الباحث القرآني

(p-٩٨)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ البَقَرَةِ هَذِهِ السُورَةُ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ في مُدَدٍ شَتّى، وفِيها آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللهِ، ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨١]، ويُقالُ لِسُورَةِ البَقَرَةِ: "فُسْطاطُ القُرْآنِ" لِعِظَمِها وبَهائِها، وما تَضَمَّنَتْ مِنَ الأحْكامِ والمَواعِظِ، وتَعَلَّمَها عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما بِفِقْهِها وجَمِيعِ ما تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ العُلُومِ في ثَمانِيَةِ أعْوامٍ، وفِيها خَمْسَمِائَةُ حُكْمٍ، وخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا، ورَوى الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "أيُّ القُرْآنِ أفْضَلُ؟ قالُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: سُورَةُ البَقَرَةِ"، ثُمَّ قالَ: "وَأيُّها أفْضَلُ؟ قالُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ. قالَ: آيَةُ الكُرْسِيِّ"»، ويُقالُ: إنَّ آياتِ الرَحْمَةِ والرَجاءِ والعَذابِ تَنْتَهِي فِيها مَعانِيها إلى ثَلاثِمائَةٍ وسِتِّينَ مَعْنًى. ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «أُعْطِيتُ سُورَةَ البَقَرَةِ مِنَ الذِكْرِ الأوَّلِ، وأُعْطِيتُ طَهَ والطَواسِينَ مِن ألْواحِ مُوسى، وأُعْطِيتُ فاتِحَةَ الكِتابِ وخَواتِمَ سُورَةِ البَقَرَةِ مِن تَحْتِ العَرْشِ». وفِي الحَدِيثِ الصَحِيحِ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «تَجِيءُ البَقَرَةُ وآلُ عِمْرانَ يَوْمَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَيايَتانِ بَيْنَهُما شَرَقٌ، أو غَمامَتانِ سَوْداوانِ، أو كَأنَّهُما ظُلَّةٌ مِن طَيْرٍ صَوافٍّ تُجادِلانِ عن صاحِبِهِما» وفي البُخارِيِّ أنَّهُ عَلَيْهِ السَلامُ قالَ: «مَن قَرَأ بِالآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاه». (p-٩٩)وَرَوى أبُو هُرَيْرَةَ عنهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «البَيْتُ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَيْطانُ»، ورُوِيَ عنهُ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّهُ قالَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنامٌ، وسَنامُ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ، فِيها آيَةٌ هي سَيِّدَةُ آيِ القُرْآنِ، هي آيَةُ الكُرْسِيِّ». وعَدَدُ آيِ سُورَةِ البَقَرَةِ مِائَتانِ وخَمْسٌ وثَمانُونَ آيَةً، وقِيلَ: وسِتٌّ وثَمانُونَ آيَةً، وقِيلَ: سَبْعٌ وثَمانُونَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الم﴾ اخْتُلِفَ في الحُرُوفِ الَّتِي في أوائِلِ السُوَرِ عَلى قَوْلَيْنِ: قالَ الشَعْبِيُّ عامِرُ بْنُ شَراحِيلَ، وسُفْيانُ الثَوْرِيُّ، وجَماعَةٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ: هِيَ: سِرُّ اللهِ في القُرْآنِ، وهي مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللهُ بِعِلْمِهِ، ولا يَجِبُ أنْ يَتَكَلَّمَ فِيها، ولَكِنْ يُؤْمِنُ بِها وتَمُرُّ كَما جاءَتْ. (p-١٠٠)وَقالَ الجُمْهُورُ مِنَ العُلَماءِ: بَلْ يَجِبُ أنْ يَتَكَلَّمَ فِيها، وتُلْتَمَسُ الفَوائِدُ الَّتِي تَحْتَها، والمَعانِيَ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْها، واخْتَلَفُوا في ذَلِكَ عَلى اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا. فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الحُرُوفُ المُقَطَّعَةُ في القُرْآنِ هي اسْمُ اللهِ الأعْظَمُ، إلّا أنّا لا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هي أسْماءُ اللهِ أقْسَمَ بِها. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: هي أسْماءٌ لِلسُّوَرِ. وقالَ قَتادَةُ: هي أسْماءٌ لِلْقُرْآنِ كالفُرْقانِ، والذِكْرِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هي فَواتِحُ لِلسُّوَرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَما يَقُولُونَ في أوَّلِ الإنْشادِ لِشَهِيرِ القَصائِدِ: "بَلْ ولا بَلْ"، نَحا هَذا النَحْوَ أبُو عُبَيْدَةَ والأخْفَشُ. وقالَ قَوْمٌ: هي حِسابُ "أبِي جادٍ"، لِتَدُلَّ عَلى مُدَّةِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَما ورَدَ في حَدِيثِ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ، وهو قَوْلُ أبِي العالِيَةِ رَفِيعٍ وغَيْرِهِ. وقالَ قُطْرُبٌ وغَيْرُهُ: هي إشارَةٌ إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ، كَأنَّهُ يَقُولُ لِلْعَرَبِ: إنَّما تَحَدَّيْتُكم بِنَظْمٍ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ، فَقَوْلُهُ: " الم" بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: (أ- ب- ت- ث) لِتَدُلَّ بِها عَلى التِسْعَةِ والعِشْرِينَ حَرْفًا. وقالَ قَوْمٌ: هي أمارَةٌ قَدْ كانَ اللهُ جَعَلَها لِأهْلِ الكِتابِ أنَّهُ سَيُنْزِلُ عَلى مُحَمَّدٍ كِتابًا في أوَّلِ سُورٍ مِنهُ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلى "أنا اللهُ أعْلَمُ"، "أنا اللهُ أرى"، "أنا اللهُ أُفَصِّلُ". (p-١٠١)وَقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هي حُرُوفُ كُلِّ واحِدٍ مِنها: إمّا أنْ يَكُونَ مِنِ اسْمٍ مِن أسْماءِ اللهِ، وإمّا مِن نِعْمَةٍ مِن نِعَمِهِ، وإمّا مِنَ اسْمِ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِهِ، أو نَبِيٍّ مِن أنْبِيائِهِ. وقالَ قَوْمٌ: هي تَنْبِيهٌ كَيا في النِداءِ. وقالَ قَوْمٌ: رُوِيَ أنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا أعْرَضُوا عن سَماعِ القُرْآنِ بِمَكَّةَ نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوها فَيَفْتَحُوا لَها أسْماعَهُمْ، فَيَسْمَعُونَ القُرْآنَ بَعْدَها، فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والصَوابُ ما قالَهُ الجُمْهُورُ -أنَّ تُفَسِّرَ هَذِهِ الحُرُوفَ، ويَلْتَمِسَ لَها التَأْوِيلَ، لِأنّا نَجِدُ العَرَبَ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِالحُرُوفِ المُقَطِّعَةِ نَظْمًا لَها ووَضْعًا، بَدَلَ الكَلِماتِ الَّتِي الحُرُوفُ مِنها، كَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ قُلْنا لَها قِفِي فَقالَتْ: قافُ...................................... أرادَ قالَتْ: وقَفَتْ. وكَقَوْلِ القائِلِ: ؎ بِالخَيْرِ خَيْراتٌ وإنْ شَرًّا فا ∗∗∗ ولا أُرِيدُ الشَرَّ إلّا أنْ تا أرادَ: وإنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، وأرادَ: إلّا أنْ تَشا، والشَواهِدُ في هَذا كَثِيرَةٌ، فَلَيْسَ كَوْنُها في القُرْآنِ مِمّا تُنْكِرُهُ العَرَبُ في لُغَتِها، فَيَنْبَغِي إذا كانَ مِن مَعْهُودِ كَلامِ العَرَبِ أنْ يَطْلُبَ تَأْوِيلَهُ ويَلْتَمِسَ وجْهَهُ. (p-١٠٢)والوَقْفُ عَلى هَذِهِ الحُرُوفِ عَلى السُكُونِ لِنُقْصانِها، إلّا إذا أخْبَرْتَ عنها، أو عَطَفْتَها فَإنَّكَ تُعْرِبُها. ومَوْضِعُ "الم" مِنَ الإعْرابِ: رَفْعٌ عَلى أنَّهُ خَبَرُ ابْتِداءٍ مُضْمَرٌ، أو عَلى أنَّهُ ابْتِداءٌ، أو نَصْبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ، أو خَفْضٌ بِالقَسَمِ، وهَذا الإعْرابُ يَتَّجِهُ الرَفْعُ مِنهُ في بَعْضِ الأقْوالِ المُتَقَدِّمَةِ في الحُرُوفِ، والنَصْبِ في بَعْضٍ، والخَفْضِ في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أنَّها أسْماءٌ لِلَّهِ أقْسَمَ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب