الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ الآيَةَ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ حَلِيلَةَ دَعِيِّهِ الَّذِي تَبَنّاهُ لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وهَذا المَفْهُومُ صَرَّحَ بِهِ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنهُنَّ وطَرًا وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [الأحزاب: ٣٧]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَما جَعَلَ أدْعِياءَكم أبْناءَكم ذَلِكم قَوْلُكم بِأفْواهِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكُمْ﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٤٠] .
أمّا تَحْرِيمُ مَنكُوحَةِ الِابْنِ مِنَ الرِّضاعِ فَهو مَأْخُوذٌ مِن دَلِيلِ خارِجٍ وهو تَصْرِيحُهُ ﷺ «بِأنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرِّضاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ بِعُمُومِها عَلى مَنعِ الجَمْعِ بَيْنَ كُلِّ أُخْتَيْنِ سَواءٌ كانَتا بِعَقْدٍ أمْ بِمِلْكِ يَمِينٍ، وقَدْ جاءَتْ آيَةٌ تَدُلُّ بِعُمُومِها عَلى جَوازِ جَمْعِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ وهي قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ ”قَدْ أفْلَحَ“ وسُورَةِ ”سَألَ سائِلٌ“: ﴿والَّذِينَ هم لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ﴾ ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهم فَإنَّهم غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون: ٥ - ٦] .
فَقَوْلُهُ: ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ اسْمٌ مُثَنّى مُحَلّى بِألْ والمُحَلّى بِها مِن صِيَغِ العُمُومِ كَما تَقَرَّرَ خَرَّجَهُ في عِلْمِ الأُصُولِ، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ اسْمٌ مَوْصُولٌ وهو أيْضًا مِن صِيَغِ العُمُومِ، كَما تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأُصُولِ أيْضًا.
فَبَيْنَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ مِن وجْهٍ يَتَعارَضانِ بِحَسَبَ ما يَظْهَرُ في صُورَةٍ هي جَمْعُ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، فَيَدُلُّ عُمُومُ ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ عَلى التَّحْرِيمِ، وعُمُومُ: ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ عَلى الإباحَةِ، كَما قالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما أُخْرى.
وَحاصِلُ تَحْرِيرِ الجَوابِ عَنْ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ أنَّهُما لا بُدَّ أنْ يُخَصَّصَ عُمُومُ إحْداهُما بِعُمُومِ الأُخْرى، فَيَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ العُمُومَيْنِ، والرّاجِحُ مِنهُما يُقَدَّمُ ويُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الآخَرِ لِوُجُوبِ العَمَلِ بِالرّاجِحِ إجْماعًا، وعَلَيْهِ فَعُمُومُ: وأنْ ﴿تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾، أرْجَحُ مِن عُمُومِ: ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ مِن خَمْسَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ عُمُومَ: ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ نَصٌّ في مَحَلِّ المُدْرَكِ المَقْصُودِ (p-٢٤٧)بِالذّاتِ لِأنَّ السُّورَةَ سُورَةُ ”النِّساءِ“ وهي الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيها مَن تَحِلُّ مِنهُنَّ ومَن تَحْرُمُ، وآيَةُ ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ لَمْ تُذْكَرْ مِن أجْلِ تَحْرِيمِ النِّساءِ ولا تَحْلِيلِهِنَّ، بَلْ ذَكَرَ اللَّهُ صِفاتَ المُتَّقِينَ، فَذَكَرَ مِن جُمْلَتِها حِفْظَ الفَرْجِ، فاسْتَطْرَدَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ حِفْظُهُ عَنِ الزَّوْجَةِ والسُّرِّيَّةِ، وقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ أخْذَ الأحْكامِ مِن مَظانِّها أوْلى مِن أخْذِها لا مِن مَظانِّها.
الثّانِي: أنَّ آيَةَ: ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ لَيْسَتْ باقِيَةً عَلى عُمُومِها بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ لِأنَّ الأُخْتَ مِنَ الرّاضِعِ لا تَحِلُّ بِمِلْكِ اليَمِينِ إجْماعًا لِلْإجْماعِ عَلى أنَّ عُمُومَ ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ يُخَصِّصُهُ عُمُومُ: ﴿وَأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣]، ومَوْطُوءَةُ الأبِ لا تَحِلُّ بِمِلْكِ اليَمِينِ إجْماعًا لِلْإجْماعِ عَلى أنَّ عُمُومَ: ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ يُخَصِّصُهُ ﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ الآيَةَ [النساء: ٢٢] .
والأصَحُّ عَنِ الأُصُولِيِّينَ في تَعارُضِ العامِّ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ مَعَ العامِّ الَّذِي لَمْ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ هو تَقْدِيمُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ ووَجْهُهُ ظاهِرٌ.
الثّالِثُ: أنَّ عُمُومَ: ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ غَيْرُ وارِدٍ في مَعْرِضِ مَدْحٍ ولا ذَمٍّ، وعُمُومَ ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ وارِدٌ في مَعْرِضِ مَدْحِ المُتَّقِينَ.
والعامُّ الوارِدُ في مَعْرِضِ المَدْحِ أوِ الذَّمِّ اخْتَلَفَتِ العُلَماءُ في اعْتِبارِ عُمُومِهِ، فَأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ عُمُومَهُ مُعْتَبَرٌ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ ﴿وَإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ [الإنفطار: ١٣ - ١٤]، فَإنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ بَرٍّ مَعَ أنَّهُ لِلْمَدْحِ، وكُلَّ فاجِرٍ مَعَ أنَّهُ لِلذَّمِّ.
وَخالَفَ في ذَلِكَ بَعْضُ العُلَماءِ مِنهُمُ الإمامُ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قائِلًا: إنَّ العامَّ الوارِدَ في مَعْرِضِ المَدْحِ أوِ الذَّمِّ لا عُمُومَ لَهُ، لِأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ الحَثُّ في المَدْحِ والزَّجْرُ في الذَّمِّ.
وَلِذا لَمْ يَأْخُذِ الإمامُ الشّافِعِيُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ ٩ ]، في الحُلِيِّ المُباحِ لِأنَّ الآيَةَ سِيقَتْ لِلذَّمِّ فَلا تَعُمُّ عِنْدَهُ الحُلِيَّ المُباحَ، فَإذا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ العامَّ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِما يَمْنَعُ اعْتِبارَ عُمُومِهِ أوْلى مِنَ المُقْتَرِنِ بِما يَمْنَعُ اعْتِبارَ عُمُومِهِ عِنْدَ بَعْضِ العُلَماءِ.
الرّابِعُ: أنّا لَوْ سَلَّمْنا المُعارَضَةَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ فالأصْلُ في الفُرُوجِ التَّحْرِيمُ، حَتّى يَدُلَّ دَلِيلٌ لا مَعارِضَ لَهُ عَلى الإباحَةِ.
(p-٢٤٨)الخامِسُ: أنَّ العُمُومَ المُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ أوْلى مِنَ المُقْتَضِي لِلْإباحَةِ لِأنَّ تَرْكَ مُباحٍ أهْوَنُ مِنِ ارْتِكابِ حَرامٍ كَما سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ في سُورَةِ ”المائِدَةِ“، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
فَهَذِهِ الأوْجُهُ الخَمْسَةُ الَّتِي بَيَّنّا يُرَدُّ بِها اسْتِدْلالُ داوُدَ الظّاهِرِيِّ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلى جَمْعِ الأُخْتَيْنِ في الوَطْءِ بِمِلْكِ اليَمِينِ ولَكِنَّهُ يَحْتَجُّ بِآيَةٍ أُخْرى وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، فَإنَّهُ يَقُولُ: الِاسْتِثْناءُ راجِعٌ أيْضًا إلى قَوْلِهِ: ﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ فَيَكُونُ المَعْنى عَلى قَوْلِهِ: وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم، فَإنَّهُ لا يَحْرُمُ فِيهِ الجَمْعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ.
وَرُجُوعُ الِاسْتِثْناءِ لِكُلِّ ما قَبْلُهُ مِنَ المُتَعاطِفاتِ جُمَلًا كانَتْ أوْ مُفْرِداتٍ هو الجارِي عَلى أُصُولِ مالِكٍ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِ صاحِبِ مَراقِي السُّعُودِ [ الرَّجَزِ ]:
؎وَكُلُّ ما يَكُونُ فِيهِ العَطْفُ مِن قَبْلِ الِاسْتِثْناءِ فَكُلًّا يَقِفُ
دُونَ دَلِيلِ العَقْلِ أوْ ذِي السَّمْعِ.
خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ القائِلِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ لِلْجُمْلَةِ الأخِيرَةِ فَقَطْ، ولِذَلِكَ لا يَرى قَبُولَ شَهادَةِ القاذِفِ ولَوْ تابَ وأصْلَحَ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ [النور: ٥]، يَرْجِعُ عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [النور: ٤]، فَقَطْ أيْ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾، فَقَدْ زالَ فِسْقُهم بِالتَّوْبَةِ ولا يَقُولُ بِرُجُوعِهِ لِقَوْلِهِ: ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً إلّا الَّذِينَ تابُوا فاقْبَلُوا شَهادَتَهم، بَلْ يَقُولُ: لا تَقْبَلُوها لَهم مُطْلَقًا لِاخْتِصاصِ الِاسْتِثْناءِ بِالأخِيرَةِ عِنْدَهُ.
وَلَمْ يُخالِفْ أبُو حَنِيفَةَ أصْلَهُ في قَوْلِهِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾ [الفرقان: ٧٠]، لِجَمِيعِ الجُمَلِ قَبْلَهُ أعْنِي قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨]، لِأنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الجُمَلِ مَعْناها في الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا﴾ [الفرقان: ٦٨]، لِأنَّ الإشارَةَ في قَوْلِهِ: ”ذَلِكَ“ شامِلَةٌ لِكُلٍّ مِنَ الشِّرْكِ والقَتْلِ والزِّنى، فَبِرُجُوعِهِ لِلْأخِيرَةِ رَجَعَ لِلْكُلِّ، فَظَهَرَ أنَّ أبا حَنِيفَةَ لَمْ يُخالِفْ فِيها أصْلَهُ.
(p-٢٤٩)وَلِأجْلِ هَذا الأصْلِ المُقَرَّرِ في الأُصُولِ لَوْ قالَ رَجُلٌ: هَذِهِ الدّارُ حَبْسٌ عَلى الفُقَراءِ والمَساكِينِ وبَنِي زُهْرَةَ وبَنِي تَمِيمٍ إلّا الفاسِقَ مِنهم، فَإنَّهُ يَخْرُجُ فاسِقُ الكُلِّ عِنْدَ المالِكِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ والحَنابِلَةِ خِلافًا لِلْحَنَفِيَّةِ القائِلِينَ يَخْرُجُ فاسِقُ الأخِيرَةِ فَقَطْ.
وَعَلى هَذا، فاحْتِجاجُ داوُدَ الظّاهِرِيِّ بِهَذِهِ الآيَةِ الأخِيرَةِ جارٍ عَلى أُصُولِ المالِكِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ والحَنابِلَةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ في هَذِهِ المَسْألَةِ هو ما حَقَّقَهُ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ كابْنِ الحاجِبِ مِنَ المالِكِيَّةِ والغَزالِيِّ مِنَ الشّافِعِيَّةِ والآمِدِيِّ مِنَ الحَنابِلَةِ مِن أنَّ الحُكْمَ في الِاسْتِثْناءِ الآتِي بَعْدَ مُتَعاطِفاتٍ هو الوَقْفُ، وأنْ لا يُحْكَمَ بِرُجُوعِهِ إلى الجَمِيعِ ولا إلى الأخِيرَةِ، وإنَّما قُلْنا إنَّ هَذا هو التَّحْقِيقُ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ الآيَةَ [النساء: ٥٩] .
وَإذا رَدَدْنا هَذا النِّزاعَ إلى اللَّهِ وجَدْنا القُرْآنَ دالًّا عَلى قَوْلِ هَؤُلاءِ، الَّذِي ذَكَرْنا أنَّهُ هو التَّحْقِيقُ في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ [النساء: ٩٢]، فالِاسْتِثْناءُ راجِعٌ لِلدِّيَةِ فَهي تَسْقُطُ بِتَصَدُّقِ مُسْتَحِقِّها بِها ولا يَرْجِعُ لِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ قَوْلًا واحِدًا لِأنَّ تَصَدُّقَ مُسْتَحِقِّ الدِّيَةِ بِها لا يُسْقِطُ كَفّارَةَ القَتْلِ خَطَأً، ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ [النور: ٤ - ٥] .
فالِاسْتِثْناءُ لا يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ: ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ لِأنَّ القاذِفَ إذا تابَ لا تُسْقِطُ تَوْبَتُهُ حَدَّ القَذْفِ.
وَمِنها أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهم واقْتُلُوهم حَيْثُ وجَدْتُمُوهم ولا تَتَّخِذُوا مِنهم ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ [النساء: ٨٩ - ٩٥] .
فالِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ لا يَرْجِعُ قَوْلًا واحِدًا إلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ الَّتِي هي أقْرَبُ الجُمَلِ إلَيْهِ، أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا مِنهم ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ إذْ لا يَجُوزُ اتِّخاذُ ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ مِنَ الكُفّارِ، ولَوْ وصَلُوا إلى قَوْمٍ (p-٢٥٠)بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ، بَلِ الِاسْتِثْناءُ راجِعٌ لِلْأخْذِ والقَتْلِ في قَوْلِهِ: ﴿فَخُذُوهم واقْتُلُوهُمْ﴾ والمَعْنى فَخُذُوهم بِالأسْرِ واقْتُلُوهم إلّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَلَيْسَ لَكم أخْذُهم بِأسْرٍ ولا قَتْلُهم لِأنَّ المِيثاقَ الكائِنَ لِمَن وصَلُوا إلَيْهِمْ يَمْنَعُ مَن أسْرِهِمْ وقَتْلِهِمْ، كَما اشْتَرَطَهُ هِلالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الأسْلَمِيُّ في صُلْحِهِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وفي سُراقَةَ بْنِ مالِكٍ المُدْلِجِيِّ وفي بَنِي جُذَيْمَةَ بْنِ عامِرٍ.
وَإذا كانَ الِاسْتِثْناءُ رُبَّما لَمْ يَرْجِعْ لِأقْرَبِ الجُمَلِ إلَيْهِ في القُرْآنِ العَظِيمِ الَّذِي هو في الطَّرَفِ الأعْلى مِنَ الإعْجازِ، تَبَيَّنَ أنَّهُ لَيْسَ نَصًّا في الرُّجُوعِ إلى غَيْرِها.
وَمِنها أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٨٣] .
فالِاسْتِثْناءُ لَيْسَ راجِعًا لِلْجُمْلَةِ الأخِيرَةِ الَّتِي يَلِيها أعْنِي: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ﴾ لِأنَّهُ لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ كُلًّا ولَمْ يَنْجُ مِن ذَلِكَ قَلِيلٌ ولا كَثِيرٌ حَتّى يَخْرُجَ بِالِاسْتِثْناءِ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَرْجِعِ هَذا الِاسْتِثْناءِ فَقِيلَ راجِعٌ لِقَوْلِهِ: ﴿أذاعُوا بِهِ﴾ [النساء: ٨٣] . وقِيلَ راجِعٌ لِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾ [النساء: ٨٣]، وإذا لَمْ يَرْجِعْ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيها فَلا يَكُونُ نَصًّا في رُجُوعِهِ لِغَيْرِها، وقِيلَ إنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيها فَلا يَكُونُ نَصًّا في رُجُوعِهِ لِغَيْرِها وقِيلَ إنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيها.
وَعَلَيْهِ فالمَعْنى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ﴾ بِإرْسالِ مُحَمَّدٍ ﴿لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ﴾ في مِلَّةِ آبائِكم مِنَ الكُفْرِ وعِبادَةِ الأوْثانِ إلّا قَلِيلًا. كَمَن كانَ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ كَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وزَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ وقُسِّ بْنِ ساعِدَةَ وأضْرابِهِمْ، وذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أنَّ عَبْدَ الرَّزّاقِ رَوى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلّا قَلِيلًا﴾ أنَّ مَعْناهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ كُلًّا. قالَ: والعَرَبُ تُطْلِقُ القِلَّةَ وتُرِيدُ بِها العَدَمَ. واسْتَدَلَّ قائِلُ هَذا القَوْلِ بِقَوْلِ الطِّرِمّاحِ بْنِ حَكِيمٍ يَمْدَحُ يَزِيدَ بْنَ المُهَلَّبِ [ المُتَقارِبِ ]:
؎أشَمٌّ نَدِيٌّ كَثِيرُ النَّوادِي ∗∗∗ قَلِيلُ المَثالِبِ والقادِحَهْ
يَعْنِي لا مَثْلَبَةَ فِيهِ ولا قادِحَةَ.
(p-٢٥١)قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: إطْلاقُ القِلَّةِ وإرادَةُ العَدَمِ كَثِيرَةٌ في كَلامِ العَرَبِ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎أُنِيخَتْ فَألْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ∗∗∗ قَلِيلٌ بِها الأصْواتُ إلّا بُغامُها
يَعْنِي أنَّهُ لا صَوْتَ في تِلْكَ الفَلاةِ غَيْرَ بُغامِ راحِلَتِهِ، وقَوْلُ الآخَرِ:
؎فَما بَأْسُ لَوْ رَدَّتْ عَلَيْنا تَحِيَّةً ∗∗∗ قَلِيلًا لَدى مَن يَعْرِفُ الحَقَّ عابَها
يَعْنِي لا عابَ فِيها عِنْدَ مَن يَعْرِفُ الحَقَّ، وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ الأخِيرَيْنِ فَلا شاهِدَ في الآيَةِ. وبِهَذا التَّحْقِيقِ الَّذِي حَرَّرْنا يُرَدُّ اسْتِدْلالُ داوُدَ الظّاهِرِيِّ بِهَذِهِ الآيَةِ الأخِيرَةِ أيْضًا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِیۤ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَـٰعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُوا۟ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُوا۟ بَیۡنَ ٱلۡأُخۡتَیۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق