِ كُلِّها، عَلى قَوْلٍ، واشْتَمَلَتْ عَلى أنْصافِ أصْنافِها مِنَ المَهْمُوسَةِ والمَجْهُورَةِ، والشَّدِيدَةِ والمُطْبَقَةِ والمُسْتَعْلِيَةِ والمُنْخَفِضَةِ، وحُرُوفِ القَلْقَلَةِ، وقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ عَلى سِرِّ عَدَدِ حُرُوفِها بِالتَّكْرارِ، وعَدَدِ حُرُوفِها بِغَيْرِ تَكْرارٍ، وعَلى جُمْلَتِها في السُّوَرِ، وعَلى إفْرادِها في (ص) و(ق) و(ن)، وتَثْنِيَتِها في (يس) و(طه)، وأخَواتِهِما، وجَمْعِها مِن ثَلاثَةٍ فَصاعِدًا، ولِمَ بَلَغَتْ خَمْسَ حُرُوفٍ، ولِمَ وُصِلَ بَعْضُها وقُطِعَ بَعْضٌ، فَقالَ قُدِّسَ سِرُّهُ في فُتُوحاتِهِ أعادَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْنا مِن طِيبِ نَفَحاتِهِ ما حَصَّلَهُ: اعْلَمْ أنَّ مَبادِيَ السُّوَرِ المَجْهُولَةِ لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَها إلّا أهْلُ الصُّوَرِ المَعْقُولَةِ، فَجَعَلَها تَبارَكَ وتَعالى تِسْعًا وعِشْرِينَ سُورَةً، وهو كَمالُ الصُّورَةِ ﴿والقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ﴾ والتّاسِعُ والعِشْرُونَ القُطْبُ الَّذِي بِهِ قِوامُ الفَلَكِ، وهو عِلَّةُ وُجُودِهِ، وهو سُورَةُ آلِ عِمْرانَ ﴿الم﴾ ﴿اللَّهُ﴾ ولَوْلا ذَلِكَ ما ثَبَتَتِ الثَّمانِيَةُ والعِشْرُونَ، وجُمْلَتُها عَلى تَكْرارِ الحُرُوفِ ثَمانِيَةٌ وسَبْعُونَ حَرْفًا، فالثَّمانِيَةُ حَقِيقَةُ البِضْعِ، قالَ: (الإيمانِ بِضْعٌ وسَبْعُونَ)، وهَذِهِ الحُرُوفُ ثَمانِيَةٌ وسَبْعُونَ، فَلا يُكْمِلُ عَبْدٌ أسْرارَ الإيمانِ حَتّى يَعْلَمَ حَقائِقَ هَذِهِ الحُرُوفِ في سُوَرِها، كَما أنَّهُ إذا عَلِمَها مِن غَيْرِ تَكْرارٍ عَلِمَ تَنْبِيهَ اللَّهِ فِيها عَلى حَقِيقَةِ الإيجادِ، وتَفَرَّدَ القَدِيمُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِصِفاتِهِ الأزَلِيَّةِ فَأرْسَلَها في قُرْآنِهِ أرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا مُفْرَدَةً مُبْهَمَةً، فَجَعَلَ الثَّمانِيَةَ لِمَعْرِفَةِ الذّاتِ، والسَّبْعَ الصِّفاتِ مِنّا، وجَعَلَ الأرْبَعَةَ لِلطَّبائِعِ المُؤَلَّفَةِ، فَجاءَتِ اثْنَتا عَشْرَةَ مَوْجُودَةً، وهَذا الإنْسانُ مِن هَذا الفَلَكِ، ومِن فَلَكٍ آخَرَ مُتَرَكِّبٍ مِن أحَدَ عَشَرَ، ومِن عَشَرَةٍ، ومِن تِسْعَةٍ، ومِن ثَمانِيَةٍ حَتّى يَصِلَ إلى فَلَكِ الِاثْنَيْنِ، ولا يَتَحَلَّلُ إلى الأحَدِيَّةِ أبَدًا، فَإنَّها مِمّا انْفَرَدَ بِها الحَقُّ سُبْحانَهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى جَعَلَ أوَّلَها الألِفَ في الخَطِّ، والهَمْزَةَ في اللَّفْظِ، وآخِرَها النُّونَ، فالألِفُ لِوُجُودِ الذّاتِ عَلى كَمالِها، لِأنَّها غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلى حَرَكَةٍ، والنُّونُ لِوُجُودِ الشَّطْرِ مِنَ العالَمِ، وهو عالَمُ التَّرْكِيبِ، وذَلِكَ نِصْفُ الدّائِرَةِ الظّاهِرَةِ لَنا مِنَ الفَلَكِ، والنِّصْفُ الآخَرُ النُّونُ المَعْقُولَةُ عَلَيْها الَّتِي لَوْ ظَهَرَتْ لِلْحِسِّ وانْتَقَلَتْ إلى عالَمِ الرُّوحِ لَكانَتْ دائِرَةً مُحِيطَةً، ولَكِنْ أخْفى هَذِهِ النُّونَ الرُّوحانِيَّةَ الَّتِي بِها كَمالُ الوُجُودِ، وجُعِلَتْ نُقْطَةُ النُّونِ المَحْسُوسَةُ دالَّةً عَلَيْها، (p-102)فالألِفُ كامِلَةٌ مِن جَمِيعِ وُجُوهِها، والنُّونُ ناقِصَةٌ، فالشَّمْسُ كامِلَةٌ، والقَمَرُ ناقِصٌ، لِأنَّهُ مَحْوٌ، فَصِفَةُ ضَوْئِهِ مُعارَةٌ، وهي الأمانَةُ الَّتِي حَمَلَها، وعَلى قَدْرِ مَحْوِهِ وسِرارِهِ إثْباتُهُ وظُهُورُهُ ثَلاثَةً لِثَلاثَةٍ، فَثَلاثَةٌ غُرُوبُ القَمَرِ القَلْبِيِّ الإلَهِيِّ في الحَضْرَةِ الأحَدِيَّةِ، وثَلاثَةٌ طُلُوعُ القَمَرِ القَلْبِيِّ الإلَهِيِّ في الحَضْرَةِ الرَّبّانِيَّةِ، وما بَيْنَهُما في الخُرُوجِ والرُّجُوعِ قَدَمًا بِقَدَمٍ، لا يَخْتَلُّ أبَدًا، ثُمَّ جَعَلَ سُبْحانَهُ وتَعالى هَذِهِ الحُرُوفَ عَلى مَراتِبَ مِنها مَوْصُولٌ، ومِنها مَقْطُوعٌ، ومِنها مُفْرَدٌ، ومُثَنًّى ومَجْمُوعٌ، ثُمَّ نَبَّهَ أنَّ في كُلِّ وصْلٍ قَطْعًا، ولَيْسَ في كُلِّ قَطْعٍ وصْلٌ، فَكُلُّ وصْلٍ يَدُلُّ عَلى فَصْلٍ، ولَيْسَ كُلُّ فَصْلٍ يَدُلُّ عَلى وصْلٍ، والوَصْلُ والفَصْلُ في الجَمْعِ، وغَيْرِ الجَمْعِ، والفَصْلُ وحْدَهُ في عَيْنِ الفَرْقِ، فَما أفْرَدَهُ مِن هَذا فَإشارَةٌ إلى فَناءِ رَسْمِ العَبْدِ، أزَلًا، أوْ ما أثْبَتَهُ فَإشارَةٌ إلى وُجُودِ رَسْمِ العُبُودِيَّةِ حالًا، وما جَمَعَهُ فَإشارَةٌ إلى الأبَدِ بِالمَوارِدِ الَّتِي لا تَتَناهى، والإفْرادُ لِلْبَحْرِ الأزَلِيِّ، والجَمْعُ لِلْبَحْرِ الأبَدِيِّ، والمُثَنّى لِلْبَرْزَخِ المُحَمَّدِيِّ الإنْسانِيِّ، والألِفُ فِيما نَحْنُ فِيهِ إشارَةٌ إلى التَّوْحِيدِ، والمِيمُ إشارَةٌ إلى المُلْكِ الَّذِي لا يَبِيدُ، واللّامُ بَيْنَهُما واسِطَةٌ لِيَكُونَ بَيْنَهُما رابِطَةٌ، فانْظُرْ إلى السَّطْرِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الخَطُّ مِنَ اللّامِ، فَتَجِدُ الألِفَ إلَيْهِ يَنْتَهِي أصْلُها وتَجِدُ المِيمَ مِنهُ يَبْتَدِئُ نَشْؤُها، ثُمَّ تَنْزِلُ مِن أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وهو مَوْضِعُ السَّطْرِ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ مُنْتَهى تَعْرِيفِ المِيمِ، ونُزُولُ الألِفِ إلى السَّطْرِ مِثْلُ قَوْلِهِ: «(يَنْزِلُ رَبُّنا إلى السَّماءِ الدُّنْيا)،» وهو أوَّلُ عالَمِ التَّرْكِيبِ، لِأنَّهُ سَماءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَلِيهِ فَلَكُ النّارِ، فَلِذَلِكَ نَزَلَ إلى أوَّلِ السَّطْرِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى نَزَلَ مِن مَقامِ الأحَدِيَّةِ إلى مَقامِ إيجادِ الخَلِيفَةِ نُزُولَ تَقَدُّسِ وتَنْزِيهٍ، لا نُزُولَ تَمْثِيلٍ وتَشْبِيهٍ، وكانَتِ اللّامُ واسِطَةً، وهي نائِبَةٌ مَنابَ المُكَوَّنِ، والكَوْنِ فَهي القُدْرَةُ الَّتِي عَنْها وُجِدَ العالَمُ، فَأشْبَهَتِ الألِفَ في النُّزُولِ إلى أوَّلِ السَّطْرِ، ولَمّا كانَتْ مُمْتَزِجَةً مِنَ المُكَوَّنِ والكَوْنِ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لا يَتَّصِفُ بِالقُدْرَةِ عَلى نَفْسِهِ، وإنَّما هو قادِرٌ عَلى خَلْقِهِ، فَكانَ وجْهُ القُدْرَةِ مَصْرُوفًا إلى الخَلْقِ فَلا بُدَّ مِن تَعَلُّقِها بِهِمْ، ولَمّا كانَتْ حَقِيقَتُها لا تَتِمُّ بِالوُصُولِ إلى السَّطْرِ، فَتَكُونُ هي والألِفُ عَلى مَرْتَبَةٍ واحِدَةٍ، طَلَبَتْ بِحَقِيقَتِها النُّزُولَ تَحْتَ السَّطْرِ، أوْ عَلَيْهِ، كَما نَزَلَ المِيمُ، فَنَزَلَتْ إلى إيجادِهِ، ولَمْ تَتَمَكَّنْ أنْ تَنْزِلَ عَلى صُورَتِهِ، فَكانَ لا يُوجَدُ عَنْها إلّا المِيمُ، فَنَزَلَتْ نِصْفَ دائِرَةٍ حَتّى بَلَغَتْ إلى السَّطْرِ مِن غَيْرِ الجِهَةِ الَّتِي نَزَلَتْ مِنها، فَصارَتْ نِصْفَ فَلَكٍ مَحْسُوسٍ، تَطْلُبُ نِصْفَ فَلَكٍ مَعْقُولٍ، فَكانَ مِنهُما فَلَكٌ دائِرٌ، فَكانَ العالَمُ كُلُّهُ في سِتَّةِ أيّامٍ أجْناسًا مِن أوَّلِ يَوْمِ الأحَدِ إلى آخِرِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وبَقِيَ يَوْمُ السَّبْتِ لِلِانْتِقالِ مِن مَقامٍ إلى مَقامٍ، ومِن حالٍ إلى حالٍ، فَصارَ (الم) فَلَكًا مُحِيطًا مِن ورائِهِ عِلْمُ الذّاتِ، والصِّفاتِ، والأفْعالِ، والمَفْعُولاتِ، فَمَن قَرَأها بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ حَضَرَ بِالكُلِّ لِلْكُلِّ مَعَ الكُلِّ، إلى آخِرِ ما قالَ، وذَكَرَ في كِتابِ (الإسْرا إلى المَقامِ الأسْرى) ما يُشِيرُ إلى دَقائِقِ أفْكارٍ وخَفايا أسْرارٍ مَبْنِيَّةٍ عَلى أعْدادِ الحُرُوفِ، وهي ثَلاثَةُ آلافٍ، وخَمْسُمِائَةٍ، واثْنَيْنِ وثَلاثِينَ، وأوَّلُ التَّفْصِيلِ مِن نُوحٍ إلى إشْراقِ يُوحٍ، ثُمَّ إلى آخِرِ التَّرْكِيبِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الكَلِمَةُ والرُّوحُ، فَبَعْدَ عَدَدِهِ تَضْرِبُهُ وتَجْمَعُهُ، وتَحُطُّ مِنهُ طَرْحًا، وتَضَعُهُ يَبْدُو لَكَ تَمامُ الشَّرِيعَةِ، حَتّى إلى انْخِرامِ الطَّبِيعَةِ، ومِمّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِذَلِكَ ما رَواهُ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ اسْتَخْرَجَ وقْعَةَ مُعاوِيَةَ مِن (حمسعق)، واسْتَخْرَجَ أبُو الحَكَمِ عَبْدُ السَّلامِ بْنُ بَرَّجانَ في تَفْسِيرِهِ فَتْحَ بَيْتِ المَقْدِسِ سَنَةَ ثَلاثٍ وثَمانِينَ وخَمْسِمِائَةٍ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الم﴾ ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ وذَكَرَ الشَّيْخُ قُدِّسَ سِرُّهُ كَيْفِيَّةَ اسْتِخْراجِ ذَلِكَ بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وهو أنْ تَأْخُذَ عَدَدَ (الم) بِالجَزْمِ الصَّغِيرِ، فَيَكُونُ ثَمانِيَةً، وتَجْمَعَها إلى ثَمانِيَةِ البِضْعِ في الآيَةِ، فَتَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ فَتُزِيلَ الواحِدَ الَّذِي لِلْألِفِ لِلْأُسِّ فَتَبْقى خَمْسَةَ عَشَرَ فَتُمْسِكَها عِنْدَكَ، ثُمَّ تَرْجِعَ إلى العَمَلِ في ذَلِكَ بِالجُمَّلِ الكَبِيرِ، وهو الجَزْمُ فَتَضْرِبُ ثَمانِيَةَ البِضْعِ في أحَدٍ وسَبْعِينَ، واجْعَلْ ذَلِكَ كُلَّهُ سِنِينَ، يَخْرُجُ لَكَ في الضَّرْبِ خَمْسُمِائَةٍ وثَمانِيَةٌ وسِتُّونَ سَنَةً، فَتُضِيفَ إلَيْها الخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي مَسَكْتَها عِنْدَكَ، فَتَصِيرُ ثَلاثَةً وثَمانِينَ وخَمْسَمِائَةِ (p-103)سَنَةٍ، وهو زَمانُ فَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ عَلى قِراءَةِ (غَلَبَتْ) بِفَتْحِ الغَيْنِ واللّامِ، و(سَيُغْلَبُونَ) بِضَمِّ الياءِ، وفَتْحِ اللّامِ انْتَهى، وإذا عَلِمْتَ أنَّ هَذِهِ الفَواتِحَ السِّرُّ الأعْظَمُ، والبَحْرُ الخِضَمُّ، والنُّورُ الأتَمُّ. ؎صَفاءٌ ولا ماءٌ ولُطْفٌ ولا هَوًا ∗∗∗ ونُورٌ ولا نارٌ ورُوحٌ ولا جِسْمُ (فاعْلَمْ) أنَّ كُلَّ ما ذَكَرَ النّاسُ فِيها رَشْفَةٌ مِن بِحارِ مَعانِيها، ومَنِ ادَّعى قَصْرًا فَمِن قُصُورِهِ، أوْ زَعَمَ أنَّهُ أتى بِكَثِيرٍ فَمِن قِلَّةِ نُورِهِ، والعارِفُ يَقُولُ بِانْدِماجِ جَمِيعِ ما ذَكَرُوهُ في صَدَفِ فَوائِدِها، وامْتِزاجِ سائِرِ ما سَطَرُوهُ في طِمْطامِ فَوائِدِها، فَإنْ شِئْتَ فَقُلْ كَما أنَّها مُشْتَمِلَةٌ عَلى هاتِيكَ الأسْرارِ يُشِيرُ كُلُّ حَرْفٍ مِنها إلى اسْمٍ مِن أسْمائِهِ تَعالى، وإنْ شِئْتَ فَقُلْ: أتى بِها هَكَذا لِتَكُونَ كالإيقاظِ، وقَرْعِ العَصا لِمَن تَحَدّى بِالقُرْآنِ، وإنْ شِئْتَ فَقُلْ: جاءَتْ كَذَلِكَ لِيَكُونَ مَطْلَعُ ما يُتْلى عَلَيْهِمْ مُسْتَقِلًّا بِضَرْبٍ مِنَ الغَرابَةِ أُنْمُوذَجًا لِما في الباقِي مِن فُنُونِ الإعْجازِ، فَإنَّ النُّطْقَ بِأنْفَسِ الحُرُوفِ في تَضاعِيفِ الكَلامِ، وإنْ كانَ عَلى طَرْفِ الثُّمامِ يَتَناوَلُهُ الخَواصُّ والعَوامُّ، لَكِنَّ التَّلَفُّظَ بِأسْمائِها إنَّما يَتَأتّى مِمَّنْ دَرَسَ، وخَطَّ، وأمّا مَن لَمْ يَحُمْ حَوْلَ ذَلِكَ قَطُّ، فَأعَزُّ مِن بَيْضِ الأنُوقِ، وأبْعَدُ مِن مَناطِ العَيُّوقِ، ولا سِيَّما إذا كانَ عَلى نَمَطٍ عَجِيبٍ، وأُسْلُوبٍ غَرِيبٍ مُنْبِئٍ عَنْ سِرٍّ سِرِّيٍّ مَبْنِيٍّ عَلى نَهْجٍ عَبْقَرِيٍّ، بِحَيْثُ يَحارُ فِيهِ أرْبابُ العُقُولِ، ويَعْجَزُ عَنْ إدْراكِهِ ألْبابُ الفُحُولِ، وإنْ شِئْتَ فَقُلْ فِيها جَلْبٌ لِإصْغاءِ الأذْهانِ، وإلْجامُ كُلِّ مَن يَلْغُو مِنَ الكُفّارِ عِنْدَ نُزُولِ القُرْآنِ، لِأنَّهم إذا سَمِعُوا ما لَمْ يَفْهَمُوهُ مِن هَذا النَّمَطِ العَجِيبِ تَرَكُوا اللَّغَطَ، وتَوَفَّرَتْ دَواعِيهِمْ لِلنَّظَرِ في الأمْرِ المُناسِبِ بَيْنَ حُرُوفِ الهِجاءِ الَّتِي جاءَتْ مُقَطَّعَةً، وبَيْنَ ما يُجاوِرُها مِنَ الكَلِمِ رَجاءَ أنَّهُ رُبَّما جاءَ كَلامٌ يُفَسِّرُ ذَلِكَ المُبْهَمَ، ويُوَضِّحُ ذَلِكَ المُشْكِلَ، وفي ذَلِكَ رَدُّ شَرٍّ كَثِيرٍ مِن عِنادِهِمْ، وعُتُوِّهِمْ، ولَغْوِهِمُ الَّذِي كانَ إذْ ذاكَ يَظْهَرُ مِنهُمْ، وفي ذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنهُ تَعالى لِلْمُؤْمِنِينَ، ومِنَّةٌ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ، وإنْ شِئْتَ فَقُلْ: إنَّ بَعْضَ مُرَكَّباتِها بِالمَعْنى الَّذِي يَفْهَمُهُ أهْلُ اللَّهِ تَعالى مِنها، يَصِحُّ إطْلاقُهُ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ، فَيَجْرِي ما رُوِيَ عَنْعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ قالَ: يا كهيعص، ويا حم عسق، عَلى ظاهِرِهِ، وإنْ أبَيْتَ فَقُلِ المُرادُ يا مُنَزِّلَهُما، وإنْ شِئْتَ فَقُلْ غَيْرَ ذَلِكَ، حَدِّثْ عَنِ البَحْرِ ولا حَرَجَ. وعِنْدِي فِيما نَحْنُ فِيهِ لَطائِفُ، وسُبْحانَ مَن لا تَتَناهى أسْرارُ كَلامِهِ، فَقَدْ أشارَ سُبْحانَهُ بِمُفْتَتَحِ الفاتِحَةِ حَيْثُ أتى بِهِ واضِحًا إلى اسْمِهِ الظّاهِرِ، وبِمَبْدَإ سُورَةِ البَقَرَةِ إلى اسْمِهِ الباطِنِ، فَهو الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ، وأشارَ بِتَقْدِيمِ الأوَّلِ إلى أنَّ الظّاهِرَ مُقَدَّمٌ، وبِهِ عُمُومُ البَعْثَةِ، (نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظّاهِرِ، واللَّهُ تَعالى يَتَوَلّى السَّرائِرَ)، وأيْضًا في الأوَّلِ إشارَةٌ إلى مَقامِ الجَمْعِ، وفي الثّانِي رَمْزٌ إلى الفَرْقِ بَعْدَ الجَمْعِ، وأيْضًا افْتِتاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِالمُبْهَمِ، ثُمَّ تَعْقِيبُهُ بِالواضِحِ فِيهِ أتَمُّ مُناسَبَةٍ لِقِصَّةِ البَقَرَةِ الَّتِي سُمِّيَتِ السُّورَةُ بِها، ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فِيها واللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ وأيْضًا في الحُرُوفِ رَمْزٌ إلى ثَلاثَةِ أشْياءَ، فالألِفُ إلى الشَّرِيعَةِ، واللّامُ إلى الطَّرِيقَةِ، والمِيمُ إلى الحَقِيقَةِ، فَهُناكَ يَكُونُ العَبْدُ كالدّائِرَةِ، نِهايَتُها عَيْنُ بِدايَتِها، وهو مَقامُ الفَناءِ في اللَّهِ تَعالى بِالكُلِّيَّةِ، وأيْضًا الألِفُ مِن أقْصى الحَلْقِ واللّامُ مِن طَرَفِ اللِّسانِ، وهو وسَطُ المَخارِجِ، والمِيمُ مِنَ الشَّفَةِ، وهو آخِرُها، فَيُشِيرُ بِها إلى أنَّ أوَّلَ ذِكْرِ العَبْدِ، ووَسَطُهُ وآخِرُهُ لا يَنْبَغِي إلّا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وأيْضًا في ذَلِكَ إشارَةٌ إلى سِرِّ التَّثْلِيثِ، فالألِفُ مُشِيرٌ إلى اللَّهِ تَعالى، واللّامُ إلى جِبْرِيلَ، والمِيمُ إلى مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقَدْ قالَ جَعْفَرٌ الصّادِقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: في الألِفِ سِتُّ صِفاتٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى الِابْتِداءُ، واللَّهُ تَعالى هو الأوَّلُ، والِاسْتِواءُ، واللَّهُ تَعالى هو العَدْلُ الَّذِي لا يَجُورُ، والِانْفِرادُ، واللَّهُ تَعالى هو الفَرْدُ، وعَدَمُ الِاتِّصالِ بِحَرْفٍ، وهو سُبْحانَهُ بائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ، وحاجَةُ الحُرُوفِ إلَيْها مَعَ عَدَمِ حاجَتِها، وأنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللَّهِ واللَّهُ هو الغَنِيُّ، ومَعْناها الأُلْفَةُ، وبِاللَّهِ تَعالى الِائْتِلافُ، وبَقِيَتْ أسْرارٌ وأيُّ أسْرارٍ يَغارُ عَلَيْها العارِفُ الغَيُورُ (p-104)مِنَ الأغْيارِ، ومِنَ الطَّرائِفِ أنَّ بَعْضَ الشِّيعَةِ اسْتَأْنَسَ بِهَذِهِ الحُرُوفِ لِخِلافَةِ الأمِيرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، فَإنَّهُ إذا حَذَفَ مِنها المُكَرَّرَ يَبْقى ما يُمْكِنُ أنْ يَخْرُجَ مِنهُ (صِراطُ عَلِيٍّ حَقٌّ نُمْسِكُهُ)، ولَكَ أيُّها السُّنِّيُّ أنْ تَسْتَأْنِسَ بِها لِما أنْتَ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ بَعْدَ الحَذْفِ يَبْقى ما يُمْكِنُ أنْ يَخْرُجَ مِنهُ ما يَكُونُ خِطابًا لِلشِّيعِيِّ، وتَذْكِيرًا لَهُ بِما ورَدَ في حَقِّ الأصْحابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أجْمَعِينَ، وهو (طَرَقَ سَمْعَكَ النَّصِيحَةُ)، وهَذا مِثْلُ ما ذَكَرُوهُ حَرْفًا بِحَرْفٍ، وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: (صَحَّ طَرِيقُكَ مَعَ السُّنَّةِ)، ولَعَلَّهُ أوْلى، وألْطَفُ، وبِالجُمْلَةِ عَجائِبُ هَذِهِ الفَواتِحِ لا تَنْفَدُ، ولا يَحْصُرُها العَدُّ. ؎وكُلٌّ يَدَّعِي وصْلًا لِلَيْلى ∗∗∗ ولَيْلى لا تُقِرُّ لَهم بِذاكا وقَدِ اخْتَلَفَ أُناسٌ في إعْرابِها حَسْبَما اخْتَلَفَتْ أقْوالُهم فِيها، فَإنْ جُعِلَتْ أسْماءً لِلسُّوَرِ مَثَلًا كانَ لَها حَظٌّ مِنَ الإعْرابِ رَفْعًا ونَصْبًا وجَرًّا، فالرَّفْعُ عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، والنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ القَسَمِ أوْ فِعْلٍ يُناسِبُ المَقامَ، وجازَ النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ القَسَمِ فِيما وقَعَ بَعْدَهُ مَجْرُورٌ مَعَ الواوِ، ونَحْوِ ﴿ق والقُرْآنِ﴾ مَعَ أنَّهُ يَلْزَمُ المُخالَفَةُ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ في الإعْرابِ، إنْ جُعِلَتِ الواوُ لِلْعَطْفِ واجْتِماعُ قَسَمَيْنِ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، إنْ جُعِلَتْ لِلْقَسَمِ، وهو مُسْتَكْرَهٌ، كَما قالَهُ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ، لِأنَّ المَعْطُوفَ عَلَيْهِ في مَحَلٍّ يَقَعُ فِيهِ المَجْرُورُ، فَيَكُونُ العَطْفُ عَلى المَحَلِّ، ويُقَدَّرُ الجَوابُ مِن جِنْسِ ما بَعْدُ إنْ كانَتْ لِلْقَسَمِ، أوْ لا حاجَةَ لِلتَّقْدِيرِ، ويُكْتَفى بِجَوابٍ واحِدٍ إذْ لا مانِعَ مِن جَعْلِ أحَدِ القَسَمَيْنِ مُؤَكِّدًا لِلْآخَرِ مِن غَيْرِ عَطْفٍ، أوْ يُقالُ: هُما لَمّا كانا مُؤَكِّدَيْنِ لِشَيْءٍ واحِدٍ وهو الجَوابُ جازَ ذَلِكَ، ولا وجْهٌ وجِيهٌ لِلِاسْتِكْراهِ، وإنْ كانَ لِلضَّلالَةِ أبٌ فالتَّقْلِيدُ أبُوها، والجَرُّ عَلى إضْمارِ حَرْفِ القَسَمِ، وقَوْلُ ابْنِ هِشامٍ أنَّهُ وهْمٌ لِأنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ بِاسْمِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وبِأنَّهُ لا جَوابَ لِلْقَسَمِ في سُورَةِ البَقَرَةِ ونَحْوِها، ولا يَصِحُّ جَعْلُ ما بَعْدُ جَوابًا، وحُذِفَتِ اللّامُ كَحَذْفِها في قَوْلِهِ: ؎ورَبِّ السَّماواتِ العُلى وبُرُوجِها ∗∗∗ والأرْضِ وما فِيها المُقَدَّرُ كائِنُ لِأنَّ ذَلِكَ عَلى قِلَّتِهِ مَخْصُوصٌ بِاسْتِطالَةِ القَسَمِ، وهْمٌ لا يَخْفى عَلى الوَلِيدِ، إذْ مَذْهَبُنا كُوفِيٌّ، واتِّباعُ البَصْرِيِّ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وكَثِيرًا ما يُسْتَغْنى عَنِ الجَوابِ بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ، والمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَضْمُونُ ما بَعْدَهُ، وهو قَرِينَةٌ قَرِيبَةٌ، وبِهَذا صَرَّحَ في التَّسْهِيلِ وشُرُوحِهِ، وحَدِيثُ الِاسْتِطالَةِ لَيْسَ بِلازِمٍ، بَلْ هو الأغْلَبُ كَما صَرَّحَ بِهِ ابْنُ مالِكٍ ثُمَّ ما كانَ مِن هَذِهِ الفَواتِحِ مُفْرَدًا كَــ(ص)، أوْ مُوازِنًا لَهُ كَــ(حم) بِزِنَةِ قابِيلَ، يَتَأتّى فِيهِ الإعْرابُ لَفْظًا أوْ مَحَلًّا، بِأنْ يُسَكَّنَ حِكايَةً لِحالِهِ قَبْلُ، ويُقَدَّرَ إعْرابُهُ، وهو غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ، والتَّأْنِيثِ، وما خالَفَهُما نَحْوُ ﴿كهيعص﴾ يُحْكى لا غَيْرُ، وجازَتِ الحِكايَةُ في هَذِهِ الأسْماءِ مَعَ أنَّها مُخْتَصَّةٌ بِالأعْلامِ الَّتِي نُقِلَتْ مِنَ الجُمَلِ كَتَأبَّطَ شَرًّا، لِرِعايَةِ صُوَرِها المُنْبِئَةِ عَنْ نَقْلِها إلى العَلَمِيَّةِ، وفي الألْفاظِ الَّتِي وقَعَتْ أعْلامًا لِأنْفُسِها كَضَرَبَ فِعْلٍ ماضٍ لِحِفْظِ المُجانَسَةِ مَعَ المُسَمّى في الإشْعارِ بِأنَّها لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أصْلِها بِالكُلِّيَّةِ، لِأنَّها لِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِها مَعْدُودَةٌ مَوْقُوفَةٌ صارَتْ هَذِهِ الحالَةُ كَأنَّها أصْلٌ، فَلَمّا جُعِلَتْ أعْلامًا جازَتْ حِكايَتُها عَلى تِلْكَ الهَيْئَةِ الرّاسِخَةِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ فِيها سِمَةً مِن مُلاحَظَةِ الأصْلِ، وهو الحُرُوفُ المَبْسُوطَةُ، والمَقْصِدُ الإيقاظُ وقَرْعُ العَصا، فَتَجْوِيزُ الحِكايَةِ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الأسْماءِ أعْلامًا لِلسُّوَرِ، وإلّا فَلَمْ تَجُزِ الحِكايَةُ كَذا في الحَواشِي الشَّرِيفَةِ الشَّرِيفِيَّةِ، وإطْباقُ النُّحاةِ عَلى أنَّ المُفْرَداتِ تُحْكى بَعْدَ مِن، وأيٍّ، الِاسْتِفْهامِيَّتَيْنِ، وبِدُونِهِما كَقَوْلِهِمْ: دَعْنا مَن تَمْرَتانِ، مُخالِفٌ لِدَعْوى الِاخْتِصاصِ الَّتِي حَكاها، كَما لا يَخْفى، وإنْ أُبْقِيَتْ عَلى مَعانِيها مَسْرُودَةً عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ لَمْ تُعْرَبْ لِعَدَمِ المُقْتَضِي، والعامِلِ، وكَذا إذا جُعِلَتْ أبْعاضًا عَلى الصَّحِيحِ، أوْ مَزِيدَةً (p-105)لِلْفَصْلِ مَثَلًا، نَعَمْ إنْ قُدِّرَتْ بِالمُؤَلَّفِ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ كانَتْ في حَيِّزِ الرَّفْعِ عَلى ما مَرَّ، وإنْ جُعِلَتْ مُقْسَمًا بِها يَكُونُ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنها مَنصُوبًا، أوْ مَجْرُورًا عَلى اللُّغَتَيْنِ في اللَّهِ لَأفْعَلَنَّ، وهَلْ ذَلِكَ المَجْمُوعُ نَحْوُ (الم) و(حم) أوِ لِلْألِفِ والحاءِ مَثَلًا عَلى طَرِيقِ: الرُّمّانُ حُلْوٌ حامِضٌ، خِلافٌ، والظّاهِرُ الأوَّلُ، وجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الرَّفْعَ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ قَسَمِي، مَحْذُوفًا، وتَصْرِيحُ الرَّضِيِّ بِاخْتِصاصِ ذَلِكَ فِيما إذا كانَ المُبْتَدَأُ صَرِيحًا في القَسَمِيَّةِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ مُرْتَضًى، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ النَّصْبَ في البَعْضِ مَخْصُوصًا بِما إذا لَمْ يَمْنَعْ مانِعٌ، كَما في ﴿ص والقُرْآنِ﴾ فَيَتَعَيَّنُ الجَرُّ لِلُزُومِ المُخالَفَةِ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ واجْتِماعِ القَسَمَيْنِ حِينَئِذٍ، وفِيهِ ما تَقَدَّمَ، فَلا تَغْفُلْ، وبَقِيَتْ أقْوالٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى أقْوالٍ، لا أظُنُّها تَخْفى عَلَيْكَ، إنْ أحَطْتَ خُبْرًا بِما قَدَّمْناهُ لَدَيْكَ فَتَدَبَّرْ، وفي كَوْنِ هَذِهِ الفَواتِحِ آيَةً خِلافٌ، فَقالَ الكُوفِيُّونَ: (الم) آيَةٌ أيْنَما وقَعَتْ، وكَذَلِكَ (المص)، و(طسم)، وأخَواتُهُما، و(طه)، و(يس)، و(حم)، وأخَواتُها، و(كهيعص) آيَةٌ، و(حم) (عسق) آيَتانِ، وأمّا (المر)، وأخَواتُها الخَمْسُ، فَلَيْسَتْ بِآيَةٍ، وكَذَلِكَ (طس) و(ص)، و(ق)، و(ن)، وقالَ البَصْرِيُّونَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ آيَةً، وفي المُرْشِدِ أنَّ الفَواتِحَ في السُّوَرِ كُلِّها آياتٌ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ مِن غَيْرِ تَفْرِقَةٍ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، كَقَوْلِ بَعْضٍ: إنَّ (الم) في آلِ عِمْرانَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب