الباحث القرآني

(سُورَةُ البَقَرَةِ؛ مَدَنِيَّةٌ؛ وهي مِائَتانِ وسَبْعٌ وثَمانُونَ آيَةً) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿الـم﴾: الألْفاظُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِها عَنْ حُرُوفِ المُعْجَمِ؛ الَّتِي مِن جُمْلَتِها المُقَطَّعاتُ المَرْقُومَةُ في فَواتِحِ السُّوَرِ الكَرِيمَةِ أسْماءً لَها؛ لِانْدِراجِها تَحْتَ حَدِّ الِاسْمِ؛ ويَشْهَدُ بِهِ ما يَعْتَرِيها مِنَ التَّعْرِيفِ؛ والتَّنْكِيرِ؛ والجَمْعِ؛ والتَّصْغِيرِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن خَصائِصِ الِاسْمِ؛ وقَدْ نَصَّ عَلى ذَلِكَ أساطِينُ أئِمَّةِ العَرَبِيَّةِ؛ وما وقَعَ في عِباراتِ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِحَرْفِيَّتِها مَحْمُولٌ عَلى المُسامَحَةِ؛ وأمّا ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِن أنَّهُ ﷺ قالَ: « "مَن قَرَأ حَرْفًا مِن كِتابِ اللَّهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ؛ والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها؛ لا أقُولُ "الـم" حَرْفٌ؛ بَلْ "ألِفٌ" حَرْفٌ؛ و"لامٌ" حَرْفٌ؛ و"مِيمٌ" حَرْفٌ"؛» وفي رِوايَةِ التِّرْمِذِيِّ؛ والدّارِمِيِّ: « "لا أقُولُ "الـم" حَرْفٌ؛ و"ذَلِكَ الكِتابُ" حَرْفٌ؛ ولَكِنِ الألِفُ حَرْفٌ؛ واللّامُ حَرْفٌ؛ والمِيمُ حَرْفٌ؛ والذّالُ حَرْفٌ؛ والكافُ حَرْفٌ"؛» فَلا تَعَلُّقَ لَهُ بِما نَحْنُ فِيهِ قَطْعًا؛ فَإنَّ إطْلاقَ الحَرْفِ عَلى ما يُقابِلُ الِاسْمَ والفِعْلَ عُرْفٌ جَدِيدٌ؛ اخْتَرَعَهُ أئِمَّةُ الصِّناعَةِ؛ وإنَّما الحَرْفُ عِنْدَ الأوائِلِ ما يَتَرَكَّبُ مِنهُ الكَلِمُ؛ مِنَ الحُرُوفِ المَبْسُوطَةِ؛ ورُبَّما يُطْلَقُ عَلى الكَلِمَةِ أيْضًا تَجَوُّزًا؛ فَأُرِيدَ بِالحَدِيثِ الشَّرِيفِ دَفْعُ تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ؛ وزِيادَةُ تَعْيِينِ إرادَةِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ؛ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّ الحَسَنَةَ المَوْعُودَةَ لَيْسَتْ بِعَدَدِ الكَلِماتِ القرآنيَّةِ؛ بَلْ بِعَدَدِ حُرُوفِها المَكْتُوبَةِ في المَصاحِفِ؛ كَما يُلَوِّحُ بِهِ ذِكْرُ كِتابِ اللَّهِ؛ دُونَ كَلامِ اللَّهِ؛ أوِ القرآن؛ ولَيْسَ هَذا مِن تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَدْلُولِهِ في شَيْءٍ؛ كَما قِيلَ؛ كَيْفَ لا والمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالحَرْفِيَّةِ واسْتِتْباعِ الحَسَنَةِ إنَّما هي المُسَمَّياتُ البَسِيطَةُ الواقِعَةُ في كِتابِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - سَواءٌ عُبِّرَ عَنْها بِأسْمائِها؛ أوْ بِأنْفُسِها كَما في قَوْلِكَ: السِّينُ مُهْمَلَةٌ؛ والشِّينُ مُعْجَمَةٌ مُثَلَّثَةٌ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يَصْدُقُ المَحْمُولُ [فِيها] إلّا عَلى ذاتِ المَوْضُوعِ - لا أسْماؤُها المُؤَلَّفَةُ؛ كَما إذا قُلْتَ: الألِفُ مُؤَلَّفٌ مِن ثَلاثَةِ أحْرُفٍ؟! فَكَما أنَّ الحَسَناتِ في قِراءَةِ قَوْلِهِ (تَعالى): "ذَلِكَ الكِتابُ"؛ بِمُقابَلَةِ حُرُوفِهِ البَسِيطَةِ؛ ومُوافِقَةٌ لِعَدَدِها؛ كَذَلِكَ في قِراءَةِ قَوْلِهِ (تَعالى): "الـم"؛ بِمُقابَلَةِ حُرُوفِهِ الثَّلاثَةِ المَكْتُوبَةِ؛ ومُوافِقَةٌ لِعَدَدِها؛ لا بِمُقابَلَةِ أسْمائِها المَلْفُوظَةِ والألِفاتِ المُوافِقَةِ في العَدَدِ؛ إذِ الحُكْمُ بِأنَّ كُلًّا مِنها حَرْفٌ واحِدٌ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ بِأنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لِحَسَنَةٍ واحِدَةٍ؛ فالعِبْرَةُ في ذَلِكَ بِالمُعَبَّرِ عَنْهُ؛ دُونَ المُعَبَّرِ بِهِ؛ ولَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أنَّ اسْتِتْباعَ الحَسَنَةِ مَنُوطٌ بِإفادَةِ المَعْنى المُرادِ بِالكَلِماتِ القرآنيَّةِ؛ فَكَما أنَّ سائِرَ الكَلِماتِ الشَّرِيفَةِ لا تُفِيدُ مَعانِيَها إلّا بِتَلَفُّظِ حُرُوفِها بِأنْفُسِها؛ كَذَلِكَ الفَواتِحُ المَكْتُوبَةُ لا تُفِيدُ المَعانِيَ المَقْصُودَةَ بِها إلّا بِالتَّعْبِيرِ عَنْها بِأسْمائِها؛ فَجُعِلَ ذَلِكَ تَلَفُّظًا بِالمُسَمَّياتِ كالقِسْمِ (p-21)الأوَّلِ؛ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَهُما؛ ألا يُرى إلى ما في الرِّوايَةِ الأخِيرَةِ مِن قَوْلِهِ ﷺ: « "والذّالُ حَرْفٌ؛ والكافُ حَرْفٌ"؛» كَيْفَ عَبَّرَ عَنْ طَرَفَيْ ذَلِكَ بِاسْمَيْهِما؛ مَعَ كَوْنِهِما مَلْفُوظَيْنِ بِأنْفُسِهِما؟! ولَقَدْ رُوعِيَتْ في هَذِهِ التَّسْمِيَةِ نُكْتَةٌ رائِعَةٌ؛ حَيْثُ جُعِلَ كُلُّ مُسَمًّى - لِكَوْنِهِ مِن قَبِيلِ الألْفاظِ - صَدْرًا لِاسْمِهِ؛ لِيَكُونَ هو المَفْهُومَ مِنهُ آثِرَ ذِي أثِيرٍ؛ خَلا أنَّ الألِفَ - حَيْثُ تَعَذَّرَ الِابْتِداءُ بِها - اسْتُعِيرَتْ مَكانَها الهَمْزَةُ؛ وهي مُعْرَبَةٌ؛ إذْ لا مُناسَبَةَ بَيْنَها وبَيْنَ مَبْنِيِّ الأصْلِ؛ لَكِنَّها؛ ما لَمْ تَلِها العَوامِلُ؛ ساكِنَةُ الأعْجازِ عَلى الوَقْفِ؛ كَأسْماءِ الأعْدادِ؛ وغَيْرِها؛ حِينَ خَلَتْ عَنِ العَوامِلِ؛ ولِذَلِكَ قِيلَ: "صادْ"؛ و"قافْ"؛ مَجْمُوعًا فِيهِما بَيْنَ السّاكِنَيْنِ؛ ولَمْ يُعامَلْ مُعامَلَةَ "أيْنَ"؛ و"كَيْفَ"؛ و"هَؤُلاءِ"؛ وإنْ ولِيَها عامِلٌ مَسَّها الإعْرابُ؛ وقَصْرُ ما آخِرُهُ ألِفٌ عِنْدَ التَّهَجِّي؛ لِابْتِغاءِ الخِفَّةِ؛ لا لِأنَّ وِزانَهُ وِزانٌ لا تُقْصَرُ تارَةً فَتَكُونُ حَرْفًا؛ وتُمَدُّ أُخْرى فَتَكُونُ اسْمًا لَها؛ كَما في قَوْلِ حَسّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ؎ ما قالَ لا قَطُّ إلّا في تَشَهُّدِهِ ∗∗∗ لَوْلا التَّشَهُّدُ لَمْ تُسْمَعْ لَهُ لاءُ هَذا.. وقَدْ تَكَلَّمُوا في شَأْنِ هَذِهِ الفَواتِحِ الكَرِيمَةِ وما أُرِيدَ بِها؛ فَقِيلَ: إنَّها مِنَ العُلُومِ المَسْتُورَةِ؛ والأسْرارِ المَحْجُوبَةِ؛ رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: في كُلِّ كِتابٍ سِرٌّ؛ وسِرُّ القرآن أوائِلُ السُّوَرِ؛ وعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ لِكُلِّ كِتابٍ صَفْوَةً؛ وصَفْوَةُ هَذا الكِتابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي؛ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ: عَجِزَتِ العُلَماءُ عَنْ إدْراكِها؛ وسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْها؛ فَقالَ: سِرُّ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ فَلا تَطْلُبُوهُ؛ وقِيلَ: إنَّها أسْماءُ اللَّهِ (تَعالى)؛ وقِيلَ: كُلُّ حَرْفٍ مِنها إشارَةٌ إلى اسْمٍ مِن أسْماءِ اللَّهِ (تَعالى)؛ أوْ صِفَةٍ مِن صِفاتِهِ (تَعالى)؛ وقِيلَ: إنَّها صِفاتُ الأفْعالِ: الألِفُ آلاؤُءُ؛ واللّامُ لُطْفُهُ؛ والمِيمُ مَجْدُهُ؛ ومُلْكُهُ؛ قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيِّ؛ وقِيلَ: إنَّها مِن قَبِيلِ الحِسابِ؛ وقِيلَ: الألِفُ مِن "اللَّهُ"؛ واللّامُ مِن "جِبْرِيلُ"؛ والمِيمُ مِن "مُحَمَّدٌ"؛ أيْ أنْزَلَ اللَّهُ الكِتابَ؛ بِواسِطَةِ جِبْرِيلَ؛ عَلى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وقِيلَ: هي أقْسامٌ مِنَ اللَّهِ (تَعالى) بِهَذِهِ الحُرُوفِ المُعْجَمَةِ؛ لِشَرَفِها؛ مِن حَيْثُ إنَّها أُصُولُ اللُّغاتِ؛ ومَبادِئُ كُتُبِهِ المُنَزَّلَةِ؛ ومَبانِي أسْمائِهِ الكَرِيمَةِ؛ وقِيلَ: إشارَةٌ إلى انْتِهاءِ كَلامٍ؛ وابْتِداءِ كَلامٍ آخَرَ؛ وقِيلَ.. وقِيلَ.. ولَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ التَّعْوِيلُ إمّا كَوْنُها أسْماءً لِلسُّوَرِ المُصَدَّرَةِ بِها؛ وعَلَيْهِ إجْماعُ الأكْثَرِ؛ وإلَيْهِ ذَهَبَ الخَلِيلُ؛ وسِيبَوَيْهِ؛ قالُوا: سُمِّيَتْ بِها إيذانًا بِأنَّها كَلِماتٌ عَرَبِيَّةٌ؛ مَعْرُوفَةُ التَّرْكِيبِ مِن مُسَمَّياتِ هَذِهِ الألْفاظِ؛ فَيَكُونُ فِيهِ إيماءٌ إلى الإعْجازِ والتَّحَدِّي عَلى سَبِيلِ الإيقاظِ؛ فَلَوْلا أنَّهُ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - لَما عَجَزُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ؛ ويَقْرُبُ مِنهُ ما قالَهُ الكَلْبِيُّ؛ والسُّدِّيُّ؛ وقَتادَةُ؛ مِن أنَّها أسْماءٌ لِلْقُرْآنِ؛ والتَّسْمِيَةُ بِثَلاثَةِ أسْماءٍ فَصاعِدًا إنَّما تُسْتَنْكَرُ في لُغَةِ العَرَبِ إذا رُكِّبَتْ؛ وجُعِلَتِ اسْمًا واحِدًا؛ كَما في "حَضْرَمَوْتُ"؛ فَأمّا إذا كانَتْ مَنثُورَةً فَلا اسْتِنْكارَ فِيها؛ والمُسَمّى هو المَجْمُوعُ؛ لا الفاتِحَةُ فَقَطْ؛ حَتّى يَلْزَمَ اتِّحادُ الِاسْمِ؛ والمُسَمّى؛ غايَةُ الأمْرِ دُخُولُ الِاسْمِ في المُسَمّى؛ ولا مَحْذُورَ فِيهِ؛ كَما لا مَحْذُورَ في عَكْسِهِ؛ حَسْبَما تَحَقَّقْتَهُ آنِفًا؛ وإنَّما كُتِبَتْ في المَصاحِفِ صُوَرُ المُسَمَّياتِ؛ دُونَ صُوَرِ الأسْماءِ؛ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى كَيْفِيَّةِ التَّلَفُّظِ بِها؛ وهي أنْ يَكُونَ عَلى نَهْجِ التَّهَجِّي؛ دُونَ التَّرْكِيبِ؛ ولِأنَّ فِيهِ سَلامَةً مِنَ التَّطْوِيلِ؛ لا سِيَّما في الفَواتِحِ الخُماسِيَّةِ؛ عَلى أنَّ خَطَّ المُصْحَفِ مِمّا لا يُناقَشُ فِيهِ؛ بِمُخالَفَةِ القِياسِ؛ وإمّا كَوْنُها مَسْرُودَةً؛ عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ؛ وإلَيْهِ جَنَحَ أهْلُ التَّحْقِيقِ؛ قالُوا: إنَّما ورَدَتْ هَكَذا لِيَكُونَ إيقاظًا لِمَن تُحُدِّيَ بِالقرآن؛ وتَنْبِيهًا لَهم عَلى أنَّهُ مُنْتَظِمٌ مِن عَيْنِ ما يَنْظِمُونَ مِنهُ كَلامَهُمْ؛ فَلَوْلا أنَّهُ خارِجٌ عَنْ طَوْقِ البَشَرِ؛ نازِلٌ مِن عِنْدِ خَلّاقِ القُوى والقَدَرِ؛ لَما تَضاءَلَتْ قُوَّتُهُمْ؛ ولا تَساقَطَتْ قدرتهمْ؛ وهم (p-22)فُرْسانُ حَلْبَةِ الحِوارِ؛ وأُمَراءُ الكَلامِ في نادِي الفَخارِ؛ دُونَ الإتْيانِ بِما يُدانِيهِ؛ فَضْلًا عَنِ المُعارَضَةِ بِما يُساوِيهِ؛ مَعَ تَظاهُرِهِمْ في المُضادَّةِ؛ والمُضارَّةِ؛ وتَهالُكِهِمْ عَلى المُعازَّةِ؛ والمُعارَّةِ؛ أوْ لِيَكُونَ مَطْلَعُ ما يُتْلى عَلَيْهِمْ مُسْتَقِلًّا بِضَرْبٍ مِنَ الغَرابَةِ؛ أُنْمُوذَجًا لِما في الباقِي مِن فُنُونِ الإعْجازِ؛ فَإنَّ النُّطْقَ بِأنْفُسِ الحُرُوفِ في تَضاعِيفِ الكَلامِ - وإنْ كانَ عَلى طَرَفِ الثُّمامِ؛ يَتَناوَلُهُ الخَواصُّ؛ والعَوامُّ؛ مِنَ الأعْرابِ والأعْجامِ -؛ لَكِنَّ التَّلَفُّظَ بِأسْمائِها إنَّما يَتَأتّى مِمَّنْ دَرَسَ وخَطَّ؛ وأمّا مِمَّنْ لَمْ يَحُمْ حَوْلَ ذَلِكَ قَطُّ فَأعَزُّ مِن بَيْضِ الأنُوقِ؛ وأبْعَدُ مِن مَناطِ العَيُّوقِ؛ لا سِيَّما إذا كانَ عَلى نَمَطٍ عَجِيبٍ؛ وأُسْلُوبٍ غَرِيبٍ؛ مُنْبِئٍ عَنْ سِرٍّ سِرِّيٍّ؛ مَبْنِيٍّ عَلى نَهْجٍ عَبْقَرِيٍّ؛ بِحَيْثُ يَحارُ في فَهْمِهِ أرْبابُ العُقُولِ؛ ويَعْجَزُ عَنْ إدْراكِهِ ألْبابُ الفُحُولِ؛ كَيْفَ لا.. وقَدْ ورَدَتْ تِلْكَ الفَواتِحُ في تِسْعٍ وعِشْرِينَ سُورَةً؛ عَلى عَدَدِ حُرُوفِ المُعْجَمِ؛ مُشْتَمِلَةً عَلى نِصْفِها تَقْرِيبًا؛ بِحَيْثُ يَنْطَوِي عَلى أنْصافِ أصْنافِها؛ تَحْقِيقًا؛ أوْ تَقْرِيبًا؛ كَما يَتَّضِحُ عِنْدَ الفَحْصِ والتَّنْقِيرِ؛ حَسْبَما فَصَّلَهُ بَعْضُ أفاضِلِ أئِمَّةِ التَّفْسِيرِ؛ فَسُبْحانَ مَن دَقَّتْ حِكْمَتُهُ مِن أنْ يُطالِعَها الأنْظارُ؛ وجَلَّتْ قدرته عَنْ أنْ يَنالَها أيْدِي الأفْكارِ؛ وإيرادُ بَعْضِها فُرادى؛ وبَعْضِها ثُنائِيَّةً؛ إلى الخُماسِيَّةِ؛ جَرى عَلى عادَةِ الِافْتِنانِ؛ مَعَ مُراعاةِ أبْنِيَةِ الكَلِمِ؛ وتَفْرِيقِها عَلى السُّوَرِ؛ دُونَ إيرادِ كُلِّها مَرَّةً لِذَلِكَ؛ ولِما في التَّكْرِيرِ والإعارَةِ مِن زِيادَةِ إفادَةٍ؛ وتَخْصِيصُ كُلٍّ مِنها بِسُورَتِها مِمّا لا سَبِيلَ إلى المُطالَبَةِ بِوَجْهِهِ؛ وعَدُّ بَعْضِها آيَةً؛ دُونَ بَعْضٍ؛ مَبْنِيٌّ عَلى التَّوْقِيفِ البَحْتِ؛ أمّا "الـم"؛ فَآيَةٌ حَيْثُما وقَعَتْ؛ وقِيلَ: في "آلِ عِمْرانَ" لَيْسَتْ بِآيَةٍ؛ و"الـمـص"؛ آيَةٌ؛ و"الـمـر"؛ لَمْ تُعَدَّ آيَةً؛ و"الـر"؛ لَيْسَتْ بِآيَةٍ في شَيْءٍ مِن سُوَرِها الخَمْسِ؛ و"طسم"؛ آيَةٌ في سُورَتَيْها؛ و"طـه"؛ و"يس"؛ آيَتانِ؛ و"طس"؛ لَيْسَتْ بِآيَةٍ؛ و"حم"؛ آيَةٌ في سُوَرِها كُلِّها؛ و"كهيعص"؛ آيَةٌ؛ و"حم عسق"؛ آيَتانِ؛ و"ص"؛ و"ق"؛ و"ن"؛ لَمْ تُعَدَّ واحِدَةٌ مِنها آيَةً؛ هَذا عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ؛ وقَدْ قِيلَ: إنَّ جَمِيعَ الفَواتِحِ آياتٌ عِنْدَهم في السُّوَرِ كُلِّها؛ بِلا فَرْقٍ بَيْنَها؛ وأمّا مَن عَداهم فَلَمْ يَعُدُّوا شَيْئًا مِنها آيَةً؛ ثُمَّ إنَّها عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مَسْرُودَةً عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ لا تَشُمُّ رائِحَةَ الإعْرابِ؛ ويُوقَفُ عَلَيْها وقْفَ التَّمامِ؛ وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها أسْماءً لِلسُّوَرِ؛ أوْ لِلْقُرْآنِ؛ كانَ لَها حَظٌّ مِنهُ؛ إمّا الرَّفْعُ؛ عَلى الِابْتِداءِ؛ أوْ عَلى الخَبَرِيَّةِ؛ وإمّا النَّصْبُ؛ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ؛ كَـ "اذْكُرْ"؛ أوْ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ القَسَمِ؛ عَلى طَرِيقَةِ "اللَّهِ لَأفْعَلَنَّ"؛ وإمّا الجَرُّ بِتَقْدِيرِ حَرْفِهِ؛ حَسْبَما يَقْتَضِيهِ المَقامُ؛ ويَسْتَدْعِيهِ النِّظامُ؛ ولا وقْفَ فِيما عَدا الرَّفْعِ عَلى الخَبَرِيَّةِ؛ والتَّلَفُّظِ بِالكُلِّ عَلى وجْهِ الحِكايَةِ؛ ساكِنَةَ الأعْجازِ؛ إلّا أنَّ ما كانَتْ مِنها مُفْرَدَةً - مِثْلَ "ص"؛ و"ق"؛ و"ن" -؛ يَتَأتّى فِيها الإعْرابُ اللَّفْظِيُّ أيْضًا؛ وقَدْ قُرِئَتْ بِالنَّصْبِ؛ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ؛ أيْ "اذْكُرْ - أوْ "اقْرَأْ" - صادَ؛ وقافَ؛ ونُونَ"؛ وإنَّما لَمْ تُنَوَّنْ لِامْتِناعِ الصَّرْفِ؛ وكَذا ما كانَتْ مِنها مُوازِنَةً لِمُفْرَدٍ؛ نَحْوَ: "حم"؛ و"يس"؛ و"طس"؛ المُوازِنَةَ لِـ "قابِيلَ"؛ و"هابِيلَ"؛ حَيْثُ أجازَ سِيبَوَيْهِ فِيها مِثْلَ ذَلِكَ؛ قالَ: بابُ أسْماءِ السُّوَرِ؛ مِن كِتابِهِ؛ وقَدْ قَرَأ بَعْضُهُمْ: "ياسِينَ والقرآن"؛ و"قافَ والقرآن"؛ فَكَأنَّهُ جَعَلَهُ اسْمًا أعْجَمِيًّا؛ ثُمَّ قالَ: اذْكُرْ ياسِينَ؛ انْتَهى. وحَكى السِّيرافِيُّ أيْضًا عَنْ بَعْضِهِمْ قِراءَةَ "ياسِينَ"؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في الكُلِّ تَحْرِيكًا لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ؛ ولا مَساغَ لِنَصْبٍ بِإضْمارِ فِعْلِ القَسَمِ؛ لِأنَّ ما بَعْدَها مِنَ القرآن؛ والقَلَمِ؛ مَحْلُوفٌ بِهِما؛ وقَدِ اسْتَكْرَهُوا الجَمْعَ بَيْنَ قَسَمَيْنِ عَلى مُقْسَمٍ عَلَيْهِ واحِدٍ قَبْلَ انْقِضاءِ الأوَّلِ؛ وهو السِّرُّ في جَعْلِ ما عَدا الواوِ الأُولى في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ ﴿والنَّهارِ إذا تَجَلّى﴾ ﴿وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ عاطِفَةً؛ ولا مَجالَ لِلْعَطْفِ هَهُنا؛ لِلْمُخالَفَةِ بَيْنَ الأوَّلِ؛ والثّانِي؛ في الإعْرابِ؛ نَعَمْ.. يَجُوزُ ذَلِكَ بِجَعْلِ الأوَّلِ مَجْرُورًا؛ (p-23) بِإضْمارِ الباءِ القَسَمِيَّةِ؛ مَفْتُوحًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ؛ وقُرِئَ "ص"؛ و"ق"؛ بِالكَسْرِ عَلى التَّحْرِيكِ؛ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ؛ ويَجُوزُ في "طاسِينِ مِيمِ"؛ أنْ تُفْتَحَ نُونُها؛ وتُجْعَلَ مِن قَبِيلِ "دارا بِجْرَدَ"؛ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ؛ وأمّا ما عَدا ذَلِكَ مِنَ الفَواتِحِ فَلَيْسَ فِيها إلّا الحِكايَةُ؛ وسَيَجِيءُ تَفاصِيلُ سائِرِ أحْكامِ كُلٍّ مِنها مَشْرُوحَةً في مَواقِعِها بِإذْنِ اللَّهِ - عَزَّ سُلْطانُهُ -؛ أمّا هَذِهِ الفاتِحَةُ الشَّرِيفَةُ فَإنْ جُعِلَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ؛ أوِ القرآن؛ فَمَحَلُّها الرَّفْعُ؛ إمّا عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ؛ والتَّقْدِيرُ: "هَذا الـم"؛ أيْ مُسَمًّى بِهِ؛ وإنَّما صَحَّتِ الإشارَةُ إلى القرآن بَعْضًا؛ أوْ كُلًّا؛ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ ذِكْرِهِ؛ لِأنَّهُ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ بِصَدَدِ الذِّكْرِ صارَ في حُكْمِ الحاضِرِ المُشاهَدِ؛ كَما يُقالُ: هَذا ما اشْتَرى فُلانٌ؛ وإمّا عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ؛ أيِ المُسَمّى بِهِ؛ والأوَّلُ هو الأظْهَرُ؛ لِأنَّ ما يُجْعَلُ عُنْوانَ المَوْضُوعِ حَقُّهُ أنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْلُومَ الِانْتِسابِ إلَيْهِ عِنْدَ المُخاطَبِ؛ وإذْ لا عِلْمَ بِالتَّسْمِيَةِ قَبْلُ فَحَقُّها الإخْبارُ بِها؛ وادِّعاءُ شُهْرَتِها؛ يَأْباهُ التَّرَدُّدُ في أنَّ المُسَمّى هي السُّورَةُ؛ أوْ كُلُّ القرآن.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب