الباحث القرآني

(p-33)سُورَةُ البَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ وآيُها مِائَتانِ وسَبْعٌ وثَمانُونَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿الم﴾ وسائِرُ الألْفاظِ الَّتِي يُتَهَجّى بِها، أسْماءٌ مُسَمَّياتُها الحُرُوفُ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنها الكَلِمُ لِدُخُولِها في حَدِّ الِاسْمِ، واعْتِوارِ ما يُخَصُّ بِهِ مِنَ التَّعْرِيفِ والتَّنْكِيرِ والجَمْعِ والتَّصْغِيرِ ونَحْوَ ذَلِكَ عَلَيْها، وبِهِ صَرَّحَ الخَلِيلُ وأبُو عَلِيٍّ. وما رَوى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: «مَن قَرَأ حَرْفًا مِن كِتابِ اللَّهِ فَلَهُ حَسَنَةُ والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها لا أقُولُ الم حَرْفٌ بَلْ ألِفٌ حَرْفٌ ولامٌ حَرْفٌ ومِيمٌ حَرْفٌ» فالمُرادُ بِهِ غَيْرُ المَعْنى الَّذِي اصْطُلِحَ عَلَيْهِ، فَإنَّ تَخْصِيصَهُ بِهِ عُرْفٌ مُجَدَّدٌ بَلِ المَعْنى اللُّغَوِيُّ، ولَعَلَّهُ سَمّاهُ بِاسْمِ مَدْلُولِهِ. وَلَمّا كانَتْ مُسَمَّياتُها حُرُوفًا وُحْدانًا وهي مُرَكَّبَةٌ، صُدِّرَتْ بِها لِتَكُونَ تَأْدِيَتُها بِالمُسَمّى أوَّلَ ما يَقْرَعُ السَّمْعَ، واسْتُعِيرَتِ الهَمْزَةُ مَكانَ الألِفِ لِتَعَذُّرِ الِابْتِداءِ بِها وهي ما لَمْ تَلِها العَوامِلُ مَوْقُوفَةٌ خالِيَةٌ عَنِ الإعْرابِ لِفَقْدِ مُوجِبِهِ ومُقْتَضِيهِ، لَكِنَّها قابِلَةٌ إيّاهُ ومُعَرَّضَةٌ لَهُ إذْ لَمْ تُناسِبْ مَبْنى الأصْلِ ولِذَلِكَ قِيلَ: (ص) و (ق) مَجْمُوعًا فِيهِما بَيْنَ السّاكِنَيْنِ ولَمْ تُعامَلْ مُعامَلَةَ أيْنَ وهَؤُلاءِ. ثُمَّ إنَّ مُسَمَّياتِها لَمّا كانَتْ عُنْصُرَ الكَلامِ وبَسائِطَهُ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنها. افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِطائِفَةٍ مِنها إيقاظًا لِمَن تَحَدّى بِالقُرْآنِ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ أصْلَ المَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ كَلامٌ مَنظُومٌ مِمّا يَنْظِمُونَ مِنهُ كَلامَهُمْ، فَلَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَما عَجَزُوا عَنْ آخِرِهِمْ مَعَ تَظاهُرِهِمْ وقُوَّةِ فَصاحَتِهِمْ عَنِ الإتْيانِ بِما يُدانِيهِ، ولِيَكُونَ أوَّلَ ما يَقْرَعُ الأسْماعَ مُسْتَقِلًّا بِنَوْعٍ مِنَ الإعْجازِ، فَإنَّ النُّطْقَ بِأسْماءِ الحُرُوفِ مُخْتَصٌّ بِمَن خَطَّ ودَرَسَ، فَأمّا مِنَ الأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يُخالِطِ الكِتابَ فَمُسْتَبْعَدٌ مُسْتَغْرَبٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ كالكِتابَةِ والتِّلاوَةِ سِيَّما وقَدْ راعى في ذَلِكَ ما يَعْجِزُ عَنْهُ الأدِيبُ الأرِيبُ الفائِقُ في فَنِّهِ، وهو أنَّهُ أوْرَدَ في هَذِهِ الفَواتِحِ أرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا هي نِصْفُ أسامِيِّ حُرُوفِ المُعْجَمِ، إنْ لَمْ يُعَدَّ فِيها الألِفُ حَرْفًا بِرَأْسِها في تِسْعٍ وعِشْرِينَ سُورَةً بِعَدَدِها إذا عُدَّ فِيها الألِفُ الأصْلِيَّةُ مُشْتَمِلَةً عَلى أنْصافِ أنْواعِها، فَذَكَرَ مِنَ المَهْمُوسَةِ وهي ما يَضْعُفُ الِاعْتِمادُ عَلى مَخْرَجِهِ ويَجْمَعُها (سَتَشْحَثُكَ خَصَفَهُ) نِصْفُها الحاءُ والكافُ والهاءُ والصّادُ والسِّينُ والكافُ، ومِنَ البَواقِي المَجْهُورَةِ نِصْفُها يَجْمَعُهُ (لَنْ يُقْطَعَ أمْرٌ) . ومِنَ الشَّدِيدَةِ الثَّمانِيَةِ المَجْمُوعَةِ في (أجَدْتَ طَبَقَكَ) أرْبَعَةٌ يَجْمَعُها (أقَطَكَ) . ومِنَ البَواقِي الرَّخْوَةِ عَشْرَةٌ يَجْمَعُها « خَمْسٌ» عَلى نَصْرِهِ، ومِنَ المُطْبَقَةِ الَّتِي هي الصّادُ والضّادُ والطّاءُ والظّاءُ نِصْفُها، ومِنَ البَواقِي المُنْفَتِحَةِ نِصْفُها، ومِنَ القَلْقَلَةِ وهِيَ: حُرُوفٌ تَضْطَرِبُ عِنْدَ خُرُوجِها ويَجْمَعُها (قد طبج) نِصْفُها الأقَلُّ لِقِلَّتِها، ومِنَ اللَّيِّنَتَيْنِ الياءُ لِأنَّها أقَلُّ ثِقْلًا، ومِنَ المُسْتَعْلِيَةِ وهِيَ: الَّتِي يَتَصَعَّدُ الصَّوْتُ بِها في الحَنَكِ الأعْلى، وهي سَبْعَةٌ: القافُ والصّادُ والطّاءُ والخاءُ والغَيْنُ والضّادُ والظّاءُ نِصْفُها الأقَلُّ، ومِنَ البَواقِي المُنْخَفِضَةِ نِصْفُها، ومِن حُرُوفِ البَدَلِ وهي أحَدَ عَشَرَ عَلى ما ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، واخْتارَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ ويَجْمَعُها (أجِدُ طَوَيْتُ) مِنها السِّتَّةُ الشّائِعَةُ المَشْهُورَةُ الَّتِي يَجْمَعُها (أهطمين) وقَدْ زادَ بَعْضُهم سَبْعَةً أُخْرى وهي اللّامُ في (أصِيلالَ) والصّادُ والزّايُ في (صِراطٍ وزِراطٍ) والفاءُ في (أجْدافٍ) والعَيْنُ في (أعَنَ) والثّاءُ في (ثروغ الدَّلْو) والباءُ في « بِاسْمِكَ» حَتّى صارَتْ ثَمانِيَةَ عَشَرَ وقَدْ ذُكِرَ مِنها تِسْعَةٌ السِّتَّةُ المَذْكُورَةُ (p-34)واللّامُ والصّادُ والعَيْنُ. ومِمّا يُدْغَمُ في مِثْلِهِ ولا يُدْغَمُ في المُقارِبِ وهي خَمْسَةَ عَشَرَ: الهَمْزَةُ والهاءُ والعَيْنُ والصّادُ والطّاءُ والمِيمُ والياءُ والخاءُ والغَيْنُ والضّادُ والفاءُ والظّاءُ والشِّينُ والزّايُ والواوُ نَصِفُها الأقَلُّ. ومِمّا يُدْغَمُ فِيهِما وهي الثَّلاثَةَ عَشَرَ الباقِيَةُ نِصْفُها الأكْثَرُ: الحاءُ والقافُ والكافُ والرّاءُ والسِّينُ واللّامُ والنُّونُ لِما في الإدْغامِ مِنَ الخِفَّةِ والفَصاحَةِ، ومِنَ الأرْبَعَةِ الَّتِي لا تُدْغَمُ فِيما يُقارِبُها ويُدْغَمُ فِيها مُقارِبُها وهِيَ: المِيمُ والزّايُ والسِّينُ والفاءُ نَصِفُها. وَلَمّا كانَتِ الحُرُوفُ الذَّلْقِيَّةُ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْها بِذَلْقِ اللِّسانِ وهي سِتَّةٌ يَجْمَعُها (رُبَّ مُنَفَّلٍ) والحَلْقِيَّةُ الَّتِي هي الحاءُ والخاءُ والعَيْنُ والغَيْنُ والهاءُ والهَمْزَةُ، كَثِيرَةُ الوُقُوعِ في الكَلامِ ذَكَرَ ثُلُثَيْهِما. ولَمّا كانَتْ أبْنِيَةُ المَزِيدِ لا تَتَجاوَزُ عَنِ السُّباعِيَّةِ ذَكَرَ مِنَ الزَّوائِدِ العَشْرَةِ الَّتِي يَجْمَعُها (اليَوْمَ تَنْساهُ) سَبْعَةَ أحْرُفٍ مِنها تَنْبِيهًا عَلى ذَلِكَ، ولَوِ اسْتَقْرَيْتَ الكَلِمَ وتَراكِيبَها وجَدْتَ الحُرُوفَ المَتْرُوكَةَ مِن كُلِّ جِنْسٍ مَكْثُورَةً بِالمَذْكُورَةِ ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَها مُفْرَدَةً وثُنائِيَّةً وثُلاثِيَّةً ورُباعِيَّةً وخُماسِيَّةً، إيذانًا بِأنَّ المُتَحَدّى بِهِ مُرَكَّبٌ مِن كَلِماتِهِمُ الَّتِي أُصُولُها كَلِماتٌ مُفْرَدَةٌ، ومُرَكَّبَةٌ مِن حَرْفَيْنِ فَصاعِدًا إلى الخَمْسَةِ، وذَكَرَ ثَلاثَ مُفْرَداتٍ في ثَلاثِ سُوَرٍ لِأنَّها تُوجَدُ في الأقْسامِ الثَّلاثَةِ: الِاسْمِ والفِعْلِ والحَرْفِ وأرْبَعَ ثُنائِيّاتٍ لِأنَّها تَكُونُ في الحَرْفِ بِلا حَذْفٍ (كَبَلْ)، وفي الفِعْلِ بِحَذْفِ ثِقَلٍ (كَقُلْ) . وفي الِاسْمِ بِغَيْرِ حَذْفٍ (كَمَنَ)، وبِهِ (كَدَمٍ) في تِسْعِ سُوَرٍ لِوُقُوعِها في كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: فَفي الأسْماءِ مَن وإذْ وذُو. وفي الأفْعالِ قُلْ وبِعْ وخِفْ. وفي الحُرُوفِ مِن وإنْ ومُذْ عَلى لُغَةِ مَن جَرَّبَها. وثَلاثَ ثُلاثِيّاتٍ لِمَجِيئِها في الأقْسامِ الثَّلاثَةِ في ثَلاثَ عَشْرَةَ سُورَةً تَنْبِيهًا عَلى أنَّ أُصُولَ الأبْنِيَةِ المُسْتَعْمَلَةِ ثَلاثَةَ عَشَرَ، عَشَرَةٌ مِنها لِلْأسْماءِ، وثَلاثَةٌ لِلْأفْعالِ، ورُباعِيَّتَيْنِ وخُماسِيَّتَيْنِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ لِكُلٍّ مِنهُما أصْلًا: كَجَعْفَرَ وسَفَرْجَلَ، ومُلْحَقًا: كَقَرْدَدَ وجَحَنْفَلَ، ولَعَلَّها فُرِّقَتْ عَلى السُّوَرِ ولَمْ تَعُدَّ بِأجْمَعِها في أوَّلِ القُرْآنِ لِهَذِهِ الفائِدَةِ مَعَ ما فِيهِ مِن إعادَةِ التَّحَدِّي وتَكْرِيرِ التَّنْبِيهِ والمُبالَغَةِ فِيهِ. والمَعْنى أنَّ هَذا المُتَحَدّى بِهِ مُؤَلَّفٌ مِن جِنْسِ هَذِهِ الحُرُوفِ. أوِ المُؤَلَّفُ مِنها، كَذا وقِيلَ: هي أسْماءٌ لِلسُّورِ، وعَلَيْهِ إطْباقُ الأكْثَرِ. سُمِّيَتْ بِها إشْعارًا بِأنَّها كَلِماتٌ مَعْرُوفَةُ التَّرْكِيبِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ وحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعالى لَمْ تَتَساقَطْ مَقْدِرَتُهم دُونَ مُعارَضَتِها، واسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِأنَّها لَوْ لَمْ تَكُنْ مُفْهِمَةً كانَ الخِطابُ بِها كالخِطابِ بِالمُهْمَلِ والتَّكَلُّمِ بِالزِّنْجِيِّ مَعَ العَرَبِيِّ، ولَمْ يَكُنِ القُرْآنُ بِأسْرِهِ بَيانًا وهُدًى. ولَما أمْكَنَ التَّحَدِّي بِهِ وإنْ كانَتْ مُفْهِمَةً، فَإمّا أنْ يُرادَ بِها السُّوَرُ الَّتِي هي مُسْتَهَلُّها عَلى أنَّها ألْقابُها، أوْ غَيْرُ ذَلِكَ. والثّانِي باطِلٌ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ ما وُضِعَتْ لَهُ في لُغَةِ العَرَبِ فَظاهِرٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أوْ غَيْرَهُ وهو باطِلٌ لِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ عَلى لُغَتِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ فَلا يُحْمَلُ عَلى ما لَيْسَ في لُغَتِهِمْ. لا يُقالُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَزِيدَةً لِلتَّنْبِيهِ؟ والدَّلالَةُ عَلى انْقِطاعِ كَلامٍ واسْتِئْنافِ آخَرَ؟ كَما قالَهُ قُطْرُبٌ، أوْ إشارَةً إلى كَلِماتٍ هي مِنها اقْتَصَرَتْ عَلَيْها اقْتِصارَ الشّاعِرِ في قَوْلِهِ: ؎ قُلْتُ لَها قِفِي فَقالَتْ قافْ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: الألِفُ آلاءُ اللَّهِ، واللّامُ لَفْظُهُ، والمِيمُ مُلْكُهُ. وعَنْهُ أنَّ (الر) و (حم) و (ن) مَجْمُوعُها الرَّحْمَنُ. وعَنْهُ أنَّ (الم) مَعْناهُ: أنا اللَّهُ أعْلَمُ ونَحْوَ ذَلِكَ في سائِرِ الفَواتِحِ. وعَنْهُ أنَّ الألِفَ مِنَ اللَّهِ، واللّامَ مِن جِبْرِيلَ، والمِيمَ مِن مُحَمَّدٍ أيِ: القُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ بِلِسانِ جِبْرِيلَ عَلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، أوْ إلى مُدَدِ أقْوامٍ وآجالٍ بِحِسابِ الجُمَلِ كَما قالَ أبُو العالِيَةِ مُتَمَسِّكًا بِما رُوِيَ: «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا أتاهُ اليَهُودُ تَلا عَلَيْهِمُ (الم) البَقَرَةِ. فَحَسَبُوهُ وقالُوا: كَيْفَ نَدْخُلُ في دِينٍ مُدَّتُهُ إحْدى وسَبْعُونَ سَنَةً، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: فَهَلْ غَيْرَهُ، فَقالَ: (المص) و (الر) و (المر)، فَقالُوا: خَلَطْتَ عَلَيْنا فَلا نَدْرِي بِأيِّها نَأْخُذُ» .. فَإنَّ تِلاوَتَهُ إيّاها بِهَذا التَّرْتِيبِ عَلَيْهِمْ وتَقْرِيرَهم عَلى اسْتِنْباطِهِمْ دَلِيلٌ عَلى ذَلِكَ، وهَذِهِ الدَّلالَةُ وإنْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً لَكِنَّها لِاشْتِهارِها فِيما بَيْنَ النّاسِ حَتّى العَرَبِ تُلْحِقُها بِالمُعَرَّباتِ كالمِشْكاةِ والسِّجِّيلِ (p-35)والقِسْطاسِ، أوْ دَلالَةٌ عَلى الحُرُوفِ المَبْسُوطَةِ مُقْسِمًا بِها لِشَرَفِها مِن حَيْثُ إنَّها بَسائِطُ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى ومادَّةُ خِطابِهِ. هَذا وإنَّ القَوْلَ بِأنَّها أسْماءُ السُّوَرِ يُخْرِجُها ما لَيْسَ في لُغَةِ العَرَبِ، لِأنَّ التَّسْمِيَةَ بِثَلاثَةِ أسْماءٍ فَصاعِدًا مُسْتَكْرَهٌ عِنْدَهم ويُؤَدِّي إلى اتِّحادِ الِاسْمِ والمُسَمّى، ويَسْتَدْعِي تَأخُّرَ الجُزْءِ عَنِ الكُلِّ مِن حَيْثُ إنَّ الِاسْمَ مُتَأخِّرٌ عَنِ المُسَمّى بِالرُّتْبَةِ، لِأنّا نَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الألْفاظَ لَمْ تُعْهَدْ مَزِيدَةً لِلتَّنْبِيهِ والدَّلالَةِ عَلى الِانْقِطاعِ والِاسْتِئْنافِ يَلْزَمُها وغَيْرَها مِن حَيْثُ إنَّها فَواتِحُ السُّوَرِ، ولا يَقْتَضِي ذَلِكَ أنْ لا يَكُونَ لَها مَعْنًى في حَيِّزِها ولَمْ تُسْتَعْمَلْ لِلِاخْتِصارِ مِن كَلِماتٍ مُعَيَّنَةٍ في لُغَتِهِمْ، أمّا الشِّعْرُ فَشاذٌّ، وأمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، فَتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ مَنبَعُ الأسْماءِ ومَبادِئُ الخِطابِ وتَمْثِيلٌ بِأمْثِلَةٍ حَسَنَةٍ، ألا تَرى أنَّهُ عَدَّ كُلَّ حَرْفٍ مِن كَلِماتٍ مُتَبايِنَةٍ لا تَفْسِيرَ، وتَخْصِيصٌ بِهَذِهِ المَعانِي دُونَ غَيْرِها إذْ لا مُخَصَّصَ لَفْظًا ومَعْنًى ولا بِحِسابِ الجُمَلِ فَتَلْحَقُ بِالمُعَرَّباتِ، والحَدِيثُ لا دَلِيلَ فِيهِ، لِجَوازِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَبَسَّمَ تَعَجُّبًا مِن جَهْلِهِمْ، وجَعَلَها مُقْسَمًا بِها وإنْ كانَ غَيْرَ مُمْتَنَعٍ لَكِنَّهُ يُحْوِجُ إلى إضْمارِ أشْياءَ لا دَلِيلَ عَلَيْها، والتَّسْمِيَةُ بِثَلاثَةِ أسْماءٍ إنَّما تَمْتَنِعُ إذا رُكِّبَتْ وجُعِلَتِ اسْمًا واحِدًا عَلى طَرِيقَةِ بَعْلَبَكَّ، فَأمّا إذا نُثِرَتْ نَثْرَ أسْماءِ العَدَدِ فَلا، وناهِيكَ بِتَسْوِيَةِ سِيبَوَيْهِ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ بِالجُمْلَةِ والبَيْتِ مِنَ الشِّعْرِ وطائِفَةٍ مِن أسْماءِ حُرُوفِ المُعْجَمِ، والمُسَمّى هو مَجْمُوعُ السُّورَةِ والِاسْمُ جُزْؤُها فَلا اتِّحادَ، وهو مُقَدَّمٌ مِن حَيْثُ ذاتُهُ مُؤَخَّرٌ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ اسْمًا، فَلا دَوْرَ لِاخْتِلافِ الجِهَتَيْنِ. والوَجْهُ الأوَّلُ أقْرَبُ إلى التَّحْقِيقِ وأوْفَقُ لِلطّائِفِ التَّنْزِيلِ وأسْلَمُ مِن لُزُومِ النَّقْلِ ووُقُوعِ الِاشْتِراكِ في الأعْلامِ مِن واضِعٍ واحِدٍ فَإنَّهُ يَعُودُ بِالنَّقْضِ عَلى ما هو مَقْصُودٌ بِالعِلْمِيَّةِ، وقِيلَ: إنَّها أسْماءُ القُرْآنِ ولِذَلِكَ أخْبَرَ عَنْها بِالكِتابِ والقُرْآنِ. وَقِيلَ: إنَّها أسْماءٌ لِلَّهِ تَعالى ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ كانَ يَقُولُ: يا (كهيعص)، ويا (حم عسق)، ولَعَلَّهُ أرادَ يا مَنزِلَهُما. وَقِيلَ الألِفُ: مِن أقْصى الحَلْقِ وهو مَبْدَأُ المَخارِجِ، واللّامُ: مِن طَرَفِ اللِّسانِ وهو أوْسَطُها، والمِيمُ: مِنَ الشَّفَةِ وهو آخِرُها جَمَعَ بَيْنَها إيماءً إلى أنَّ العَبْدَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ أوَّلُ كَلامِهِ وأوْسَطُهُ وآخِرُهُ ذِكْرَ اللَّهِ تَعالى. وَقِيلَ: إنَّهُ سِرٌّ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وقَدْ رُوِيَ عَنِ الخُلَفاءِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحابَةِ ما يَقْرُبُ مِنهُ، ولَعَلَّهم أرادُوا أنَّها أسْرارٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ ورُمُوزٌ لَمْ يَقْصِدْ بِها إفْهامَ غَيْرِهِ إذْ يَبْعُدُ الخِطابُ بِما لا يُفِيدُ. فَإنْ جَعَلْتَها أسْماءَ اللَّهِ تَعالى، أوِ القُرْآنِ، أوِ السُّوَرِ كانَ لَها حَظٌّ مِنَ الإعْرابِ إمّا الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ، أوِ الخَبَرِ، أوِ النُّصْبُ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ القَسَمِ عَلى طَرِيقَةِ اللَّهِ لَأفْعَلَنَّ بِالنَّصْبِ أوْ غَيْرِهِ كَما ذُكِرَ، أوِ الجَرُّ عَلى إضْمارِ حَرْفِ القَسَمِ، ويَتَأتّى الإعْرابُ لَفْظًا والحِكايَةُ فِيما كانَتْ مُفْرَدَةً أوْ مُوازِنَةً لِمُفْرَدٍ كَ (حم) فَإنَّها كَهابِيلَ، والحِكايَةُ لَيْسَتْ إلّا فِيما عَدا ذَلِكَ، وسَيَعُودُ إلَيْكَ ذِكْرُهُ مُفَصَّلًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وإنْ أبْقَيْتَها عَلى مَعانِيها فَإنْ قُدِّرَتَ بِالمُؤَلَّفِ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ كانَ في حَيِّزِ الرَّفْعِ بِالِابْتِداءِ أوِ الخَبَرِ عَلى ما مَرَّ، وإنْ جَعَلْتَها مُقْسَمًا بِها يَكُونُ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنها مَنصُوبًا أوْ مَجْرُورًا عَلى اللُّغَتَيْنِ في اللَّهِ لَأفْعَلَنَّ، وتَكُونُ جُمْلَةً قَسَمِيَّةً بِالفِعْلِ المُقَدَّرِ لَهُ، وإنْ جَعَلْتَها أبْعاضَ كَلِماتٍ أوْ أصْواتًا مُنَزَّلَةً مَنزِلَةَ حُرُوفِ التَّنْبِيهِ لَمْ يَكُنْ لَها مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ كالجُمَلِ المُبْتَدَأةِ والمُفْرَداتِ المَعْدُودَةِ ويُوقَفُ عَلَيْها وقْفَ التَّمامِ إذا قُدِّرَتْ بِحَيْثُ لا تَحْتاجُ إلى ما بَعْدَها، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنها آيَةً عِنْدَ غَيْرِ الكُوفِيِّينَ. وأمّا عِنْدَهم فَ (الم) في مَواقِعِها، و (المص) و (كهيعص) و (طه) و (طسم) و (طس) و (يس) و (حم) آيَةٌ، و (حم عسق) آيَتانِ، والبَواقِي لَيْسَتْ بِآياتٍ وهَذا تَوْقِيفٌ لا مَجالَ لِلْقِياسِ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب