الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ فَإنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ: " إلّا ما كانَ في الجاهِلِيَّةِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ: إلّا ما كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَإنَّكم لا تُؤاخَذُونَ بِهِ، ويُحْتَمَلُ: إلّا ما قَدْ سَلَفَ فَإنَّكم مُقِرُّونَ عَلَيْهِ، وتَأوَّلَهُ بَعْضُهم عَلى ذَلِكَ؛ وهَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُرْوَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أقَرَّ أحَدًا عَلى عَقْدِ نِكاحِ امْرَأةِ أبِيهِ وإنْ كانَ في الجاهِلِيَّةِ. وقَدْ رَوى البَراءُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ أبا بُرْدَةَ بْنَ نِيارٍ إلى رَجُلِ عَرَّسَ بِامْرَأةِ أبِيهِ وفي بَعْضِ الألْفاظِ: نَكَحَ امْرَأةَ أبِيهِ أنْ يَقْتُلَهُ ويَأْخُذَ مالَهُ» . وقَدْ كانَ نِكاحُ امْرَأةِ الأبِ مُسْتَفِيضًا شائِعًا في الجاهِلِيَّةِ، فَلَوْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ أقَرَّ أحَدًا مِنهم عَلى ذَلِكَ النِّكاحِ لَنُقِلَ واسْتَفاضَ، فَلَمّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ فَإنَّكم غَيْرُ مُؤاخَذِينَ بِهِ وذَلِكَ؛ لِأنَّهم قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِخِلافِ ما هم عَلَيْهِ كانُوا مُقِرِّينَ عَلى أحْكامِهِمْ، فَأعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعالى أنَّهم غَيْرُ مُؤاخَذِينَ فِيما لَمْ تَقُمْ عِنْدَهم حُجَّةُ السَّمْعِ بِتَرْكِهِ، فَلا احْتِمالَ في قَوْلِهِ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ في هَذا المَوْضِعِ إلّا ما ذَكَرْنا؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ عِنْدَ ذِكْرِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ما ذَكَرْنا هَهُنا، وسَنَذْكُرُهُ إذا انْتَهَيْنا إلَيْهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ومَعْنى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ هَهُنا اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ كَقَوْلِهِ: " لا تَلْقَ فُلانًا إلّا ما لَقِيتَ " يَعْنِي لَكِنْ ما لَقِيتَ فَلا لَوْمَ عَلَيْكَ فِيهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ [النساء: ٢٢] هَذِهِ الهاءُ كِنايَةٌ عَنِ النِّكاحِ؛ وقَدْ قِيلَ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: النِّكاحُ بَعْدَ النَّهْيِ فاحِشَةٌ، ومَعْناهُ هو فاحِشَةٌ، فَ " كانَ " في هَذا المَوْضِعِ مُلْغاةٌ وهو مَوْجُودٌ في كَلامِهِمْ، قالَ الشّاعِرُ:
؎فَإنَّكَ لَوْ رَأيْتَ دِيارَ قَوْمٍ وجِيرانٍ لَنا كانُوا كِرامِ
فَأدْخَلَ " كانَ " وهي مُلْغاةٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِها؛ لِأنَّ القَوافِيَ مَجْرُورَةٌ. وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٧] واَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ أنَّ ما كانَ مِنهُ في الجاهِلِيَّةِ فَهو فاحِشَةٌ فَلا تَفْعَلُوا مِثْلَهُ، وهَذا لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ قِيامِ حُجَّةِ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ، ومَن قالَ هَذا (p-٦٤)جَعَلَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] فَإنَّهُ يَسْلَمُ مِنهُ بِالإقْلاعِ عَنْهُ والتَّوْبَةِ مِنهُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: والأوْلى حَمْلُهُ عَلى أنَّهُ فاحِشَةٌ بَعْدَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مُرادٌ عِنْدَ الجَمِيعِ لا مَحالَةَ، ولَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ حُجَّةَ السَّمْعِ قَدْ كانَتْ قامَتْ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ مِن جِهَةِ الرُّسُلِ المُتَقَدِّمِينَ فَيَسْتَحِقُّونَ اللَّوْمَ عَلَيْهِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] وظاهِرُهُ يَقْتَضِي نَفْيَ المُؤاخَذَةِ بِما سَلَفَ مِنهُ.
فَإنْ قِيلَ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن عَقَدَ نِكاحًا عَلى امْرَأةِ أبِيهِ ووَطِئَها كانَ وطْؤُهُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ؛ لِأنَّهُ سَمّاها فاحِشَةً، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلا﴾ [الإسراء: ٣٢] قِيلَ لَهُ: الفاحِشَةُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلى كَثِيرٍ مِنَ المَحْظُوراتِ، وقَدْ رُوِيَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء: ١٩] أنَّ خُرُوجَها مِن بَيْتِهِ فاحِشَةٌ. ورُوِيَ أنَّ الفاحِشَةَ في ذَلِكَ أنْ تَسْتَطِيلَ بِلِسانِها عَلى أهْلِ زَوْجِها، وقِيلَ فِيها: إنَّها الزِّنا. فالفاحِشَةُ اسْمٌ يَتَناوَلُ مُواقَعَةَ المَحْظُورِ، ولَيْسَ يَخْتَصُّ بِالزِّنا دُونَ غَيْرِهِ حَتّى إذا أُطْلِقَ فِيهِ اسْمُ الفاحِشَةِ كانَ زِنًا، وما كانَ مِن وطْءٍ عَنْ عَقْدٍ فاسِدٍ فَإنَّهُ لا يُسَمّى زِنًا؛ لِأنَّ المَجُوسَ وسائِرَ المُشْرِكِينَ المَوْلُودِينَ عَلى مُناكَحاتِهِمْ الَّتِي هي فاسِدَةٌ في الإسْلامِ لا يُسَمَّوْنَ أوْلادَ زِنًا والزِّنا اسْمٌ لِوَطْءٍ في غَيْرِ مِلْكٍ، ولا نِكاحٍ، ولا شُبْهَةٍ عَنْ واحِدٍ مِنهُما، فَأمّا إذا صَدَرَ عَنْ عَقْدٍ فَإنَّ ذَلِكَ لا يُسَمّى زِنًا سَواءٌ كانَ العَقْدُ فاسِدًا أوْ صَحِيحًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَقْتًا وساءَ سَبِيلا﴾ [النساء: ٢٢] يَعْنِي أنَّهُ مِمّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعالى ويُبْغِضُهُ المُسْلِمُونَ، وذَلِكَ تَأْكِيدٌ لَتَحْرِيمِهِ وتَقْبِيحِهِ وتَهْجِينِ فاعِلِهِ وبَيَّنَ أنَّهُ طَرِيقُ سُوءٍ؛ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى جَهَنَّمَ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم وبَناتُكُمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ. حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ قالَ: حَدَّثَنا سُنَيْدُ بْنُ داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا وكِيعٌ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ صالِحٍ عَنْ سِماكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَناتُ الأُخْتِ﴾ قالَ: حَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ السَّبْعَ مِنَ النَّسَبِ ومِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكم وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] ما وراءَ هَذا النَّسَبِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكم وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] يَعْنِي السَّبْيَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ عُمُومٌ في جَمِيعِ ما يَتَناوَلُهُ الِاسْمُ حَقِيقَةً، ولا خِلافَ أنَّ الجَدّاتِ وإنْ بَعُدْنَ مُحَرَّماتٌ، واكْتَفى بِذِكْرِ الأُمَّهاتِ؛ لِأنَّ اسْمَ الأُمَّهاتِ يَشْمَلُهُنَّ كَما أنَّ اسْمَ الآباءِ يَتَناوَلُ الأجْدادَ وإنْ بَعُدُوا، وقَدْ عُقِلَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٢٢] (p-٦٥)تَحْرِيمُ ما نَكَحَ الأجْدادُ، وإنْ كانَ لِلْجَدِّ اسْمٌ خاصٌّ لا يُشارِكُهُ فِيهِ الأبُ الأدْنى فَإنَّ الِاسْمَ العامَّ وهو الأُبُوَّةُ يَنْتَظِمُهم جَمِيعًا؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبَناتُكُمْ﴾ قَدْ يَتَناوَلُ بَناتِ الأوْلادِ وإنْ سَفُلْنَ؛ لِأنَّ الِاسْمَ يَتَناوَلُهُنَّ كَما يَتَناوَلُ اسْمُ الآباءِ الأجْدادَ، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وأخَواتُكم وعَمّاتُكم وخالاتُكم وبَناتُ الأخِ وبَناتُ الأُخْتِ﴾ فَأفْرَدَ بَناتِ الأخِ وبَناتِ الأُخْتِ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ اسْمَ الأخِ والأُخْتِ لا يَتَناوَلُهُنَّ كَما يَتَناوَلُ اسْمُ البَناتِ بَناتِ الأوْلادِ؛ فَهَؤُلاءِ السَّبْعُ المُحَرَّماتُ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ مِن جِهَةِ النَّسَبِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكم وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ وأُمَّهاتُ نِسائِكم ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكم وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكم وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ وقالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٢٢] فَهَؤُلاءِ، السَّبْعُ المُحَرَّماتُ مِن جِهَةِ الصِّهْرِ. وقَدْ عُقِلَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَناتُ الأخِ وبَناتُ الأُخْتِ﴾ مَن سَفُلَ مِنهُنَّ كَما عُقِلَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُمَّهاتُكُمْ﴾ مَن عَلا مِنهُنَّ؛ ومِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَناتُكُمْ﴾ مَن سَفُلَ مِنهُنَّ، وعُقِلَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَمّاتُكُمْ﴾ تَحْرِيمُ عَمّاتِ الأبِ والأُمِّ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخالاتُكُمْ﴾ عُقِلَ مِنهُ تَحْرِيمُ خالاتِ الأُمِّ والأبِ كَما عُقِلَ تَحْرِيمُ أُمَّهاتِ الأبِ وإنْ عَلَوْنَ.
وخَصَّ تَعالى العَمّاتِ والخالاتِ بِالتَّحْرِيمِ دُونَ أوْلادِهِنَّ، ولا خِلافَ في جَوازِ نِكاحِ بِنْتِ العَمَّةِ وبِنْتِ الخالَةِ
وقالَ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكم وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ السِّمَةَ إنَّما هي مُسْتَحَقَّةٌ بِالرَّضاعِ، أعْنِي سِمَةَ الأُمُومَةِ والأُخُوَّةِ؛ فَلَمّا عَلَّقَ هَذِهِ السِّمَةَ بِفِعْلِ الرَّضاعِ اقْتَضى ذَلِكَ اسْتِحْقاقَ اسْمِ الأُمُومَةِ والأُخُوَّةِ بِوُجُودِ الرَّضاعِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بِقَلِيلِ الرَّضاعِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ القائِلِ: وأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أعْطَيْنَكم وأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي كَسَوْنَكم، فَنَحْتاجُ إلى أنْ نُثْبِتَ أنَّها أُمٌّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتّى يَثْبُتَ الرَّضاعُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ: واَللّاتِي أرْضَعْنَكم أُمَّهاتُكم.
قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن قِبَلِ أنَّ الرَّضاعَ هو الَّذِي يُكْسِبُها سِمَةَ الأُمُومَةِ، فَلَمّا كانَ الِاسْمُ مُسْتَحَقًّا بِوُجُودِ الرَّضاعِ كانَ الحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، واسْمُ الرَّضاعِ في الشَّرْعِ واللُّغَةِ يَتَناوَلُ القَلِيلَ والكَثِيرَ، فَوَجَبَ أنْ تَصِيرَ أُمًّا بِوُجُودِ الرَّضاعِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾ ولَيْسَ كَذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتَ مِن قَوْلِ القائِلِ وأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي كَسَوْنَكم؛ لِأنَّ اسْمَ الأُمُومَةِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ (p-٦٦)بِوُجُودِ الكِسْوَةِ كَتَعَلُّقِهِ بِوُجُودِ الرَّضاعِ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنا إلى حُصُولِ الِاسْمِ والفِعْلِ المُتَعَلِّقِ بِهِ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ يَقْتَضِي ظاهِرُهُ كَوْنَها أُخْتًا بِوُجُودِ الرَّضاعِ؛ إذْ كانَ اسْمُ الأُخُوَّةِ مُسْتَفادًا بِوُجُودِ الرَّضاعِ لا بِمَعْنًى آخَرَ سِواهُ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ مَفْهُومُ الخِطابِ ومُقْتَضى القَوْلِ، ما رَواهُ عَبْدُ الوَهّابِ بْنُ عَطاءٍ عَنْ أبِي الرَّبِيعِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى ابْنِ عُمَرَ فَقالَ: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ والرَّضْعَتَيْنِ، فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: " قَضاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِن قَضاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ فَعَقَلَ ابْنُ عُمَرَ مِن ظاهِرِ اللَّفْظِ التَّحْرِيمَ بِقَلِيلِ الرَّضاعِ.
واخْتَلَفَ السَّلَفُ ومَن بَعْدَهم في التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضاعِ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ والحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وطاوُسٍ وإبْراهِيمَ والزُّهْرِيِّ والشَّعْبِيِّ: " قَلِيلُ الرَّضاعِ وكَثِيرُهُ يُحَرِّمُ في الحَوْلَيْنِ " وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ وزُفَرَ ومالِكٍ والثَّوْرِيِّ والأوْزاعِيِّ واللَّيْثِ قالَ اللَّيْثُ: " اجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ قَلِيلَ الرَّضاعِ وكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ في المَهْدِ ما يُفْطِرُ الصّائِمَ " . وقالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ والمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: " لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ ولا الرَّضْعَتانِ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضاعِ إلّا خَمْسُ رَضَعاتٍ مُتَفَرِّقاتٍ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ ذَكَرْنا في سُورَةِ البَقَرَةِ الكَلامَ في مُدَّةِ الرَّضاعِ والِاخْتِلافَ فِيها، وقَدْ قَدَّمْنا ذِكْرَ دَلالَةِ الآيَةِ عَلى إيجابِ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضاعِ، وغَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ إثْباتُ تَحْدِيدِ الرَّضاعِ المُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ إلّا بِما يُوجِبُ العِلْمَ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ مَنقُولَةٍ مِن طَرِيقِ التَّواتُرِ، ولا يَجُوزُ قَبُولُ أخْبارِ الآحادِ عِنْدَنا في تَخْصِيصِ حُكْمِ الآيَةِ المُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضاعِ؛ لِأنَّها آيَةٌ مُحْكَمَةٌ ظاهِرَةُ المَعْنى بَيِّنَةُ المُرادِ لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُها بِالِاتِّفاقِ، وما كانَ هَذا وصْفَهُ فَغَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الواحِدِ ولا بِالقِياسِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّما الرَّضاعَةُ مِنَ المَجاعَةِ» رَواهُ مَسْرُوقٌ عَنْ عائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ القَلِيلِ والكَثِيرِ، فَهو مَحْمُولٌ عَلَيْهِما جَمِيعًا.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن جِهَةِ التَّواتُرِ والِاسْتِفاضَةِ أنَّهُ قالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» رَواهُ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وعائِشَةُ وحَفْصَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وتَلَقّاهُ أهْلُ العِلْمِ بِالقَبُولِ والِاسْتِعْمالِ؛ فَلَمّا حَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ وكانَ مَعْلُومًا أنَّ النَّسَبَ مَتى ثَبَتَ مِن وجْهٍ أوْجَبَ التَّحْرِيمَ وإنْ لَمْ يَثْبُتْ مِن وجْهٍ آخَرَ، كَذَلِكَ الرَّضاعُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ هَذا حُكْمَهُ في إيجابِ (p-٦٧)التَّحْرِيمِ بِالرَّضْعَةِ الواحِدَةِ لِتَسْوِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَهُما فِيما عُلِّقَ بِهِما مِن حُكْمِ التَّحْرِيمِ واحْتَجَّ مَنِ اعْتَبَرَ خَمْسَ رَضَعاتٍ بِما رَوَتْ عائِشَةُ وابْنُ الزُّبَيْرِ وأُمُّ الفَضْلِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ ولا المَصَّتانِ» وبِما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ: " كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ، فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُوماتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهي فِيما يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذِهِ الأخْبارُ لا يَجُوزُ الِاعْتِراضُ بِها عَلى ظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكم وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ لِما بَيَّنّا أنَّ ما لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ مِن ظَواهِرِ القُرْآنِ وكانَ ظاهِرَ المَعْنى بَيِّنَ المُرادِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِأخْبارِ الآحادِ، فَهَذا أحَدُ الوُجُوهِ الَّتِي تُسْقِطُ الِاعْتِراضَ بِهَذا الخَبَرِ ووَجْهٌ آخَرُ وهو ما حَدَّثَ أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيِّ قالَ: حَدَّثَنا الحَضْرَمِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو خالِدٍ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ عَنْ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّضاعِ فَقُلْتُ: إنَّ النّاسَ يَقُولُونَ لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ ولا الرَّضْعَتانِ قالَ: " قَدْ كانَ ذاكَ، فَأمّا اليَوْمَ فالرَّضْعَةُ الواحِدَةُ تُحَرِّمُ " .
ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ شُجاعٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ سُلَيْمانَ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ طاوُسٍ قالَ: " اُشْتُرِطَتْ عَشْرُ رَضَعاتٍ ثُمَّ قِيلَ الرَّضْعَةُ الواحِدَةُ تُحَرِّمُ "؛ فَقَدْ عَرَفَ ابْنُ عَبّاسٍ وطاوُسٌ خَبَرَ العَدَدِ في الرَّضاعِ وأنَّهُ مَنسُوخٌ بِالتَّحْرِيمِ بِالرَّضْعَةِ الواحِدَةِ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ التَّحْدِيدُ كانَ مَشْرُوطًا في رَضاعِ الكَبِيرِ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في رَضاعِ الكَبِيرِ وهو مَنسُوخٌ عِنْدَ فُقَهاءِ الأمْصارِ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ تَحْدِيدُ الرَّضاعِ كانَ في رَضاعِ الكَبِيرِ، فَلَمّا نُسِخَ سَقَطَ التَّحْدِيدُ؛ إذْ كانَ مَشْرُوطًا فِيهِ. وأيْضًا يُلْزِمُ الشّافِعِيَّ إيجابَ التَّحْرِيمِ بِثَلاثِ رَضَعاتٍ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ: «لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ ولا الرَّضْعَتانِ» عَلى إيجابِ التَّحْرِيمِ فِيما زادَ عَلى أصْلِهِ في المَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ وأمّا حَدِيثُ عائِشَةَ فَغَيْرُ جائِزٍ اعْتِقادُ صِحَّتِهِ عَلى ما ورَدَ، وذَلِكَ لِأنَّها ذَكَرَتْ أنَّهُ كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ، وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تُوُفِّيَ وهو مِمّا يُتْلى؛ ولَيْسَ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يُجِيزُ نَسْخَ القُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَوْ كانَ ثابِتًا لَوَجَبَ أنْ تَكُونَ التِّلاوَةُ مَوْجُودَةً، فَإذا لَمْ تُوجَدْ بِهِ التِّلاوَةُ ولَمْ يَجُزِ النَّسْخُ بَعْدَ وفاةِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِن أحَدِ وجْهَيْنِ:
إمّا أنْ يَكُونَ الحَدِيثُ مَدْخُولًا في الأصْلِ غَيْرَ ثابِتِ الحُكْمِ، أوْ يَكُونَ إنْ كانَ ثابِتًا فَإنَّما نُسِخَ في حَياةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وما كانَ مَنسُوخًا فالعَمَلُ بِهِ ساقِطٌ. وجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كانَ تَحْدِيدًا لِرَضاعِ الكَبِيرِ، وقَدْ كانَتْ عائِشَةُ تَقُولُ بِهِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ في (p-٦٨)رَضاعِ الكَبِيرِ دُونَ سائِرِ أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنا وعِنْدَ الشّافِعِيِّ نَسْخُ رَضاعِ الكَبِيرِ، فَسَقَطَ حُكْمُ التَّحْدِيدِ المَذْكُورُ في حَدِيثِ عائِشَةَ هَذا. ومَعَ ذَلِكَ لَوْ خَلا مِن هَذِهِ المَعانِي الَّتِي ذَكَرْنا مِنَ الِاسْتِحالَةِ والِاحْتِمالِ لَما جازَ الِاعْتِراضُ بِهِ عَلى ظاهِرِ القُرْآنِ؛ إذْ هو مِن أخْبارِ الآحادِ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا مِن سُقُوطِ اعْتِبارِ التَّحْدِيدِ أنَّ الرَّضاعَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَأشْبَهَ الوَطْءَ المُوجِبَ لِتَحْرِيمِ الأُمِّ والبِنْتِ والعَقْدَ المُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ كَحَلائِلِ الأبْناءِ وما نَكَحَ الآباءُ، فَلَمّا كانَ القَلِيلُ مِن ذَلِكَ كَكَثِيرِهِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن حُكْمِ التَّحْرِيمِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الرَّضاعِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِهِ
* * *
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في لَبَنِ الفَحْلِ، وهو الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ المَرْأةَ فَتَلِدُ مِنهُ ولَدًا ويَنْزِلُ لَها لَبَنٌ بَعْدَ وِلادَتِها مِنهُ فَتُرْضِعُ بِهِ صَبِيّا؛ فَإنَّ مَن قالَ بِتَحْرِيمِ لَبَنِ الفَحْلِ يُحَرِّمُ هَذا الصَّبِيَّ عَلى أوْلادِ الرَّجُلِ وإنْ كانُوا مِن غَيْرِها، ومَن لا يَعْتَبِرُهُ لا يُوجِبُ تَحْرِيمًا بَيْنَهُ وبَيْنَ أوْلادِهِ مِن غَيْرِها. فَمِمَّنْ قالَ بِلَبَنِ الفَحْلِ ابْنُ عَبّاسٍ ورَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأتانِ أرْضَعَتْ هَذِهِ غُلامًا وهَذِهِ جارِيَةً، هَلْ يَصِحُّ لِلْغُلامِ أنْ يَتَزَوَّجَ الجارِيَةَ ؟ فَقالَ: " لا، اللِّقاحُ واحِدٌ "، وهو قَوْلُ القاسِمِ وسالِمٍ وعَطاءٍ وطاوُسٍ.
وذَكَرَ الخَفّافُ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قالَ: " كَرِهَهُ قَوْمٌ ولَمْ يَرَ بِهِ قَوْمٌ بَأْسًا، ومَن كَرِهَهُ كانَ أفْقَهَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا " وذَكَرَ عَبّادُ بْنُ مَنصُورٍ. قالَ: قُلْتُ لِلْقاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: امْرَأةُ أبِي أرْضَعَتْ جارِيَةً مِنَ النّاسِ بِلَبانِ إخْوَتِي مِن أبِي أتَحِلُّ لِي ؟ قالَ: " لا، أبُوكَ أبُوها " فَسَألْتُ طاوُسًا والحَسَنَ فَقالا مِثْلَ ذَلِكَ، وسَألْتُ مُجاهِدًا فَقالَ: " اخْتَلَفَ فِيهِ الفُقَهاءُ فَلَسْتُ أقُولُ فِيهِ شَيْئًا " وسَألْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقالَ مِثْلَ قَوْلِ مُجاهِدٍ وسَألْتُ يُوسُفَ بْنَ ماهِكَ فَذَكَرَ حَدِيثَ أبِي قُعَيْسٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: " لَبَنُ الفَحْلِ يُحَرِّمُ " . وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وإبْراهِيمُ النَّخْعِيُّ وأبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وعَطاءُ بْنُ يَسارٍ وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ: " إنَّ لَبَنَ الفَحْلِ لا يُحَرِّمُ شَيْئًا مِن قِبَلِ الرِّجالِ " ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ.
والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ وهِشامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ: «أنَّ أفْلَحَ أخا أبِي القُعَيْسِ جاءَ لِيَسْتَأْذِنَ عَلَيْها وهو عَمُّها مِنَ الرَّضاعَةِ بَعْدَ أنْ نَزَلَ الحِجابُ، قالَتْ فَأبَيْتُ أنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمّا جاءَ النَّبِيُّ ﷺ أخْبَرْتُهُ، قالَ: لِيَلِجْ عَلَيْكِ فَإنَّهُ عَمُّكِ قُلْتُ: إنَّما أرْضَعَتْنِي المَرْأةُ. ولَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ قالَ: لِيَلِجْ عَلَيْكِ فَإنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ» وكانَ أبُو (p-٦٩)القُعَيْسِ زَوْجَ المَرْأةِ الَّتِي أرْضَعَتْ عائِشَةَ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ اللَّبَنِ هو ماءُ الرَّجُلِ والمَرْأةِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ الحَمْلَ مِنهُما جَمِيعًا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الرَّضاعُ مِنهُما كَما كانَ الوَلَدُ مِنهُما وإنِ اخْتَلَفَ سَبَبُهُما.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رَوى مالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القاسِمِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ أنَّها كانَتْ تُدْخِلُ عَلَيْها مَن أرْضَعَتْهُ أخَواتُها وبَناتُ أخِيها ولا تُدْخِلُ عَلَيْها مَن أرْضَعَتْهُ نِساءُ إخْوَتِها. قِيلَ لَهُ: هَذا غَيْرُ مُخالِفٍ لِما ورَدَ في لَبَنِ الفَحْلِ؛ إذْ كانَ لَها أنْ تَأْذَنَ لِمَن شاءَتْ مِن مَحارِمِها وتَحْجُبَ مَن شاءَتْ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ البِنْتَ مُحَرَّمَةٌ عَلى الجَدِّ وإنْ لَمْ تَكُنْ مِن مائِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ سَبَبَ حُدُوثِ الأبِ الَّذِي هو مِن مائِهِ، كَذَلِكَ الرَّجُلُ لَمّا كانَ هو سَبَبَ نُزُولِ اللَّبَنِ مِنَ المَرْأةِ وجَبَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ وإنْ لَمْ يَكُنِ اللَّبَنُ مِنهُ؛ إذْ كانَ هو سَبَبَهُ كَما يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ مِن جِهَةِ الأُمِّ. والمَنصُوصُ عَلَيْهِ في التَّنْزِيلِ مِنَ الرَّضاعِ الأُمَّهاتُ والأخَواتُ مِنَ الرَّضاعَةِ، إلّا أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِالنَّقْلِ المُسْتَفِيضِ المُوجِبِ لِلْعِلْمِ أنَّهُ قالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى اسْتِعْمالِهِ؛ واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ أُمَّهاتِ النِّساءِ والرَّبائِبِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكم ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ ولَمْ تَخْتَلِفِ الأُمَّةُ أنَّ الرَّبائِبَ لا يَحْرُمْنَ بِالعَقْدِ عَلى الأُمِّ حَتّى يَدْخُلَ بِها أوْ يَكُونَ مِنهُ ما يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مِنَ اللَّمْسِ والنَّظَرِ عَلى ما بَيَّنّاهُ فِيما سَلَفَ، وهو نَصُّ التَّنْزِيلِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾
واخْتَلَفَ السَّلَفُ في أُمَّهاتِ النِّساءِ، هَلْ يَحْرُمْنَ بِالعَقْدِ دُونَ الدُّخُولِ ؟ فَرَوى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ خِلاسٍ أنَّ عَلِيًّا قالَ في رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِها: " فَلَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّها، وإنْ تَزَوَّجَ أُمَّها ثُمَّ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَزَوَّجُ بِنْتَها تَجْرِيانِ مَجْرًى واحِدًا "؛ وأهْلُ النَّقْلِ يُضَعِّفُونَ حَدِيثَ خِلاسٍ عَنْ عَلِيٍّ؛ ويُرْوى عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ وابْنِ الزُّبَيْرِ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِوايَتانِ: إحْداهُما ما يَرْوِيهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ الأجْدَعِ عَنْهُ: أنَّ أُمَّ المَرْأةِ لا تَحْرُمُ إلّا بِالدُّخُولِ، والأُخْرى ما يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: أنَّها تَحْرُمُ بِنَفْسِ العَقْدِ.
وقالَ عُمَرُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وعِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ ومَسْرُوقٌ وعَطاءٌ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ: " تَحْرُمُ بِالعَقْدِ دَخَلَ بِها أوْ لَمْ يَدْخُلْ " .
ورَوى أبُو أُسامَةَ عَنْ سُفْيانَ (p-٧٠)عَنْ أبِي فَرْوَةَ عَنْ أبِي عَمْرٍو الشَّيْبانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ أفْتى في امْرَأةٍ تَزَوَّجَها رَجُلٌ فَطَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها أوْ ماتَتْ قالَ: " لا بَأْسَ أنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّها " فَلَمّا أتى المَدِينَةَ رَجَعَ فَأفْتاهم فَنَهاهم وقَدْ ولَدَتْ أوْلادًا.
ورَوى إبْراهِيمُ عَنْ شُرَيْحٍ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كانَ يَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ ويُفْتِي بِهِ، يَعْنِي في أُمَّهاتِ النِّساءِ، فَحَجَّ فَلَقِيَ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذاكَرَهم ذَلِكَ فَكَرِهُوا. أنْ يَتَزَوَّجَها، فَلَمّا رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ نَهى مَن كانَ أفْتاهُ بِذَلِكَ، وكانُوا أحْياءً مِن بَنِي فَزارَةَ أفْتاهم بِذَلِكَ وقالَ: " إنِّي سَألْتُ أصْحابِي فَكَرِهُوا ذَلِكَ " .
ورَوى قَتادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أنَّ زَيْدَ بْنَ ثابِتٍ قالَ في رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَأرادَ أنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّها، قالَ: " إنْ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَزَوَّجُ أُمَّها، وإنْ ماتَتْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أُمَّها "، وأصْحابُ الحَدِيثِ يُضَعِّفُونَ حَدِيثَ قَتادَةَ هَذا عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ زَيْدٍ ويَقُولُونَ: إنَّ أكْثَرَ ما يَرْوِيهِ قَتادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ رِجالٌ، وإنَّ رِواياتِهِ عَنْ سَعِيدٍ مُخالِفَةٌ لِرِواياتِ أكْثَرِ أصْحابِ سَعِيدٍ الثِّقاتِ؛ وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: أحَبُّ إلَيَّ مِن قَتادَةَ عَنْ سَعِيدٍ. وقَدْ رَوى يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ خِلافَ رِوايَةِ قَتادَةَ. ويُقالُ إنَّ حَدِيثَ يَحْيى وإنْ كانَ مُرْسَلًا فَهو أقْوى مِن حَدِيثِ قَتادَةَ عَنْ سَعِيدٍ
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ طَرِيقَةُ أصْحابِ الحَدِيثِ، والفُقَهاءُ لا يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ في قَبُولِ الأخْبارِ ورَدِّها، وإنَّما ذَكَرْنا ذَلِكَ لِيُعْرَفَ بِهِ مَذْهَبُ القَوْمِ فِيهِ دُونَ اعْتِبارِهِ والعَمَلِ عَلَيْهِ؛ ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ إنَّما فَرَّقَ بَيْنَ المَوْتِ والطَّلاقِ في التَّحْرِيمِ؛ لِأنَّ الطَّلاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِن أحْكامِ الدُّخُولِ ألا تَرى أنَّهُ يَجِبُ في نِصْفِ المَهْرِ ولا تَجِبُ عَلَيْها العِدَّةُ ؟ وأمّا المَوْتُ فَلَمّا كانَ في حُكْمِ الدُّخُولِ في بابِ اسْتِحْقاقِ كَمالِ المَهْرِ ووُجُوبِ العِدَّةِ جَعَلَهُ كَذَلِكَ في حُكْمِ التَّحْرِيمِ.
والدَّلِيلُ عَلى أنَّ أُمَّهاتِ النِّساءِ يَحْرُمْنَ بِالعَقْدِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ هي مُبْهَمَةٌ عامَّةٌ كَقَوْلِهِ: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٢٢] فَغَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُهُ إلّا بِدَلالَةٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلى الرَّبائِبِ دُونَ أُمَّهاتِ النِّساءِ، وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ الجُمْلَتَيْنِ مُكْتَفِيَةٌ بِنَفْسِها في إيجابِ الحُكْمِ المَذْكُورِ فِيها، أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ وكُلُّ كَلامٍ اكْتَفى (p-٧١)بِنَفْسِهِ مِن غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِغَيْرِهِ ولا حَمْلِهِ عَلَيْهِ وجَبَ إجْراؤُهُ عَلى مُقْتَضى لَفْظِهِ دُونَ تَعْلِيقِهِ بِغَيْرِهِ، فَلَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ جُمْلَةً مُكْتَفِيَةً بِنَفْسِها يَقْتَضِي عُمُومُها تَحْرِيمَ أُمَّهاتِ النِّساءِ مَعَ وُجُودِ الدُّخُولِ وعَدَمِهِ، وكانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ جُمْلَةً قائِمَةً بِنَفْسِها عَلى ما فِيها مِن شَرْطِ الدُّخُولِ، لَمْ يَجُزْ لَنا بِناءُ إحْدى الجُمْلَتَيْنِ عَلى الأُخْرى بَلِ الواجِبُ إجْراءُ المُطْلَقِ مِنهُما عَلى إطْلاقِهِ والمُقَيَّدُ عَلى تَقْيِيدِهِ وشَرْطِهِ، إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ إحْداهُما مَبْنِيَّةٌ عَلى الأُخْرى مَحْمُولَةٌ عَلى شَرْطِها.
وأُخْرى: وهي أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ يَجْرِي هَذا الشَّرْطُ مَجْرى الِاسْتِثْناءِ، تَقْدِيرُهُ: ورَبائِبُكُمُ اللّاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكم إلّا اللّاتِي لَمْ تَدْخُلُوا بِهِنَّ؛ لِأنَّ فِيهِ إخْراجَ بَعْضِ ما انْتَظَمَهُ العُمُومُ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ في مَعْنى الِاسْتِثْناءِ وكانَ مِن حُكْمِ الِاسْتِثْناءِ عَوْدُهُ إلى ما يَلِيهِ إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى رُجُوعِهِ إلى ما تَقَدَّمَ، وجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلى الرَّبائِبِ ولَمْ يَجُزْ رَدُّهُ إلى ما تَقَدَّمَهُ إلّا بِدَلالَةٍ.
وأُخْرى: وهي أنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وهو لا مَحالَةَ مُسْتَعْمَلٌ في الرَّبائِبِ ورُجُوعُهُ إلى أُمَّهاتِ النِّساءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وغَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُ العُمُومِ بِالشَّكِّ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ عُمُومُ التَّحْرِيمِ في أُمَّهاتِ النِّساءِ مُقِرًّا عَلى بابِهِ.
وأُخْرى: وهي أنَّ إضْمارَ شَرْطِ الدُّخُولِ لا يَصِحُّ في أُمَّهاتِ النِّساءِ مُظْهَرًا؛ لِأنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ أنْ يُقالَ: وأُمَّهاتُ نِسائِكم مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ؛ لِأنَّ أُمَّهاتِ نِسائِنا لَسْنَ مِن نِسائِنا والرَّبائِبُ مِن نِسائِنا؛ لِأنَّ البِنْتَ مِنَ الأُمِّ ولَيْسَتِ الأُمُّ مِنَ البِنْتِ، فَلَمّا لَمْ يَسْتَقِمِ الكَلامُ بِإظْهارِ أُمَّهاتِ النِّساءِ في الشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ إضْمارُهُ فِيهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن نِسائِكُمُ﴾ إنَّما هو مِن وصْفِ الرَّبائِبِ دُونَ أُمَّهاتِ النِّساءِ وأيْضًا فَلَوْ جَعَلْنا قَوْلَهُ: ﴿مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ نَعْتًا لِأُمَّهاتِ النِّساءِ وجَعَلْنا تَقْدِيرَهُ: وأُمَّهاتُ نِسائِكم مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لَخَرَجَ الرَّبائِبُ مِنَ الحُكْمِ وصارَ حُكْمُ الشَّرْطِ في أُمَّهاتِ النِّساءِ دُونَهُنَّ، وذَلِكَ خِلافُ نَصِّ التَّنْزِيلِ، فَثَبَتَ أنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ مَقْصُورٌ عَلى الرَّبائِبِ دُونَ أُمَّهاتِ النِّساءِ.
وقَدْ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ الفَضْلِ قالَ: حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أيُّما رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأةً فَدَخَلَ بِها فَلا يَحِلُّ لَهُ نِكاحُ ابْنَتِها، (p-٧٢)وإنْ لَمْ يَدْخُلْ بِها فَلْيَنْكِحِ ابْنَتَها؛ وأيُّما رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأةً فَدَخَلَ بِها أوْ لَمْ يَدْخُلْ بِها فَلا يَحِلُّ لَهُ نِكاحُ أُمِّها» . وقَدْ حُكِيَ عَنِ السَّلَفِ اخْتِلافٌ في حُكْمِ الرَّبِيبَةِ، فَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي إبْراهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ رِفاعَةَ عَنْ مالِكِ بْنِ أوْسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ أنَّهُ قالَ في الرَّبِيبَةِ إذا لَمْ تَكُنْ في حِجْرِ الزَّوْجِ وكانَتْ في بَلَدٍ آخَرَ ثُمَّ فارَقَ الأُمَّ بَعْدَ الدُّخُولِ: " إنَّهُ جائِزٌ لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ الرَّبِيبَةَ " . ونَسَبَ عَبْدُ الرَّزّاقِ إبْراهِيمَ هَذا فَقالَ: إبْراهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ في غَيْرِ هَذا الحَدِيثِ، وهو مَجْهُولٌ لا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ مَقالَةٌ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ أهْلَ العِلْمِ رَدُّوهُ ولَمْ يَتَلَقَّهُ أحَدٌ مِنهم بِالقَبُولِ.
وقَدْ ذَكَرَ قَتادَةُ عَنْ خِلاسٍ عَنْ عَلِيٍّ أنَّ الرَّبِيبَةَ والأُمَّ تَجْرِيانِ مَجْرًى واحِدًا، وهو خِلافُ هَذا الحَدِيثِ؛ لِأنَّ الأُمَّ لا مَحالَةَ تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِالبِنْتِ وقَدْ جَعَلَ الرَّبِيبَةَ مِثْلَها، فاقْتَضى تَحْرِيمَ البِنْتِ بِالدُّخُولِ بِالأُمِّ سَواءٌ كانَتْ في حِجْرِهِ أوْ لَمْ تَكُنْ.
وذَكَرَ في حَدِيثِ إبْراهِيمَ هَذا أنَّ عَلِيًّا احْتَجَّ في ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ فَإذا لَمْ تَكُنْ في حِجْرِهِ لَمْ تَحْرُمْ. وحِكايَةُ هَذا الحِجاجِ يَدُلُّ عَلى وهْيِ الحَدِيثِ وضَعْفِهِ؛ لِأنَّ عَلِيًّا لا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ وذَلِكَ؛ لِأنّا قَدْ عَلِمْنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ورَبائِبُكُمُ﴾ لَمْ يَقْتَضِ أنْ تَكُونَ تَرْبِيَةُ زَوْجِ الأُمِّ لَها شَرْطًا في التَّحْرِيمِ، وأنَّهُ مَتى لَمْ يُرَبِّها لَمْ تَحْرُمْ، وإنَّما سُمِّيَتْ بِنْتُ المَرْأةِ رَبِيبَةً؛ لِأنَّ الأعَمَّ الأكْثَرَ أنَّ زَوْجَ الأُمِّ يُرَبِّيها؛ ثُمَّ مَعْلُومٌ أنَّ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلى هَذا المَعْنى لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ تَرْبِيَتِهِ إيّاها شَرْطًا في التَّحْرِيمِ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ كَلامٌ خَرَجَ عَلى الأعَمِّ الأكْثَرِ مِن كَوْنِ الرَّبِيبَةِ في حِجْرِ الزَّوْجِ؛ ولَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ شَرْطًا في التَّحْرِيمِ كَما أنَّ تَرْبِيَةَ الزَّوْجِ إيّاها لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، وهَذا كَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «فِي خَمْسٍ وعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ بِنْتُ مَخاضٍ وفي سِتٍّ وثَلاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» ولَيْسَ كَوْنُ المَخاضِ أوِ اللَّبَنِ بِالأُمِّ شَرْطًا في المَأْخُوذِ وإنَّما ذَكَرَهُ؛ لِأنَّ الأغْلَبَ أنَّها إذا دَخَلَتْ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ كانَ بِأُمِّها مَخاضٌ وإذا دَخَلَتْ في الثّالِثَةِ كانَ بِأُمِّها لَبَنٌ؛ فَإنَّما أجْرى الكَلامَ عَلى غالِبِ الحالِ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ عَلى هَذا الوَجْهِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ في تَحْرِيمِ مَن ذُكِرَ مِمَّنْ لا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، وأنَّ الأُمَّ والأُخْتَ مِنَ الرَّضاعَةِ مُحَرَّمَتانِ بِمِلْكِ اليَمِينِ كَما هُما بِالنِّكاحِ، وكَذَلِكَ أُمُّ المَرْأةِ وابْنَتُها إذا دَخَلَ بِالأُمِّ وأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُما مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا إذا وطِئَ الأُخْرى؛ وكَذَلِكَ لا خِلافَ أنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ الجَمْعُ بَيْنَ أُمٍّ وبِنْتٍ بِمِلْكِ اليَمِينِ.
ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وابْنِ (p-٧٣)عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ وعائِشَةَ ولا خِلافَ أيْضًا أنَّ الوَطْءَ بِمِلْكِ اليَمِينِ يُحَرِّمُ ما يُحَرِّمُهُ الوَطْءُ بِالنِّكاحِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ قالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: نَزَلَتْ في النَّبِيِّ ﷺ حِينَ تَزَوَّجَ امْرَأةَ زَيْدٍ ونَزَلَتْ: ﴿وما جَعَلَ أدْعِياءَكم أبْناءَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤] و ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٠] قالَ: وكانَ يُقالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: حَلِيلَةُ الِابْنِ هي زَوْجَتُهُ، ويُقالُ إنَّما سُمِّيَتْ حَلِيلَةً؛ لِأنَّها تَحُلُّ مَعَهُ في فِراشٍ، وقِيلَ: لِأنَّهُ يَحِلُّ لَهُ مِنها الجِماعُ بِعَقْدِ النِّكاحِ، والأمَةُ إنِ اسْتَباحَ فَرْجَها بِالمِلْكِ لا تُسَمّى حَلِيلَةً ولا تَحْرُمُ عَلى الأبِ ما لَمْ يَطَأْها، وعَقْدُ نِكاحِ الِابْنِ عَلَيْها يُحَرِّمُها عَلى أبِيهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الحَلِيلَةَ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ مِلْكِ اليَمِينِ. ولَمّا عُلِّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ ذِكْرِ الوَطْءِ اقْتَضى ذَلِكَ تَحْرِيمَهُنَّ بِالعَقْدِ دُونَ شَرْطِ الوَطْءِ؛ لِأنّا لَوْ شَرَطْنا الوَطْءَ لَكانَ فِيهِ زِيادَةٌ في النَّصِّ، ومِثْلُها يُوجِبُ النَّسْخَ؛ لِأنَّها تُبِيحُ ما حَظَرَتْهُ الآيَةُ، وهَذا لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ قَدْ تَناوَلَ عِنْدَ الجَمْعِ تَحْرِيمَ حَلِيلَةِ ولَدِ الوَلَدِ عَلى الجَدِّ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ ولَدَ الوَلَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أنَّهُ مِن صُلْبِ الجَدِّ؛ لِأنَّ إطْلاقَ الآيَةِ قَدِ اقْتَضاهُ عِنْدَ الجَمِيعِ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ ولَدَ الوَلَدِ مَنسُوبٌ إلى الجَدِّ بِالوِلادَةِ.
وهَذِهِ الآيَةُ في تَخْصِيصِها حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنَ الصُّلْبِ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنهُنَّ وطَرًا﴾ [الأحزاب: ٣٧] لِما تَضَمَّنَهُ مِن إباحَةِ تَزْوِيجِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِن جِهَةِ التَّبَنِّي. وقَوْلُهُ: ﴿فِي أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٧] يَدُلُّ عَلى أنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ هي زَوْجَتُهُ؛ لِأنَّهُ عَبَّرَ في هَذا المَوْضِعِ عَنْهُنَّ بِاسْمِ الأزْواجِ وفي الآيَةِ الأُولى بِذِكْرِ الحَلائِلِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اقْتَضى ذَلِكَ تَحْرِيمَ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ في سائِرِ الوُجُوهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ والجَمْعُ عَلى وُجُوهٍ:
مِنها أنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِما جَمِيعًا مَعًا فَلا يَصِحُّ نِكاحُ واحِدَةٍ مِنهُما؛ لِأنَّهُ جامِعٌ بَيْنَهُما، ولَيْسَتْ إحْداهُما بِأوْلى بِجَوازِ نِكاحِها مِنَ الأُخْرى، ولا يَجُوزُ تَصْحِيحُ نِكاحِهِما مَعَ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعالى الجَمْعَ بَيْنَهُما، وغَيْرُ جائِزٍ تَخْيِيرُ الزَّوْجِ في أنْ يَخْتارَ أيَّتَهُما شاءَ مِن قِبَلِ أنَّ العُقْدَةَ وقَعَتْ فاسِدَةً مِثْلَ النِّكاحِ في العِدَّةِ أوْ هي تَحْتَ زَوْجٍ، فَلا يَصِحُّ أبَدًا. ومِنَ الجَمْعِ أنْ يَتَزَوَّجَ إحْداهُما ثُمَّ يَتَزَوَّجَ الأُخْرى بَعْدَها، فَلا يَصِحُّ نِكاحُ الثّانِيَةِ؛ لِأنَّ الجَمْعَ بِها حَصَلَ وعَقْدُها وقَعَ مَنهِيًّا عَنْهُ وعَقْدُ الأُولى وقَعَ مُباحًا، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الثّانِيَةِ. (p-٧٤)ومِنَ الجَمْعِ أيْضًا أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ وطْئِهِما بِمِلْكِ اليَمِينِ، فَيَطَأ إحْداهُما ثُمَّ يَطَأ الأُخْرى قَبْلَ إخْراجِ المَوْطُوءَةِ الأُولى مِن مِلْكِهِ؛ فَهَذا ضَرْبٌ مِنَ الجَمْعِ، وقَدْ كانَ فِيهِ خِلافٌ بَيْنَ السَّلَفِ ثُمَّ زالَ وحَصَلَ الإجْماعُ عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَهُما بِمِلْكِ اليَمِينِ؛ ورُوِيَ عَنْ عُثْمانَ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُما أباحا ذَلِكَ وقالا: " أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ " وقالَ عُمَرُ وعَلِيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ والزُّبَيْرُ وابْنُ عُمَرَ وعَمّارٌ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: " لا يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَهُما بِمِلْكِ اليَمِينِ "، وقالَ الشَّعْبِيُّ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: " أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ " فَإذا أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ فالحَرامُ أوْلى.
ورَوى عَبْدُ الرَّحْمَنِ المُقْرِي قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ أيُّوبَ الغافِقِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي إياسُ بْنُ عامِرٍ قالَ: سَألْتُ عَلَيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ عَنِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ وقَدْ وطِئَ إحْداهُما هَلْ يَطَأُ الأُخْرى ؟ فَقالَ: " أعْتِقِ المَوْطُوءَةَ حَتّى يَطَأ الأُخْرى " وقالَ: " ما حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الحَرائِرِ شَيْئًا إلّا حَرَّمَ مِنَ الإماءِ مِثْلَهُ إلّا عَدَدَ الأرْبَعِ " ورُوِيَ عَنْ عَمّارٍ مِثْلُ ذَلِكَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: أحَلَّتْهُما آيَةٌ، يَعْنُونَ بِهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وقَوْلُهُ: " حَرَّمَتْهُما آيَةٌ " قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ فَرُوِيَ عَنْ عُثْمانَ الإباحَةُ. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ ذَكَرَ التَّحْرِيمَ والتَّحْلِيلَ وقالَ: " لا آمُرُ بِهِ ولا أنْهى عَنْهُ " .
وهَذا القَوْلُ مِنهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ ناظِرًا فِيهِ غَيْرَ قاطِعٍ بِالتَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ فِيهِ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ قالَ فِيهِ بِالإباحَةِ ثُمَّ وقَفَ فِيهِ، وقَطَعَ عَلِيٌّ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ مِن مَذْهَبِهِ أنَّ الحَظْرَ والإباحَةَ إذا اجْتَمَعا فالحَظْرُ أوْلى إذا تَساوى سَبَباهُما، وكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُما في الأخْبارِ المَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ومَذْهَبُ أصْحابِنا يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ قَوْلُهم، وقَدْ بَيَّنّاهُ في أُصُولِ الفِقْهِ وقَدْ رَوى إياسُ بْنُ عامِرٍ أنَّهُ قالَ لِعَلِيٍّ: إنَّهم يَقُولُونَ إنَّكَ تَقُولُ أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ ؟ فَقالَ: " كَذَبُوا " وهَذا يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ المُساواةِ في مُقْتَضى الآيَتَيْنِ وإبْطالَ مَذْهَبِ مَن يَقُولُ بِالوَقْفِ فِيهِ عَلى ما رُوِيَ عَنْ عُثْمانَ؛ لِأنَّهُ قالَ في رِوايَةِ الشَّعْبِيِّ: " أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ " والتَّحْرِيمُ أوْلى، وإنْكارُهُ أنْ يَكُونَ أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ إنَّما هو عَلى جِهَةِ أنَّ آيَتَيِ التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ غَيْرُ مُتَساوِيَتَيْنِ في مُقْتَضاهُما، وأنَّ التَّحْرِيمَ أوْلى مِنَ التَّحْلِيلِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ إطْلاقَ القَوْلِ بِأنَّهُ أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ هو قَوْلٌ مُنْكَرٌ لِاقْتِضاءِ حَقِيقَتِهِ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ واحِدٌ مُباحًا مَحْظُورًا في حالٍ واحِدَةٍ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنْكَرَ إطْلاقَ القَوْلِ بِأنَّهُ أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ مِن هَذا الوَجْهِ، وأنَّهُ إذا كانَ مُقَيَّدًا بِالقَطْعِ (p-٧٥)عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ كانَ سائِغًا جائِزًا عَلى ما رُوِيَ عَنْهُ في الخَبَرِ الآخَرِ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّحْرِيمَ أوْلى لَوْ تَساوَتِ الآيَتانِ في إيجابِ حُكْمَيْهِما أنَّ فِعْلَ المَحْظُورِ يَسْتَحِقُّ بِهِ العِقابَ وتَرْكَ المُباحِ لا يَسْتَحِقُّ بِهِ العِقابَ، والِاحْتِياطُ الِامْتِناعُ مِمّا لا يَأْمَنُ اسْتِحْقاقَ العِقابِ بِهِ، فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ واجِبَةٌ في حُكْمِ العَقْلِ. وأيْضًا فَإنَّ الآيَتَيْنِ غَيْرُ مُتَساوِيَتَيْنِ في إيجابِ التَّحْرِيمِ والتَّحْلِيلِ، وغَيْرُ جائِزٍ الِاعْتِراضُ بِإحْداهُما عَلى الأُخْرى؛ إذْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما وُرُودُها في سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الأُخْرى وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ وارِدٌ في حُكْمِ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ﴾ ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ وسائِرُ مَن ذُكِرَ في الآيَةِ تَحْرِيمُها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وارِدٌ في إباحَةِ المَسْبِيَّةِ الَّتِي لَها زَوْجٌ في دارِ الحَرْبِ؛ وأفادَ وُقُوعَ الفُرْقَةِ وقَطْعَ العِصْمَةِ فِيما بَيْنَهُما، فَهو مُسْتَعْمَلٌ فِيما ورَدَ فِيهِ مِن إيقاعِ الفُرْقَةِ بَيْنَ المَسْبِيَّةِ وبَيْنَ زَوْجِها وإباحَتِها لِمالِكِها، فَلا يَجُوزُ الِاعْتِراضُ بِهِ عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ؛ إذْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الآيَتَيْنِ وارِدَةٌ في سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الأُخْرى، فَيُسْتَعْمَلُ حُكْمُ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما في السَّبَبِ الَّذِي ورَدَتْ فِيهِ.
ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أنَّها لَمْ تَعْتَرِضْ عَلى حَلائِلِ الأبْناءِ وأُمَّهاتِ النِّساءِ وسائِرِ مَن ذُكِرَ تَحْرِيمُهُنَّ في الآيَةِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ وطْءُ حَلِيلَةِ الِابْنِ ولا أُمِّ المَرْأةِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، ولَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] مُوجِبًا لَتَخْصِيصِهِنَّ لَوُرُودِهِ في سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الآيَةِ الأُخْرى؛ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ في اعْتِراضِهِ عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ. وامْتِناعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ومَن تابَعَهُ في ذَلِكَ مِنَ الصَّحابَةِ مِنَ الِاعْتِراضِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ يَدُلُّ عَلى أنَّ حُكْمَ الآيَتَيْنِ إذا ورَدَتا في سَبَبَيْنِ: إحْداهُما في التَّحْلِيلِ والأُخْرى في التَّحْرِيمِ، أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُما تَجْرِي عَلى حُكْمِها في ذَلِكَ السَّبَبِ ولا يُعْتَرَضُ بِها عَلى الأُخْرى، وكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حُكْمُ الخَبَرَيْنِ إذا ورَدا عَنِ الرَّسُولِ ﷺ في مِثْلِ ذَلِكَ، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في أُصُولِ الفِقْهِ. وأيْضًا لا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ المُسْلِمِينَ في حَظْرِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إحْداهُما بِالنِّكاحِ والأُخْرى بِمِلْكِ اليَمِينِ، نَحْوَ أنْ تَكُونَ عِنْدَهُ امْرَأةٌ بِنِكاحٍ فَيَشْتَرِي أُخْتَها أنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ وطْؤُهُما جَمِيعًا؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَحْرِيمَ الجَمْعِ قَدِ انْتَظَمَ مِلْكَ اليَمِينِ كَما انْتَظَمَ النِّكاحَ، وعُمُومُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جَمْعِهِما عَلى سائِرِ الوُجُوهِ، وهو مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِ (p-٧٦)تَزْوِيجِ المَرْأةِ وأُخْتِها تَعْتَدُّ مِنهُ لِما فِيهِ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَهُما في اسْتِحْقاقِ نَسَبِ ولَدَيْهِما وفي إيجابِ النَّفَقَةِ المُسْتَحَقَّةِ بِالنِّكاحِ والسُّكْنى لَهُما، وذَلِكَ كُلُّهُ مِن ضُرُوبِ الجَمْعِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مُنْتَفِيًا بِتَحْرِيمِهِ الجَمْعَ بَيْنَهُما.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ مَقْصُورٌ عَلى النِّكاحِ دُونَ غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ، لِاتِّفاقِ فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَهُما بِمِلْكِ اليَمِينِ عَلى ما بَيَّنّاهُ؛ ولَيْسَ مِلْكُ اليَمِينِ بِنِكاحٍ، فَعَلِمْنا أنَّ تَحْرِيمَ الجَمْعِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلى النِّكاحِ. وأيْضًا فَإنَّ اقْتِصارَكَ بِالتَّحْرِيمِ عَلى النِّكاحِ دُونَ غَيْرِهِ مِن سائِرِ ضُرُوبِ الجَمْعِ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلالَةٍ، وذَلِكَ غَيْرُ سائِغٍ لِأحَدٍ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وفُقَهاءُ الأمْصارِ في ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسِ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ وعَبِيدَةَ السَّلْمانِيِّ وعَطاءٍ ومُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ومُجاهِدٍ في آخَرِينَ مِنَ التّابِعِينَ: " أنَّهُ لا يَتَزَوَّجُ المَرْأةَ في عِدَّةِ أُخْتِها، وكَذَلِكَ لا يَتَزَوَّجُ الخامِسَةَ وإحْدى الأرْبَعِ تَعْتَدُّ مِنهُ "، فَبَعْضُهم أطْلَقَ العِدَّةَ وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ وزُفَرَ والثَّوْرِيِّ والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ ورُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ والقاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وخِلاسٍ: " لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَها إذا كانَتْ عِدَّتُها مِن طَلاقٍ بائِنٍ " وهو قَوْلُ مالِكٍ والأوْزاعِيِّ واللَّيْثِ والشّافِعِيِّ واخْتُلِفَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ وعَطاءٍ، فَرُوِيَ عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنهم رِوايَتانِ، إحْداهُما أنَّهُ يَتَزَوَّجُها، والأُخْرى أنَّهُ لا يَتَزَوَّجُها؛ وقالَ قَتادَةُ: رَجَعَ الحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ أنَّهُ يَتَزَوَّجُها في عِدَّةِ أُخْتِها. وما قَدَّمْنا مِن دَلالَةِ الآيَةِ وعُمُومِها في تَحْرِيمِ الجَمْعِ كافٍ في إيجابِ التَّحْرِيمِ ما دامَتِ الأُخْتُ مُعْتَدَّةً مِنهُ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ وطْءِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، والمَعْنى فِيهِ أنَّ إباحَةَ الوَطْءِ حُكْمٌ مِن أحْكامِ النِّكاحِ وإنْ لَمْ يَكُنْ نِكاحٌ ولا عَقْدٌ، فَواجِبٌ عَلى ذَلِكَ تَحْرِيمُ الجَمْعِ بَيْنَهُما في حُكْمٍ مِن أحْكامِ النِّكاحِ، فَلَمّا كانَ اسْتِلْحاقُ النَّسَبِ ووُجُوبُ النَّفَقَةِ والسُّكْنى مِن أحْكامِ النِّكاحِ وجَبَ أنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الجَمْعِ بَيْنَهُما فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ جامِعًا بَيْنَهُما مَعَ ارْتِفاعِ الزَّوْجِيَّةِ وكَوْنِها أجْنَبِيَّةً مِنهُ، ولَوْ كانَ قَدْ طَلَّقَها ثَلاثًا ثُمَّ وطِئَها في العِدَّةِ وجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ ؟ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّها بِمَنزِلَةِ الأجْنَبِيَّةِ مِنهُ فَلا تَمْنَعُ تَزْوِيجَ أُخْتِها قِيلَ لَهُ: لا يَخْتَلِفانِ في وُجُوبِ الحَدِّ؛ لِأنَّهُ كَما يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْها بِوَطْئِهِ إيّاها، ومَعَ ذَلِكَ لا يَجُوزُ لَها أنْ تَتَزَوَّجَ وتَجْمَعَ إلى حُقُوقِ نِكاحِ الأوَّلِ زَوْجًا آخَرَ؛ ولَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الحَدِّ عَلَيْها بِمُطاوَعَتِها إيّاهُ عَلى الوَطْءِ مُبِيحًا لَها نِكاحَ زَوْجٍ آخَرَ، بَلْ كانَتْ في المَنعِ مِن زَوْجٍ ثانٍ بِمَنزِلَةِ مَن هي في حِيالِهِ، وكَذَلِكَ الزَّوْجُ لا يَجُوزُ (p-٧٧)لَهُ جَمْعُ أُخْتِها في هَذِهِ الحالِ مَعَ بَقاءِ حُقُوقِ النِّكاحِ وإنْ كانَ وطْؤُهُ إيّاها مُوجِبًا لِلْحَدِّ. ودَلِيلٌ آخَرُ، وهو أنَّهُ لَمّا كانَ تَحْرِيمُ نِكاحِ الأُخْتِ مِن طَرِيقِ الجَمْعِ، ووَجَدْنا تَحْرِيمَ نِكاحِ زَوْجٍ آخَرَ إذا كانَتْ عِنْدَ زَوْجٍ مِن طَرِيقِ الجَمْعِ، ثُمَّ وجَدْنا العِدَّةَ تَمْنَعُ مِنَ الجَمْعِ ما يَمْنَعُ نَفْسُ النِّكاحِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِن تَزْوِيجِ أُخْتِها في عِدَّتِها كَما مُنِعَ ذَلِكَ في حالِ بَقاءِ نِكاحِها؛ إذْ كانَتِ العِدَّةُ تَمْنَعُ مِنَ الجَمْعِ ما يَمْنَعُهُ نَفْسُ النِّكاحِ كَما جَرَتِ العِدَّةُ مَجْرى النِّكاحِ في بابِ مَنعِها مِن نِكاحِ زَوْجٍ آخَرَ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها.
فَإنْ قِيلَ: هَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ في العِدَّةِ إذا مَنَعْتَهُ مِن تَزْوِيجِ الأُخْتِ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ تَحْرِيمُ النِّكاحِ مَقْصُورًا عَلى العِدَّةِ حَتّى إذا مَنَعْناهُ مِن نِكاحِ أُخْتِها فَقَدْ جَعَلْناهُ في العِدَّةِ ألا تَرى أنَّهُ مَمْنُوعٌ مِن تَزَوُّجِ أُخْتِها إذا كانَتْ مُعْتَدَّةً مِنهُ مِن طَلاقٍ رَجْعِيٍّ ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ في العِدَّةِ ؟ وكَذَلِكَ قَبْلَ الطَّلاقِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مَمْنُوعٌ مِن عَقْدِ نِكاحٍ عَلى الأُخْتِ أوْ لِزَوْجٍ آخَرَ، ولَيْسَ واحِدٌ مِنهُما في العِدَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرْنا مَعْنى قَوْلِهِ: إلّا ما قَدْ سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] واخْتِلافَ المُخْتَلِفِينَ في تَأْوِيلِهِ واحْتِمالَهُ لِما قِيلَ فِيهِ. وقالَ تَعالى عِنْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢] وهو في هَذا المَوْضِعِ يَحْتَمِلُ مِنَ المَعانِي ما احْتَمَلَهُ الأوَّلُ؛ وفِيهِ احْتِمالٌ لِمَعْنًى آخَرَ لا يَحْتَمِلُهُ الأوَّلُ، وهو أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّ العُقُودَ المُتَقَدِّمَةَ عَلى الأُخْتَيْنِ لا تَنْفَسِخُ ويَكُونُ لَهُ أنْ يَخْتارَ إحْداهُما؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أبِي وهْبٍ الجَيَشانِيِّ عَنِ الضَّحّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أبِيهِ قالَ: «أسْلَمْتُ وعِنْدِي أُخْتانِ، فَأتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: طَلِّقْ إحْداهُما» وفي بَعْضِ الألْفاظِ: «طَلِّقْ أيَّتَهُما شِئْتَ»، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِمُفارَقَتِهِما إنْ كانَ العَقْدُ عَلَيْهِما مَعًا، ولَمْ يَأْمُرْهُ بِمُفارَقَةِ الآخِرَةِ مِنهُما إنْ كانَ تَزَوَّجَهُما في عَقْدَيْنِ، ولَمْ يَسْألْهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى بَقاءِ نِكاحِهِ عَلَيْهِما بِقَوْلِهِ: " طَلِّقْ أيَّتَهُما شِئْتَ " ودَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ العَقْدَ عَلَيْهِما كانَ صَحِيحًا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ وأنَّهم كانُوا مُقَرِّينَ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِن عُقُودِهِمْ قَبْلَ قِيامِ حُجَّةِ السَّمْعِ بِبُطْلانِها.
* * *
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في الكافِرِ يُسْلِمُ تَحْتَهُ أُخْتانِ أوْ خَمْسُ أجْنَبِيّاتٍ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ والثَّوْرِيُّ: " يَخْتارُ الأوائِلَ مِنهُنَّ إنْ كُنَّ خَمْسًا، وإنْ كانَتا أُخْتَيْنِ اخْتارَ الأُولى، وإنْ كانَ تَزَوَّجَهُنَّ في عُقْدَةٍ واحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُنَّ " . وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ ومالِكٌ واللَّيْثُ والأوْزاعِيِّ والشّافِعِيُّ: " يَخْتارُ مِنَ الخَمْسِ (p-٧٨)أرْبَعًا أيَّتَهُنَّ شاءَ ومِنَ الأُخْتَيْنِ أيَّتَهُما شاءَ " إلّا أنَّ الأوْزاعِيَّ رُوِيَ عَنْهُ في الأُخْتَيْنِ أنَّ الأُولى امْرَأتُهُ ويُفارِقُ الآخِرَةَ.
وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " يَخْتارُ الأرْبَعَ الأوائِلَ، فَإنْ لَمْ يَدْرِ أيَّتَهُنَّ الأُولى طَلَّقَ كُلَّ واحِدَةٍ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها ثُمَّ يَتَزَوَّجَ أرْبَعًا " .
والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ وذَلِكَ خِطابٌ لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ، فَكانَ عَقْدُ الكافِرِ عَلى الأُخْتَيْنِ بَعْدَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ كَعَقْدِ المُسْلِمِ في حُكْمِ الفَسادِ، فَوَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الآخِرَةِ لِوُقُوعِ عَقْدِها عَلى فَسادٍ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، كَما يُفَرَّقُ بَيْنَهُما لَوْ نَكَحَها بَعْدَ الإسْلامِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ والجَمْعُ واقِعٌ بِالثّانِيَةِ وإنْ كانَ تَزَوَّجَهُما في عُقْدَةٍ واحِدَةٍ فَهي فاسِدَةٌ فِيهِما جَمِيعًا لَوُقُوعِها مَنهِيًّا عَنْها بِظاهِرِ النَّصِّ.
فَدَلَّ ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ عَلى ما ذَكَرْنا:
أحَدُهُما: وُقُوعُ العُقْدَةِ مَنهِيًّا عَنْها، والنَّهْيُ عِنْدَنا يَقْتَضِي الفَسادَ.
والثّانِي: أنَّهُ مُنِعَ الجَمْعُ بَيْنَهُما بِحالٍ.
فَلَوْ أبْقَيْنا عَقْدَهُ عَلَيْهِما بَعْدَ الإسْلامِ كُنّا مُثْبِتِينَ لِما نَفاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الجَمْعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى بُطْلانِ العَقْدِ الَّذِي وقَعَ بِهِ الجَمْعُ. ومِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّهُ لَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَبْتَدِئَ المُسْلِمُ عَقْدًا عَلى أُخْتَيْنِ ولَمْ يَجُزْ أيْضًا أنْ يَبْقى لَهُ عَقْدٌ عَلى أُخْتَيْنِ وإنْ لَمْ تَكُونا أُخْتَيْنِ في حالِ العَقْدِ، كَمَن تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأرْضَعَتْهُما امْرَأةٌ فاسْتَوى حُكْمُ الِابْتِداءِ والبَقاءِ في نَفْيِ الجَمْعِ بَيْنَهُما، أشْبَهَ نِكاحَ ذَواتِ المَحارِمِ في اسْتِواءِ حالِ البَقاءِ والِابْتِداءِ فِيهِما. فَلَمّا لَمْ يَخْتَلِفِ العَقْدُ عَلى ذَواتِ المَحارِمِ في وُقُوعِهِ في حالِ الكُفْرِ وحالِ الإسْلامِ ووَجَبَ التَّفْرِيقُ مَتى طَرَأ عَلَيْهِ الإسْلامُ وكانَ بِمَنزِلَةِ ابْتِداءِ العَقْدِ بَعْدَ الإسْلامِ، وجَبَ مِثْلُهُ في نِكاحِ الأُخْتَيْنِ وأكْثَرَ مِن أرْبَعِ نِسْوَةٍ؛ وكَما لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ البَقاءِ والِابْتِداءِ فِيهِما كَما لَمْ يَخْتَلِفْ في ذَواتِ المَحارِمِ، وجَبَ الحُكْمُ بِفَسادِهِ بَعْدَ الإسْلامِ كَما قُلْنا في ذَواتِ المَحارِمِ.
واحْتَجَّ مَن خَيَّرَهُ بَعْدَ الإسْلامِ بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ الَّذِي قَدَّمْناهُ، وبِما رَوى ابْنُ أبِي لَيْلى عَنْ حُمَيْضَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ عَنِ الحارِثِ بْنِ قَيْسٍ قالَ: «أسْلَمْتُ وعِنْدِي ثَمانِ نِسْوَةٍ، فَأمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ أخْتارَ مِنهُنَّ أرْبَعًا» وبِما رَوى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أنَّ غَيْلانَ بْنَ سَلَمَةَ أسْلَمَ وعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: خُذْ مِنهُنَّ أرْبَعًا» .
فَأمّا حَدِيثُ فَيْرُوزَ فَإنَّ في لَفْظِهِ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ العَقْدِ وكانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ؛ لِأنَّهُ قالَ: " أيَّتَهُما شِئْتَ " وهَذا يَدُلُّ عَلى بَقاءِ العَقْدِ عَلَيْهِما بَعْدَ الإسْلامِ. وحَدِيثُ الحارِثِ بْنِ قَيْسٍ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ العَقْدُ كانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ، فَكانَ صَحِيحًا إلى أنْ طَرَأ التَّحْرِيمُ، فَلَزِمَهُ اخْتِيارُ الأرْبَعِ مِنهُنَّ ومُفارَقَةُ سائِرِهِنَّ، كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأتانِ فَطَلَّقَ إحْداهُما (p-٧٩)ثَلاثًا فَيُقالُ لَهُ: اخْتَرْ أيَّتَهُما شِئْتَ؛ لِأنَّ العَقْدَ كانَ صَحِيحًا إلى أنْ طَرَأ التَّحْرِيمُ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ لَسَألَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ وقْتِ العَقْدِ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فاكْتَفى بِعِلْمِهِ عَنْ مَسْألَتِهِ.
وأمّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ في قِصَّةِ غَيْلانَ فَإنَّهُ مِمّا لا يَشُكُّ أهْلُ النَّقْلِ فِيهِ أنَّ مَعْمَرًا أخْطَأ فِيهِ بِالبَصْرَةِ، وأنَّ أصْلَ هَذا الحَدِيثِ مَقْطُوعٌ مِن حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، رَواهُ مالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: بَلَغَنا «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِرَجُلٍ مِن ثَقِيفٍ أسْلَمَ وعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ: اخْتَرْ مِنهُنَّ أرْبَعًا»، ورَواهُ عُقَيْلُ بْنُ خالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهابٍ قالَ: بَلَغَنا عَنْ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي سُوَيْدٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِغَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ. وكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ فَيَجْعَلُهُ بَلاغًا عَنْ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي سُوَيْدٍ ويُقالُ: إنَّهُ إنَّما جاءَ الغَلَطُ مِن قِبَلِ أنَّ مَعْمَرًا كانَ عِنْدَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدِيثانِ في قِصَّةِ غَيْلانَ، أحَدُهُما هَذا وهو بَلاغٌ عَنْ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي سُوَيْدٍ، والآخَرُ حَدِيثُهُ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ أنَّ غَيْلانَ بْنَ سَلَمَةَ طَلَّقَ نِساءَهُ في زَمَنِ عُمَرَ وقَسَّمَ مالَهُ بَيْنَ ورَثَتِهِ فَقالَ لَهُ عُمَرُ: " لَئِنْ لَمْ تُراجِعْ نِساءَكَ ثُمَّ مِتَّ لَأُوَرِّثُهُنَّ ثُمَّ لَأرْجُمَنَّ قَبْرَكَ كَما رُجِمَ قَبْرُ أبِي رِغالٍ "، فَأخْطَأ مَعْمَرٌ وجَعَلَ إسْنادَ هَذا الحَدِيثِ لِحَدِيثِ إسْلامِهِ مَعَ النِّسْوَةِ. .
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِیۤ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَـٰعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُوا۟ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُوا۟ بَیۡنَ ٱلۡأُخۡتَیۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق