الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِساءِ إلا ما قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلا﴾ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم وبَناتُكم وأخَواتُكم وعَمّاتُكم وخالاتُكم وبَناتُ الأخِ وبَناتُ الأُخْتِ وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكم وأخَواتُكم مِنَ الرَضاعَةِ وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾.
هَذِهِ الآيَةُ مُخاطَبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ العَرَبِ في مُدَّةِ نُزُولِ الآيَةِ، ومَعْنى الآيَةِ والتَحْرِيمِ الَّذِي بَعْدَها مُسْتَقِرٌّ عَلى المُؤْمِنِينَ أجْمَعُ. وسَبَبُ الآيَةِ أنَّ العَرَبَ كانَ مِنهم قَبائِلُ قَدِ اعْتادَتْ أنْ يَخْلُفَ الرَجُلُ عَلى امْرَأةِ أبِيهِ، عَلى ما ذَكَرْناهُ مِن أمْرِ أبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، ومِن ذَلِكَ خَبَرُ أبِي قَيْسِ بْنِ الأسْلَتِ، ومِن ذَلِكَ صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، تَزَوَّجَ بَعْدَ أبِيهِ فاخِتَةَ بِنْتَ الأسْوَدِ بْنِ المُطَّلِبِ بْنِ أسَدٍ، وكانَتِ امْرَأةَ أبِيهِ قُتِلَ عنها، ومِن ذَلِكَ مَنظُورُ بْنُ زَبّانَ، خَلَفَ عَلى مُلَيْكَةَ بِنْتِ خارِجَةَ، وكانَتْ عِنْدَ أبِيهِ زَبّانَ بْنِ سَيّارٍ، إلى كَثِيرٍ مِن هَذا. وقَدْ كانَ في العَرَبِ مَن تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، وهو حاجِبُ بْنُ زُرارَةَ، (p-٥٠٦)تَمَجَّسَ وفَعَلَ هَذِهِ الفَعْلَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ النَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ في كِتابِ المَثالِبِ، فَنَهى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَمّا كانَ عَلَيْهِ آباؤُهم مِن هَذِهِ السِيَرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ ما يَحْرُمُ، إلّا امْرَأةَ الأبِ والجَمْعَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في ذَلِكَ.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مُقْتَضى ألْفاظِ الآيَةِ فَقالَ فِرْقَةٌ: قَوْلُهُ: "ما نَكَحَ" يُرادُ بِهِ النِساءُ، أيْ: لا تَنْكِحُوا النِساءَ اللَواتِي نَكَحَ آباؤُكُمْ، وقَوْلُهُ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ مَعْناهُ: لَكِنْ ما قَدْ سَلَفَ فَدَعُوهُ، وقالَ بَعْضُهُمُ: المَعْنى: لَكِنْ ما قَدْ سَلَفَ فَهو مَعْفُوٌّ عنكم لِمَن كانَ واقَعَهُ، فَكَأنَّهُ قالَ تَعالى: "وَلا تَفْعَلُوا حاشا ما قَدْ سَلَفَ"، فَـ "ما" عَلى هَذا القَوْلِ واقِعَةٌ عَلى مَن يَعْقِلُ مِن حَيْثُ هَؤُلاءِ النِساءُ صِنْفٌ مِن أصْنافِ مَن يَعْقِلُ، و"ما" تَقَعُ لِلْأصْنافِ والأوصافِ مِمَّنْ يَعْقِلُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: قَوْلُهُ: "ما نَكَحَ" يُرادُ بِهِ فِعْلُ الآباءِ، أيْ: لا تَنْكِحُوا كَما نَكَحَ آباؤُكم مِن عُقُودِهِمُ الفاسِدَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ مَعْناهُ: إلّا ما تَقَدَّمَ مِنكم ووَقَعَ مِن تِلْكَ العُقُودِ الفاسِدَةِ فَمُباحٌ لَكُمُ الإقامَةُ عَلَيْهِ في الإسْلامِ، إذا كانَ مِمّا يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ القَرابَةِ، ويُجَوِّزُهُ الشَرْعُ إنْ لَوِ ابْتُدِئَ نِكاحُهُ في الإسْلامِ عَلى سُنَّتِهِ، وقِيلَ: مَعْنى ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ أيْ: فَهو مَعْفُوٌّ عنكم.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
و"ما" عَلى هَذا مَصْدَرِيَّةٌ، وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "إلّا ما قَدْ سَلَفَ إلّا مَن تابَ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وكَذَلِكَ حَكاهُ أبُو عَمْرٍو الدانِي.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الآيَةِ: النَهْيُ عن أنْ يَطَأ الرَجُلُ امْرَأةً وطِئَها الآباءُ، إلّا ما قَدْ سَلَفَ مِنَ الآباءِ في الجاهِلِيَّةِ مِنَ الزِنى، لا عَلى وجْهِ المُناكَحَةِ، فَذَلِكَ جائِزٌ لَكم زَواجُهم في الإسْلامِ، لِأنَّ ذَلِكَ الزِنى كانَ فاحِشَةً، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَزادَ في هَذِهِ الآيَةِ المَقْتَ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ: كُلُّ امْرَأةٍ تَزَوَّجَها أبُوكَ أوِ ابْنُكَ دَخَلَ أو لَمْ يَدْخُلْ فَهي عَلَيْكَ حَرامٌ. و"كانَ" في هَذِهِ الآيَةِ تَقْتَضِي الماضِيَ (p-٥٠٧)والمُسْتَقْبَلَ، وقالَ المُبَرِّدُ: هي زائِدَةٌ، وذَلِكَ خَطَأٌ يَرُدُّ عَلَيْهِ وُجُودُ الخَبَرِ مَنصُوبًا؛ والمَقْتُ: البُغْضُ والِاحْتِقارُ بِسَبَبِ رَذِيلَةٍ يَفْعَلُها، فَسَمّى تَعالى هَذا النِكاحَ مَقْتًا إذْ هو ذُو مَقْتٍ يَلْحَقُ فاعِلَهُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: كانَتِ العَرَبُ تُسَمِّي الوَلَدَ الَّذِي يَجِيءُ مِن زَوْجِ الوالِدِ المَقْتِيَّ، وقَوْلُهُ: "وَساءَ سَبِيلًا" أيْ: بِئْسَ الطَرِيقُ والمَنهَجُ لِمَن يَسْلُكُهُ، إذْ عاقِبَتُهُ إلى عَذابِ اللهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ".... الآيَةُ، حُكْمٌ حَرَّمَ اللهُ بِهِ سَبْعًا مِنَ النَسَبِ، وسِتًّا مِن بَيْنِ رَضاعٍ وصِهْرٍ، وألْحَقَتِ السُنَّةُ المَأْثُورَةُ سابِعَةً، وذَلِكَ الجَمْعُ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها، ومَضى عَلَيْهِ الإجْماعُ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: حُرِّمَ مِنَ النَسَبِ سَبْعٌ، ومِنَ الصِهْرِ سَبْعٌ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ عَمْرُو بْنُ سالِمٍ مَوْلى الأنْصارِ: مِثْلَ ذَلِكَ، وجَعَلَ السابِعَةَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِساءِ﴾ [النساء: ٢٤]. وتَحْرِيمُ الأُمَّهاتِ عامٌّ في كُلِّ حالٍ لا يَتَخَصَّصُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ويُسَمِّيهِ أهْلُ العِلْمِ "المُبْهَمَ" أيْ لا بابَ فِيهِ، ولا طَرِيقَ إلَيْهِ لِانْسِدادِ التَحْرِيمِ وقُوَّتِهِ، وكَذَلِكَ تَحْرِيمُ البَناتِ والأخَواتِ، فالأُمُّ كُلُّ مَن ولَدَتِ المَرْءَ وإنْ عَلَتْ، والبِنْتُ كُلُّ مَن ولَدَها وإنْ سَفَلَتْ، أمّا الأُخْتُ لِأبَوَيْنِ أو لِأبٍ أو لِأُمٍّ فَهي الَّتِي قَدْ جَمَعَهُ وإيّاها صُلْبٌ أو بَطْنٌ، والعَمَّةُ أُخْتُ الأبِ، والخالَةُ أُخْتُ الأُمِّ، كَذَلِكَ فِيهِما العُمُومُ والإبْهامُ، وكَذَلِكَ عَمَّةُ الأبِ وخالَتُهُ، وعَمَّةُ الأُمِّ وخالَتُها، وكَذَلِكَ عَمَّةُ العَمَّةِ، وأمّا خالَةُ العَمَّةِ فَيَنْظُرُ، فَإنْ كانَتِ العَمَّةُ أُخْتَ أبٍ لِأُمٍّ أو لِأبٍ وأُمٍّ فَلا تَحِلُّ خالَةُ العَمَّةِ، لِأنَّها أُخْتُ الجَدَّةِ، وإنْ كانَتِ العَمَّةُ إنَّما هي أُخْتُ أبٍ لِأبٍ فَقَطْ فَخالَتُها أجْنَبِيَّةٌ مِن بَنِي أخِيها، تَحِلُّ لِلرِّجالِ، ويُجْمَعُ بَيْنَها وبَيْنَ النِساءِ؛ وكَذَلِكَ عَمَّةُ الخالَةِ يَنْظُرُ، فَإنْ كانَتِ الخالَةُ أُخْتَ أُمٍّ لِأبٍ، فَعَمَّتُها حَرامٌ، لِأنَّها أُخْتُ جَدٍّ، وإنْ كانَتِ الخالَةُ أُخْتَ أُمٍّ لِأُمٍّ فَقَطْ فَعَمَّتُها أجْنَبِيَّةٌ مِن بَنِي أُخْتِها، وكَذَلِكَ في بَناتِ الأخِ وبَناتِ الأُخْتِ العُمُومُ والإبْهامُ، سَواءٌ كانَتِ الأُخُوَّةُ أشِقّاءَ، أو لِأبٍ أو لِأُمٍّ.
وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "مِنَ الرِضاعَةِ" بِكَسْرِ الراءِ. والرَضاعُ يُحَرِّمُ ما يُحَرِّمُ النَسَبُ، والمُرْضِعَةُ أُمٌّ، وما تَقَدَّمَ مِن أولادِها وتَأخَّرَ إخْوَةٌ، وفَحْلُ اللَبَنِ أبٌ، وما تَقَدَّمَ مِن أولادِهِ وتَأخَّرَ إخْوَةٌ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "اللايِ" بِكَسْرِ الياءِ، وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ: "وَأُمَّهاتُكُمُ الَّتِي" بِالإفْرادِ، كَأنَّهُ مِن جِهَةِ الإبْهامِ يَقَعُ مَعَ الواحِدِ والجَماعَةِ.
(p-٥٠٨)واخْتَلَفَ الناسُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾: فَقالَ جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ: هي تامَّةُ العُمُومِ فِيمَن دَخَلَ بِها أو لَمْ يَدْخُلْ، فَبِالعَقْدِ عَلى الِابْنَةِ حُرِّمَتِ الأُمُّ، وهَذا مَذْهَبُ جُمْلَةِ الصَحابَةِ والتابِعِينَ وفُقَهاءِ الأمْصارِ، ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ قِيلَ لَهُ في رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً فَطَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها أيَتَزَوَّجُ أُمَّها؟ قالَ: نَعَمْ، هي بِمَنزِلَةِ الرَبِيبَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
يُرِيدُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ شَرْطٌ في هَذِهِ وفي الرَبِيبَةِ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ورُوِيَ عنهُ كَقَوْلِ الجُمْهُورِ. ورُوِيَ عن زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: إذا ماتَتْ عِنْدَهُ فَأخَذَ مِيراثَها كُرِهَ أنْ يَخْلُفَ عَلى أُمِّها، وإنْ طَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها، فَإنْ شاءَ فَعَلَ. وقالَ مُجاهِدٌ: الدُخُولُ مُرادٌ في النازِلَتَيْنِ، وقَوْلُ جُمْهُورِ الناسِ مُخالِفٌ لِهَذا القَوْلِ. ورُوِيَ في ذَلِكَ عن زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ قالَ: ( أُمَّهاتُ نِسائِكم ) مُبْهَمَةٌ، وإنَّما الشَرْطُ في الرَبائِبِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: أكانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقْرَأُ: "وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ" ؟ فَقالَ: لا تَتَرَأَّ، قالَ حَجّاجٌ: قُلْتُ لِابْنِ جُرَيْجٍ: ما تَتَرَأَّ؟ قالَ: كَأنَّهُ قالَ: لا لا. ويَرُدُّ هَذا القَوْلَ مِن جِهَةِ الإعْرابِ أنَّ المَجْرُورَيْنِ إذا اخْتَلَفا لَمْ يَكُنْ نَعْتُهُما واحِدًا، ومَعْناهُ: إذا اخْتَلَفا في العامِلِ، وهَذِهِ الآيَةُ قَدِ اخْتَلَفَ فِيها جِنْسُ العامِلِ.
***
قوله عزّ وجلّ: ﴿وَرَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكم وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكم وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلا ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
الرَبِيبَةُ: بِنْتُ امْرَأةِ الرَجُلِ مِن غَيْرِهِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّهُ يُرَبِّيها في حِجْرِهِ فَهي مَرْبُوبَتُهُ. ورَبِيبَةٌ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنى مَفْعُولَةٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ ذَكَرَ الأغْلَبَ في هَذِهِ الأُمُورِ، إذْ هي حالَةُ الرَبِيبَةِ في الأكْثَرِ، وهي مُحَرَّمَةٌ وإنْ كانَتْ في غَيْرِ الحِجْرِ، لِأنَّها في حُكْمِ أنَّها في الحِجْرِ، إلّا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: تَحِلُّ إذا لَمْ تَكُنْ في الحِجْرِ وإنْ دَخَلَ بِالأُمِّ، إذا كانَتْ بَعِيدَةً عنهُ، ويُقالُ: حَجْرٌ بِكَسْرِ الحاءِ وفَتْحِها، وهو مُقَدَّمُ ثَوْبِ الإنْسانِ وما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنهُ في حالَةِ اللُبْسِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ اللَفْظَةُ في (p-٥٠٩)الحِفْظِ والسَتْرِ، لِأنَّ اللابِسَ إنَّما تَحْفَظُ طِفْلًا وما أشْبَهَهُ بِذَلِكَ المَوْضِعِ مِنَ الثَوْبِ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وطاوُسُ وابْنُ دِينارٍ: الدُخُولُ في هَذا المَوْضِعِ: الجِماعُ، فَإنْ طَلَّقَ الرَجُلُ بَعْدَ البِناءِ وقَبْلَ الوَطْءِ فَإنَّ ابْنَتَها لَهُ حَلالٌ. وقالَ جُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ مِنهم مالِكُ بْنُ أنَسٍ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ وغَيْرُهُمْ: إنَّ التَجْرِيدَ والتَقْبِيلَ والمُضاجَعَةَ وجَمِيعَ أنْواعِ التَلَذُّذِ يُحَرِّمُ الِابْنَةَ كَما يُحَرِّمُها الوَطْءُ؛ والحَلائِلُ: جَمْعُ حَلِيلَةٍ، وهي الزَوْجَةُ، لِأنَّها تَحِلُّ مَعَ الرَجُلِ حَيْثُ حَلَّ، فَهي فَعِيلَةٌ بِمَعْنى فاعِلَةٍ. وذَهَبَ الزَجّاجُ وقَوْمٌ إلى أنَّها مِن لَفْظَةِ الحَلالِ، فَهي حَلِيلَةٌ بِمَعْنى مُحَلَّلَةٌ. وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ تَخْصِيصٌ لِيَخْرُجَ عنهُ كُلُّ مَن كانَتِ العَرَبُ تَتَبَنّاهُ مِمَّنْ لَيْسَ لِلصُّلْبِ، وكانَ عِنْدَهم أمْرًا كَثِيرًا قَوِيَّ الحُكْمِ.
قالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: يُتَحَدَّثُ واللهُ أعْلَمُ أنَّها نَزَلَتْ في مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ حِينَ تَزَوَّجَ امْرَأةَ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ، فَقالَ المُشْرِكُونَ: قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأةَ ابْنِهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ.
وحُرِّمَتْ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنَ الرَضاعِ وإنْ لَمْ يَكُنْ لِلصُّلْبِ؛ بِالإجْماعِ المُسْتَنِدِ إلى قَوْلِهِ ﷺ: « "يَحْرُمُ مِنَ الرَضاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَسَبِ"» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ لَفْظٌ يَعُمُّ الجَمْعَ بِنِكاحٍ وبِمِلْكِ يَمِينٍ، وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى مَنعِ جَمْعِهِما بِنِكاحٍ، وأمّا بِمِلْكِ يَمِينٍ، فَقالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أحَلَّتْهُما آيَةٌ، وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ. فَأمّا أنا في خاصَّةِ نَفْسِي فَلا أرى الجَمْعَ بَيْنَهُما حَسَنًا. ورُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، وذَكَرَ أنَّ إسْحاقَ بْنَ راهَوَيْهِ حَرَّمَ الجَمْعَ بَيْنَهُما بِالوَطْءِ، وأنَّ جُمْهُورَ أهْلِ العِلْمِ كَرِهُوا ذَلِكَ، وجَعَلَ مالِكًا فِيمَن كَرِهَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولا خِلافَ في جَوازِ جَمْعِهِما في المِلْكِ، وكَذَلِكَ الأُمُّ وبِنْتُها، ويَجِيءُ مِن قَوْلِ إسْحاقَ أنْ يُرْجَمَ الجامِعُ بَيْنَهُما بِالوَطْءِ، وتُسْتَقْرَأُ الكَراهِيَةُ مِن قَوْلِ مالِكٍ: إنَّهُ إذا وطِئَ واحِدَةً ثُمَّ وطِئَ أُخْرى؛ وقَفَ عنهُما حَتّى يُحَرِّمَ إحْداهُما، فَلَمْ يُلْزِمْهُ حَدًّا.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ بَعْدَ القَوْلِ بِالمَنعِ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَهُما بِالوَطْءِ، إذا كانَ يَطَأُ واحِدَةً ثُمَّ (p-٥١٠)أرادَ أنْ يَطَأ الأُخْرى؛ فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وابْنُ عُمَرَ والحَسَنُ البَصْرِيُّ والأوزاعِيُّ والشافِعِيُّ وأحْمَدُ وإسْحاقُ: لا يَجُوزُ لَهُ وطْءُ الثانِيَةِ حَتّى يُحَرِّمَ فَرْجَ الأُخْرى بِإخْراجِها مِن مِلْكِهِ، بِبَيْعٍ أو عِتْقٍ أو بِأنْ يُزَوِّجَها. قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: وفِيها قَوْلٌ ثانٍ لِقَتادَةَ، وهو أنَّهُ إنْ كانَ يَطَأُ واحِدَةً وأرادَ وطْءَ الأُخْرى فَإنَّهُ يَنْوِي تَحْرِيمَ الأُولى عَلى نَفْسِهِ وألّا يَقْرَبَها، ثُمَّ يُمْسِكُ عنها حَتّى يَسْتَبْرِئَ الأُولى المُحَرَّمَةَ، ثُمَّ يَغْشى الثانِيَةَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ومَذْهَبُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ: إذا كانَ أُخْتانِ عِنْدَ رَجُلٍ يَمْلِكُ، فَلَهُ أنْ يَطَأ أيَّتَهُما شاءَ، والكَفُّ عَنِ الأُخْرى مَوْكُولٌ إلى أمانَتِهِ، فَإنْ أرادَ وطْءَ الأُخْرى فَيَلْزَمُهُ أنْ يُحَرِّمَ عَلى نَفْسِهِ فَرْجَ الأُولى بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، مِن إخْراجٍ عَنِ المِلْكِ أو تَزْوِيجٍ أو عِتْقٍ إلى أجَلٍ أو إخْدامٍ طَوِيلٍ، فَإنْ كانَ يَطَأُ إحْداهُما ثُمَّ وثَبَ عَلى الأُخْرى دُونَ أنْ يُحَرِّمَ الأُولى وُقِفَ عنهُما ولَمْ يَجُزْ لَهُ قُرْبُ إحْداهُما حَتّى يُحَرِّمَ الأُخْرى، ولَمْ يُبْقَ ذَلِكَ إلى أمانَتِهِ، لِأنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيمَن قَدْ وطِئَ، ولَمْ يَكُنْ قَبْلُ مُتَّهَمًا إذْ كانَ لَمْ يَطَأْ إلّا الواحِدَةَ. وإنْ كانَتْ عِنْدَ رَجُلِ أمَةٌ يَطَؤُها ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَها، فَفِيها في المَذْهَبِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: في النِكاحِ الثالِثِ مِنَ المُدَوَّنَةِ أنَّهُ يُوقَفُ عنهُما إذا وقَعَ عَقْدُ النِكاحِ حَتّى يُحَرِّمَ إحْداهُما مَعَ كَراهِيَتِهِ لِهَذا النِكاحِ، إذْ هو عَقْدٌ في مَوْضِعٍ لا يَجُوزُ فِيهِ الوَطْءُ، وذَلِكَ مَكْرُوهٌ إلّا في الحَيْضِ، لِأنَّهُ أمْرٌ غالِبٌ كَثِيرٌ، وفي البابِ بِعَيْنِهِ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّ النِكاحَ لا يَنْعَقِدُ. وقالَ أشْهَبُ في كِتابِ الِاسْتِبْراءِ: عَقْدُ النِكاحِ في الواحِدَةِ تَحْرِيمٌ لِفَرْجِ المَمْلُوكَةِ؛ وثَبَتَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّهُ نَهى أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها، وبَيْنَ المَرْأةِ وخالَتِها،» وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى ذَلِكَ؛ وقَدْ رَأى بَعْضُ العُلَماءِ أنَّ هَذا الحَدِيثَ ناسِخٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وذَلِكَ الحَدِيثُ مِنَ المُتَواتِرِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَلامُ: « "يَحْرُمُ مِنَ الرَضاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَسَبِ"» قِيلَ أيْضًا: إنَّهُ ناسِخٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، مَعْناهُ: لَكِنْ ما قَدْ سَلَفَ مِن ذَلِكَ ووَقَعَ وأزالَهُ الإسْلامُ فَإنَّ اللهَ يَغْفِرُهُ، والإسْلامَ يَجُبُّهُ.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["وَلَا تَنكِحُوا۟ مَا نَكَحَ ءَابَاۤؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَمَقۡتࣰا وَسَاۤءَ سَبِیلًا","حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِیۤ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَـٰعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُوا۟ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُوا۟ بَیۡنَ ٱلۡأُخۡتَیۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"],"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِیۤ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَـٰعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُوا۟ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُوا۟ بَیۡنَ ٱلۡأُخۡتَیۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق