الباحث القرآني
(p-٥٥)سُورَةُ البَقَرَةِ
مَقْصُودُها إقامَةُ الدَّلِيلِ عَلى [ أنَّ ] الكِتابَ [ هُدًى ] لِيُتَّبَعَ في كُلِّ [ ما ] قالَ، وأعْظَمُ ما يَهْدِي إلَيْهِ الإيمانُ بِالغَيْبِ، ومَجْمَعُهُ الإيمانُ بِالآخِرَةِ، فَمَدارُهُ الإيمانُ بِالبَعْثِ الَّذِي أعْرَبَتْ عَنْهُ قِصَّةُ البَقَرَةِ [ الَّتِي مَدارُها الإيمانُ بِالغَيْبِ ]، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِها السُّورَةُ (p-٥٦)وكانَتْ بِذَلِكَ أحَقَّ مِن قِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأنَّها في نَوْعِ البَشَرِ ومِمّا تَقَدَّمَها في قِصَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ الإحْياءِ بَعْدَ الإماتَةِ بِالصَّعْقِ وكَذَلِكَ ما شاكَلَها، لِأنَّ الإحْياءَ في قِصَّةِ البَقَرَةِ عَنْ سَبَبٍ ضَعِيفٍ في الظّاهِرِ بِمُباشَرَةِ مَن كانَ مِن آحادِ النّاسِ فَهي أدَلُّ عَلى القُدْرَةِ ولا سِيَّما وقَدْ أُتْبِعَتْ بِوَصْفِ القُلُوبِ والحِجارَةِ [ بِما عَمَّ ] المُهْتَدِينَ بِالكِتابِ والضّالِّينَ، فَوَصَفَها بِالقَسْوَةِ المُوجِبَةِ لِلشِّقْوَةِ ووُصِفَتِ الحِجارَةُ بِالخَشْيَةِ النّاشِئَةِ في الجُمْلَةِ عَنِ التَّقْوى المانِحَةِ لِلْمَدَدِ المُتَعَدِّي نَفْعُهُ إلى عِبادِ اللَّهِ، وفِيها إشارَةٌ إلى أنَّ هَذا الكِتابَ فِينا كَما لَوْ كانَ فِينا خَلِيفَةٌ مِن أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ يُرْشِدُنا في كُلِّ أمْرٍ إلى صَوابِ (p-٥٧)المَخْرَجِ مِنهُ، فَمَن أعْرَضَ خابَ، ومَن تَرَدَّدَ كادَ، ومَن أجابَ اتَّقى وأجادَ.
وسُمِّيَتِ الزَّهْراءَ لِإنارَتِها طَرِيقَ الهِدايَةِ والكِفايَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولِإيجابِها إسْفارَ الوُجُوهِ في يَوْمِ الجَزاءِ لِمَن آمَنَ بِالغَيْبِ ولَمْ يَكُنْ في شَكٍّ مُرِيبٍ فَيُحالُ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يَشْتَهِي. وبِالسَّنامِ لِأنَّهُ لَيْسَ في الإيمانِ بِالغَيْبِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ الَّذِي هو الأساسُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ والمُنْتَهى الَّذِي هو غايَةُ السَّيْرِ والعالِي عَلى كُلِّ غَيْرٍ بِأعْلى (p-٥٨)ولا أجْمَعَ مِنَ الإيمانِ بِالآخِرَةِ، ولِأنَّ السَّنامَ أعْلى ما في بَطْنِ المَطِيَّةِ الحامِلَةِ، والكِتابُ الَّذِي هي سُورَتُهُ هو أعْلى ما في الحامِلِ لِلْأمْرِ وهو الشَّرْعُ الَّذِي أتاهم بِهِ رَسُولُهم ﷺ .
* * *
”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي نَصَبَ مَعَ كَوْنِهِ باطِنًا دَلائِلَ الهُدى حَتّى كانَ ظاهِرًا، ”الرَّحْمَنِ“ الَّذِي أفاضَ رَحْمَتَهُ عَلى سائِرِ خَلْقِهِ بَعْدَ الإيجادِ بِبَيانِ الطَّرِيقِ، ”الرَّحِيمِ“ الَّذِي خَصَّ أهْلَ وُدِّهِ بِالتَّوْفِيقِ. قالَ العَلّامَةُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في كِتابِ العُرْوَةِ لِمِفْتاحِ البابِ [ المُقْفَلُ ] في مَعْنى ما رَواهُ عَنِ ابْنِ وهْبٍ مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «كانَ الكِتابُ الأوَّلُ يَنْزِلُ مِن بابٍ (p-٥٩)واحِدٍ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ ونَزَلَ القُرْآنُ مِن سَبْعَةِ أبْوابٍ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ: زاجِرٍ وآمِرٍ وحَلالٍ وحَرامٍ ومُحْكَمٍ ومُتَشابِهٍ، وأمْثالٍ؛ فَأحِلُّوا حَلالَهُ وحَرِّمُوا حَرامَهُ وافْعَلُوا ما أُمِرْتُمْ بِهِ وانْتَهُوا عَمّا نُهِيتُمْ عَنْهُ واعْتَبِرُوا بِأمْثالِهِ واعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ وآمِنُوا بِمُتَشابِهِهِ وقُولُوا: آمَنّا بِهِ، كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا»، وهَذا الحَدِيثُ رَواهُ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ في مُسْنَدِهِ وأبُو يَعْلى المَوْصِلِيُّ ومِن طَرِيقِهِ ابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ، كُلُّهم مِن طَرِيقِ ابْنِ وهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خالِدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَذَكَرَهُ مِن غَيْرِ ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وقالَ العَلّامَةُ الحافِظُ أبُو شامَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْماعِيلَ الدِّمَشْقِيُّ [ الشّافِعِيُّ ] في كِتابِهِ ”المُرْشِدِ الوَجِيزِ إلى عُلُومٍ تَتَعَلَّقُ بِالكِتابِ العَزِيزِ“ بَعْدَ أنْ ساقَ هَذا الحَدِيثَ مِن رِوايَةِ سَلَمَةَ بْنِ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (p-٦٠)قالَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: هَذا الحَدِيثُ عِنْدَ أهْلِ الحَدِيثِ لَمْ يَثْبُتْ، وأبُو سَلَمَةَ لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وابْنُهُ سَلَمَةُ لَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ، وهَذا الحَدِيثُ مُجْمَعٌ عَلى ضَعْفِهِ مِن جِهَةِ إسْنادِهِ، وقَدْ رَدَّهُ قَوْمٌ مِن أهْلِ النَّظَرِ، مِنهم: أحْمَدُ بْنُ أبِي عِمْرانَ، فِيما سَمِعَهُ الطَّحاوِيُّ مِنهُ، ويَرْوِيهِ اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ [ عَنْ أبِي سَلَمَةَ ] عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلًا.
قالَ أبُو شامَةَ: وهَكَذا رَواهُ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ ”المَدْخَلِ“، وقالَ: هَذا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، أبُو سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ مَسْعُودٍ، ثُمَّ رَواهُ مَوْصُولًا وقالَ: فَإنْ صَحَّ فَمَعْنى قَوْلِهِ: سَبْعَةُ أحْرُفٍ، أيْ سَبْعَةُ أوْجُهٍ، ولَيْسَ المُرادُ بِهِ اللُّغاتِ الَّتِي أُبِيحَتِ القِراءَةُ عَلَيْها، وهَذا المُرادُ بِهِ الأنْواعُ الَّتِي نَزَلَ القُرْآنُ عَلَيْها، واللَّهُ أعْلَمُ.
قُلْتُ: عَزاهُ شَيْخُنا العَلّامَةُ مُقْرِئُ زَمانِهِ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الجَزَرِيِّ، الدِّمَشْقِيُّ الشّافِعِيُّ في أوائِلِ كِتابِهِ ”النَّشْرِ في (p-٦١)القِراءاتِ العَشْرِ“ إلى الطَّبَرانِيِّ مِن حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ أبِي سَلَمَةَ المَخْزُومِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إنَّ الكُتُبَ كانَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِن بابٍ واحِدٍ وإنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ مِن سَبْعَةِ أبْوابٍ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ: حَلالٌ وحَرامٌ ومُحْكَمٌ ومُتَشابِهٌ وضَرْبُ أمْثالٍ و[ أمْرٌ و] زاجِرٌ، فَأحِلَّ حَلالَهُ وحَرِّمْ حَرامَهُ واعْمَلْ بِمُحْكَمِهِ وقِفْ عِنْدَ مُتَشابِهِهِ واعْتَبِرْ أمْثالَهُ، فَإنَّ كُلًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ» . ورَواهُ الحافِظُ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي داوُدَ في ”كِتابِ المَصاحِفِ“ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «إنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلى نَبِيِّكم ﷺ مِن سَبْعَةِ أبْوابٍ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ - أوْ: حُرُوفٍ - وإنَّ الكِتابَ قَبْلَكم كانَ يَنْزِلُ - أوْ: نَزَلَ - مِن بابٍ واحِدٍ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ» . ورَواهُ البَيْهَقِيُّ في فَضْلِ القُرْآنِ مِنَ ”الشُّعَبِ“ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: ”نَزَلَ القُرْآنُ عَلى خَمْسَةِ أوْجُهٍ: حَلالٌ وحَرامٌ ومُحْكَمٌ ومُتَشابِهٌ وأمْثالٌ“ .
قالَ الحَرالِّيُّ: في حَدِيثٍ آخَرَ مِن طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «إنَّ الكُتُبَ كانَتْ تَنْزِلُ مِن بابٍ واحِدٍ وإنَّ هَذا القُرْآنَ أُنْزِلَ مِن (p-٦٢)سَبْعَةِ أبْوابٍ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ»، وقالَ في مَعْنى ذَلِكَ: اعْلَمْ أنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ عِنْدَ انْتِهاءِ الخَلْقِ وكَمالِ كُلِّ الأمْرِ بَدْءًا فَكانَ المُتَخَلِّقُ بِهِ جامِعًا لِانْتِهاءِ كُلِّ خَلْقِ وكَمالِ كُلِّ أمْرٍ، فَلِذَلِكَ هو ﷺ قُثَمُ الكَوْنِ - وهو الجامِعُ الكامِلُ - [ و] لِذَلِكَ كانَ خاتَمًا، وكانَ كِتابُهُ خَتْمًا، وبَدَأ المَعادُ مِن حَدِّ ظُهُورِهِ، إنَّهُ هو يُبْدِئُ، ويُعِيدُ، فاسْتَوْفى (p-٦٣)صَلاحَ هَذِهِ الجَوامِعِ الثَّلاثِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في الأوَّلِينَ بِداياتُها وتَمَّتْ عِنْدَهُ نِهاياتُها؛ ”«بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ»، رَواهُ أحْمَدُ عَنْ مُعاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَفَعَهُ، وهي صَلاحُ الدُّنْيا والدِّينِ والمَعادِ الَّتِي جَمَعَها في قَوْلِهِ ﷺ فِيما رَواهُ مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:“ «اللَّهُمَّ أصْلِحْ لِي دِينِيَ الَّذِي هو عِصْمَةُ أمْرِي، وأصْلِحْ لِي دُنْيايَ الَّتِي فِيها مَعاشِي، وأصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إلَيْها مَعادِي» . وفي كُلِّ صَلاحٍ إقْدامٌ وإحْجامٌ فَتَصِيرُ الثَّلاثَةُ الجَوامِعُ سِتَّةً مُفَصَّلاتٍ هي حُرُوفُ القُرْآنِ السِّتَّةُ الَّتِي لَمْ يَبْرَحْ يَسْتَزِيدُها مِن رَبِّهِ حَرْفًا حَرْفًا، فَلَمّا اسْتَوْفى السِّتَّةَ وهَبَهُ رَبُّهُ حَرْفًا جامِعًا سابِعًا فَرْدًا لا زَوْجَ لَهُ، فَتَمَّ إنْزالُهُ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ.
فَأدْنى تِلْكَ الحُرُوفِ هو حَرْفُ إصْلاحِ الدُّنْيا، فَلَها حَرْفانِ: (p-٦٤)أحَدُهُما: حَرْفُ الحَرامِ الَّذِي لا تَصْلُحُ النَّفْسُ والبَدَنُ إلّا بِالتَّطْهِيرِ مِنهُ لِبُعْدِهِ عَنْ تَقْوِيمِها؛ والثّانِي حَرْفُ الحَلالِ الَّذِي تَصْلُحُ النَّفْسُ والبَدَنُ عَلَيْهِ لِمُوافَقَتِهِ لِتَقْوِيمِها؛ وأصْلُ هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ في التَّوْراةِ، وتَمامُهُما في القُرْآنِ.
ثُمَّ يَلِي هَذَيْنِ حَرْفا صَلاحِ المَعادِ: أحَدُهُما حَرْفُ الزَّجْرِ والنَّهْيِ الَّتِي لا تَصْلُحُ الآخِرَةُ إلّا بِالتَّطْهِيرِ مِنهُ لِبُعْدِهِ عَنْ حُسْناها، والثّانِي حَرْفُ الأمْرِ الَّذِي تَصْلُحُ الآخِرَةُ عَلَيْهِ لِتَقاضِيهِ بِحُسْناها، وقَدْ يَتَضَرَّرُ عَلى ذَلِكَ حالُ الدُّنْيا، لِأنَّهُ يَأْتِي عَلى كَثِيرٍ مِن حَلالِها لِوُجُوبِ إيثارِ الآخِرَةِ لِبَقائِها وكُلِّيَّتِها عَلى الدُّنْيا لِفَنائِها وجُزْئِيَّتِها، لَكَوْنِ خَيْرِ الدُّنْيا جُزْءًا مِن مِئَةٍ، وشَرُّ الدُّنْيا جُزْءًا مِن سَبْعِينَ [ جُزْءًا ]، ولا يُؤْثِرُ (p-٦٥)هَذا الجُزْءَ الأدْنى لِحُضُورِهِ عَلى ذَلِكَ الكُلِّ الأنْهى لِغِيابِهِ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وضَعُفَ إيمانُهُ، فَتَخَلُّصُ المَرْءِ مِن حَرْفِ الحَرامِ طُهْرُهُ، وتَخَلُّصُهُ مِنَ النَّهْيِ طِيبُهُ؛ وأصْلُ هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ في الإنْجِيلِ وتَمامُهُما في القُرْآنِ.
ثُمَّ يَلِي هَذَيْنِ حَرْفا صَلاحِ الدِّينِ: أحَدُهُما حَرْفُ المُحْكَمِ الَّذِي بانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ خِطابُ رَبِّهِ مِن جِهَةِ أحْوالِ قَلْبِهِ وأخْلاقِ نَفْسِهِ وأعْمالِ بَدَنِهِ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ رَبِّهِ مِن غَيْرِ التِفاتٍ لِغَرَضِ النَّفْسِ في عاجِلِ الدُّنْيا ولا آجِلِها، والثّانِي حَرْفُ المُتَشابِهِ الَّذِي لا يَبِينُ لِلْعَبْدِ فِيهِ خِطابُ رَبِّهِ مِن جِهَةِ قُصُورِ عَقْلِهِ مِن إدْراكِهِ ووُجُوبِ تَسْبِيحِ رَبِّهِ عَنْ تَمَثُّلِ عَبْدِهِ إلى أنْ يُؤَيِّدَهُ اللَّهُ بِتَأْيِيدِهِ. والحُرُوفُ الخَمْسَةُ لِلِاسْتِعْمالِ وهَذا الحَرْفُ السّادِسُ لِلْوُقُوفِ لِيَكُونَ العَبْدُ قَدْ وقَفَ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ عَنْ حِرَفٍ كَما قَدْ كانَ أقْدَمَ لِلَّهِ عَلى تِلْكَ الحُرُوفِ، ولِيَنْسَخَ بِعَجْزِهِ وإيمانِهِ عِنْدَ هَذا الحَرْفِ السّادِسِ انْتِهاءَ ما تَقَدَّمَ مِن طَوْقِهِ وعِلْمِهِ في تِلْكَ الحُرُوفِ ابْتِداءً؛ وأصْلُ هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ كُلِّها، وتَمامُها (p-٦٦)فِي القُرْآنِ.
فَهَذِهِ الحُرُوفُ السِّتَّةُ يَشْتَرِكُ فِيها القُرْآنُ مَعَ سائِرِ الكُتُبِ، ويَزِيدُ عَلَيْها تَمامَها وبَرَكَةَ جَمْعِها، ويَخْتَصُّ القُرْآنُ بِالحَرْفِ السّابِعِ الجامِعِ مُبَيِّنُ المَثَلِ الأعْلى ومُظْهِرُ المَمْثُولِ الأعْظَمِ حَرْفُ الحَمْدِ الخاصِّ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وهو حَرْفُ المَثَلِ، وعَنْ جَمْعِهِ وكَمالِ جَمْعِهِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ في قَلْبِهِ وقِراءَتِهِ عَلى لِسانِهِ وبَيانِهِ في ذاتِهِ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ خَواصُّ خَلْقِهِ الكَرِيمِ وخُلُقِهِ العَظِيمِ، ولا يُنالُ إلّا مَوْهِبَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى لِعَبْدِهِ بِلا واسِطَةٍ، والسِّتَّةُ تَتَنَزَّلُ بِتَوَسُّطاتٍ مِنِ اسْتِواءِ الطَّبْعِ وصَفاءِ العَقْلِ بِمَثابَةِ وحْيِ النَّبِيِّ وإلْهامِ الوَلِيِّ.
ولَمّا كانَ حَرْفُ الحَمْدِ هو سابِعَها الجامِعَ؛ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى الفاتِحَةَ أُمَّ القُرْآنِ وأُمَّ الكِتابِ وجَمَعَ فِيها جَوامِعَ الحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي بَثَّها في القُرْآنِ كَما جَمَعَ في القُرْآنِ ما بَثَّ في جَمِيعِ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، كَفِضَّةٍ ثَقُلَتْ عَلى مُرِيدِ السَّفَرِ [ فابْتاعَ بِها ذَهَبًا فَذَلِكَ مِثْلُ القُرْآنِ ثُمَّ ثَقُلَ عَلَيْهِ الذَّهَبُ ] فابْتاعَ بِهِ جَوْهَرًا، فَذَلِكَ مِثْلُ أُمِّ القُرْآنِ؛ فَإذَنْ كَمالُ الحُرُوفِ [ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْها القُرْآنُ ] مَوْجُودَةٌ في جَوامِعِ (p-٦٧)أُمِّ القُرْآنِ.
فالآيَةُ الأُولى تَشْتَمِلُ عَلى حِرَفِ الحَمْدِ السّابِعِ، والثّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلى حَرْفَيِ الحَلالِ والحَرامِ اللَّذِينِ أقامَتِ الرَّحْمانِيَّةُ بِهِما الدُّنْيا، يُرِيدُ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ - أنَّ الرَّحْمانِيَّةَ وسِعَتْ عَلى العِبادِ الِاسْتِمْتاعَ بِالمَخْلُوقِ مِنَ النِّعَمِ والخَيْراتِ المُوافِقَةِ لِطِباعِهِمْ وأمْزِجَتِهِمْ وقَبُولِ نُفُوسِهِمْ في جَمِيعِ جِهاتِ الِاسْتِمْتاعِ، فَكانَ في ذَلِكَ رَحْمَتانِ: رَحْمَةٌ بِالإباحَةِ وهي إزالَةُ حَرَجِ الحَظْرِ، ورَحْمَةٌ يَمْنَعُ لَحاقَ حَرَجِ الإثْمِ، أوْ يَجْعَلُ المُباحَ شَهِيًّا لِلطَّبْعِ.
وأمّا الرَّحِيمِيَّةُ فَطَهَّرَتْهم مِن مَضارِّ أبْدانِهِمْ ورَجاسَةِ نُفُوسِهِمْ ومَجْهَلَةِ قُلُوبِهِمْ، فَفي ذَلِكَ رَحْمَةٌ واحِدَةٌ وهي حَمِيَّةُ المَحْبُوبِ عَنِ المَضارِّ مِنَ المَحْبُوبِ، أوْ يُرِيدُ - وهو، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، أقْرَبُ - أنَّ الرَّحْمانِيَّةَ أقامَتْ بِعُمُومِها كُلَّ ما شَمِلَتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِن إفاضَةِ النِّعَمِ وإزاحَةِ النِّقَمِ عَلى وجْهٍ مُسْعِدٍ أوْ مَشْقٍ، والرَّحِيمِيَّةُ أقامَتْ بِخُصُوصِها كَما تَقَدَّمَ بِما تَرْضاهُ الإلَهِيَّةُ إدْرارَ النِّعَمِ ودَفْعَ النِّقَمِ عَلى الوَجْهِ المُسْعِدِ خاصَّةً. انْتَهى.
والآيَةُ الثّالِثَةُ تَشْتَمِلُ عَلى أمْرِ المَلِكِ القَيِّمِ عَلى حَرْفَيِ الأمْرِ والنَّهْيِ (p-٦٨)اللَّذَيْنِ يَبْدُو أمْرُهُما في الدِّينِ.
والرّابِعَةُ تَشْتَمِلُ عَلى حَرْفَيِ المُحْكَمِ في قَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] والمُتَشابِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] ولَمّا كانَتْ بِناءِ خِطابٍ مُحاضَرَةٍ؛ لَمْ تُرَدَّدْ مَسْألَتُها في السُّورَةِ، فانْفَرَدَ هَذانِ الحَرْفانِ عَنِ الدُّعاءِ فِيهِما، وعادَتْ مَسْألَةُ الآيَةِ الخامِسَةِ عَلى حَرْفِ الحَمْدِ، ومَسْألَةُ الآيَةِ السّادِسَةِ عَلى آيَةِ النِّعْمَةِ مِن حَرْفَيِ الحَلالِ والحَرامِ، ومَسْألَةُ الآيَةِ السّابِعَةِ عَلى آيَةِ المَلِكِ مِن حَرْفَيِ الأمْرِ والنَّهْيِ؛ فَجَمَعَتِ الفاتِحَةُ جَوامِعَ الحُرُوفِ السَّبْعَةِ.
ولَمّا ابْتُدِئَتِ الفاتِحَةُ أُمُّ القُرْآنِ بِالسّابِعِ الجامِعِ المَوْهُوبِ؛ ابْتُدِئَ القُرْآنُ بِالحَرْفِ السّادِسِ المَعْجُوزِ عَنْهُ، وهو حَرْفُ المُتَشابِهِ؛ لِأنَّهُ عَنْ (p-٦٩)إظْهارِ العَجْزِ ومَحْضِ الإيمانِ كانَتِ الهِبَةُ والتَّأْيِيدُ، ولِيَكُونَ العَبْدُ يَفْتَتِحُ القُرْآنَ بِالإيمانِ بِغَيْبٍ مُتَشابِهٍ في قَوْلِهِ: ”الَمَ“ فَيَكُونُ أتَمَّ انْقِيادًا لِما دُونَهُ وبَرِيئًا مِنَ الدَّعْوى في مُسْتَطاعِهِ في سائِرِ الحُرُوفِ؛ ثُمَّ ولِيَ السّادِسُ المُفْتَتَحُ بِهِ القُرْآنُ الخامِسَ المُحْكَمَ مِن وجْهٍ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] لِأنَّ مَن عَمِلَ بِها مَن قَلْبِهِ شُعْبَةَ إيمانٍ وعِلْمٍ كانَتْ لَهُ مِنَ المُحْكَمِ، ومَن عَمِلَ بِها ائْتِمارًا وإلْجاءً ولَمْ يَدْخُلِ الإيمانُ في قَلْبِهِ كانَتْ لَهُ حَرْفَ أمْرٍ،
﴿وإنْ تُطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ لا يَلِتْكم مِن أعْمالِكم شَيْئًا﴾ [الحجرات: ١٤]
وهَذا إنَّما وقَعَ تَرْتِيبُهُ هَكَذا في القُرْآنِ المَتْلُوِّ، وأمّا تَنْزِيلُهُ في تَرْتِيبِ البَيانِ؛ فَإنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ هو حَرْفُ المُحْكَمِ وهو قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١] (p-٧٠)﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ [العلق: ٢] ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ [العلق: ٣] الآياتِ الخَمْسَ، وأوَّلُ ما أُنْزِلَ إلى الأُمَّةِ في تَرْتِيبِ البَيانِ هو مِن حَرْفِ الزَّجْرِ والنَّهْيِ، وهو قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: ١] ﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾ [المدثر: ٢] [ أيْ ] نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أعْلَمَهم بِما تُخافُ عاقِبَتُهُ في الآخِرَةِ وإنْ كانُوا قَدِ اتَّخَذُوا في الدُّنْيا مَوَدَّةً بِأوْثانِهِمْ وقالَ تَعالى: ﴿إنَّما اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ أوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكم في الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ﴾ [العنكبوت: ٢٥] الآيَةَ، فابْتَدَأ سُبْحانَهُ وتَعالى تَرْتِيلَ الأُمَّةِ بِإصْلاحِ المَعادِ الأهَمِّ لِأنَّ عَلَيْهِ يَصْلُحُ أمْرُ الدُّنْيا، مَنِ اسْتَقَلَّ بِآخِرَتِهِ كَفاهُ اللَّهُ أمْرَ دُنْياهُ؛ (p-٧١)وبَدَأ مِنها بِحَرْفِ الزَّجْرِ والنَّهْيِ وهو المَبْدُوءُ بِهِ في الحَدِيثِ ورَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ لِفْظَ الزَّجْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ لِأنَّ المَقْصُودَ بِهِما واحِدٌ وهو الرَّدْعُ عَمّا يَضُرُّ في المَعادِ، إلّا أنَّ الرَّدْعَ عَلى وجْهَيْنِ: خِطابٌ لِمُعْرِضٍ ويُسَمّى زَجْرًا، كَما يُسَمّى في حَقِّ البَهائِمِ، وخِطابٌ لِمُقْبِلٍ عَلى التَّفَهُّمِ ويُسَمّى نَهْيًا؛ فَكَأنَّ الزَّجْرَ يَزِيعُ الطَّبْعَ، والنَّهْيَ يَزِيعُ العَقْلَ. انْتَهى. وقَدْ بانَ مِن هَذا سِرُّ افْتِتاحِ البَقَرَةِ بِالحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ.
ولَمّا كانَ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّوَرُ مِن ذَلِكَ شَطْرُ حُرُوفِ المُعْجَمِ؛ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: مَن زَعَمَ أنَّ القُرْآنَ لَيْسَ كَلامَ اللَّهِ؛ فَلْيَأْخُذِ الشَّطْرَ الآخَرَ، ويُرَكِّبْ عَلَيْهِ كَلامًا يُعارِضُهُ بِهِ، نَقَلَ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ في ”البُرْهانِ“ عَنِ القاضِي أبِي بَكْرٍ، قالَ: وقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْضُ أرْبابِ الحَقائِقِ، وجَمَعَها (p-٧٢)الزَّرْكَشِيُّ في قَوْلِهِ: ( نَصٌّ حَكِيمٌ قاطِعٌ لَهُ سِرٌّ ) .
وعَنْ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: في كُلِّ كِتابٍ [ سُرٌّ ]، وسِرُّ اللَّهِ في القُرْآنِ أوائِلُ السُّوَرِ.
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وكَرَّمَ وجْهَهُ: إنَّ لِكُلِّ كِتابٍ صَفْوَةً، وصَفْوَةُ هَذا الكِتابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي.
ولَمّا كانَتْ حُرُوفُ المُعْجَمِ تِسْعَةً وعِشْرِينَ حَرْفًا بِالهَمْزَةِ، [ و] كانَ أحَدُ شَطْرِها عَلى التَّحْرِيرِ مُتَعَذِّرًا، فَقُسِّمَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ وأرْبَعَةَ عَشَرَ، وأُخِذَ الأقَلُّ مِن بابِ الأنْصافِ وفُرِّقَ في تِسْعٍ وعِشْرِينَ سُورَةً (p-٧٣)عَلى عَدَدِ الحُرُوفِ، وتَحَدّى بِهِ عَلى هَذا الوَجْهِ.
وأبْدى الإمامُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ الدِّمَشْقِيُّ الحَنْبَلِيُّ في كِتابٍ لَهُ كالتَّذْكِرَةِ سَمّاهُ ”بَدائِعَ الفَرائِدِ“ سِرًّا غَرِيبًا في ابْتِداءِ القُرْآنِ بِقَوْلِهِ: ﴿الم﴾ حاصِلُهُ أنَّ حُرُوفَهُ الثَّلاثَةَ جَمَعَتِ المَخارِجَ الثَّلاثَةَ: الحَلْقُ، واللِّسانُ، والشَّفَتانِ، عَلى تَرْتِيبِها، وذَلِكَ إشارَةً إلى البِدايَةِ الَّتِي هي بَدْءُ الخَلْقِ، والنِّهايَةِ الَّتِي هي المَعادُ، والوَسَطُ الَّذِي هو المَعاشُ مِنَ التَّشْرِيعِ بِالأوامِرِ والنَّواهِي؛ وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ هَذا الكِتابَ الَّذِي رُكِّبَ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ الَّتِي لا تَعْدُو المَخارِجَ الثَّلاثَةَ الَّتِي بِها يُخاطِبُ جَمِيعَ الأُمَمِ، جامِعٌ لِما (p-٧٤)يُصْلِحُكم مِن أحْوالِ بَدْءِ الخَلْقِ وإعادَتِهِ وما بَيْنَ ذَلِكَ، وكُلُّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِهَذِهِ الحُرُوفِ ذُكِرَتْ فِيها الأحْوالُ الثَّلاثَةُ.
وقالَ الحَرالِّيُّ في تَفْسِيرِهِ: ”ألِفٌ“: اسْمٌ لِلْقائِمِ الأعْلى المُحِيطِ، ثُمَّ لِكُلِّ مُسْتَخْلَفٍ في القِيامِ كَآدَمَ والكَعْبَةِ، ”مِيمٌ“ اسْمٌ لِلظّاهِرِ الأعْلى الَّذِي مِن أظْهَرِهِ: مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ، واسْمٌ لِلظّاهِرِ الكامِلِ المُؤْتى جَوامِعَ الكَلِمِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ثُمَّ لِكُلِّ ظاهِرٍ دُونَ ذَلِكَ كالسَّماءِ والفَلَكِ والأرْضِ. ”لامٌ“ اسْمٌ لِما بَيْنَ باطِنِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي هي مَحارُ العُقُولِ، وظاهِرِ المُلْكِ الَّذِي هو مُتَجَلّى يَوْمِ الجَزاءِ مِن مُقْتَضى الأسْماءِ الحُسْنى والصِّفاتِ العُلى الَّتِي هي وُصُلٌ تُنْزِلُ ما بَيْنَهُما كاللَّطِيفِ ونَحْوِهِ، ثُمَّ لِلْوَصْلِ الَّذِي كالمَلائِكَةِ وما تَتَوَلّاهُ مِن أمْرِ المَلَكُوتِ. وهَذِهِ الألْفاظُ عِنْدَ انْعِجامِ مَعْناها تُسَمّى حُرُوفًا، والحَرْفُ طَرَفُ الشَّيْءِ الَّذِي لا يُؤْخَذُ مُنْفَرِدًا وطَرَفُ القَوْلِ الَّذِي لا يُفْهَمُ وحْدَهُ، وأحَقُّ ما تُسَمّى حُرُوفًا إذا نُظِرَ إلى صُوَرِها ووُقُوعِها أجْزاءً مِنَ الكَلِمِ (p-٧٥)ولَمْ تُفْهَمْ لَها دَلالَةٌ فَتُضافُ إلى مِثْلِها جُزْءٌ مِن كَلِمَةٍ مَفْهُومَةٍ تُسَمّى عِنْدَ ذَلِكَ حُرُوفًا وعِنْدَ النُّطْقِ بِها هَكَذا: ألِفْ لامْ مِيمْ، [ فَيَنْبَغِي أنْ يُقالَ فِيها أسْماءٌ وإنْ كانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةِ الدَّلالَةِ كَحُرُوفِ ”ألِفٌ باءٌ تاءٌ“ ] فَإنَّها كُلَّها أسْماءٌ عَلى ما فَهِمَهُ الخَلِيلُ، وإنَّها إنَّما تُسَمّى حُرُوفًا عِنْدَما تَكُونُ أجْزاءَ كَلِمَةٍ مُحَرَّكَةٍ لِلِابْتِداءِ أوْ مُسَكَّنَةٍ لِلْوَقْفِ والِانْتِهاءِ.
وأمّا حَقِيقَتُها فَهي جَوامِعُ أصْلُها في ذِكْرٍ أوَّلٍ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى فَنَزَلَتْ إلى الكَلِمِ العَرَبِيَّةِ وتُرْجِمَتْ بِها ونُظِمَ مِنها هَذا القُرْآنُ العَرَبِيُّ المُبِينُ، فَهي في الكُتُبِ العُلْوِيَّةِ المَلَكُوتِيَّةِ المُتَرَتِّبَةِ في الجَمْعِ والتَّفْصِيلِ آيَةٌ وكَلِمٌ وذاتُ كِتابٍ، فَلَمّا نَزَلَتْ إلى غايَةِ مُفَصَّلِ القُرْآنِ أُبْقِيَتْ (p-٧٦)فِي افْتِتاحِهِ لِتَكُونَ عَلَمًا عَلى نَقْلِهِ لِلتَّفْصِيلِ مِن ذَلِكَ الكِتابِ، ولِأنَّها أتَمُّ وأوْجَزُ في الدَّلالَةِ عَلى الجَمْعِ مِنَ المُفَصَّلِ مِنها، ودَلالَتُها جامِعَةٌ لِلْوُجُودِ كُلِّهِ مِن أبْطَنِ قِيَمِهِ إلى أظْهَرِهِ، وأظْهَرِ مَقامِهِ وما بَيْنَهُما مِنَ الوُصْلَةِ [ و ] الواصِلَةِ وهي جامِعَةُ الدَّلالَةِ عَلى الكَوْنِ المَرْئِيِّ لِلْعَيْنِ بِالعَيْنِ والوَحْيِ المَسْمُوعِ؛ ولِأجْلِ ما اقْتَضَتْهُ مِنَ الجَمْعِ لَمْ تَنْزِلْ في كِتابٍ مُتَقَدِّمٍ لِأنَّ كِتابَ كُلِّ وقْتٍ مُطابَقٌ بِحالِ الكَوْنِ فِيهِ، والكَوْنُ كانَ بَعْدُ لَمْ يَكْمَلْ فَكانَتْ كُتُبُهُ وصُحُفُهُ بِحَسَبِهِ، ولَمّا كَمَلَ الكَوْنُ في وقْتِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ﷺ كانَ كِتابُهُ كامِلًا جامِعًا فَوَجَبَ ظُهُورُ هَذِهِ الجَوامِعِ فِيهِ لِيُطابِقَ الخَتْمُ البَدْءَ، لِأنَّهُما طَرَفا كَمالٍ وما بَيْنَهُما تَدَرُّجٌ إلَيْهِ، وقَدْ كانَ وعْدٌ بِإنْزالِهِما في بَعْضِ تِلْكَ الكُتُبِ فَكانَ نُزُولُها نِجازًا لِذَلِكَ. انْتَهى.
(p-٧٧)وأمّا مُناسَبَةُ ما بَعْدَ ذَلِكَ لِلْفاتِحَةِ فَهو أنَّهُ لَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّ عِبادَهُ المُخْلِصِينَ سَألُوا في الفاتِحَةِ هِدايَةَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي هو [ غَيْرُ ] طَرِيقِ الهالِكِينَ؛ أرْشَدَهم في أوَّلِ الَّتِي تَلِيها إلى أنَّ الهُدى المَسْؤُولَ إنَّما هو في [ هَذا ] الكِتابِ، وبَيَّنَ لَهم صِفاتِ الفَرِيقَيْنِ المَمْنُوحَيْنِ بِالهِدايَةِ حَثًّا عَلى التَّخَلُّقِ بِها، والمَمْنُوعِينَ مِنها زَجْرًا عَنْ قُرْبِها. فَكانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ المُناسَباتِ لِتَعْقِيبِ الفاتِحَةِ بِالبَقَرَةِ، لِأنَّها سِيقَتْ لِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْ هَذا الكِتابِ، ولِأنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ، ولِوَصْفِ المُتَّقِينَ وما يُجازَوْنَ بِهِ بِما في الآياتِ الثَّلاثِ، ولِوَصْفِ الكافِرِينَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لِما وقَعَ مِنَ الخَتْمِ عَلى جَواسِّهِمْ، والحَتْمِ لِعِقابِهِمْ؛ لِيُعْلَمَ أنَّ ما اتَّصَفَ بِهِ المُتَّقُونَ هو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ فَيُلْزَمَ، وما اتَّصَفَ بِهِ مَن (p-٧٨)عَداهم هو طَرِيقُ الهالِكِينَ فَيُتْرَكَ؛ وفي الوَصْفِ بِالتَّقْوى بَعْدَ ذِكْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ إشارَةٌ إلى أنَّ المَقامَ مَقامُ الخَوْفِ.
وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: مَقْصُودُ هَذِهِ السُّورَةِ وصْفُ الكِتابِ فَقَطْ وما عَدا ذَلِكَ فَتَوابِعُ ولَوازِمُ ولَنْ يَثْبُتَ أنَّهُ هُدًى إلّا بِإثْباتِ أنَّهُ حَقٌّ مَعْنًى ونَظْمًا، ولَمّا كانَ المَعْنى أهَمَّ؛ قَدَّمَ الِاسْتِدْلالَ عَلَيْهِ فَأخْبَرَ مِن تَمادِيهِمْ عَلى الكُفْرِ بِما يَكُونُ تَكْذِيبُهم بِهِ تَصْدِيقًا لَهُ، وأتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ المُنافِقِينَ إعْلامًا بِأنَّ المَنفِيَّ الإيمانُ بِالقَلْبِ، وأنَّهُ لا عِبْرَةَ بِاللِّسانِ إذا تَجَرَّدَ عَنْهُ، (p-٧٩)وساقَ ذَلِكَ عَلى وجْهٍ يَعْلَمُونَ بِهِ أنَّهُ الحَقُّ بِما هَتَكَ مِن سَرائِرِهِمْ وكَشَفَ مِن ضَمائِرِهِمْ، فَلَمّا تَمَّ ذَلِكَ وكانَ المَقْصُودُ مِنهُ الدُّعاءَ إلى اللَّهِ انْتُهِزَتْ تِلْكَ الفُرْصَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] لِما أُسِّسَ لَها مِنَ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ، ثُمَّ أُقِيمَ الدَّلِيلُ عَلى حَقِّيَّةِ نَظْمِهِ بِتَقْصِيرِهِمْ عَنْ مَدى سَهْمِهِ، فَرَجَعَ حاصِلُ ذَلِكَ إلى إثْباتِهِ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُعارَضَتِهِ في مَعْناهُ بِإيجادِ ما أخْبَرَ بِنَفْيِهِ وفي نَظْمِهِ بِالإتْيانِ بِمِثْلِهِ، فَلَمّا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ فَثَبَتَ تَأهُّلُهُ لِتَعْلِيمِ الشَّرائِعِ فَجَعَلَها ضِمْنَ مُجادَلَةِ أهْلِ الكِتابِ بِما يَعْلَمُونَ حَقِّيَّتَهُ بِلا ارْتِيابٍ مِنَ الدُّعاءِ إلى ما أخْفَوْهُ مِنَ الدَّعائِمِ الخَمْسِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْها الإسْلامُ.
{"ayah":"الۤمۤ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق