الباحث القرآني

ولَمّا ابْتَدَأ بِتَعْظِيمِ الآباءِ؛ واحْتِرامِهِمْ في أنْ يَنْكِحَ الأبْناءُ أزْواجَهم عَلى العُمُومِ؛ ثَنّى بِخُصُوصِ الأُمِّ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾؛ ولَمّا كانَ أعْظَمُ مَقْصُودٍ مِنَ النِّساءِ النِّكاحَ؛ فَكانَ إضافَةُ التَّحْرِيمِ إلى أعْيانِهِنَّ - إفادَةَ التَّأْكِيدِ - غَيْرَ قادِحٍ في فَهْمِهِ؛ وكانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ ما يَدُلُّ (p-٢٢٩)عَلى أنَّ المُرادَ النِّكاحُ؛ أسْنَدَ التَّحْرِيمَ إلى الذّاتِ؛ تَأْكِيدًا لِلتَّحْرِيمِ؛ فَقالَ: ﴿أُمَّهاتُكُمْ﴾؛ أيْ: التَّمَتُّعُ بِهِنَّ؛ بِنِكاحٍ؛ أوْ مِلْكِ يَمِينٍ؛ فَكانَ تَحْرِيمُها مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ؛ تَأْكِيدًا لَهُ؛ وتَغْلِيظًا لِأمْرِهِ في نَفْسِهِ؛ واحْتِرامًا لِلْأبِ؛ وتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ؛ ﴿وبَناتُكُمْ﴾؛ أيْ: وإنْ سَفَلْنَ؛ لِما في ذَلِكَ مِن ضِرارِ أُمَّهاتِهِنَّ؛ وهَذانِ الصِّنْفانِ لَمْ يُحَلَّلْنَ في دِينٍ مِنَ الأدْيانِ؛ ﴿وأخَواتُكُمْ﴾؛ أيْ: أشِقّاءَ؛ أوْ لا؛ ﴿وعَمّاتُكُمْ﴾؛ كَذَلِكَ؛ ﴿وخالاتُكُمْ﴾؛ أيْضًا؛ والضّابِطُ لَهُما أنَّ كُلَّ ذَكَرٍ رَجَعَ نَسَبُكَ إلَيْهِ فَأُخْتُهُ عَمَّتُكَ؛ وقَدْ تَكُونُ مِن جِهَةِ الأُمِّ؛ وهي أُخْتُ أبِي أُمِّكَ؛ وكُلُّ أُنْثى رَجَعَ نَسَبُكَ إلَيْها بِالوِلادَةِ؛ فَأُخْتُها خالَتُكَ؛ وقَدْ تَكُونُ الخالَةُ مِن جِهَةِ الأبِ؛ وهي أُخْتُ أمِّ أبِيكَ؛﴿وبَناتُ الأخِ﴾؛ شَقِيقًا كانَ؛ أوْ لا؛ ﴿وبَناتُ الأُخْتِ﴾؛ أيْ: كَذَلِكَ؛ وفُرُوعُهُنَّ؛ وإنْ سَفَلْنَ. ولَمّا انْقَضى أمْرُ النَّسَبِ؛ وهو سَبْعَةُ أصْنافٍ؛ أتْبَعَهُ أمْرَ السَّبَبِ؛ وهو ثَمانِيَةٌ؛ أوَّلُهُ أزْواجُ الآباءِ؛ أفْرَدَها؛ وقَدَّمَها تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِها؛ لَمّا كانُوا اسْتَهانُوا مِن ذَلِكَ؛ وآخِرُهُ المُحْصَناتُ؛ وبَدَأ مِن هَذا القِسْمِ بِالأُمِّ مِنَ الرَّضاعِ؛ كَما بَدَأ النَّسَبَ بِالأُمِّ؛ فَقالَ: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾؛ تَنْزِيلًا لَهُ مَنزِلَةَ النَّسَبِ؛ ولِذَلِكَ سَمّاها أُمًّا؛ فَكُلُّ أُنْثى انْتَسَبْتَ بِاللَّبَنِ (p-٢٣٠)إلَيْها فَهي أُمُّكَ؛ وهي مَن أرْضَعَتْكَ؛ أوْ أرْضَعَتِ امْرَأةً أرْضَعَتْكَ؛ أوْ رَجُلًا أرْضَعَكَ بِلَبانِهِ مِن زَوْجَتِهِ؛ أوْ أُمِّ ولَدِهِ؛ وكُلُّ امْرَأةٍ ولَدَتِ امْرَأةً أرْضَعَتْكَ؛ أوْ رَجُلًا أرْضَعَكَ؛ فَهي أُمُّكَ مِنَ الرَّضاعَةِ؛ والمُراضَعَةُ أُخْتُكَ؛ وزَوْجُ المُرْضِعَةِ الَّذِي أرْضَعَتْ هي بِلَبانِهِ أبُوكَ؛ وأبَواهُ جَدّاكَ؛ وأُخْتُهُ عَمَّتُكَ؛ وكُلُّ ولَدٍ وُلِدَ لَهُ مِن غَيْرِ المُرْضِعَةِ قَبْلَ الرَّضاعِ وبَعْدَهُ إخْوَةُ الأبِ؛ وأُمُّ المُرْضِعَةِ جَدَّتُكَ؛ وأُخْتُها خالَتُكَ؛ وكُلُّ مَن وُلِدَ لَها مِن هَذا الزَّوْجِ إخْوَةٌ لِأبٍ وأُمٍّ؛ ومَن وُلِدَ لَها مِن غَيْرِهِ فَهم إخْوَتُهُ وأخَواتُهُ لِأُمٍّ؛ فَعَلى ذَلِكَ يَنْزِلُ قَوْلُهُ: ﴿وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ كَما في النَّسَبِ؛ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ خَمْسَ رَضْعاتٍ؛ وفي الحَوْلَيْنِ؛ وبِتَسْمِيَةِ المُرْضِعَةِ أُمًّا؛ والمُشارِكَةِ في الرِّضاعِ أُخْتًا عُلِمَ أنَّ الرَّضاعَ كالنَّسَبِ؛ كَما بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: «”يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ“؛» فالصُّورَتانِ مُنَبِّهَتانِ عَلى بَقِيَّةِ السَّبْعِ؛ الأُمُّ مُنَبِّهَةٌ عَلى البِنْتِ؛ بِجامِعِ الوِلادَةِ؛ والأخَواتُ عَلى العَمّاتِ؛ والخالاتِ؛ وبَناتِ الأخِ؛ وبَناتِ الأُخْتِ؛ بِجامِعِ الأُخُوَّةِ. ولَمّا انْقَضى ما هو كَلُحْمَةِ النَّسَبِ أتْبَعَهُ أمْرَ ما بِالمُصاهَرَةِ؛ فَقالَ: (p-٢٣١)﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾؛ أيْ: دَخَلْتُمْ بِهِنَّ؛ أوْ لا؛ - لِما في ذَلِكَ مِن إفْسادِ ذاتِ البَيْنِ غالِبًا؛ ﴿ورَبائِبُكُمُ﴾؛ وذَكَرَ سَبَبَ الحُرْمَةِ فَقالَ: ﴿اللاتِي في حُجُورِكُمْ﴾؛ أيْ: بِالفِعْلِ؛ أوْ بِالقُوَّةِ - لِما فِيهِنَّ مِن شُبَهِ الأوْلادِ - ﴿مِن نِسائِكُمُ﴾؛ ولَمّا كانَتِ الإضافَةُ تُسَوِّغُ في اللُّغَةِ بِأدْنى مُلابَسَةٍ؛ بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الجِماعِ؛ الَّذِي كَنّى عَنْهُ بِالدُّخُولِ؛ لِأنَّهُ مُمَكِّنٌ لِحُكْمِ الأزْواجِ؛ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ أوْلادُها كَأوْلادِهِ؛ فَقالَ: ﴿اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾؛ قَيَّدَ بِالدُّخُولِ؛ لِأنَّ غَيْرَةَ الأُمِّ مِنَ ابْنَتِها دُونَ غَيْرَةِ البِنْتِ مِن أُمِّها. ولَمّا أشْعَرَ هَذا القَيْدُ بِحِلِّ بِنْتِ مَن عُقِدِ عَلَيْها؛ ولَمْ يُدْخَلْ بِها؛ أفْصَحَ بِهِ؛ تَنْبِيهًا عَلى عَظِيمِ حُرْمَةِ الإرْضاعِ؛ فَقالَ: ﴿فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾؛ أيْ: الأُمَّهاتِ؛ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أيْ: في نِكاحِهِنَّ؛ ولَمّا افْتَتَحَ المُحَرَّماتِ عَلى التَّأْبِيدِ بِزَوْجَةِ الأبِ؛ خَتَمَها بِزَوْجَةِ الوَلَدِ؛ فَقالَ: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ﴾؛ أيْ: زَوْجَةً كانَتْ أوْ مَوْطُوءَةً بِمِلْكِ يَمِينٍ؛ ولَمّا لَمْ يَكُنِ المُتَبَنّى مُرادًا؛ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾؛ أيْ: وإنْ سَفَلُوا؛ ودَخَلَ ما بِالرَّضاعِ؛ لِأنَّهُ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ؛ فَلَمْ يُخْرِجْهُ القَيْدُ. ولَمّا انْقَضى التَّحْرِيمُ المُؤَبَّدُ؛ أتْبَعَهُ المُوَقَّتَ؛ فَقالَ: ﴿وأنْ﴾؛ أيْ: وحَرَّمَ عَلَيْكم أنْ ﴿تَجْمَعُوا﴾؛ بِعَقْدِ نِكاحٍ؛ لِأنَّ مَقْصُودَهُ الوَطْءُ؛ (p-٢٣٢)أوْ بِوَطْءٍ في مِلْكِ يَمِينٍ؛ ﴿بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾؛ فَإنْ كانَتْ إحْداهُما مَنكُوحَةً؛ والأُخْرى مَمْلُوكَةً؛ حَلَّتِ المَنكُوحَةُ وحُرِّمَتِ المَمْلُوكَةُ؛ ما دامَ الحِلُّ؛ لِأنَّ النِّكاحَ أقْوى؛ فَإذا زالَ الحِلُّ حَلَّتِ الأُخْرى؛ ولَوْ في عِدَّةِ الَّتِي كانَتْ حَلالًا. ولَمّا كانَ الجَمْعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ شَرْعًا قَدِيمًا قالَ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾؛ أيْ: فَإنَّهُ لا إثْمَ عَلَيْكم فِيهِ؛ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لَكُمْ؛ ثُمَّ عَلَّلَ رَفْعَ حَرَجِهِ؛ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المُحِيطَ بِصِفاتِ الكَمالِ؛ ﴿كانَ غَفُورًا﴾؛ أيْ: ساتِرًا لِما يُرِيدُ مِن أعْيانِ الزَّلَلِ؛ وآثارِهِ؛ ﴿رَحِيمًا﴾؛ أيْ: مُعامِلًا بِغايَةِ الإكْرامِ الَّذِي تَرْضاهُ الإلَهِيَّةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب