الباحث القرآني
(p-٣٩٢)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ الآيَةُ:
حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى مِنَ النَّسَبِ سَبْعًا ومِنَ الصِّهْرِ سَبْعًا ثُمَّ قالَ: ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكم وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] .
واللَّفْظُ لَيْسَ حَقِيقَةً في أُمَّهاتِ الأُمَّهاتِ، وأُمَّهاتِ الآباءِ، والأجْدادِ، والتَّحْرِيمُ شامِلٌ، نَعَمْ، اسْمُ الأُمَّهاتِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِنَّ عُرْفًا، فَلا جَرَمَ اكْتَفى بِإطْلاقِ العُرْفِ عَنْ ذِكْرِهِنَّ.
والدَّلِيلُ عَلى أنَّ اسْمَ الأُمَّهاتِ لَيْسَ حَقِيقَةً في الجَدّاتِ، أنَّ الصَّحابَةَ لَمْ يَفْهَمُوا مِن مِيراثِ الأبَوَيْنِ مِيراثَ الجَدّاتِ والأجْدادِ، حَتّى بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، واسْتَنْبَطَهُ أهْلُ الإجْماعِ بِدَقِيقِ النَّظَرِ، ورَوى لَهُمُ الرّاوِي «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أطْعَمَ الجَدَّةَ بِالسُّدْسِ،» واخْتَلَفُوا في الجَدِّ مَعَ الأخِ، ولَمْ يَجْهَلُوا مَعْنى الِاسْمِ، وكانَ الإجْماعُ انْعَقَدَ عَلى تَحْرِيمِ الجَدّاتِ وهو الأصْلُ.
فَإذا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ الأُمَّهاتِ الأخَواتِ، وذَكَرَ بَناتِ الأخَواتِ، وبَناتِ الأخِ، لِأنَّ اسْمَ الأخِ لا يَتَناوَلُ ابْنَ الأخِ مَجازًا ولا حَقِيقَةً.
واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى وضَعَ هَذا التَّحْرِيمَ عَلى تَرْتِيبٍ عَجِيبٍ، فَحَرَّمَ أوَّلًا أُصُولَ الإنْسانِ عَلَيْهِ وفُصُولَهُ، وفُصُولَ أُصُولِهِ الأُولى بِلا نِهايَةٍ، وحَرَّمَ فُصُولَ فُصُولِهِ بِلا نِهايَةٍ، وحَرَّمَ أوَّلَ فُصُولِ كُلِّ أصْلٍ لَيْسَ قَبْلَهُ أصْلٌ إلى غَيْرِ نِهايَةٍ، وهو أوْلادُ الإخْوَةِ والأخَواتِ، وحَرَّمَ أوَّلَ فَصْلٍ مِن كُلِّ أصْلٍ قَبْلَهُ أصْلٌ آخَرُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاكِحِ، وهو أوْلادُ الجَدِّ وأبُو (p-٣٩٣)الجَدِّ، فَإنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ، وابْنَةُ الخالِ، عَلى أوَّلِ فَصْلٍ، فابْنَةُ العَمِّ، وابْنَةُ العَمَّةِ، وابْنَةُ الخالَةِ حَلالٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾ .
فَحَرَّمَ مِنَ الرَّضاعِ ما حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ، غَيْرَ أنَّ في الرَّضاعِ لَمْ يَذْكُرْ بَناتِ الأخِ والعَمّاتِ والخالاتِ مِنَ الرَّضاعَةِ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: «”يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ“».
وقالَ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ .
وقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى الأُمَّ مِنَ الرَّضاعَةِ، مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِما بِهِ يَحْصُلُ الرَّضاعُ مِن مِقْدارِ الرَّضاعِ ومَدَّتِهِ، فالتَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ التَّحْرِيمِ بِالرَّضْعَةِ الواحِدَةِ تَعَلُّقٌ بِالعُمُومِ، الَّذِي سِيقَ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ غَرَضِ التَّعْمِيمِ، إلّا أنَّ صِيغَةَ العُمُومِ وقَعَتْ صِلَةً في الكَلامِ زائِدَةً، لِيَتَوَصَّلَ بِها إلى غَرَضٍ آخَرَ يَسْتَنْكِرُهُ في سِياقَتِهِ، لِلتَّعْرِيجِ عَلى ذِكْرِ تَفْصِيلِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضاعِ، وفي مِثْلِهِ يَقُولُ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الكَلامُ يُجْمَلُ في غَيْرِ مَقْصُودِهِ ويُفَصَّلُ في مَقْصُودِهِ.
وفِي الأُصُولِيِّينَ مَن يُخالِفُ ذَلِكَ.
وقَدْ شَرَحْنا ذَلِكَ في تَصانِيفِنا في الأُصُولِ، واليَدُ العُلْيا لِمَن يَذُبُّ عَنْ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في ذَلِكَ، وهو مَنعُ الِاسْتِدْلالِ بِهَذا الجِنْسِ مِنَ العُمُومِ.
وذَكَرَ الرّازِي في هَذا المَقامِ، أنَّ أخْبارَ آحادِ النُّصُوصِ لا يَجُوزُ أنْ (p-٣٩٤)يُخَصَّصَ بِها هَذا العُمُومُ، فَضْلًا عَنْ مَنعِ التَّعَلُّقِ بِهِ، وفِيما قَدَّمْناهُ ما يُبَيِّنُ فَسادَ قَوْلِهِ.
واخْتَلَفَ النّاسُ في لَبَنِ الفَحْلِ، وهو أنْ يَتَزَوَّجَ المَرْأةَ فَتَلِدُ مِنهُ ولَدًا ويَدِرُّ لَها لَبَنًا بَعْدَ وِلادَتِها مِنهُ، فَتُرْضِعُ مِنهُ صَبِيًّا.
فَأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ لَبَنَ هَذا الفَحْلِ، يُحَرِّمُ هَذا الصَّبِيَّ عَلى أوْلادِ الرَّجُلِ، وإنْ كانُوا مِن غَيْرِها، ومَن لا يَعْتَبِرُ لا يُوجِبُ تَحْرِيمًا بَيْنَهُ وبَيْنَ أوْلادِهِ مِن غَيْرِها.
فَمَن قالَ بِلَبَنِ الفَحْلِ ابْنُ عَبّاسٍ.
وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَرِهَهُ قَوْمٌ، ولَمْ يَرَ بِهِ قَوْمٌ بَأْسًا، ومَن كَرِهَهُ كانَ أفْقَهَ.
وهُوَ قَوْلُ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وعَلَيْهِ الفُقَهاءُ المُعْتَبَرُونَ مِثْلُ الشّافِعِيِّ، ومالِكٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، واللَّيْثِ، وأبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ جَمِيعًا.
وخالَفَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وإبْراهِيمُ النَّخْعِيُّ، وأبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وقالُوا: لَبَنُ الفَحْلِ لا يُحَرِّمُ شَيْئًا مِن قِبَلِ الرَّجُلِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾، يَدُلُّ عَلى أنَّ الفَحْلَ أبٌ، لِأنَّ اللَّبَنَ مَنسُوبٌ إلَيْهِ، فَإنَّهُ دَرَّ بِسَبَبِ ولَدِهِ وهَذا ضَعِيفٌ، فَإنَّ الوَلَدَ خُلِقَ مِن ماءِ الرَّجُلِ والمَرْأةِ جَمِيعًا، واللَّبَنُ مِنَ المَرْأةِ ولَمْ يَخْرُجْ مِنَ الرَّجُلِ، وما كانَ مِنَ الرَّجُلِ إلّا وطْءٌ هو سَبَبٌ لِنُزُولِ الماءِ مِنهُ، وإذا حَصَلَ الوَلَدُ، خَلَقَ اللَّهُ اللَّبَنَ، مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ اللَّبَنُ مُضافًا إلى (p-٣٩٥)الرَّجُلِ بِوَجْهٍ ما، ولِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ حَقٌّ في اللَّبَنِ، وإنَّما اللَّبَنُ لَها فَلا يُمْكِنُ أخْذُ ذَلِكَ مِنَ القِياسِ عَلى الماءِ.
وقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «”يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ“،» يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ مِنَ الرَّضاعِ، ولا يَظْهَرُ وجْهُ نِسْبَةِ الرَّضاعِ إلى الرَّجُلِ، مِثْلُ ظُهُورِ نِسْبَةِ الماءِ إلَيْهِ، والرَّضاعُ مِنها، لا جَرَمَ الأصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ وهِشامِ ابْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أنَّ أفْلَحَ أخا أبِي القَعِيسِ جاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْها وهو عَمُّها مِنَ الرَّضاعَةِ، بَعْدَ أنْ نَزَلَ الحِجابُ، قالَتْ: فَأبَيْتُ أنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمّا جاءَ النَّبِيُّ ﷺ أخْبَرَتْهُ، فَقالَ: لِيَلِجْ عَلَيْكِ، فَإنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ،» وقالَ: أبُو القَعِيسِ زَوْجُ المَرْأةِ الَّتِي أرْضَعَتْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهاوَهَذا أيْضًا خَبَرُ واحِدٍ.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أفْلَحُ مَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِيعَيِّ لَبانٍ، فَلِذَلِكَ قالَ: «”لِيَلِجْ عَلَيْكَ فَإنَّهُ عَمُّكِ“،» وإلّا فَلَمْ يَثْبُتْ أنَّهُ كانَ الرَّضاعُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ أوْ بَعْدَهُ، أوْ كانَتِ امْرَأةُ أبِي قَعِيسٍ ولَدَتْ مِنهُ، فَإنْ قُدِّرَتْ هَذِهِ الأُمُورُ، فَيَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ بِهِ ما قالَ المُخالِفُ.
وبِالجُمْلَةِ، القَوْلُ فِيهِ مُشْكِلٌ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ والِاحْتِياطَ في التَّحْرِيمِ أوْلى، مَعَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، يُقَوِّي قَوْلَ المُخالِفِ فاعْلَمْهُ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكم ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكم اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ الآيَةُ:
(p-٣٩٦)اعْلَمْ أنَّ السَّلَفَ اخْتَلَفُوا في اشْتِراطِ الدُّخُولِ في أُمَّهاتِ النِّساءِ.
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ اشْتِراطُ ذَلِكَ، مِثْلُ ما في الرَّبائِبِ، ورُوِيَ عَنْ جابِرٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ وابْنِ الزُّبَيْرِ.
وأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى خِلافِ ذَلِكَ في الفَرْقِ بَيْنَ الرَّبائِبِ وأُمَّهاتِ النِّساءِ.
فَأمّا مَن جَمَعَ بَيْنَهُما يَقُولُ:
الشَّرْطُ إذا تَعَقَّبَ جُمَلًا رَجَعَ عَلى الجَمِيعِ، كالشَّرْطِ والِاسْتِثْناءِ بِالمَشِيئَةِ، وذَلِكَ ما قَرَّرْناهُ في الأُصُولِ، وأصْحابُ الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ يُسَلِّمُونَ الشَّرْطَ والِاسْتِثْناءَ بِالمَشِيئَةِ، ورُجُوعَهُما إلى الجَمِيعِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِما أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُما عَلى كُلِّ حالٍ.
فَكانَ الفَرْقُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكُمْ﴾، ثُمَّ قالَ: ﴿مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، فَنَعَتَ الرَّبائِبَ بِنَعْتٍ لا يَتَقَرَّرُ ذَلِكَ النَّعْتُ في أُمَّهاتِ النِّساءِ، ثُمَّ ذَكَرَ إضافَةً، فالظّاهِرُ أنَّ الإضافَةَ وهي قَوْلُهُ: ﴿مِن نِسائِكُمُ﴾ لِصاحِبَةِ الصِّفَةِ، وكانَتْ كالصِّفَةِ الثّانِيَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ رَدُّ النَّعْتِ الثّانِي إلى أُمَّهاتِ الثّانِي، وقَبْلَهُ وصْفٌ لا يُتَصَوَّرُ فِيهِنَّ، بَلِ الثّانِي يَتْبَعُ الأوَّلَ.
ولَوْ قالَ ظاهِرًا: ”وأُمَّهاتُ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ“، أوْهَمَ أنَّ أُمَّهاتِ النِّساءِ مِنَ النِّساءِ، وذَلِكَ وصْفٌ لِلرَّبائِبِ، لا وصْفُ أُمَّهاتِ النِّساءِ، فَتَقْرِيرُ اللَّفْظِ بَناتُ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
والمُخالِفُ يَقُولُ: بَلْ تَقْدِيرُهُ مِن حَيْثُ العَطْفُ: ”وأُمَّهاتُ نِسائِكم وبَناتُ نِسائِكُمْ“ وذَلِكَ يَقْتَضِي الجَمْعَ، فَكَأنَّهُ قالَ:
”وأُمَّهاتُهُنَّ وبَناتُهُنَّ“، فانْصَرَفَ الثّانِي إلى ما انْصَرَفَ الأوَّلُ إلَيْهِ، (p-٣٩٧)فَتَقْدِيرُهُ: وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، وبَناتُ نِسائِكُمُ اللّاتِي في حُجُورِكُمْ، ونِساؤُكم مِمَّنْ قَدْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ الأسْماءَ المُتَحَدَّثُ عَنْها المَذْكُورَةُ، هي الَّتِي يُصْرَفُ النَّعْتُ إلَيْها دُونَ الأسْماءِ المُضافِ إلَيْها، إلّا أنْ يَتَبَيَّنَ أنَّ النُّعُوتَ لِلْأسْماءِ المُضافِ إلَيْها بِنَصٍّ، أوْ بِضَرْبٍ مِنَ الدَّلِيلِ يَقُومُ مَقامَهُ، فَإنَّكَ إذا قُلْتَ: لِعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي الحَسَنِ عَلَيَّ ألْفُ دِرْهَمٍ، تَكُونُ الكُنْيَةُ لَعَلِيٍّ دُونَ مُحَمَّدٍ، وتَقُولُ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الفَقِيهُ قالَ: ظاهِرٌ أنَّ الفَقِيهَ هو الِاسْمُ المُتَحَدَّثُ عَنْهُ.
فَحاصِلُ القَوْلِ، أنَّ الحُكْمَ إنَّما ورَدَ في أُمَّهاتِ النِّساءِ وفي الرَّبائِبَ، وكانَتِ الإضافَةُ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لا تَلِيقُ بِأُمَّهاتِ النِّساءِ، وهي تَلِيقُ بِالرَّبائِبِ، جُعِلَ الشَّرْطُ فِيهِ فِيهِنَّ، وقامَ مَقامَ النَّعْتِ، وكانَ جَعْلُ ذَلِكَ لِلنِّساءِ اللّاتِي أُضِيفَ الأُمَّهاتُ إلَيْهِنَّ، إذِ الأُمَّهاتُ والرَّبائِبُ جَمِيعًا دُونَ الرَّبائِبِ لَيْسَ بِمَنصُوصٍ، ولَمْ يَجْرِ فِيهِ ما وصَفْتُمْ مِن قَوْلِكُمْ: وبَناتُ نِسائِكم ونِسائِكم مِمَّنْ قَدْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإنَّ ذَلِكَ بِإضْمارِ أُمُورٍ يَخْرُجُ بِها اللَّفْظُ عَنْ ظاهِرِهِ.
وبِالجُمْلَةِ لَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ تَمامَ الكَلامِ، ويُجْعَلُ ﴿مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، فَيَخْرُجُ الرَّبائِبُ اللّاتِي قَدْ أجْمَعُوا عَلَيْها مِنَ اللَّبَنِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: ”وأُمَّهاتُ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ“.
(p-٣٩٨)ولا شَكَّ أنَّ كَلامَ المُخالِفِ لَيْسَ يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، إلّا أنَّهُ يُقالُ:
ساقَ اللَّهُ تَعالى مُحَرَّماتٍ عِدَّةً مُبْهَمَةً، ولَيْسَ فِيها تَقْيِيدٌ، وجَعَلَ في آخِرِها تَقْيِيدًا، فالأصْلُ اتِّباعُ العُمُومِ وتَرْكُ المَشْكُوكِ فِيهِ، والِاحْتِياطُ لِلتَّحْرِيمِ يَقْتَضِي ذَلِكَ فاعْلَمْهُ.
وفِي النّاسِ مِن خَصَّ التَّحْرِيمَ بِالَّتِي تُوصَفُ بِكَوْنِها رَبِيبَةً، وقالَ:
إذا لَمْ تَكُنْ في حِجْرِ الزَّوْجِ، وكانَتْ في بَلَدٍ آخَرَ، وفارَقَ الأُمَّ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ بِها، وهَذا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلى ما يَرْوِيهِ عَنْهُ مالِكُ بْنُ أوْسٍ، فَإنَّ صَحَّ هَذا عَنْهُ فَيُقالُ:
يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أجْرى ذَلِكَ عَلى الغالِبِ، مِن غَيْرِ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ شَرْطًا في التَّحْرِيمِ، إلّا أنَّ عَلِيًّا يَقُولُ: فَإنْ كانَ كَذَلِكَ وثَبَتَ، فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ هَذا الوَصْفَ في قَطْعِ الشَّرْطِ المَذْكُورِ بَعْدَهُ عَنِ الأوَّلِ، وإنَّما قَطَعْتُمُوهُ بِتَخَلُّلِ هَذا الوَصْفِ في قَطْعِ الرَّبائِبِ، وفِيهِ إبانَةُ اتِّصالِ الوَصْفِ الثّانِي بِالأوَّلِ.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ لَمْ يَسْتَوْعِبِ المُحَرَّماتِ بِالنَّسَبِ والرَّضاعِ جَمِيعًا، فَإنّا بَيَّنّا أنَّ الآيَةَ ما تَناوَلَتْ (p-٣٩٩)الجَدّاتِ مِن قِبَلِ الأُمِّ والأبِ حَقِيقَةً، ولا خالاتِ الأبِ والجَدِّ وعَمّاتِهِمْ، ولا خالاتِ الأُمِّ وعَمّاتِهِنَّ.
وفِي الرَّضاعِ لَمْ يَذْكُرْ بَناتِ الأخِ، وبَناتِ الأُخْتِ، والخالاتِ والعَمّاتِ مِنَ الرَّضاعَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلى بَيانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
ولا يُقالُ ذِكْرُ مَن ذُكِرَ، والسُّكُوتُ عَمّا سُكِتَ عَنْهُ لِوَجْهٍ صَحِيحٍ، بَلْ هو عَلى ما شاءَ اللَّهُ وأرادَهُ، لِمَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ يُطَّلَعْ عَلَيْها، تَوَلّى بَيانَ البَعْضِ وسَكَتَ عَنِ البَعْضِ:
وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم وبَناتُكم وأخَواتُكُمْ﴾ الآيَةُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُنَّ مُطْلَقًا بِمِلْكِ اليَمِينِ وذَلِكَ النِّكاحِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى أبانَ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتاعِ، وحَرَّمَ النِّكاحَ، لِأنَّهُ طَرِيقٌ إلى الِاسْتِمْتاعِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وتَقَرَّرَ فَقَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾، يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتاعِ، إلّا أنَّ تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتاعِ بِمَنعِ النِّكاحِ ولا يُمْنَعُ مِلْكُ اليَمِينِ، فَنَتِيجَتُهُ تَحْرِيمُ وطْءِ المَذْكُورِينَ بِمِلْكِ اليَمِينِ، الَّذِينَ لا يُعْتَقُونَ بِالشِّراءِ.
واعْلَمْ أنَّهُ لا خِلافَ في تَحْرِيمِ وطْءِ الأُمَّهاتِ، والأخَواتِ مِنَ النَّسَبِ، والرِّضاعِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، وأنَّ السَّبْعَ اللَّواتِي حُرِّمْنَ بِالنِّسَبِ، واللَّواتِي حُرِّمْنَ بِالنَّسَبِ والصِّهْرِ، حُرِّمَ وطْؤُهُنَّ في مَلْكِ اليَمِينِ، ولا خِلافَ في تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ وطْءِ الأُمِّ والبِنْتِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، وإذا دَخَلَ بِالأُمِّ، حُرِّمَتِ البِنْتُ أبَدًا بِمِلْكِ اليَمِينِ، وحَلِيلَةُ الأبِ والِابْنِ مُحَرَّمَتانِ بِمِلْكِ اليَمِينِ.
(p-٤٠٠)وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وتَقَرَّرَ فاللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ .
وإنَّما أُنْزِلَتِ الآيَةُ عَلى ما قالَهُ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ في النَّبِيِّ ﷺ تَزَوَّجَ امْرَأةَ زَيْدٍ فَنَزَلَتْ: ﴿وما جَعَلَ أدْعِياءَكم أبْناءَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤] .
و ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٠] .
وكانَ يُقالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
وسُمِّيَتْ زَوْجَةُ الإنْسانِ حَلِيلَتَهُ، لِأنَّها تَحِلُّ مَعَهُ في فِراشٍ واحِدٍ.
وقِيلَ: لِأنَّهُ يُحِلُّ مِنها الجِماعَ بِعَقْدِ النِّكاحِ.
والأمَةُ، وإنِ اسْتَباحَ فَرْجَها بِالمِلْكِ، لا تُسَمّى حَلِيلَةً، ولا تُحَرَّمُ عَلى الأبِ ما لَمْ يَطَأْها، وعَقْدُ نِكاحِ الِابْنِ عَلَيْها يُحَرِّمُها عَلى أبِيهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا.
وإذا تَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِاسْمِ الحَلِيلَةِ، اقْتَضى ذَلِكَ تَحْرِيمَهُنَّ بِالعَقْدِ دُونَ شَرْطِ الوَطْءِ، فَشَرْطُ الوَطْءِ زِيادَةٌ، لا يَقْتَضِيها اللَّفْظُ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمَوْطُوءَةُ الأبِ بِمِلْكِ اليَمِينِ أوْ بِالشُّبْهَةِ، لا تُسَمّى حَلِيلَةً مِن حَيْثُ الإطْلاقُ، ولَكِنِ اقْتَضى الإجْماعُ إلْحاقَها بِها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ .
(p-٤٠١)نَفْيٌ لِلْأدْعِياءِ، ولَكِنَّهُ لا يَنْفِي الرَّضاعَ، والتَّحْرِيمُ بِهِ ثابِتٌ، ولَيْسَ الِاسْمُ بِحَقِيقَتِهِ مُتَناوِلًا لِلْوَطْءِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، وهو بِحَقِيقَتِهِ مُتَناوِلٌ لِنَفْسِ النِّكاحِ، فَإنَّ اسْمَ الحَلِيلَةِ حَقِيقَةٌ في نَفْسِ مِلْكِ النِّكاحِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ .
مَعْناهُ تَحْرِيمُ الجَمْعِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي حَرَّمَ الأفْرادَ مِنَ المُحَرَّماتِ، وفي الَّذِي تَقَدَّمَ حَرَّمَ الِاسْتِمْتاعَ.
فَتَقْدِيرُ الكَلامِ: ولا تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ في الوَطْءِ، وذَلِكَ يَعُمُّ الوَطْءَ في النِّكاحِ ومِلْكِ اليَمِينِ، إلّا أنَّ ذَلِكَ في النِّكاحِ يَمْنَعُ أصْلَ النِّكاحِ، ولا يَمْنَعُ مِلْكَ اليَمِينِ، فَإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وتَقَرَّرَ، نَشَأ مِنهُ أنَّ الجَمْعَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ في النِّكاحِ لا يَجُوزُ، ونَشَأ مِنهُ تَحْرِيمُ وطْءِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ.
وفِي هَذا عَلى الخُصُوصِ نُقِلَ خِلافٌ عَنِ السَّلَفِ، ثُمَّ زالَ الِاخْتِلافُ.
وإذا تَبَيَّنَ أنَّ المَنصُوصَ عَلى تَحْرِيمِهِ جَمْعُ مُضافٍ إلَيْهِ، حَتّى يُقالَ هو الَّذِي يُمْسِكُهُما ويَطَؤُهُما، فَإذا زالَ النِّكاحُ، زالَ هَذا المَعْنى مِن كُلِّ وجْهٍ، ولَمْ يَكُنْ إمْساكُ المُعْتَدَّةِ مُضافًا إلَيْهِ، فَيَقْتَضِي هَذا أنْ لا يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الجَمْعِ مُتْنا، ولا مَن نَكَحَ الأُخْتَ في عِدَّةِ الأُخْتِ، وإذا تَبَيَّنَ ذَلِكَ، بَقِيَتْ عَلى مُقْتَضى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وهَذا بَيِّنٌ حَسَنٌ، فَكانَ الأصْلُ الإباحَةَ. ثُمَّ طَرَأ مانِعٌ. زالَ المانِعُ فَرَجَعَ إلى الأصْلِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] .
(p-٤٠٢)يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢]، ويَحْتَمِلُ مَعْنًى زائِدًا، وهو جَوازُ ما سَلَفَ، وأنَّهُ إذا جَرى الجَمْعُ في الجاهِلِيَّةِ، كانَ النِّكاحُ صَحِيحًا، وإذا جَرى في الإسْلامِ، خُيِّرَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، عَلى ما قالَهُ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِن غَيْرِ إجْراءِ عُقُودِ الكُفّارِ، عَلى مُوجَبِ الإسْلامِ ومُقْتَضى الشَّرْعِ، فَهَذا تَحْقِيقُ القَوْلِ في مُحْتَمَلاتِ هَذا اللَّفْظِ، فَلا جَرَمَ، قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إذا أسْلَمَ الكافِرُ عَنْ أُخْتَيْنِ، خُيِّرَ بَيْنَهُما، سَواءٌ جَمَعَهُما في عَقْدٍ واحِدٍ أوْ في عَقْدَيْنِ.
وأبُو حَنِيفَةَ يُبْطِلُ نِكاحَهُما إنْ جَمَعَ في عَقْدٍ واحِدٍ، وتَعَيَّنَ الأُولى إنْ فَرَّقَ.
والشّافِعِيُّ لَمّا رَأى قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] غَيْرَ نَصٍّ في مَقْصُودِهِ، أرادَ أنْ يَسْتَدِلَّ بِالنَّصِّ، فاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلِمِيِّ والحارِثِ ابْنِ قَيْسٍ.
والعَجَبُ أنَّ الرّازِي قالَ في أحْكامِ القُرْآنِ:
لَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَبْتَدِئَ المُسْلِمُ عَقْدًا عَلى أُخْتَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أنْ يَبْقى لَهُ عَقْدٌ عَلى الأُخْتَيْنِ، وإنْ لَمْ يَكُونا أُخْتَيْنِ في حالِ العَقْدِ، كَما إذا تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأرْضَعَتْهُما امْرَأةٌ واحِدَةٌ، واسْتَوى حُكْمُ الِابْتِداءِ والِانْتِهاءِ.
ونَقَلْنا هَذا الكَلامَ بِلَفْظِهِ، وذَكَرَ بَعْدَهُ كَلِماتٍ يَسِيرَةً، ثُمَّ نَقَلَ (p-٤٠٣)احْتِجاجَ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلِمِيِّ، والحارِثِ بْنِ قَيْسٍ وقالَ:
يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ العَقْدُ قَدْ كانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ، فَكانَ صَحِيحًا إلى أنْ طَرَأ التَّحْرِيمُ، فَلَزِمَهُ اخْتِيارُ أرْبَعٍ مِنهُنَّ ومُفارَقَةُ سائِرِهِنَّ، كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأتانِ، فَطَلَّقَ إحْداهُما ثَلاثًا، فَيُقالُ لَهُ: اخْتَرْ أيَّتَهُما شِئْتَ، لِأنَّ العَقْدَ كانَ صَحِيحًا إلى أنْ طَرَأ التَّحْرِيمُ.
ووَجَّهَ عَلى نَفْسِهِ سُؤالًا فَقالَ:
إنْ قالَ قائِلٌ: لَوْ كانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، لَسَألَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ.
فَأجابَ بِأنْ قالَ: قِيلَ لَهُ:
يَجُوزُ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فاكْتَفى بِعِلْمِهِ عَنْ مَسْألَتِهِ.
نَقَلْنا هَذا الفَصْلَ بِلَفْظِهِ، مُتَعَجِّبِينَ مِن جَهْلِهِ بِسِياقِهِ بِكَلامَيْهِ، وأنَّهُ كَيْفَ تَناقَضَ أوَّلُ كَلامِهِ وآخِرُهُ مَعَ تَفاوُتِ ما بَيْنَ الأوَّلِ والآخِرِ، وفي النَّوْعِ الواحِدِ مِنَ الكَلامِ.
كَيْفَ لَمْ يَتَصَوَّرْ عَيْنَ التَّناقُضِ، وذَكَرَ في التَّأْوِيلِ أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ العَقْدُ كانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ، فَكانَ صَحِيحًا إلى أنْ طَرَأ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ؟ فَلَمْ يَجْعَلْ طَرَيانَ التَّحْرِيمِ مانِعًا اخْتِيارَ الأرْبَعِ، لِأنَّ العَقْدَ في الأوَّلِ كانَ صَحِيحًا عَلى الجَمِيعِ، ثُمَّ قالَ قَبْلَهُ كَلِماتٍ: لَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَبْتَدِئَ المُسْلِمُ عَقْدًا عَلى أُخْتَيْنِ، لَمْ يَجُزْ أنْ يَبْقى لَهُ عَقْدٌ عَلى أُخْتَيْنِ، وإنْ لَمْ يَكُونا أُخْتَيْنِ في حالَةِ العَقْدِ، كَرَجُلٍ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأرْضَعَتْهُما امْرَأةٌ واحِدَةٌ.
(p-٤٠٤)فَلَيْتَ شِعْرِي، نِكاحُ الرَّضِيعَتَيْنِ في الأوَّلِ كانَ صَحِيحًا حَتّى بَطَلَ الجَمِيعُ بِطَرَيانِ الرَّضاعِ، أمْ نِكاحُ فَيْرُوزَ الدَّيْلِمِيُّ لَمّا كانَ صَحِيحًا في الأوَّلِ، لَمْ يَبْطُلْ بِما طَرَأ مِنَ الإسْلامِ، وكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الجَمْعُ بَيْنَهُما؟ وكَيْفَ يَتِمُّ لَهُ هَذا القِياسُ، وقَدْ جَعَلَ الطّارِئَ مِنَ التَّحْرِيمِ كالمُقارَنِ بِدَلِيلِ الرَّضاعِ؟
وتَأْوِيلُ خَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ يَنْقُضُ هَذا القِياسَ، فَإنَّ النِّكاحَ لَمّا كانَ صَحِيحًا عِنْدَهُ لَمْ يُنْقَضْ، وفي الرَّضاعِ كانَ صَحِيحًا ونُقِضَ.
وكَيْفَ يَتَصَدّى لِلتَّصْنِيفِ في الدِّينِ مَن هَذا مَبْلَغُ عِلْمِهِ ومِقْدارُ فَهْمِهِ، فَيُرْسِلُ الكَلامَ إرْسالًا مِن غَيْرِ أنْ يَتَحَقَّقَ ما يَقُولُ، ويَحْصُلُ عَلى نَفْسِهِ ما يُورِدُهُ، ثُمَّ يَتَعَرَّضُ لِلطَّعْنِ فِيمَن لَوْ عُمِّرَ عُمْرَ نُوحٍ، ما اهْتَدى إلى مَبادِئِ نَظَرِهِ في الحَقائِقِ؟ فَنَسْألُ اللَّهَ تَعالى التَّوْفِيقَ، ونَسْألُهُ النَّجاةَ مِن عَمى البَصِيرَةِ واتِّباعِ الهَوى.
واعْلَمْ أنَّ المَنصُوصَ عَلى تَحْرِيمِهِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، هو الجَمْعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، وقَدْ ورَدَتْ آثارٌ مُتَواتِرَةٌ في النَّهْيِ عَنِ الجَمْعِ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها أوْ خالَتِها، رَواهُ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ وأبُو مُوسى وجابِرٌ وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ وأبُو هُرَيْرَةَ وعائِشَةُ، وعَلَيْهِ الإجْماعُ، إلّا ما نُقِلَ عَنْ طائِفَةٍ مِنَ الخَوارِجِ، فَإنَّهم زَعَمُوا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، لا يُدْفَعُ بِأخْبارِ الآحادِ، وذَلِكَ مُتَّهَمٌ بِناءً عَلى أنَّ أخْبارَ الآحادِ لا يُخَصُّ بِها عُمُومُ الكِتابِ.
والأخْبارُ في تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ العَمَّتَيْنِ والخالَتَيْنِ، إنْ كانَتْ مَقْرُونَةً في بَيانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِبَيانِ الآيَةِ، فَتَخْصِيصٌ، وإنْ تَقَدَّمَ الخَبَرُ فَقَوْلُهُ (p-٤٠٥)﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، مُنَزَّلٌ عَلى مُوجَبِ الخُصُوصِ، وإنْ تَراخى فَنَسْخٌ، ولِلنّاسِ في نَسْخِ الكِتابِ بِأخْبارِ الآحادِ كَلامٌ، والصَّحِيحُ جَوازُهُ.
ومَعَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، لَيْسَ نَصًّا أصْلًا، وإذا لَمْ يَثْبُتِ التّارِيخُ، فالمُطْلَقُ مِنهم مَحْمُولٌ عَلى المُقَيَّدِ، عَلى قَوْلِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وهو قَوْلُ أكْثَرِ الأُصُولِيِّينَ.
وعِنْدَ قَوْمٍ مِنهم يَتَعارَضانِ، وهو قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ، والتَّعارُضُ ها هُنا سَبَبُ التَّحْرِيمِ، فَإنْ تَعارَضَ المُبِيحُ والمُحَرِّمُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمُ لا مَحالَةَ.
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِیۤ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَـٰعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُوا۟ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُوا۟ بَیۡنَ ٱلۡأُخۡتَیۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق