الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ وأَخَواتُكُمْ وعَمّاتُكُمْ وخالاتُكُمْ وبَناتُ الأَخِ وبَناتُ الأُخْتِ وأُمَهاتُكُمُ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ وأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ورَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: ٢٣].
حرَّمَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ سَبْعًا بالنَّسَبِ، وسبعًا بالمُصاهَرةِ، وجملةُ ذلك أربعَ عَشْرةَ امرأةً، كما رواهُ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٦/٥٥٤)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١١).]]، وبنحوِه قال سُفْيانُ وغيرُه.
المحرَّماتُ من النساءِ:
وقولُه تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ وأَخَواتُكُمْ وعَمّاتُكُمْ وخالاتُكُمْ وبَناتُ الأَخِ وبَناتُ الأُخْتِ﴾: فيه المُحرَّماتُ مِن النَّسَبِ، وتَحرُمُ الأمَّهاتُ والعمّاتُ والخالاتُ وإنْ عَلَوْنَ بلا خلافٍ، فالجَدّاتُ مِن جميعِ الجِهاتِ كالأمَّهاتِ، وعمّاتُ الآباءِ والأمَّهاتِ كالعمّاتِ مباشرةً، وخالاتُ الآباءِ والأمَّهاتِ كالخالاتِ مباشرةً.
وتحرُمُ بناتُ البناتِ كالبناتِ، وكذلك: فإنّ بناتِ بناتِ الأخِ والأُختِ كبناتِ الأخِ والأختِ مباشرةً، سواءٌ كُنَّ بواسطةِ الأمِّ أو الأبِ أو بهما جميعًا، فاللهُ إنّما ذكَرَ في الآيةِ أُصُولَ المُحرَّماتِ.
وبدَأَ اللهُ بالأمَّهاتِ، لِعِظَمِ مَنزلتِهنَّ وحقِّهنَّ وفضلِهنَّ على غيرِهنَّ، فالمرأةُ الواحدةُ قد تكونُ أمًّا مِن وجهٍ، وتكونُ أختًا وبنتًا وجَدَّةً وعمَّةً وخالةً وبنتَ أخٍ وبنتَ أختٍ مِن وُجُوهٍ أُخرى بحسَبِ وشائجِ القُربى والرحِمِ التي تتعـلَّقُ بها، فقَدَّمَ اللهُ مِن هذه المَنازِلِ منزلةَ الأمِّ، لأنّها أصلُ الرحِمِ وأوَّلُه، وهي أعظَمُ حقًّا مِن الأبِ، وتقديمُ التحريمِ للأمِّ تفضيلٌ لها وتعظيمٌ لحقِّها، ويَلِيها في التحريمِ والحقِّ والصِّلةِ: البنتُ، فالبنتُ أعظَمُ حقًّا وصِلَةً مِن الأختِ، وعندَ التزاحُمِ في الحقوقِ تُقدَّمُ الأمُّ فالبنتُ فالأختُ، ثمَّ العمَّةُ والخالةُ، وهما أعظَمُ حقًّا مِن بناتِ الأخِ وبناتِ الأختِ.
تحريمُ بنتِ الزنى:
وتحرُمُ بنتُ الزِّنى على أبيها كالبنتِ مِن النِّكاحِ، ولو كانتْ لا تَنتسِبُ إلى أبيها، ولا يجبُ بينَها وبينَه صلةُ رحمٍ ولا نَسَبٌ ولا ميراثٌ، لأنّ الأصلَ أنّها بنتُهُ على الحقيقةِ، ولكنَّ اللهَ رفَعَ الحقوقَ بينَهما، وبَقِيَ تحريمُ الوطءِ، لعمومِ الآيةِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ﴾، وهذا قولُ عامَّةِ الفقهاءِ.
وقيل بعدمِ تحريمِ النِّكاحِ، لأنّ الابنَ والبنتَ مِن الزِّنى لا يَدخُلُونَ في عمومِ قولِه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١]، وهذا القولُ ثقيلٌ، ويَلزَمُ مِن هذا: أنْ يطَأَ الرجُلُ أُمَّهُ مِن الزِّنى، وهذا يحرُمُ بالإجماعِ، ولا فرقَ بينَها وبينَ أبيهِ، فالخلقُ مِن مائِهما جميعًا، وتحريمُ الأمِّ على ولدِها مِن الزِّنى، لا يُخالِفُ فيه مَن قال بعدمِ تحريمِ البنتِ على أبيها مِن الزِّنى، وينبغي أنْ يكونَ تحريمُ البنتِ على أبيها والابنِ على أمِّهِ إجماعَ السلفِ، وقد كان أحمدُ يُنكِرُ أنْ يكونَ السلفُ يَتنازَعونَ في هذا.
تحريمُ بنتِ الملاعَنَة:
والمُلاعِنُ لا يجوزُ له أنْ يطَأَ ابنةَ مُلاعنتِه، مع أنّه لا يُقِرُّ بكونِها منه، فكيف بإقرارِه أنّها منه بسِفاحٍ لا نكاحٍ؟! وهي ابنتُهُ حقيقةً حسيَّةً، ولكنَّها ليسَتِ ابنتَهُ شرعًا، والتحريمُ في النكاحِ يثبُتُ للحقيقةِ الحسيَّةِ.
ونُسِبَ القولُ بالجوازِ للشافعيِّ، لأنّه نصَّ على الكراهةِ، والأَوْلى: حملُ مُرادِهِ بالكراهةِ على التحريمِ، لا على الجوازِ، لموافقةِ السلفِ والفِطْرةِ القويمةِ.
المحرَّماتُ مِن الرَّضاعِ:
وأمّا في الميراثِ، فلا يَرِثُ ولدُ الزِّنى بالاتِّفاقِ.
وقولُه تعالى: ﴿وأُمَهاتُكُمُ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ وأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ﴾، لا يختلفُ العلماءُ في حُرْمةِ الأمَّهاتِ والأَخواتِ مِن الرَّضاعةِ، وأنّ حُرْمةَ الرَّضاعةِ في النِّكاحِ كحُرْمةِ النَّسَبِ، وليسَ الرَّضاعُ رحِمًا، لأنّ مَنِ اتَّصَلَتْ بواسطتِه لم تُدْلِ برحِمٍ، وإنّما برَضاعٍ.
وأَدْنى المُحرَّماتِ مِن النَّسَبِ: كبناتِ الأخِ والأختِ أعظَمُ مِن أعْلى المُحرَّماتِ مِن الرَّضاعِ كالأمِّ مِن الرَّضاعِ وإنِ اشترَكْنَ في التحريمِ، لأنّ أبعَدَ الرحِمِ المُحرَّمِ أقْوى مِن أدْنى الرَّضاعِ وأَقرَبِه، فليس الرَّضاعُ رحِمًا يجبُ وصلُه، ولا عاقلةً يَعقِلُ الديةَ عنه، ولا يَلحَقُ به نَسَبٌ، وفي «الصحيحِ»: أنّ عائشةَ استأذَنَ عليها عَمُّها مِن الرَّضاعِ، فلم تأذَنْ له حتى سألَتِ النبيَّ ﷺ، فأمَرَها بالإذنِ له بالدخولِ عليها[[أخرجه البخاري (٢٦٤٤) (٣/١٦٩)، ومسلم (١٤٤٥) (٢/١٠٧٠).]]، وفي هذا دليلٌ على أنّه لم يدخُلْ عليها ولم تدخُلْ عليه مِن قبلُ، فلم يَنْهَها النبيُّ ﷺ عن قطيعتِهِ السابقةِ، لعدمِ وجوبِ صِلَتِهِ عليها.
ولذا أخَّرَ اللهُ أقرَبَ المُحرَّماتِ مِن الرَّضاعِ ـ وهنَّ الأمَّهاتُ ـ بعدَ أبعَدِ المُحرَّماتِ مِن النَّسَبِ، وهنَّ بناتُ الأخِ والأختِ.
وقولُه تعالى: ﴿وأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ ولا خلافَ في حُرْمةِ الأختِ مِن الرَّضاعةِ.
انتشارُ حُرْمةِ الرضاعِ مِن الأبِ والأمِّ:
واتَّفَقَ العلماءُ في ثُبُوتِ مَحْرَمِيَّةِ الرَّضاعِ في الأمِّ ومَن يُدْلِي بها، وأمّا ثُبُوتُ محرَميَّةِ الرَّضاعِ للأبِ ومَن يُدْلِي بواسطتِه وحدَه كأبِ الأبِ وإخوتِه وأعمامِه وأخوالِه، فعامَّةُ السلفِ على ثبوتِ المحرميَّةِ للأبِ ومَن في جهتِه كالأمِّ، وبه ثبَتَ الدليلُ، ففي «الصحيحِ»، عن عائشةَ، أنّ أخا أبي القُعَيْسِ استأذَنَ عليها، فقال النبيُّ ﷺ: (ائْذَنِي لَهُ، فَإنَّهُ عَمُّكِ)[[أخرجه البخاري (٤٧٩٦) (٦/١٢٠)، ومسلم (١٤٤٥) (٢/١٠٦٩).]].
وأبو القُعَيْسِ زوجُ المرأةِ التي أرضَعَتْ عائشةَ.
روى سالمٌ، عن ابنِ عمرَ، قال: «لا بأسَ بلبنِ الفَحْلِ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٣٩٤٣) (٧/٤٧٤).]].
وروى مالكٌ، عن ابنِ شهابٍ، عن عمرِو بنِ الشَّرِيدِ، قال: سُئِلَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ رَجُلٍ كانَتْ لَهُ امْرَأَتانِ، فَأَرْضَعَتْ إحْداهُما غُلامًا، وأَرْضَعَتِ الأُخْرى جارِيَةً، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يَتَزَوَّجُ الغُلامُ الجارِيَةَ؟ فَقالَ: «لا، اللِّقاحُ واحِدٌ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٥) (٢/٦٠٢).]].
ولا مخالِفَ لهم مِن الصحابةِ، وأمّا ما رواهُ مالكٌ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيهِ، عن عائشةَ، أنّها كانَ يَدْخُلُ عَلَيْها مَن أرْضَعَتْهُ أخَواتُها وبَناتُ أخِيها، ولا يَدْخُلُ عَلَيْها مَن أرْضَعَهُ نِساءُ إخْوَتِها[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٩) (٢/٦٠٤).]]، فهذا عملٌ لا رفعٌ للتحريمِ، وقد يكونُ حاملُ ذلك الورَعَ، وقد أدْخَلَ النبيُّ ﷺ عليها عمَّها مِن الرَّضاعةِ، فلا يُتصوَّرُ أنْ تقولَ بخلافِه.
وبه قال عروةُ والزُّهْريُّ وطاوسٌ وعطاءٌ ومجاهِدٌ ومكحولٌ والنَّخَعيُّ، وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ، لثبوتِ الدليلِ في مُشابهةِ التحريمِ مِن جهاتِ الرَّضاعِ كالتحريمِ مِن جهاتِ النَّسَبِ، لهذه الآيةِ، فتخصيصُ الأمَّهاتِ والأخواتِ بالذِّكْرِ، لا يُخرِجُ البناتِ مِن الرَّضاعةِ، لأنّهنَّ أوْلى بالتحريمِ مِن الأخواتِ، ولقولِهِ ﷺ: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ الوِلادَةِ)، مِن حديثِ عَمْرَةَ عن عائشةَ، أخرَجَهُ الشيخانِ[[أخرجه البخاري (٢٦٤٦) (٣/١٧٠)، ومسلم (١٤٤٤) (٢/١٠٦٨).]].
وذهَبَ بعضُ السلفِ: إلى أنّ التحريمَ لا يكونُ مِن جهةِ الرجُلِ، وهو الأبُ وأصولُهُ وفروعُهُ وحَواشِيهِ، وإنّما مِن جِهةِ الأمِّ خاصَّةً وفروعِها وحواشِيها، ورُوِيَ هذا القولُ عن ابنِ المسيَّبِ وسليمانَ بنِ يسارٍ وأبي سلمةَ وغيرِهم، فقد روى محمَّدُ بنُ عمرٍو، عن يزيدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ قُسَيْطٍ، أنّه قال: سَأَلَ سعيدَ بنَ المُسيَّبِ، وعطاءَ بنَ يسارٍ، وسليمانَ بنَ يسارٍ، وأبا سلمةَ بنَ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، فقالوا: «إنّما تحرُمُ مِن الرَّضاعةِ ما كان مِن قِبَلِ النِّساءِ، ولا تحرُمُ ما كان مِن قِبَلِ الرِّجالِ»[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٢٥).]].
عددُ الرَّضَعاتِ المحرِّمةِ:
ولا يَختلِفُ العلماءُ في أنّ خَمسَ الرضَعاتِ يُحرِّمْنَ، وإنّما الخلافُ فيما دُونَهنَّ، فقد اختَلَفَ الأئمَّةُ على أقوالٍ ثلاثةٍ، وهي ثلاثُ رواياتٍ عن أحمدَ:
الـقولُ &#١٣٤،الأولُ: يُحرِّمُ مِن الرَّضاعِ قليلُه وكثيرُه، لعمومِ الآيةِ وإطلاقِها، وبهذا القولِ قال مالكٌ، وعليه مذهبُه، والحنفيَّةُ، وبه قال ابنُ المسيَّبِ وعروةُ وابنُ شهابٍ.
القولُ الـثـاني: لا يُحرِّمُ أقلُّ مِن ثلاثِ رضَعاتٍ، وتُحرِّمُ الثلاثُ وما فوقَها، وذلك لما ثبَتَ في مسلمٍ، عن عائشةَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ)[[أخرجه مسلم (١٤٥٠) (٢/١٠٧٣).]].
ومِن حديثِ أمِّ الفضلِ، قالتْ: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ أوِ الرَّضْعَتانِ، أوِ المَصَّةُ أوِ المَصَّتانِ)[[أخرجه مسلم (١٤٥١) (٢/١٠٧٤).]].
وفي لفظٍ آخَرَ لمسلمٍ أيضًا: (لا تُحَرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ)[[أخرجه مسلم (١٤٥١) (٢/١٠٧٤).]].
وقال به إسحاقُ وأبو عبيدٍ وابنُ المُنذِرِ.
القولُ الثالثُ: لا يُحرِّمُ مِن الرَّضاعِ إلا خمسُ رضَعاتٍ فما فوقُ، ولا يُحرِّمُ أقلُّ مِن ذلك، وهو قولُ الشافعيِّ، والصحيحُ في مذهبِ أحمدَ، وهو قولُ عائشةَ وابنِ مسعودٍ وابنِ الزُّبيرِ وطاوسٍ وعطاءٍ، وذلك لما في مسلمٍ، عن عَمْرَةَ، عن عائشةَ رضي الله عنها، قالتْ: كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: «عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ»، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُوماتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وهُنَّ فِيما يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ[[أخرجه مسلم (١٤٥٢) (٢/١٠٧٥).]].
ورواهُ عن عائشةَ عروةُ وغيرُه.
وجاء مرفوعًا مِن حديثِ عائشةَ: أنّ النبيَّ ﷺ قال لسَهْلَةَ بنتِ سُهَيْلٍ: (أرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعاتٍ)[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (١٢) (٢/٦٠٥)، وعبد الرزاق في «المصنف» (١٣٨٨٧) (٧/٤٦٠)، وأحمد (٢٥٦٥٠) (٦/٢٠١).]].
وهذا القولُ أقْوى، والدليلُ فيه أصرَحُ، والدليلُ إذا جمَعَ بينَ الناسخِ والمنسوخِ كان أحكَمَ مِن غيرِه وأَقْوى.
وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ الكلامُ على تقييدِ الرَّضاعِ بالحَوْلَيْنِ في قولِه تعالى: ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣].
وقولُه تعالى: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾: يحرُمُ على الرجُلِ بسببِ زوجتِهِ: أصلُها (وهي أمُّها)، وفرعُها (وهي بنتُها)، وتحرُمُ أمُّ الزوجةِ بمجرَّدِ العقدِ على الزوجةِ ولو لم يَدخُلْ بها، لعمومِ الآيةِ وإطلاقِها، وأمّا بنتُها، فلا تحرُمُ عليه حتى يدخُلَ بها، لتقييدِ التحريمِ بذلك كما يأتي.
تحريمُ زوجة الولدِ:
ويحرُمُ على المرأةِ بمجرَّدِ العقدِ عليها: والدُ زوجِها وولدُه، فالوالدُ لأنّها حليلةُ ابنِهِ، كما يأتي في الآيةِ، والولدُ لأنّها زوجةُ أبيهِ، كما سبَقَ في الآيةِ.
وقد روى عبدُ الرزّاقِ، وعنه ابنُ أبي حاتمٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ، قال في الرجُلِ يتزوَّجُ المرأةَ، ثمَّ يُطلِّقُها قبلَ أنْ يَراها، قال: «لا تَحِلُّ لأبيهِ، ولا لابنِه»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (١٠٨٠٧) (٦/٢٧٢)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٣/٩١٤).]].
تحريمُ أُمِّ الزوجةِ:
ونصَّ على تحريمِ أمِّ الزوجةِ ولو لم يَدخُلْ ببنتِها: جماعةٌ مِن الصحابةِ، كابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ وعِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ، ومِن التابِعينَ مسروقٌ وطاوسٌ وعِكْرِمةُ وقتادةُ وغيرُهم.
وهذا القولُ هو الأصحُّ والأظهَرُ، وفي المسألةِ قولانِ آخَرانِ:
الأولُ ـ وهو القولُ الثاني في المسألةِ ـ: أنّ الأمَّ لا تَحرُمُ إلا بالدُّخُولِ على بنتِها، وحُكْمُها كحُكْمِ البنتِ مع أمِّها: لا تحرُمُ إلا بالدخُولِ على أمِّها، لا بمجرَّدِ العقدِ، وقد روى ابنُ المُنذِرِ، عن سعيدِ بنِ أبي عَرُوبَةَ، عن قتادةَ، عن عليٍّ: أنّه جعَلَ أمَّ الزوجةِ والرَّبِيبَةَ سواءً، لا تَحرُمُ واحدةٌ إلاَّ بالدخُولِ على الأُخرى[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٢٧).]].
وقتادةُ لم يَسمَعْ مِن عليٍّ، ورواهُ حمّادٌ عن قتادةَ، وجعَلَ الواسطةَ خَلاَّسَ بنَ عمرٍو[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٢٧). وينظر: «تفسير الطبري» (٦/٥٥٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١١).]].
ورُوِيَ هذا القولُ عن ابنِ عبّاسٍ، وخالَفَه ابنُ عمرَ[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٢٨).]].
وروى عبدُ الرزّاقِ، وعنه ابنُ أبي حاتمٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ: خلافَ ذلك، ولا يصحُّ عنه، ففي إسنادِه مَن لا يُعرَفُ، يَرْوِيهِ رجلٌ عنه، قال: «الرَّبِيبَةُ والأُمُّ سَواءٌ، لا بَأْسَ بِهِما إذا لَمْ يَدْخُلْ بِالمَرْأَةِ»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (١٠٨٣٣) (٦/٢٧٨)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٣/٩١٢).]].
وروى ابنُ المُنذِرِ وابنُ جريرٍ، عن عِكْرِمةَ بنِ خالدٍ، عن مجاهِدٍ، قال في قولِه تعالى: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ورَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ قال: «أُرِيدَ بهما الدخُولُ جميعًا»[[«تفسير الطبري» (٦/٥٥٧)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٢٧).]].
ومَن قال بهذا القولِ جعَلَ الوصفَ في قولِه: ﴿مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ على أمَّهاتِ النِّساءِ وبناتِ النِّساءِ، فجعَلَ قولَه تعالى: ﴿اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ لِما سبَقَه مِن الحالتَيْنِ: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ورَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِن نِسائِكُمُ﴾، فجعَلُوا التحريمَ مقيَّدًا بالدخولِ بالنساءِ، فعلى قولِهم هذا لا يحرُمُ الأصلُ ولا الفرعُ إلا بالدخُولِ بالمرأةِ، لا بمجرَّدِ العَقدِ عليها.
القولُ الثاني ـ وهو القولُ الثالثُ في المسألةِ ـ: وهو قولُ زيدِ بنِ ثابتٍ، وهو التفريقُ بينَ سببِ مُفارَقةِ البنتِ قبلَ الدخُولِ بها، إنْ كان سببُ الفُرقةِ وفاتَها، لم يَجُزْ له أنْ يَنكِحَ أمَّها، لأنّه يَرِثُ بنتَها إرثَ الزوجيَّةِ، فالأمُّ تُشارِكُهُ في ميراثِ بنتِها، فليس له أنْ يتزوَّجَ أمَّها، وإنْ كان سببُ الفِراقِ طلاقَهُ لها قبلَ دخُولِه بها، فله الزواجُ مِن أمِّها.
فقد روى ابنُ المُنذِرِ، عن ابنِ المسيَّبِ، عن زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: «إنْ تزوَّجَها فتُوفِّيَتْ، فأصابَ ميراثَها، فليس له أنْ يتزوَّجَ أمَّها، وإنْ طلَّقَها، فما شاء فعَلَ، يعني: إنْ شاء تزوَّجَها»[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٢٨).]].
وخلافُ الصحابةِ في ذلك معروفٌ، فقد قال بالمنعِ ابنُ عمرَ وآخَرونَ، وبالإباحةِ ابنُ عبّاسٍ وآخَرونَ، وتوقَّفَ في ذلك معاويةُ، فقد روى عبدُ الرزّاقِ، وعنه ابنُ المُنذِرِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الأَجْدَعِ، مِن بَكْرِ كِنانَةَ: «أنَّ أباهُ أنْكَحَهُ امْرَأَةً بِالطّائِفِ، قالَ: فَلَمْ أجْمَعْها حَتّى تُوُفِّيَ عَمِّي عَنْ أُمِّها، وأُمُّها ذاتُ مالٍ كَثِيرٍ، فَقالَ أبِي: هَلْ لَكَ فِي أُمِّها؟ قالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبّاسٍ وأَخْبَرْتُهُ الخَبَرَ، فَقالَ: انْكِحْ أُمَّها، قالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقالَ: لا تَنْكِحْها، فَأَخْبَرْتُ أبِي ما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وما قالَ ابْنُ عُمَرَ، فَكَتَبَ إلى مُعاوِيَةَ، وأَخْبَرَهُ فِي كِتابِهِ بِما قالَ ابْنُ عُمَرَ وابْنُ عَبّاسٍ، فَكَتَبَ مُعاوِيَةُ: إنِّي لا أُحِلُّ ما حَرَّمَ اللهُ، ولا أُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللهُ، وأَنْتَ وذاكَ، والنِّساءُ كَثِيرٌ، ولَمْ يَنْهَنِي، ولَمْ يَأْذَنْ لِي، وانْصَرَفَ أبِي عَنْ أُمِّها، فَلَمْ يَنْكِحْها»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٠٨١٩) (٦/٢٧٥)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٦٢٦٩) (٣/٤٨٤)، وابن المنذر في «تفسيره» (٢/٦٢٨).]].
وقولُه تعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾: قيَّدَ اللهُ تحريمَ الرَّبائِبِ ـ وهنَّ بناتُ الأزواجِ ـ بالدخُولِ بأمَّهاتِهنَّ، فإذا دُخِلَ بأمَّهاتِهنَّ، حُرِّمَتِ البناتُ.
الجمعُ بينَ الأمِّ وبنتِها:
والجمعُ بينَ الأمِّ وبنتِها أعظَمُ حُرْمةً مِن الجمعِ بينَ المرأةِ وعمَّتِها أو خالتِها، وأعظَمُ مِن الجمعِ بينَ الأُختَيْنِ، لأنّ الحقَّ بينَ الأمِّ وبنتِها أعظَمُ مِن حقوقِ غيرِهنَّ مِن ذوي الأرحامِ فيما بينَهُنَّ، والجمعُ بينَ الأمِّ وبنتِها داعٍ للقطيعةِ والفتنةِ.
حكمُ ابنةِ الطليقةِ:
وإذا طلَّقَ الرجُلُ المرأةَ، وكانَتِ ابنتُها في حَجْرِهِ، حَرُمَتْ عليه إلى الأبدِ بلا خلافٍ، وتحرُمُ عليه كذلك لو كانتْ في غيرِ حَجْرِه، كأنْ تكونَ في حَجْرِ أبيها بعدَ طلاقِ أمِّها، أو كانتْ في حَجْرِ عمِّها أو خالِها أو غيرِهم مِن ذوي رَحِمِها، وعلى هذا عامَّةُ السلفِ، وحُكِيَ اتِّفاقُ الفقهاءِ عليه، خلافًا لداودَ الظاهريِّ، وحُكِيَ في هذا خلافٌ عن عليٍّ في التفريقِ بينَ البنتِ التي تكونُ في حَجْرِ الزوجِ وبينَ مَن تكونُ في حَجْرِ غيرِه، لأنّ اللَّهَ قال: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ [[ينظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١٢).]].
والصحيحُ: أنّ اللهَ ذكَرَ الحُجُورَ وأضافَها للأزواجِ بقولِه: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾، لأنّ هذا هو الغالبُ، أنّ البنتَ تَتْبَعُ أُمَّها، والمَعاني تُعلَّقُ بغالبِ الحالِ، وكذلك: فإنّ في ذِكْرِ الحجورِ إشارةً إلى ما ينبغي أنْ تكونَ عليه الحالُ، ومِن حُسْنِ العهدِ والمَعْشَرِ مع الزوجةِ إكرامُ بنتِها في كنفِها ورعايتُها معها.
ثمَّ إنّ أحكامَ الحرامِ بيِّنةٌ، وتُناطُ بالأوصافِ والعِلَلِ الواضحةِ المُنضبِطةِ، وتقييدُ الحُكْمِ بالرَّبِيبَةِ إذا كانتْ في الحجرِ، ورفعُهُ إذا كانتْ في غيرِهِ: لا يَنضبِطُ، فلا تخلُو الأمُّ مِن تعهُّدِ بنتِها لها في حَجْرِ زوجِها بعدَ أبيها، وربَّما تنقَّلَتِ البنتُ بينَ حَجْرِ زوجِ أمِّها وبينَ حَجْرِ أبيها أو كفيلِها ووصيِّها مِن ذوي رَحِمِها، فالبقاءُ في الحجورِ في مِثلِ هذه الصُّوَرِ لا يَنضبِطُ، فقد تَبْقى البنتُ يومًا أو أسبوعًا أو شهرًا في حَجْرِ الزوجِ، ومِثلَ هذه المدةِ أو قريبًا منها في حَجْرِ غيرِه، وحدُّ القَدْرِ الذي تكونُ فيه البنتُ (ربيبةً في الحجرِ) لا يَنضبِطُ، وأحكامُ التحريمِ تنضبطُ بوصفٍ بيِّنٍ، كزوجاتِ الآباءِ، وتقييدِ تحريمِ البناتِ بالدخُولِ على أمَّهاتِهنَّ، وتحريمِ الرَّضاعِ بعددٍ معيَّنٍ وقدرٍ منضبطٍ.
وتحرُمُ بنتُ الزوجةِ على زوجِ أمِّها، ولو وُلِدَتِ البنتُ مِن رجُلٍ بعدَ طلاقِهِ لأمِّها، لأنّ عِلَّةَ التحريمِ الدخُولُ بأمِّها.
وتحريمُ زوجِ الأمِّ على ابنتِها شبيهٌ بتحريمِ زوجةِ الأبِ على ابنِه، إلاَّ أنّ اللهَ حرَّمَ نِكاحَ زوجاتِ الآباءِ بلا تقييدٍ بالدخُولِ بهنَّ، فيَحْرُمْنَ بمجرَّدِ العقدِ، وجعَلَ تحريمَ زوجِ الأمِّ على البنتِ بشرطِ الدخُولِ بأمِّها، وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ نِكاحَ زوجاتِ الآباءِ مِن الأبناءِ أشَدُّ تحريمًا مِن نِكاحِ أزواجِ الأمَّهاتِ مِن البناتِ.
وأكَّدَ اللهُ تقييدَ التحريمِ بالدخُولِ، وجوازَهُ بغيرِهِ في قولِه تعالى: ﴿فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: مِن نكاحِهنَّ.
والدخُولُ: النِّكاحُ، قاله ابنُ عبّاسٍ، رواهُ ابنُ أبي طلحةَ عنه[[«تفسير الطبري» (٦/٥٥٩)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١٢).]].
وقال طاوسٌ: الجِماعُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١٢).]].
والمرادُ بذلك: الدخُولُ والتمكُّنُ منها، لا حقيقةُ الجِماعِ، فقد يدخُلُ بالمرأةِ زوجٌ لا يُريدُ جِماعَها، وإنّما مُساكَنَتَها ومُعاشَرَتَها، لِكِبَرِ سِنٍّ وعجزٍ بمرضٍ ونحوِه، فلا يَرفَعُ ذلك الحُكْمَ.
تحريمُ زوجةِ الوَلَدِ:
وقولُه تعالى: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾، يعني: مِن المُحرَّماتِ، فتحرُمُ زوجةُ الابنِ بمجرَّدِ العقدِ عليها ولو لم يَدخُلْ بها، لإطلاقِ التحريمِ في الآيةِ، ولسَبْقِ التحريمِ المقيَّدِ للرَّبائبِ عندَ الدخُولِ بأمَّهاتِهنَّ فقطْ، ولو كان ما يَتْلُوها مقيَّدًا مِثلَها، لَتَأَخَّرَ التقييدُ لِيشمَلَ الحُكْمَيْنِ جميعًا.
وتحرُمُ الربائبُ ـ وهنَّ بناتُ الزوجاتِ، وإنْ نَزَلْنَ ـ على أزواجِ أمَّهاتِهنَّ، وإنْ عَلَوْا وعَلَوْنَ.
روى ابنُ المُنذِرِ، عن قتادة، قال: «بنتُ الربيبةِ وبنتُ ابنتِها لا تصلُحُ وإنْ كانَ أسفَلَ ببطونٍ كثيرةٍ»[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٣٠).]].
ورواهُ قتادةُ عن أبي العاليةِ، قال: «وإنْ كان أسفَلَ بسبعِينَ بطنًا، لا تصلُحُ»[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٣١).]].
تحريمُ زوجةِ الأبِ:
وتحريمُ زوجةِ الأبِ على ابنِهِ أعظَمُ مِن تحريمِ زوجِ الأمِّ على ابنتِها، لأنّ اللهَ حرَّمَ زوجةَ الأبِ بلا قيدٍ ولا شرطٍ، وحرَّمَ زوجَ الأمِّ على ابنتِها بقيدِ الدخُولِ بأمِّها، والمُحرَّمُ بلا قيدٍ أقْوى مِن المُحرَّمِ بقيدٍ، لأنّ المُحرَّمَ بلا قيدٍ لا مدخَلَ لحِلِّه، أمّا المُحرَّمُ بقيدٍ فيَحِلُّ بزوالِ قيدِه، وهذه قاعدةٌ في المُحرَّماتِ كلِّها، في النِّكاحِ، والطعامِ، واللِّباسِ، وغيرِها.
وفي قولِه تعالى: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ﴾، يعني: ما يَحِلُّ لهنَّ مِن النِّساءِ، والمرأةُ تَحِلُّ بمجرَّدِ العقدِ عليها، لا بالدخُولِ والتمكينِ منه.
ورُوِيَ أنّ سبَبَ نزولِ هذه الآيةِ زواجُ النبيِّ ﷺ مِن امرأةِ زيدٍ، فقال المشركونَ بمَكَّةَ بذلك وعابُوهُ، فأنزَلَ اللهُ قولَه تعالى: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، مرسلًا[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٣١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١٣).]].
والمُحرَّمُ نِكاحُ حلائلِ الأبناءِ وإنْ نَزَلُوا، تحرُمُ على الآباءِ وإنْ عَلَوا.
الجمعُ بين الأختَيْنِ:
وقولُه تعالى: ﴿وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ﴾: وهذا مِن المُحرَّماتِ لسبَبٍ، والسببُ عارضٌ، فكلُّ أُختينِ حلالٌ على غيرِ المُحرَّمِ منهما مُفَرَّقاتٍ لا مُجتمِعاتٍ، وإذا طلَّقَ واحدةً، جاز له نِكاحُ أختِها مِن بعدِها.
ومِثلُ ذلك المرأةُ وعمَّتُها، والمرأةُ وخالتُها: يحرُمُ الجمعُ بينَهما بالاتِّفاقِ، حكاهُ الشافعيُّ وغيرُه، ويجوزُ الانفرادُ بالواحدةِ منهنَّ ثمَّ الانفرادُ بالأُخرى.
الجمعُ بين الأختَيْن الأمتَيْنِ:
واختلَفَ العلماءُ في الجمعِ بينَ الأُختَيْنِ الأَمَتَيْنِ بالوطءِ على قولينِ:
القولُ الأولُ: التحريمُ، وهو قولُ جمهورِ الفقهاءِ، وبه قَضى عليٌّ والزبيرُ وابنُ مسعودٍ.
وقد روى مالِكٌ في «الموطَّأِ»، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، أنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ: عَنِ الأُخْتَيْنِ مِن مِلْكِ اليَمِينِ: هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهُما؟ فَقالَ عُثْمانُ: أحَلَّتْهُما آيَةٌ، وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ، وما كُنْتُ لأَصْنَعَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ مِن عِنْدِهِ، فَلَقِيَ رَجُلًا مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ: لَوْ كانَ إلَيَّ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، ثُمَّ وجَدتُّ أحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ، لَجَعَلْتُهُ نَكالًا.
قالَ مالِكٌ: قالَ ابْنُ شِهابٍ: أُراهُ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ، قالَ: وبَلَغَنِي عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوّامِ مِثْلُ ذَلِكَ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٣٤، ٣٥) (٢/٥٣٨، ٥٣٩).]].
وروى ابنُ أبي حاتمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَجْمَعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ الأَمَتَيْنِ، فَكَرِهَهُ، فَقالَ: يَقُولُ اللهُ تَعالى: ﴿إلاَّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] ؟ فَقالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَعِيرُكَ أيْضًا مِمّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ!»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩١٤).]].
وروى مَسْرُوقٌ: قال ابنُ مسعودٍ: يحرُمُ مِن الإماءِ ما يحرُمُ مِن الحرائرِ إلا العَدَدَ[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٣٣).]].
وهذا هو الأظهَرُ، فاللهُ حرَّمَ الجَمْعَ بينَ المرأةِ وعمَّتِها أو خالتِها، والجمعَ بينَ الأُختَيْنِ بلا قيدٍ، ويُؤخَذُ ذلك على إطلاقِه، فاللهُ حرَّمَ الجمعَ لحِكَمٍ وعِلَلٍ، منها القطيعةُ، لأنّهُنَّ ضَرّاتٌ، ويقعُ هذا في وطءِ النِّكاحِ ووطءِ التَّسَرِّي.
وحِلُّ مِلْكِ اليمينِ لا يَلزَمُ منه حِلُّ الوطءِ، كمِلْكِ يمينِ الأَمَةِ المُشرِكةِ والمُبَعَّضَةِ، لا يجوزُ وطؤُها، والمملوكةِ قبلَ استبرائِها.
القولُ الثاني: الجوازُ، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ، حكاهُ عمرُو بنُ دِينارٍ عنه، أخرَجَهُ ابنُ المُنذِرِ، عن حمّادٍ، عن عمرٍو، به[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٣٢).]].
والنهيُ في الجمعِ بينَ الأُختَيْنِ والجمع بين المرأةِ وعمَّتها أو خالتِها مِن النَّسَبِ بلا خلافٍ، وأمّا الجمعُ بين الأختَيْن والجمعُ بين المرأةِ وعمَّتها أو خالتها من الرضاعِ، فقد حكى الإجماع فيه غيرُ واحد، وهو قول الأئمَّة الأربعة، وخالف في ذلك بعض الأئمة، كابن تيميَّة.
ويحرُمُ الجمعُ بالوطءِ بينَ المرأةِ وعمَّتِها والمرأةِ وخالتِها مِن الإماءِ، والحُكْمُ في ذلك كالحُكْمِ في الجمعِ بينَ الأُختَيْنِ، والجمعُ بينَ الأُختَيْنِ أغلَظُ، وأغلَظُ مِن ذلك الجمعُ بالوطءِ بينَ الأمِّ وبنتِها مِن الإماءِ.
وقد قال تعالى في آخِرِ آيةِ المُحرَّماتِ مِن النِّساءِ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾، غفورًا لِما سلَفَ مِن مُخالَفةِ أمرِه قبلَ العِلْمِ به في الجاهليَّةِ، رحيمًا بهم في تشريعِه وحُكْمِهِ وإنْ خَفِيَتْ على العِبادِ عِلَّتُه.
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِیۤ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَـٰعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُوا۟ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُوا۟ بَیۡنَ ٱلۡأُخۡتَیۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق