الباحث القرآني
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم وبَناتُكم وأخَواتُكم وعَمّاتُكم وخالاتُكم وبَناتُ الأخِ وبَناتُ الأُخْتِ﴾ لَيْسَ المُرادُ تَحْرِيمَ ذاتِهِنَّ لِأنَّ الحُرْمَةَ وأخَواتِها إنَّما تَتَعَلَّقُ بِأفْعالِ المُكَلَّفِينَ، فالكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ بِدَلالَةِ العَقْلِ، والمُرادُ تَحْرِيمُ نِكاحِهِنَّ لِأنَّهُ مُعْظَمُ ما يُقْصَدُ مِنهُنَّ ولِأنَّهُ المُتَبادَرُ إلى الفَهْمِ ولِأنَّ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ في النِّكاحِ، ولَوْ لَمْ يَكُنِ المُرادُ هَذا كَأنْ تَخَلَّلَ أجْنَبِيٌّ بَيْنَهُما مِن غَيْرِ نُكْتَةٍ فَلا إجْمالَ في الآيَةِ خِلافًا لِلْكَرْخِيِّ، والجُمْلَةُ إنْشائِيَّةٌ ولَيْسَ المَقْصُودُ مِنها الإخْبارَ عَنِ التَّحْرِيمِ في الزَّمانِ الماضِي؛ وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: لا مانِعَ مِن كَوْنِها إخْبارِيَّةً والفِعْلُ الماضِي فِيها مِثْلُهُ في التَّعارِيفِ نَحْوَ الِاسْمِ ما دَلَّ عَلى مَعْنًى في نَفْسِهِ ولَمْ يَقْتَرِنْ بِأحَدِ الأزْمِنَةِ، والفِعْلُ ما دَلَّ واقْتَرَنَ، فَإنَّهم صَرَّحُوا أنَّ الجُمْلَةَ الماضَوِيَّةَ هُناكَ خَبَرِيَّةٌ وإلّا لَما صَحَّ كَوْنُها صِلَةَ المَوْصُولِ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مِنَ الفِعْلِ فِيها الدَّلالَةَ عَلى الزَّمانِ الماضِي فَقَطْ، وإلّا لَلَزِمَ أنْ يَكُونَ حالُ المُعَرَّفِ في الزَّمانِ الحالَ والمُسْتَقْبَلَ لَيْسَ ذَلِكَ الحالَ، وبَنى الفِعْلَ لِما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ لِأنَّهُ لا يُشْتَبَهُ أنَّ المُحَرَّمَ هو اللَّهُ تَعالى.
و﴿أُمَّهاتُكُمْ﴾ تَعُمُّ الجَدّاتِ كَيْفَ كُنَّ إذِ الأُمُّ هي الأصْلُ في الأصْلِ كَأُمِّ الكِتابِ وأُمِّ القُرى فَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الجَدّاتِ بِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ وحَقِيقَتِهِ لِأنَّ الأُمَّ عَلى هَذا مِن قَبِيلِ المُشَكِّكِ، وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ إطْلاقَ الأُمِّ عَلى الجَدَّةِ مَجازٌ، وأنَّ إثْباتَ حُرْمَةِ الجَدّاتِ بِالإجْماعِ، والتَّحْقِيقُ أنَّ الأُمَّ مُرادٌ بِهِ الأصْلُ عَلى كُلِّ حالٍ لِأنَّهُ إنِ اسْتُعْمِلَ فِيهِ حَقِيقَةً فَظاهِرٌ، وإلّا فَيَجِبُ أنْ يُحْكُمَ بِإرادَتِهِ مَجازًا فَتَدْخُلُ الجَدّاتُ في عُمُومِ المَجازِ والمُعَرِّفُ لِإرادَةِ ذَلِكَ في النَّصِّ الإجْماعُ عَلى حُرْمَتِهِنَّ.
(p-250)/ والمُرادُ بِالبَناتِ مَن ولَدَتْها أوْ ولَدَتْ مَن ولَدَها؛ وتَسْمِيَةُ الثّانِيَةِ بِنْتًا حَقِيقَةً بِاعْتِبارِ أنَّ البِنْتَ يُرادُ بِهِ الفَرْعُ كَما قِيلَ بِهِ فَيَتَناوَلُها النَّصُّ حَقِيقَةً أوْ مَجازًا عِنْدَ البَعْضِ، أوْ عِنْدَ الكُلِّ، ومَن مَنَعَ إطْلاقَ البِنْتِ عَلى الفَرْعِ مُطْلَقًا قالَ: إنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ بَناتِ الأوْلادِ بِالإجْماعِ، وقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلى تَحْرِيمِ الجَدّاتِ وبَناتِ الأوْلادِ بِدَلالَةِ النَّصِّ المُحَرِّمِ لِلْعَمّاتِ والخالاتِ وبَناتِ الأخِ والأُخْتِ، فَفي الأوَّلِ: لِأنَّ الأشِقّاءَ مِنهُنَّ أوْلادُ الجَدّاتِ فَتَحْرِيمُ الجَدّاتِ وهُنَّ أقْرَبُ أوْلى، وفي الثّانِي: لِأنَّ بَناتَ الأوْلادِ أقْرَبُ مِن بَناتِ الإخْوَةِ، ثُمَّ ظاهِرُ النَّصِّ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُحَرَّمُ لِلرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنَ الزِّنا لِأنَّها بِنْتُهُ، والخِطابُ إنَّما هو بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ ما لَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ كَلَفْظِ الصَّلاةِ ونَحْوِهِ فَيَصِيرُ مَنقُولًا شَرْعِيًّا، وفي ذَلِكَ خِلافُ الإمامِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقَدْ قالَ: إنَّ المَخْلُوقَةَ مِن ماءِ الزِّنا تَحِلُّ لِلزّانِي لِأنَّها أجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ إذْ لا يَثْبُتُ لَها تَوارُثٌ ولا غَيْرُهُ مِن أحْكامِ النِّسَبِ، ولِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««الوَلَدُ لِلْفِراشِ»» وهو يَقْتَضِي حَصْرَ النَّسَبِ في الفِراشِ.
وقالَ بَعْضُ الشّافِعِيَّةِ: تَحْرُمُ إنْ أخْبَرَهُ نَبِيٌّ كَعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وقْتَ نُزُولِهِ بِأنَّها مِن مائِهِ، ورُدَّ عَلَيْهِ بِأنَّ الشّارِعَ قَطَعَ نَسَبَها عَنْهُ كَما تَقَرَّرَ فَلا نَظَرَ لِكَوْنِها مِن ماءِ سِفاحِهِ، واعْتَرَضُوا عَلى القائِلِينَ بِالحُرْمَةِ بِأنَّهم إمّا أنْ يُثْبِتُوا كَوْنَها بِنْتًا لَهُ بِناءً عَلى الحَقِيقَةِ لِكَوْنِها مَخْلُوقَةً مِن مائِهِ، أوْ بِناءً عَلى حُكْمِ الشَّرْعِ، والأوَّلُ: باطِلٌ عَلى مَذْهَبِهِمْ طَرْدًا وعَكْسًا، أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّهُ لَوِ اشْتَرى بِكْرًا وافْتَضَّها وحَبَسَها إلى أنْ تَلِدَ فَهَذا الوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِن مائِهِ بِلا شُبْهَةٍ مَعَ أنَّهُ لا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلّا عِنْدَ الِاسْتِلْحاقِ، وأمّا الثّانِي: فَلِأنَّ المَشْرِقِيَّ لَوْ تَزَوَّجَ مَغْرِبِيَّةً وحَصَلَ هُناكَ ولَدٌ مِنها مَعَ عَدَمِ اجْتِماعِها مَعَ زَوْجِها وحَيْلُولَةِ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ بَيْنَهُما فَإنَّهُ يُثْبِتُ النَّسَبَ مَعَ القَطْعِ بِأنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِن مائِهِ، والثّانِي: باطِلٌ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّهُ لا نَسَبَ لِوَلَدِ الزِّنا مِنَ الزّانِي ولَوِ انْتَسَبَ إلَيْهِ وجَبَ عَلى القاضِي مَنعُهُ، وأُجِيبُ بِاخْتِيارِ الشِّقِّ الأوَّلِ إذْ لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ اللِّسانِ في أنَّ المَخْلُوقَةَ مِن ماءِ إنْسانٍ بِنْتُهُ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ الماءُ ماءَ حَلالٍ أوْ سِفاحٍ والجُزْئِيَّةُ ثابِتَةٌ في الصُّورَتَيْنِ، والظّاهِرُ أنَّها هي مَبْدَأُ حُرْمَةِ النِّكاحِ، ألا تَرى كَيْفَ حُرِّمَ عَلى المَرْأةِ ولَدُها مِنَ الزِّنا إجْماعًا، والتَّفْرِقَةُ بَيْنَ المَسْألَتَيْنِ بِأنَّ الوَلَدَ في المَسْألَةِ الثّانِيَةِ بَعْضُها، وانْفَصَلَ مِنها إنْسانًا، ولا كَذَلِكَ البِنْتُ في المَسْألَةِ الأُولى لِأنَّها انْفَصَلَتْ مِنهُ مَنِيًّا لا تُفِيدُ سِوى أنَّ البَعْضِيَّةَ في المَسْألَةِ الثّانِيَةِ أظَهَرُ، وأمّا إنَّها تَنْفِي البَعْضِيَّةَ في المَسْألَةِ الأُولى فَلا لِأنَّهم يُطْلِقُونَ البُضْعَةَ وهي تَقْتَضِي البَعْضِيَّةَ عَلى الوَلَدِ المُنْفَصِلِ مَنِيًّا مِن أبِيهِ، فَيَقُولُونَ: فُلانٌ بُضْعَةٌ وفُلانَةٌ بُضْعَةٌ مِن فُلانٍ، وإنْكارُ وُجُودِ الجُزْئِيَّةِ في المَسْألَتَيْنِ مُكابَرَةٌ، وعَدَمُ ثُبُوتِ التَّوارُثِ مَثَلًا بَيْنَ المَخْلُوقَةِ مِن ماءِ الزِّنا وصاحِبِ الماءِ لَيْسَ لِعَدَمِ الجُزْئِيَّةِ وكَوْنِها لَيْسَتْ بِنْتَهُ حَقِيقَةً بَلْ لِلْإجْماعِ عَلى ذَلِكَ، ولَوْلاهُ لَوَرِثَتْ كَما يَرِثُ ولَدُ الزِّنا أُمَّهُ. وما ذُكِرَ في بَيانِ إبْطالِ الطَّرْدِ مِن أنَّهُ لَوِ اشْتَرى بِكْرًا فافْتَضَّها وحَبَسَها فَوُلِدَتْ فالوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِن مائِهِ قَطْعًا مَعَ أنَّهُ لا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلّا بِالِاسْتِلْحاقِ أخَذَهُ مِن قَوْلِ الفُقَهاءِ في الأُمَّةِ إذا وُلِدَتْ عِنْدَ المَوْلى أنَّهُ لا يَثْبُتُ نَسَبُ ولَدِها مِنهُ إلّا أنْ يَعْتَرِفَ بِهِ، ولا يَكْفِيَ أنَّهُ وطَأها فَوَلَدَتْ، لَكِنْ في «الهِدايَةِ» وغَيْرِها إنَّ هَذا حُكْمٌ، فَأمّا الدِّيانَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى فالمُرْوى عَنْ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ إنْ كانَ حِينَ وطِئَها لَمْ يُعْزَلْ عَنْها وحَصَنَها عَنْ مَظانِّ رِيبَةِ الزِّنا يَلْزَمُهُ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى أنَّ يَدَّعِيَهُ بِالإجْماعِ لِأنَّ الظّاهِرَ والحالَ هَذِهِ كَوْنُهُ مِنهُ، والعَمَلُ بِالظّاهِرِ واجِبٌ، وإنْ كانَ عَزَلَ عَنْها حَصَنَها أوَّلًا أوْ لَمْ يَعْزِلْ.
ولَكِنْ لَمْ يُحْصِنْها فَتَرَكَها تَدْخُلُ وتَخْرُجُ بِلا رَقِيبٍ مَأْمُونٍ جازَ لَهُ أنْ يَنْفِيَهُ لِأنَّ هَذا الظّاهِرَ وهو كَوْنُهُ مِنهُ بِسَبَبِ أنَّ الظّاهِرَ عَدَمُ زِنا المُسْلِمَةِ يُعارِضُهُ ظاهِرٌ آخَرُ وهو كَوْنُهُ مِن غَيْرِهِ لِوُجُودِ أحَدِ (p-251)الدَّلِيلَيْنِ عَلى ذَلِكَ، وهُما العَزْلُ أوْ عَدَمُ التَّحْصِينِ، وفِيهِ رِوايَتانِ أُخْرَيانِ عَنْ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ ذَكَرَهُما في «المَبْسُوطِ» فَقالَ: وعَنْ أبِي يُوسُفَ إذا وطِئَها ولَمْ يَسْتَبْرِئَها بَعْدَ ذَلِكَ حَتّى جاءَتْ بِوَلَدٍ فَعَلَيْهِ أنْ يَدَّعِيَهُ سَواءٌ عَزَلَ عَنْها أوْ لَمْ يَعْزِلْ حَصَنَها أوْ لَمْ يُحْصِنْها تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِها وحَمْلًا لِأمْرِها عَلى الصَّلاحِ ما لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلافُهُ، وهَذا كَمَذْهَبِ الجُمْهُورِ لِأنَّ ما ظَهَرَ بِسَبَبِهِ يَكُونُ حالًا بِهِ عَلَيْهِ حَتّى يَتَبَيَّنَ خِلافُهُ وعَنْ مُحَمَّدٍ لا يَنْبَغِي أنْ يَدَّعِيَ ولَدَها إذا لَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ مِنهُ ولَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يُعْتِقَ الوَلَدَ، وفي «الإيضاحِ» ذِكْرُهُما بِلَفْظِ الِاسْتِحْبابِ، فَقالَ: قالَ أبُو يُوسُفَ: أُحِبُّ أنْ يَدَّعِيَهُ، وقالَ مُحَمَّدٌ: أُحِبُّ أنْ يُعْتِقَ الوَلَدَ، وقالَ في «الفَتْحِ» بَعْدَ كَلامٍ: وعَلى هَذا يَنْبَغِي أنْ لَوِ اعْتَرَفَ فَقالَ: كُنْتُ أطَأُ لِقَصْدِ الوَلَدِ عِنْدَ مَجِيئِها بِالوَلَدِ أنْ يُثْبِتَ نَسَبَ ما أتَتْ بِهِ وإنْ لَمْ يَقُلْ هو ولَدِي لِأنَّ ثُبُوتَهُ بِقَوْلِهِ: هو ولَدِي بِناءً عَلى أنَّ وطْأهُ حِينَئِذٍ لِقَصْدِ الوَلَدِ، وعَلى هَذا قالَ بَعْضُ فُضَلاءِ الدَّرْسِ: يَنْبَغِي أنَّهُ لَوْ أقَرَّ أنَّهُ كانَ لا يَعْزِلُ عَنْها وحَصَنَها أنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِن غَيْرِ تَوَقُّفِ دَعْواهُ، وإنْ كُنّا نُوجِبُ عَلَيْهِ في هَذِهِ الحالَةِ الِاعْتِرافَ بِهِ فَلا حاجَةَ إلى أنْ نُوجِبَ عَلَيْهِ الِاعْتِرافَ لِيَعْتَرِفَ فَيَثْبُتَ نَسَبُهُ بَلْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ ابْتِداءً، وأظُنُّ أنْ لا بُعْدَ في أنْ يُحْكَمَ عَلى المَذْهَبِ بِذَلِكَ انْتَهى، وفي «المَبْسُوطِ» أنَّهُ إذا تَطاوَلَ الزَّمانُ أُلْحِقَ بِهِ لِأنَّ التَّطاوُلَ دَلِيلُ إقْرارِهِ لِأنَّهُ يُوجَدُ مِنهُ حِينَئِذٍ ما يَدُلُّ عَلى الإقْرارِ مِن قَبُولِ التَّهْنِئَةِ ونَحْوِهِ فَيَكُونُ كالتَّصْرِيحِ بِإقْرارِهِ.
ومِن مَجْمُوعِ ما ذُكِرَ يُعْلَمُ ما في كَلامِ المُعْتَرِضِ، وأنَّ لِلْخَصْمِ عَدَمَ تَسْلِيمِهِ لَكِنْ ذُكِرَ في «البَحْرِ» مُتَعَقِّبًا: ظَنَّ بَعْضُ الفُضَلاءِ أنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يُحْكَمَ عَلى المَذْهَبِ بِهِ لِتَصْرِيحِ أهْلِهِ بِخِلافِهِ، ونُقِلَ نَصُّ «البَدائِعِ» في ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ فَإنْ أرادَ الثُّبُوتَ عِنْدَ القاضِي ظاهِرًا فَقَدْ صَرَّحُوا أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الدَّعْوَةِ مُطْلَقًا، وإنْ أرادَ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى فَقَدْ صَرَّحَ في «الهِدايَةِ» وغَيْرِها بِأنَّ ما ذَكَرْناهُ مِنِ اشْتِراطِ الدَّعْوَةِ إنَّما هو في القَضاءِ إلى آخِرِ ما ذَكَرْناهُ لَكِنْ في «المُجْتَبى» لا يَصِحُّ إعْتاقُ المَجْنُونِ وتَدْبِيرُهُ ويَصِحُّ اسْتِيلادُهُ، فَهَذا إنْ صَحَّ يُسْتَثْنى مِنَ الحُكْمِ وهو مُشْكِلٌ انْتَهى، وعَلى هَذا يُقالُ في المَسْألَةِ الَّتِي ذَكَرَها المُعْتَرِضُ: المَوْلُودُ ولَدٌ لِلْمَوْلى في نَفْسِ الأمْرِ لِأنَّهُ مَخْلُوقٌ مِن مِائِهِ ووَلَدُ الزِّنا كَذَلِكَ وزِيادَةٌ حَيْثُ انْضَمَّ إلى ذَلِكَ الإقْرارِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ مَناطَ الحُرْمَةِ البُنُوَّةَ وهي مُتَحَقِّقَةٌ في مَسْألَتِنا فَكَيْفَ يَحِلُّ النِّكاحُ في نَفْسِ الأمْرِ، وعَدَمُ ثُبُوتِ التَّوارُثِ ونَحْوِهِ كَما قُلْنا كانَ إجْماعًا، وعَدَمُ الِاسْتِلْحاقِ قَضاءً إلّا بِالدَّعْوى أمْرٌ آخَرُ وراءَ تَحَقُّقِ البُنُوَّةِ في نَفْسِ الأمْرِ، فَكَمْ مُتَحَقِّقٌ في نَفْسِ الأمْرِ لا يُقْضى بِهِ وكَمْ مَقْضِيٌّ بِهِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ في نَفْسِ الأمْرِ كَما في خَبَرِ «الفَرَسِ الَّتِي اشْتَراها رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الأعْرابِيِّ وشَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ لَمّا أنْكَرَ الأعْرابِيُّ البَيْعَ» وقَدْ حُقِّقَ الكَلامُ في بَحْثِ الِاسْتِيلادِ في «فَتْحِ القَدِيرِ» وغَيْرِهِ مِن مَبْسُوطاتِ كُتُبِ القَوْمِ، وما ذُكِرَ في إبْطالِ العَكْسِ مِن مَسْألَةِ تَزَوُّجِ المَشْرِقِيِّ بِمَغْرِبِيَّةٍ فَلا نُسَلِّمُ القَطْعَ فِيها بِأنَّ الوَلَدَ لَيْسَ مَخْلُوقًا مِن مائِهِ لِثُبُوتِ كَراماتِ الأوْلِياءِ والِاسْتِخْداماتِ فَيُتَصَوَّرُ أنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صاحِبَ خُطْوَةٍ أوْ جِنِّيٌّ، وأنَّهُ ذَهَبَ إلى المَغْرِبِ فَجامَعَها، ولَوْلا قِيامُ هَذا الِاحْتِمالِ مَعَ قِيامِ النِّكاحِ لَمْ يَلْحَقِ الوَلَدُ بِهِ، ألا تَرى كَيْفَ قالَ الأصْحابُ: لَوْ جاءَتِ امْرَأةُ الصَّبِيِّ بِوَلَدٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ذَلِكَ هُناكَ والتَّصَوُّرُ شَرْطٌ، وقِيامُ الفِراشِ وحْدَهُ غَيْرُ كافٍ عَلى الصَّحِيحِ، ولَعَلَّ اعْتِبارَ هَذِهِ البُنُوَّةِ قَضاءًا وإلّا فَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الوَلَدُ مَخْلُوقًا مِن مائِهِ لا يُقالُ لَهُ ولَدُ الزَّوْجِ في نَفْسِ الأمْرِ وإنَّما اعْتَبَرُوا ذَلِكَ مَعَ ضَعْفِ الِاحْتِمالِ سَتْرًا لِلْحَرائِرِ وصِيانَةً لِلْوَلَدِ عَنِ الضَّياعِ، وقَرِيبٌ مِن هَذا ما ذَهَبَ إلَيْهِ الشّافِعِيُّ ومالِكٌ وأحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى في بابِ الِاسْتِيلادِ أنَّ الجارِيَةَ إذا ولَدَتْ يَثْبُتُ نَسَبُ الوَلَدِ مِنَ المَوْلى إذا أقَرَّ بِوَطْئِها مَعَ العَزْلِ كَما يَثْبُتُ مَعَ عَدَمِ العَزْلِ بَلْ لَوْ وطِئَها في دُبُرِها يَلْزَمُهُ الوَلَدُ عِنْدَ مالِكٍ ومِثْلُهُ عَنْ أحْمَدَ، وهو وجْهٌ مُضْعِفٌ لِلشّافِعِيَّةِ، (p-252)وقِيلَ: إنَّ بَيْنَ هَذِهِ المَسْألَةِ ومَسْألَةِ تَزْوِيجِ المَشْرِقِيِّ بِمَغْرِبِيَّةٍ بُعْدًا كَبُعْدِ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لِأنَّ الوَطْءَ هُنا مُتَحَقِّقٌ في الجُمْلَةِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى قَطْعِ بَرارِي وقِفارٍ ولا كَذَلِكَ هُناكَ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
والبَناتُ جَمْعُ بِنْتٍ في المَشْهُورِ وصُحِّحَ أنَّ لامَها واوٌ كَأُخْتٍ وإنَّما رُدَّ المَحْذُوفُ في أخَواتٍ ولَمْ يُرَدَّ في بَناتٍ حَمْلًا لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الجَمْعَيْنِ عَلى مُذَكِّرِهِ، فَمُذَكَّرُ بَناتٍ لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ المَحْذُوفُ بَلْ قالُوا فِيهِ بِنُونٍ، ومُذَكَّرُ أخَواتٍ رُدَّ فِيهِ مَحْذُوفُهُ فَقالُوا في جَمْعِ أخٍ: إخْوَةٌ وأخَواتٌ، وقَدْ نَظَّمَ الدَّنَوْشَرِيُّ السُّؤالَ فَقالَ:
؎أيُّها الفاضِلُ اللَّبِيبُ تَفَضَّلْ بِجَوابٍ بِهِ يَكُونُ رَشادِي
؎لَفْظُ أُخْتٍ ولَفْظُ بِنْتٍ إذا ما ∗∗∗ جُمِعا جَمْعَ صِحَّةٍ لا فَسادِ
؎فَلِأُخْتٍ تُرَدُّ لِأُمٍّ وأمّا ∗∗∗ لَفْظُ بِنْتٍ فَلا فَأوْضِحْ مُرادِي
؎مَعَ تَعْوِيضِهِمْ مِنَ اللّامِ تاءً ∗∗∗ فِيهِما لا بَرِحْتُ أهْلَ اعْتِمادِي
وقَدْ أجابَ هو رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
؎لَفْظُ أُخْتٍ لَهُ انْضِمامٌ بِصَدْرٍ ∗∗∗ ناسَبَ الواوَ فاكْتَسى بِالمَعادِ
وقالَ أبُو البَقاءِ: التّاءُ فِيها لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثٍ لِأنَّ تاءَ التَّأْنِيثِ لا يُسَكَّنُ ما قَبْلَها، وتُقْلَبُ هاءً في الوَقْفِ فَبَناتٌ لَيْسَ بِجَمْعِ بِنْتٍ بَلْ بِنْهٍ، وكُسِرَتِ الباءُ تَنْبِيهًا عَلى المَحْذُوفِ قالَهُ الفَرّاءُ، وقالَ غَيْرُهُ: أصْلُها الفَتْحُ وعَلى ذَلِكَ جاءَ جَمْعُها، ومُذَكَّرُها وهو بَنُونَ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ البَصْرِيُّونَ، وأمّا أُخْتٌ فالتّاءُ فِيها بَدَلٌ مِنَ الواوِ لِأنَّها مِنَ الإخْوَةِ، والأخَواتُ يَنْتَظِمْنَ الأخَواتِ مِنَ الجِهاتِ الثَّلاثِ، وكَذا الباقِياتُ لِأنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الكُلَّ ويَدْخُلُ في العَمّاتِ والخالاتِ أوْلادُ الأجْدادِ والجَدّاتِ وإنْ عَلَوْا، وكَذا عَمَّةُ جَدِّهِ وخالَتِهِ وعَمَّةُ جَدَّتِهِ وخالاتِها لِأبٍ وأُمٍّ أوْ لِأبٍ أوْ لِأُمٍّ وذَلِكَ كُلُّهُ بِالإجْماعِ، وفي «الخانِيَةِ» وعَمَّةُ العَمَّةِ لِأبٍ وأُمٍّ أوْ لِأبٍ كَذَلِكَ، وأمّا عَمَّةُ العَمَّةِ لِأُمٍّ فَلا تَحْرُمُ، وفي «المُحِيطِ»: وأمّا عَمَّةُ العَمَّةِ فَإنْ كانَتِ العَمَّةُ القُرْبى عَمَّةً لِأبٍ وأُمٍّ أوْ لِأبٍ فَعَمَّةُ العَمَّةِ حَرامٌ لِأنَّ القُرْبى إذا كانَتْ أُخْتَ أبِيهِ لِأبٍ وأُمٍّ أوْ لِأبٍ فَإنَّ عَمَّتَها تَكُونُ أُخْتَ جَدَّةِ أبِ الأبِ وأُخْتُ أبِ الأبِ حَرامٌ لِأنَّها عَمَّتُهُ وإنْ كانَتِ القُرْبى عَمَّةً لِأُمٍّ فَعَمَّةُ العَمَّةِ لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأنَّ أبَ العَمَّةِ يَكُونُ زَوْجَ أُمِّ أبِيهِ فَعَمَّتُها تَكُونُ أُخْتَ زَوْجِ الجَدَّةِ أُمِّ الأبِ، وأُخْتُ زَوْجِ الأُمِّ لا تَحْرُمُ، فَأُخْتُ زَوْجِ الجَدَّةِ أوْلى أنْ لا تَحْرُمَ، وأمّا خالَةُ الخالَةِ فَإنْ كانَتِ الخالَةُ القُرْبى خالَةً لِأبٍ وأُمٍّ أوْ لِأُمٍّ فَخالَتُها تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَتِ القُرْبى خالَةً لِأبٍ فَخالَتُها لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأنَّ أُمَّ الخالَةِ القُرْبى تَكُونُ امْرَأةَ الجَدِّ أبِ الأُمِّ لا أُمِّ أُمِّهِ، فَأُخْتُها تَكُونُ أُخْتَ امْرَأةِ الأبِ وأُخْتُ امْرَأةِ الجَدِّ لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ. انْتَهى.
ولا يَخْفى أنَّهُ كَما يَحْرُمُ عَلى الرَّجُلِ أنْ يَتَزَوَّجَ بِمَن ذُكِرَ يَحْرُمُ عَلى المَرْأةِ التَّزَوُّجُ بِنَظِيرِ مَن ذُكِرَ.
والظّاهِرُ أنَّ هَذا التَّحْرِيمَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ لَمْ يَثْبُتْ في جَمِيعِ المَذْكُوراتِ في سائِرِ الأدْيانِ، نَعَمْ ذَكَرُوا أنَّ حُرْمَةَ الأُمَّهاتِ والبَناتِ كانَتْ ثابِتَةً حَتّى في زَمانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ يَثْبُتْ حِلُّ نِكاحِهِنَّ في شَيْءٍ مِنَ الأدْيانِ، وقِيلَ: إنَّ زَرادُشْتَ نَبِيَّ المَجُوسِ بِزَعْمِهِمْ قالَ بِحَلِّهِ، وأكْثَرُ المُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ كانَ كَذّابًا، وعَدَمُ إيذاءِ الصُّفْرِ المُذابِ لَهُ لِأدْوِيَةٍ كانَ يُلَطِّخُ بِها جَسَدَهُ وقَدْ شاهَدْنا مَن يَحْمِلُ النّارَ بِيَدِهِ بَعْدَ لَطْخِها بِأدْوِيَةٍ مَخْصُوصَةٍ ولا تُؤْذِيهِ وحِينَئِذٍ لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً.
وأمّا حِلُّ نِكاحِ الأخَواتِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كانَ مُباحًا في زَمانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلضَّرُورَةِ وكانَتْ حَوّاءُ عَلَيْها السَّلامُ تَلِدُ في كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرًا وأُنْثى فَيَأْخُذُ ذَكَرُ البَطْنِ الثّانِيَةِ أُنْثى البَطْنِ الأُولى، وبَعْضُ المُسْلِمِينَ يُنْكِرُ ذَلِكَ ويَقُولُ: (p-253)إنَّهُ بَعَثَ الحُورَ مِنَ الجَنَّةِ حَتّى تَزَوَّجَ بِهِنَّ أبْناءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ أنَّ هَذا النَّسْلَ حِينَئِذٍ لا يَكُونُ مَحْضَ أوْلادِ آدَمَ وذَلِكَ باطِلٌ بِالإجْماعِ.
﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكم وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ﴾ عَطْفٌ عَلى سابِقِهِ والرَّضاعَةُ بِفَتْحِ الرّاءِ مَصْدَرُ رَضَعَ كَسَمِعَ وضَرَبَ، ومِثْلُهُ الرِّضاعَةُ بِالكَسْرِ، والرُّضْعُ بِسُكُونِ الضاءِ وفَتْحِها، والرَّضاعُ كالسَّحابِ، والرَّضِعُ كالكَتِفِ، وحَكَوْا رَضُعَ كَكَرُمَ، ورِضاعًا كَقِتالٍ، وقَدْ تُبَدَّلُ ضادُهُ تاءًا، ورُضاعًا كَسُؤالٍ لَكِنَّ المَضْمُومَ كالمُراضَعَةِ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ، ويُقالُ: أرْضَعَتِ المَرْأةُ فَهي مُرْضِعٌ إذا كانَ لَها ولَدٌ تُرْضِعُهُ فَإنْ وصَفْتَها بِإرْضاعِ الوَلَدِ قُلْتَ: مُرْضِعَةٌ، ومَعْناها لُغَةً مَصُّ الثَّدْيِ، وشَرْعًا مَصُّ الرَّضِيعِ مِن ثَدْيِ الآدَمِيَّةِ في وقْتٍ مَخْصُوصٍ، وأرادُوا بِذَلِكَ وصُولَ اللَّبَنِ مِن ثَدْيِ المَرْأةِ إلى جَوْفِ الصَّغِيرِ مِن فَمِهِ أوْ أنْفِهِ في المَدَّةِ الآتِيَةِ سَواءٌ وُجِدَ مَصٌّ أوْ لَمْ يُوجَدْ، وإنَّما ذَكَرُوا المَصَّ لِأنَّهُ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ فَأطْلَقُوا السَّبَبَ وأرادُوا المُسَبَّبَ، وقَدْ صَرَّحَ في «الخانِيَةِ» أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ المَصِّ والسُّعُوطِ ونَحْوِهِ، وقَيَّدُوا بِالآدَمِيَّةِ لِيَخْرُجَ الرَّجُلُ والبَهِيمَةُ، وتَفَرَّدَ الإمامُ البُخارِيُّ وهو سَبَبُ فِتْنَتِهِ في قَوْلٍ فَذَهَبَ فِيما إذا ارْتَضَعَ صَبِيٌّ وصِبْيَةٌ مِن ثَدْيِ شاةٍ إلى وُقُوعِ الحُرْمَةِ بَيْنَهُما، وأًطْلِقَتْ لِتَشْمَلَ البِكْرَ والثَّيِّبَ الحَيَّةَ والمَيِّتَةَ، وقَيَّدْنا بِالفَمِ والأنْفِ لِيَخْرُجَ ما إذا وصَلَ بِالإقْطارِ في الأُذُنِ والإحْلِيلِ والجائِفَةِ والآمَّةِ بِالحُقْنَةِ في ظاهِرِ الرِّوايَةِ، وخَرَجَ بِالوُصُولِ ما لَوْ أدْخَلَتِ المَرْأةُ حَلَمَةَ ثَدْيِها في فَمٍ رَضِيعٍ ولا تَدْرِي أدَخَلَ اللَّبَنُ في حَلْقِهِ أمْ لا، لا يُحَرَّمُ النِّكاحُ لِأنَّ في المانِعِ شَكًّا.
وقَدْ نَزَّلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الرَّضاعَةَ مَنزِلَةَ النَّسَبِ حَتّى سَمّى المُرْضِعَةَ أُمًّا لِلرَّضِيعِ، والمُراضِعَةِ أُخْتًا، وكَذَلِكَ زَوْجُ المُرْضِعَةِ أبُوهُ وأبَواهُ جَدّاهُ وأُخْتُهُ عَمَّتُهُ، وكُلُّ ولَدٍ وُلِدَ لَهُ مِن غَيْرِ المُرْضِعَةِ قَبْلَ الرِّضاعِ وبَعْدَهُ فَهم إخْوَتُهُ وأخَواتُهُ لِأبِيهِ، وأُمُّ المُرْضِعَةِ جَدَّتُهُ، وأُخْتُها خالَتُهُ، وكُلُّ ولَدٍ لَها مِن هَذا الزَّوْجِ فَهم إخْوَتُهُ وأخَواتُهُ لِأبِيهِ وأُمِّهِ، ومَن وُلِدَ لَها مَن غَيْرِهِ فَهم إخْوَتُهُ وأخَواتُهُ لِأُمِّهِ، ومِن هُنا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم: ««يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ»» . وذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ كَمَوْلانا شَيْخِ الإسْلامِ وغَيْرِهِ إلى أنَّ الحَدِيثَ جارٍ عَلى عُمُومِهِ وأمّا أُمُّ أخِيهِ لِأبٍ وأُخْتُ ابْنِهِ لِأُمٍّ وأُمُّ أمِّ ابْنِهِ وأُمُّ عَمِّهِ وأُمُّ خالِهِ لِأبٍ فَلَيْسَتْ حُرْمَتُهُنَّ مِن جِهَةِ النَّسَبِ حَتّى تَخِلَّ بِعُمُومِهِ ضَرُورَةُ حَلِّهِنَّ في صُورَةِ الرِّضاعِ بَلْ مِن جِهَةِ المُصاهَرَةِ، ألا يَرى أنَّ الأُولى: مَوْطُوأةُ أبِيهِ. والثّانِيَةَ: بِنْتُ مَوْطُوأتِهِ. والثّالِثَةُ: أُمُّ مَوْطُوأتِهِ. والرّابِعَةُ: مَوْطُوأةِ جَدِّهِ الصَّحِيحِ. والخامِسَةُ: مَوْطُوأةُ جَدِّهِ الفاسِدِ، ووَقَعَ في عِبارَةِ بَعْضِهِمُ اسْتِثْناءٌ صُوِّرَ بَعْدَ سَوْقِ الحَدِيثِ، وأنْهى في «البَحْرِ» المَسائِلَ المُسْتَثْنَياتِ إلى إحْدى وثَمانِينَ مَسْألَةً، وأطالَ الكَلامَ في هَذا المَقامِ، وأتى بِالعَجَبِ العُجابِ.
وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الرِّضاعِ وهو ما يُعْلَمُ وُصُولُهُ إلى الجَوْفِ وكَثِيرِهِ في التَّحْرِيمِ، وأمّا خَبَرُ مُسْلِمٍ «لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ» وما دَلَّ عَلى التَّقْدِيرِ فَمَنسُوخٌ صَرَّحَ بِنَسْخِهِ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما حِينَ قِيلَ لَهُ: إنَّ النّاسَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّضْعَةَ لا تُحَرِّمُ فَقالَ: كانَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ.
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: آلَ أمْرُ الرِّضاعِ إلى أنَّ قَلِيلُهُ وكَثِيرُهُ يُحَرِّمُ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ القَلِيلَ يُحَرِّمُ، وعَنْهُ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ الزُّبَيْرَ يَقُولُ: لا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ والرَّضْعَتَيْنِ فَقالَ: قَضاءُ اللَّهِ تَعالى خَيْرٌ مِن (p-254)قَضاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وتَلا الآيَةَ، وقالَ الشّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ عَلى ما نَقَلَهُ أصْحابُنا عَنْهُ لا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إلّا بِخَمْسِ رَضَعاتٍ مُشْبِعاتٍ في خَمْسَةِ أوْقاتٍ مُتَفاصِلَةٍ عُرْفًا، وعَنْ أحْمَدَ رِوايَتانِ كَقَوْلِنا وكَقَوْلِهِ، واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ حِبّانَ في «صَحِيحِهِ» مِن حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أنَّهُ قالَ: قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ ولا الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ ”» ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِذَلِكَ بِأنَّ المَصَّةَ داخِلَةٌ في المَصَّتَيْنِ والإمْلاجَةَ في الإمْلاجَتَيْنِ، فَحاصِلُهُ لا تُحَرِّمُ المَصَّتانِ ولا الإمْلاجَتانِ فَنُفِيَ التَّحْرِيمُ عَلى أرْبَعٍ فَلَزِمَ أنْ يَثْبُتَ بِخَمْسٍ.
واعْتَرَضَهُ ابْنُ الهُمامِ «بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أمّا أوَّلًا: فَلِأنَّ مَذْهَبَ الشّافِعِيِّ لَيْسَ التَّحْرِيمَ بِخَمْسِ مَصّاتٍ بَلْ بِخَمْسٍ شَبِعاتٍ في أوْقاتٍ، وأما ثانِيًا: فَلِأنَّ المَصَّةَ فِعْلُ الرَّضِيعِ والإمْلاجَةُ الإرْضاعَةُ فِعْلُ المُرْضِعَةِ، فَحاصِلُ المَعْنى أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَفى كَوْنَ الفِعْلَيْنِ مُحَرِّمَيْنِ مِنهُ ومِنها ثُمَّ حَقَّقَ أنَّ ما في هَذِهِ الرِّوايَةِ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حَدِيثًا واحِدًا بِأنَّ الإمْلاجَ لَيْسَ حَقِيقَةَ المُحَرِّمِ بَلْ لازَمَهُ مِنَ الِارْتِضاعِ فَنُفِيَ تَحْرِيمُ الإمْلاجِ نَفْيَ تَحْرِيمٍ لازَمَهُ فَلَيْسَ الحاصِلُ مَن: لا تُحَرِّمُ الإمْلاجَتانِ إلّا لا يُحَرِّمُ لازِمُهُما أعْنِي المَصَّتَيْنِ فَلَوْ جَمَعا في حَدِيثٍ كانَ الحاصِلُ لا تُحَرِّمُ المَصَّتانِ“ ولا المَصَّتانِ ”فَلَزِمَ أنْ لا يَصِحَّ أنْ يُرادَ إلّا المَصَّتانِ لا الأرْبَعُ، وعَلى هَذا يَجِبُ كَوْنُ الرّاوِي وهو الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أرادَ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ ألْفاظِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّتِي سَمِعَها مِنهُ في وقْتَيْنِ كَأنَّهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ» وقالَ أيْضًا: ««لا تُحَرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ»» . وقِيلَ في وجْهِ الِاسْتِدْلالِ طَرِيقٌ آخَرُ، وهو أنَّ الحَدِيثَ نافٍ لِما ذَهَبَ إلَيْهِ الإمامُ الأعْظَمُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَيَثْبُتُ بِهِ مَذْهَبُ الإمامِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى لِعَدَمِ القائِلِ بِالفَصْلِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ القائِلَ بِالفَصْلِ أبُو ثَوْرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وداوُدُ وأبُو عُبَيْدٍ، وهَؤُلاءِ أئِمَّةُ الحَدِيثِ قالُوا: المُحَرِّمُ ثَلاثُ رَضَعاتِ، والقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبارِ قَوْلِهِمْ في حَيِّزِ المَنعِ لِقُوَّةِ وجْهِهِ بِالنِّسْبَةِ إلى وجْهِ قَوْلِ الشّافِعِيِّ.
واسْتَدَلَّ بَعْضُ أصْحابِهِ عَلى هَذا المَطْلَبِ بِما رَواهُ مُسْلِمٌ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها قالَتْ: «كانَ فِيما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وهي فِيما يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ. .». وفي رِوايَةٍ «أنَّهُ كانَ في صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي فَلَمّا ماتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَشاغَلْنا بِمَوْتِهِ فَدَخَلَتْ دَواجِنُ فَأكَلَتْها. .».
وبِما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ أيْضًا قالَتْ: «جاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ امْرَأةُ أبِي حُذَيْفَةَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أرى في وجْهِ أبِي حُذَيْفَةَ مِن دُخُولِ سالِمٍ وهو حَلِيفُهُ فَقالَ ﷺ:“ أرْضِعِي سالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِي بِها عَلَيْهِ ”» والجَوابُ أنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَنسُوخٌ كَما صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما مَرَّ. ويَدُلُّ عَلى نَسْخِ ما في خَبَرِ عائِشَةَ الأوَّلِ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَنسُوخًا لَزِمَ ضَياعُ بَعْضِ القُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ واللَّهُ تَعالى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، وما في الرِّوايَةِ لا يُنافِي النَّسْخَ لِجَوازِ أنْ يُقالَ: إنَّها رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أرادَتْ أنَّهُ كانَ مَكْتُوبًا ولَمْ يُغَسَّلْ بَعْدُ لِلْقُرْبِ حَتّى دَخَلَتِ الدَّواجِنُ فَأكْلَتْهُ، والقَوْلُ بِأنَّ ما ذُكِرَ إنَّما يَلْزَمُ مِنهُ نَسْخُ التِّلاوَةِ فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ التِّلاوَةُ مَنسُوخَةً مَعَ بَقاءِ الحُكْمِ كالشَّيْخِ والشَّيْخَةِ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ ادِّعاءَ بَقاءِ حُكْمِ الدّالِّ بَعْدَ نَسْخِهِ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ وإلّا فالأصْلُ أنَّ نَسْخَ الدّالِّ يَرْفَعُ حُكْمَهُ، وما نُظِرَ بِهِ لَوْلا ما عُلِمَ بِالسُّنَّةِ، والإجْماعُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ، ثُمَّ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ في حَدِيثِ سَهْلَةَ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ أنْ يُشْبِعَ سالِمًا خَمْسَ رَضَعاتٍ في خَمْسَةِ أوْقاتٍ مُتَفاصِلاتٍ جائِعًا لِأنَّ الرَّجُلَ لا يُشْبِعُهُ مِنَ اللَّبَنِ رِطْلٌ ولا رِطْلانِ فَأيْنَ تَجِدُ الآدَمِيَّةُ في ثَدْيِها (p-255)قَدْرَ ما يُشْبِعُهُ، هَذا مُحالٌ عادَةً، فالظّاهِرُ أنَّ مَعْدُودَ خَمْسٍ فِيهِ إنْ صَحَّ أنَّها مِنَ الخَبَرِ“ المَصّاتُ ثُمَّ كَيْفَ جازَ أنْ يُباشِرَ عَوْرَتَها بِشَفَتَيْهِ فَلَعَلَّ المُرادَ أنْ تَحْلِبَ لَهُ شَيْئًا مِقْدارُهُ مِقْدارَ خَمْسِ رَضَعاتٍ فَيَشْرَبُهُ كَما قالَ القاضِي وإلّا فَهو مُشْكِلٌ، ”وقَدْ يُقالُ“: هو مَنسُوخٌ مِن وجْهٍ آخَرَ» لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الرِّضاعَ في الكِبَرِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ لِأنَّ سالِمًا كانَ إذْ ذاكَ رَجُلًا وهَذا مِمّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ فَإنَّ مُدَّةَ الرَّضاعِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ ثَلاثُونَ شَهْرًا عِنْدَ الإمامِ الأعْظَمِ، وسَنَتانِ عِنْدَ صاحِبَيْهِ ومُسْتَنَدُهُما قَوِيٌّ جِدًّا، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ، وعَنْ مالِكٍ: سَنَتانِ وشَهْرٌ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى شَهْرانِ، وفي أُخْرى سَنَتانِ وأيّامٌ، وفي أُخْرى ما دامَ مُحْتاجًا إلى اللَّبَنِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، وقالَ زُفَرُ: ثَلاثَ سِنِينَ، نَعَمْ قالَ بَعْضُهم: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقالَ آخَرُونَ: أرْبَعُونَ سَنَةً، وقالَ داوُدُ: الإرْضاعُ في الكِبَرِ مُحَرِّمٌ أيْضًا، ولا حَدَّ لِلْمُدَّةِ وهو مَرْوِيٌّ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها وكانَتْ إذا أرادَتْ أنْ يَدْخُلَ عَلَيْها أحَدٌ مِنَ الرِّجالِ أمَرَتْ أُخْتَها أُمَّ كُلْثُومٍ أوْ بَعْضَ بَناتِ أُخْتِها أنْ تُرْضِعَهُ، ورَوى مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وسائِرِ أزْواجِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُنَّ خالَفْنَ عائِشَةَ في هَذا، وعُمْدَةُ مَن رَأى رَأْيَها في هَذا البابِ خَبَرُ سَهْلَةَ مَعَ أنَّ الآثارَ الصَّحِيحَةَ عَلى خِلافِهِ، فَقَدْ صَحَّ مَرْفُوعًا ومَوْقُوفًا «لا رِضاعَ إلّا ما كانَ في حَوْلَيْنِ» وفي «المُوَطَّأِ» . و«سُنَنِ أبِي داوُدَ» عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ «أنَّ رَجُلًا سَألَ أبا مُوسى الأشْعَرِيَّ فَقالَ: إنِّي مَصَصْتُ مِنِ امْرَأتِي ثَدْيَها لَبَنًا فَذَهَبَ في بَطْنِي فَقالَ: أبُو مُوسى لا أراها إلّا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ انْظُرْ ما تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ فَقالَ أبُو مُوسى: فَما تَقُولُ أنْتَ؟ فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لا رِضاعَ إلّا في حَوْلَيْنِ، فَقالَ أبُو مُوسى: لا تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ ما دامَ هَذا الحَبْرُ بَيْنَ أظْهُرِكم، وفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ جاءَ رَجُلٌ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقالَ: كانَتْ لِي ولِيدَةٌ فَكُنْتُ أُصِيبُها فَعَمَدَتِ امْرَأتِي إلَيْها فَأرْضَعَتْها فَدَخَلَتْ عَلَيْها فَقالَتْ: دُونَكَ قَدْ واللَّهِ أرْضَعْتُها قالَ عُمَرُ: أرْجِعْها وأْتِ جارِيَتَكَ فَإنَّما الرَّضاعَةُ رَضاعَةُ الصِّغَرِ، ورَوى التِّرْمِذِيُّ وقالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّهُ قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «لا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ إلّا فَتْقُ الأمْعاءِ في الثَّدْيِ وكانَ قَبْلَ الفِطامِ» ”وفي «سُنَنِ أبِي داوُدَ» مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ ««لا يَحْرُمُ مِنَ الرِّضاعِ إلّا ما أنْبَتَ اللَّحْمَ وأنْشَزَ العَظْمَ» حَتّى إنَّ عائِشَةَ نَفْسَها رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها رَوَتْ ما يُخالِفُ عَمَلَها، فَفي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْها أنَّها قالَتْ: ««دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وعِنْدِي رَجُلٌ فَقالَ: يا عائِشَةُ، مَن هَذا؟ فَقُلْتُ: أخِي مَنِ الرَّضاعَةِ فَقالَ: يا عائِشَةُ انْظُرْنَ مَن إخْوانُكم إنَّما الرَّضاعَةُ مِنَ المَجاعَةِ»» واعْتُبِرَ مَرْوِيُّها دُونَ رَأْيِها لِظُهُورِ غَفْلَتِها فِيهِ وعَدَمِ وُقُوعِ اجْتِهادِها عَلى المَحَزِّ، ولِهَذا قِيلَ: يُشْبِهُ أنَّها رَجَعَتْ كَما رَجَعَ أبُو مُوسى لَمّا تَحَقَّقَ عِنْدَها النَّسْخُ؛ وحَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ حَدِيثَ سَهْلَةَ عَلى أنَّهُ مُخْتَصٌّ بِها وبِسالِمٍ، وجَعَلُوا أيْضًا العَفْوَ عَنْ مُباشَرَةِ العَوْرَةِ مِنَ الخَواصِّ.
هَذا ومِن غَرائِبِ ما وقَفَتْ عَلَيْهِ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ عِبارَةٌ مِن مَقامَةٍ لِلْعَلّامَةِ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى سَمّاها «الدَّوَرانَ الفَلَكِيَّ عَلى ابْنِ الكُرْكِيِّ» وفِيها يُخاطِبُ الفاضِلَ المَذْكُورَ بِما نَصُّهُ: ماذا صَنَعْتَ بِالسُّؤالِ المُهِمِّ الَّذِي دارَ في البَلَدِ ولَمْ يُجِبْ عَنْهُ أحَدٌ، وهو الفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾ وبَيْنَ ما لَوْ قِيلَ: واللّاتِي أرْضَعْنَكم أُمَّهاتُكم حَيْثُ رُتِّبَ عَلى الأوَّلِ خَمْسُ رَضَعاتٍ وارِدَةٍ، ولَوْ قِيلَ: الثّانِي لاكْتَفى بِرَضْعَةٍ واحِدَةٍ، ولَقَدْ ورَدَ عَلَيَّ وسِيقَ إلَيَّ فَلَمْ أكْتُبْ عَلَيْهِ مَعَ أنَّ جَوابَهُ نَصْبُ عَيْنِي، وعَتِيدٌ لَدَيَّ لا يَحُولُ شَيْءٌ بَيْنَهُ وبَيْنِي لِأنْظُرَ هَلْ مِن رَجُلٍ رَشِيدٍ أوْ أحَدٍ لَهُ في العِلْمِ قَصْرٌ مَشِيدٌ هَلّا أبْدَعْتَ فِيهِ جَوابًا مُسَدَّدًا، ونَوَّعَتْ فِيهِ طَرائِقَ قِدَدًا، (p-256)واتَّخَذَتْ بِذَلِكَ عَلى دَعْوى العِلْمِ ساعِدًا وعَضُدًا، وها لَهُ نَحْوُ عامَيْنِ ما حَلّاهُ أحَدٌ بِحَرْفٍ، ولا رَمَقَهُ ناظِرٌ بِطَرَفٍ ولا أوْدَعَهُ ذُو ظُرْفٍ بِظُرْفٍ، ولَوْ شِئْتُ أنا لَكَتَبْتُ عَلَيْهِ عِدَّةَ مُؤَلَّفاتٍ وأسْطَرْتُ فِيهِ خَمْسَ مُصَنَّفاتٍ، بَسِيطٌ حَرِيزٌ، ووَسِيطٌ غَرِيزٌ، ومُخْتَصَرٌ وجِيزٌ، ومَنظُومَةٌ ذاتُ تَطْرِيزٍ، ومَقامَةُ إنْشاءٍ كَأنَّها ذَهَبٌ إبْرِيزٌ انْتَهى كَلامُهُ.
وأقُولُ: لَعَلَّ الفَرْقَ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ ( أُمَّهاتُكم ) في هَذِهِ الآيَةِ مَعْطُوفًا عَلى ما تَقَدَّمَ في الآيَةِ السّابِقَةِ وفِيها تَحْرِيمُ الأُمَّهاتِ بَقِيَ الذِّهْنُ مُشْرَئِبًّا إلى بَيانِ الفارِقِ بَيْنَ هَذِهِ الأُمَّهاتِ وتِلْكَ الأُمَّهاتِ فَأتى سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾ بَيانًا لِذَلِكَ دافِعًا لِتَوِهُّمِ التَّكْرارِ فَكانَ قَيْدَ الإرْضاعِ الواقِعِ صِلَةً مُعْتَنًا بِهِ أتَمَّ اعْتِناءٍ، ومِمّا يَتَرَتَّبُ عَلى هَذا الِاعْتِناءِ اعْتِبارُهُ أيْنَما لُوحِظَ، وقَدْ لُوحِظَ في الآيَةِ خَمْسُ مَرّاتٍ الأُولى: حِينَ أتى بِهِ فِعْلًا، والثّانِيَةُ: حِينَ أُسْنِدَ إلى الفاعِلِ أعْنِي ضَمِيرَ النِّسْوَةِ، والثّالِثَةُ: حِينَ تَعَلَّقَ بِالمَفْعُولِ أعْنِي ضَمِيرَ المُخاطَبِينَ، والرّابِعَةُ: حِينَ جُعِلَ جُزْءُ الجُمْلَةِ الواقِعَةَ صِلَةَ المَوْصُولِ، والخامِسَةُ: حِينَ جُعِلَ اللّاتِي صِفَةَ أُمَّهاتِكم لِأنَّ وصْفِيَّتَهُ لَها بِاعْتِبارِ الصِّلَةِ بِلا شُبْهَةٍ فَهَذِهِ خَمْسُ مُلاحَظاتٍ لِلْإرْضاعِ في هَذا التَّرْكِيبِ تُشِيرُ إلى أنَّ ما بِهِ تَحْصُلُ الأُمُومَةُ خَمْسُ رَضَعاتٍ، وهَذا أحَدُ الأسْرارِ لِاخْتِيارِ هَذا التَّرْكِيبِ مَعَ إمْكانِ تَراكِيبَ غَيْرِهِ لَعَلَّ بَعْضَها أخْصَرُ مِنهُ، وكَثِيرًا ما وقَعَ في القُرْآنِ تَراكِيبُ وتَعْبِيراتٌ يُشارُ بِها إلى أُمُورٍ واقِعِيَّةٍ بَيْنَها وبَيْنَ ما في تِلْكَ التَّعْبِيراتِ مُناسَبَةٌ مِثْلَ ما وقَعَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ مِنَ الِاحْتِباكِ المُشِيرِ إلى ما بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِائْتِلافِ، وما وقَعَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ﴾ مِنَ الإدْغامِ في يُمِلَّ المُشِيرِ إلى حالِ الفاعِلِ وهو الأخْرَسُ المَعْقُودُ اللِّسانِ في كَثِيرٍ مِنَ الأقْوالِ، وما وقَعَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلٌّ في فَلَكٍ﴾ مِن عَدَمِ الِاسْتِحالَةِ بِالِانْعِكاسِ المُشِيرِ إلى كُرِّيَّةِ الأفْلاكِ في رَأْيٍ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى كَثْرَةً. ولَيْسَ هَذا مِن بابِ الِاسْتِدْلالِ بَلْ مِن بابِ الإشارَةِ المُقَوِّيَةِ لَهُ، ألا تَرى أنَّهُ لَمْ يَسْتَدِلَّ أحَدٌ مِمَّنْ ذَهَبَ إلى اشْتِراطِ الخَمْسِ بِهَذِهِ الآيَةِ ولَكِنِ اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِوُرُودِ الخَمْسِ في الأخْبارِ، وإلى ذَلِكَ تُشِيرُ عِبارَةُ الجَلالِ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، وهَذِهِ الإشارَةُ مَفْقُودَةٌ في القَوْلِ المَفْرُوضِ أعْنِي واللّاتِي أرْضَعْنَكم أُمَّهاتُكم، لِأنَّ العَطْفَ فِيهِ لا يُوهِمُ التَّكْرارَ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ نَظِيرِهِ فَلا يُشْرَأبُّ الذِّهْنُ إلى ما يُذْكَرُ بَعْدُ كَما اشْرَأبَّ فِيما ذُكِرَ قَبْلُ، فَلا داعِيَ لِاعْتِبارِهِ أيْنَما لُوحِظَ كَما كانَ كَذَلِكَ هُناكَ بَلْ يَكْفِي اعْتِبارُهُ مَرَّةً واحِدَةً وهي أدْنى ما تَتَحَقَّقُ بِهِ الماهِيَّةُ لا سِيَّما وقَدْ ذُكِرَ بَعْدَ أُمَّهاتِكم عَلى أنَّهُ بَدَلٌ والبَدَلُ كَما قالُوا: هو المَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ عَلى نِيَّةِ تَكْرارِ العامِلِ المُفِيدِ لِتَقْرِيرِ مَعْنى الكَلامِ وتَوْكِيدِهِ، وهَذا التَّوْكِيدُ أيْضًا مُشْعِرٌ بِوَحْدَةِ الإرْضاعِ لِأنَّ التَّحْرِيمَ بِالرَّضْعَةِ الواحِدَةِ مِمّا يَكادُ يُسْتَبْعَدُ فَيَحْتاجُ إلى تَوْكِيدِهِ بِخِلافِ الرَّضَعاتِ العَدِيدَةِ.
وقَدْ رَأيْتُ في بَعْضِ نُسَخِ «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» لِلْإمامِ النَّوَوِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ اسْتِدْلالِ الإمامِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَلى دَعْوى ثُبُوتِ الحُرْمَةِ بِرَضْعَةٍ واحِدَةٍ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُمَّهاتُكُمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ﴾ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا ما نَصُّهُ: «واعْتَرَضَ أصْحابُ الشّافِعِيِّ عَلى المالِكِيَّةِ فَقالُوا: إنَّما كانَتْ تَحْصُلُ الدَّلالَةُ لَكم لَوْ كانَتِ الآيَةُ واللّاتِي أرْضَعْنَكم أُمَّهاتِكم» انْتَهى، ولَمْ يُصَرِّحْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّ الآيَةَ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِها المالِكِيَّةُ مُشْعِرَةٌ بِالخَمْسِ بَلِ اقْتَصَرَ عَلى أنَّ الدَّلالَةَ عَلى الواحِدَةِ لا تَحْصُلُ بِها وأرادَ أنَّ ما أشَرْنا إلَيْهِ مِنَ الإشْعارِ القَوِيِّ إلى التَّعَدُّدِ يَأْبى حَمْلَ الماهِيَّةِ عَلى أقَلِّ ما تَتَحَقَّقُ فِيهِ، وفي بَعْضِ نُسَخِ ذَلِكَ الشَّرْحِ واعْتَرَضَ أصْحابُ الشّافِعِيِّ عَلى المالِكِيَّةِ فَقالُوا: إنَّما كانَتْ تَحْصُلُ لَكُمُ الدَّلالَةُ لَوْ كانَتِ الآيَةُ واللّاتِي أرْضَعْنَكم وأُمَّهاتِكم بِواوٍ بَيْنَ أرْضَعْنَكم وبَيْنَ أُمَّهاتِكم والظّاهِرُ أنَّها غَلَطٌ مِنَ النّاسِخِ، والتِزامُ تَوْجِيهِها تَعَسُّفٌ رَأيْنا تَرْكَهُ رِبْحًا.
(p-257)هَذا ما ظَهَرَ لِنَظَرِي القاصِرِ وفِكْرِي الفاتِرِ، ولَقَدْ سَألْتُ بِالرِّفْقِ عَنْ هَذا الفَرْقِ جَمْعًا مِن عُلَماءِ عَصْرِي، وراجَعْتُ لِشَرْحِ ذَلِكَ المَتْنِ جَمِيعَ الفُضَلاءِ الَّذِينَ تَضَمَّنَتْهم حَواشِي مِصْرِيٍّ فَلَمْ أرَ مَن نَطَقَ بِبِنْتِ شَفَةٍ ولا مَنِ ادَّعى في حَلِّ ذَلِكَ الإشْكالِ مَعْرِفَةً مَعَ أنَّ مِنهم مَن خَضَعَتْ لَهُ الأعْناقُ، وطَبَقَتْ فَضائِلُهُ الآفاقَ، وما رَأيْتُ مِنَ المُرُوءَةِ أنْ أُمْهِلَهم حَتّى يُنْقَرَ في النّاقُورِ أوْ أنْتَظِرُ بَناتَ أفْكارِهِمْ إلى أنْ يَلِدَ البَغْلُ العاقُورُ الباقُورُ؛ فَكَتَبْتُ ما تَرى ولَسْتُ عَلى يَقِينٍ أنَّهُ الأوْلى والأحْرى فَتَأمَّلْ، فَلِمَسْلَكِ الذِّهْنِ اتِّساعٌ والحَقُّ أحَقُّ بِالِاتِّباعِ.
﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ المُحَرَّماتِ مِن جِهَةِ المُصاهَرَةِ إثْرَ بَيانِ المُحَرَّماتِ مِن جِهَةِ الرَّضاعَةِ الَّتِي لَها لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ. والمُرادُ بِالنِّساءِ المَنكُوحاتُ عَلى الإطْلاقِ سَواءٌ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ أوْ لا وهو مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ النِّكاحُ صَحِيحًا أمّا إذا كانَ فاسِدًا فَلا تُحَرَّمُ الأُمُّ إلّا إذا وطِئَ بِنْتَها، أخَرَجَ البَيْهَقِيُّ في «سُنَنِهِ» . وغَيْرُهُ مِن طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «“ إذا نَكَحَ الرَّجُلُ المَرْأةَ فَلا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّها دَخَلَ بِالِابْنَةِ أوْ لَمْ يَدْخُلْ وإذا تَزَوَّجَ الأُمَّ ولَمْ يَدْخُلْ بِها ثُمَّ طَلَّقَها فَإنْ شاءَ تَزَوَّجَ الِابْنَةَ» وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِوايَتانِ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «النِّساءُ مُبْهَمَةٌ إذا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها أوْ ماتَتْ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّها» . وأخْرَجَ هو أيْضًا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عُوَيْمِرٍ أنَّهُ قالَ: نَكَحْتُ امْرَأةً فَلَمْ أدْخُلْ بِها حَتّى تُوُفِّيَ عَمِّي عَنْ أُمِّها فَسَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ فَقالَ: انْكِحْ أُمَّها، وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أيْضًا رِوايَتانِ، فَقَدْ أخْرَجَ مالِكٌ عَنْهُ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً فَفارَقَها قَبْلَ أنْ يَمَسَّها هَلْ تَحِلُّ لَهُ أُمُّها؟ فَقالَ: لا الأُمُّ مُبْهَمَةٌ لَيْسَ فِيها شَرْطٌ إنَّما الشَّرْطُ في الرَّبائِبِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وجَماعَةٌ عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: إذا ماتَتْ عِنْدَهُ فَأخَذَ مِيراثَها كُرِهَ أنْ يُخْلِفَ عَلى أُمِّها، وإذا طَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها فَلا بَأْسَ أنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّها، وحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كانَ يُفْتِي بِحِلِّ أُمِّ المَرْأةِ إذا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِبِنْتِها ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ أخْرَجَ مالِكٌ عَنْهُ أنَّهُ اسْتُفْتِيَ بِالكُوفَةِ عَنْ نِكاحِ الأُمِّ بَعْدَ البِنْتِ إذا لَمْ تَكُنِ البِنْتُ مُسَّتْ فَأرْخَصَ في ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ قَدِمَ المَدِينَةَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأخْبَرَ أنَّهُ لَيْسَ كَما قالَ، وإنَّ الشَّرْطَ في الرَّبائِبِ فَرَجَعَ إلى الكُوفَةِ فَلَمْ يَصِلْ إلى بَيْتِهِ حَتّى أتى الرَّجُلَ الَّذِي أفْتاهُ بِذَلِكَ فَأمَرَهُ أنْ يُفارِقَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ سُئِلَ في الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ المَرْأةَ ثُمَّ يُطَلِّقُها أوْ تَمُوتُ قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها هَلْ تَحِلُّ لَهُ أُمُّها؟ فَقالَ: هي بِمَنزِلَةِ الرَّبِيبَةِ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ومُجاهِدٌ، ويَدْخُلُ في لَفْظِ الأُمَّهاتِ الجَدّاتُ مِن قِبَلِ الأبِ والأُمِّ وإنْ عَلَوْنَ وإنْ كانَتِ امْرَأةُ الرَّجُلِ أمَةً فَلا تَحْرُمُ أُمُّها إلّا بِالوَطْءِ أوْ دَواعِيهِ لِأنَّ لَفْظَ النِّساءِ إذا أُضِيفَ إلى الأزْواجِ كانَ المُرادُ مِنهُ الحَرائِرَ كَما في الظِّهارِ والإيلاءِ، وقُرِئَ وأُمَّهاتُ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ الرَّبائِبُ جَمْعُ رَبِيبَةٍ ورَبَّ ورَبى بِمَعْنًى، والرَّبِيبُ فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، ولَمّا أُلْحِقَ بِالأسْماءِ الجامِدَةِ جازَ لُحُوقُ التّاءِ لَهُ وإلّا فَفَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، وهَذا مَعْنى قَوْلِهِمْ: إنَّ التّاءَ لِلنَّقْلِ إلى الِاسْمِيَّةِ، والرَّبِيبُ ولَدُ المَرْأةِ مِن آخَرَ سُمِّيَ بِهِ لِأنَّهُ يِرُبُّهُ غالِبًا كَما يَرُبُّ ولَدَهُ، والحُجُورُ جَمْعُ حَجْرٍ بِالفَتْحِ والكَسْرِ، وهو في اللُّغَةِ حِضْنُ الإنْسانِ أعْنِي ما دُونُ إبِطِهِ إلى الكَشْحِ، وقالُوا: فُلانٌ في حَجْرِ فُلانٍ أيْ في كَنَفِهِ ومَنعَتِهِ وهو المُرادُ في الآيَةِ، ووَصْفُ الرَّبائِبِ بِكَوْنِهِنَّ في الحُجُورِ مُخْرَجٌ مَخْرَجَ الغالِبِ والعادَةُ إذِ الغالِبُ كَوْنُ البِنْتِ مَعَ الأُمِّ عِنْدَ الزَّوْجِ، وفائِدَتُهُ تَقْوِيَةُ عِلَّةِ الحُرْمَةِ، كَما أنَّها النُّكْتَةُ في إيرادِهِنَّ بِاسْمِ الرَّبائِبِ دُونَ بَناتِ النِّساءِ، وقِيلَ: ذُكِرَ ذَلِكَ لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ نَحْوَ ﴿أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ (p-258)فِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ ولَوْلا ما ذُكِرَ لَثَبَتَتِ الإباحَةُ عِنْدَ انْتِفائِهِ بِدَلالَةِ اللَّفْظِ في غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْقِ عِنْدَ مَن يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ المُخالَفَةِ وبِالرُّجُوعِ إلى الأصْلِ وهو الإباحَةُ عِنْدَ مَن لا يَعْتَبِرُ المَفْهُومَ لِأنَّ الخُرُوجَ عَنْهُ إلى التَّحْرِيمِ مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ فَإذا انْتَفى القَيْدُ رَجَعَ إلى الأصْلِ لا بِدَلالَةِ اللَّفْظِ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ يَقُولُ بِحِلِّ الرَّبِيبَةِ إذا لَمْ تَكُنْ في الحَجْرِ؛ فَقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مالِكِ بْنِ أوْسٍ قالَ: «كانَتْ عِنْدِي امْرَأةٌ فَتُوُفِّيَتْ وقَدْ ولَدَتْ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْها فَلَقِيَنِي عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ فَقالَ: ما لَكَ؟ فَقُلْتُ: تُوُفِّيَتِ المَرْأةُ فَقالَ: لَها بِنْتٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وهي بِالطّائِفِ قالَ: كانَتْ في حِجْرِكَ؟ قُلْتُ: لا قالَ: أنْكِحْها قُلْتُ: فَأيْنَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَبائِبُكُمُ اللاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ ؟ قالَ: إنَّها لَمْ تَكُنْ في حِجْرِكَ إنَّما ذَلِكَ إذا كانَتْ في حِجْرِكَ» وإلى هَذا ذَهَبَ داوُدُ، والأوَّلُ مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وإلَيْهِ رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ويَدْخُلُ في الحُرْمَةِ بَناتُ الرَّبِيبَةِ والرَّبِيبِ وإنْ سَفُلْنَ لِأنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُهُنَّ بِخِلافِ الأبْناءِ والآباءِ لِأنَّهُ اسْمٌ خاصٌّ بِهِنَّ فَلِذا جازَ التَّزَوُّجُ بِأُمِّ زَوْجَةِ الِابْنِ وبِنْتِها، وجازَ لِلِابْنِ التَّزَوُّجُ بِأُمِّ زَوْجَةِ الأبِ وبِنْتِها.
وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ المَذْكُوراتِ بِالإجْماعِ.
﴿مِن نِسائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ الجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن ( رَبائِبُكم ) أوْ مِن ضَمِيرِها المُسْتَكِنِّ في الظَّرْفِ أيِ اللّاتِي اسْتَقْرَرْنَ في حُجُورِكم كائِناتٍ مِن نِسائِكُمُ إلَخْ، و( اللّاتِي ) صِفَةٌ لِلنِّساءِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ، وهي لِلتَّقْيِيدِ إذْ رَبِيبَةُ الزَّوْجَةِ الغَيْرِ المَدْخُولِ بِها لَيْسَتْ بِحَرامٍ ولا يَجُوزُ كَوْنُ الجارِّ حالًا مِن أُمَّهاتٍ أيْضًا، أوْ مِمّا أُضِيفَتْ هي إلَيْهِ ضَرُورَةَ أنَّ الحالِيَّةَ مِن رَبائِبِكم أوْ مِن ضَمِيرِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ مِنِ ابْتِدائِيَّةً وحالِيَّتُهُ مِن أُمَّهاتٍ، أوْ مِن نِسائِكم يَسْتَدْعِي كَوْنَها بَيانِيَّةً، وادِّعاءُ كَوْنِها اتِّصالِيَّةً كَما في قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ««أنْتَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هارُونَ مِن مُوسى»» وقَوْلِهِ:
؎إذا حاوَلْتَ في أسَدٍ فُجُورًا ∗∗∗ فَلَسْتُ مِنكَ ولَسْتَ مِنِّي
وهُوَ مَعْنًى يَنْتَظِمُ الِابْتِداءُ والبَيانُ فَيَتَناوَلُ اتِّصالَ الأُمَّهاتِ بِالنِّساءِ لِأنَّهُنَّ والِداتٌ، وبِالرَّبائِبِ لِأنَّهُنَّ مَوْلُوداتٌ، أوْ جَعَلَ المَوْصُولَ صِفَةً لِلنَّسّاءَيْنِ مَعَ اخْتِلافِ عامِلَيْهِما لِأنَّ النِّساءَ المُضافَ إلَيْهِ أُمَّهاتٌ مَخْفُوضٌ بِالإضافَةِ، والمَجْرُورُ بِمِن بِها بَعِيدٌ جِدًّا بَلْ يَنْبَغِي أنْ يُنَزَّهَ ساحَةُ التَّنْزِيلِ عَنْهُ، وأمّا القِراءَةُ فَضَعِيفَةُ الرِّوايَةِ، وعَلى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلى النَّسْخِ كَما قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ، والباءُ مِن ( بِهِنَّ ) لِلتَّعْدِيَةِ، وفِيها مَعْنى المُصاحِبَةِ أوْ بِمَعْنى مَعَ أيْ دَخَلْتُمْ مَعَهُنَّ السِّتْرَ، وهو كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ كَبُنى عَلَيْها، وضَرَبَ عَلَيْها الحِجابَ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَقُولُ: بَنى بِها، ووَهَمَهُمُ الحَرِيرِيُّ وهو وهْمٌ.
واللَّمْسُ ونَظائِرُهُ في حُكْمِ الجِماعِ عِنْدَ الإمامِ الأعْظَمِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، قالَ بَعْضُ الفُضَلاءِ: واعْتُرِضَ بِأنَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ لا مَجالَ لَهُ لِأنَّ صَرِيحَ الآيَةِ غَيْرُ مُرادٍ قَطْعًا بَلْ ما اشْتُهِرَ مِن مَعْناها الكِنائِيِّ فَما قالَهُ إنْ أُثْبِتَ بِالقِياسِ فَهو مُخالِفٌ لِصَرِيحِ مَعْنى الشَّرْطِ، وإذا جاءَ نَهْرُ اللَّهِ تَعالى بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ، وإنْ أُثْبِتَ بِالحَدِيثِ وهو غَيْرُ مَشْهُورٍ لَمْ يُوافِقْ أُصُولَهُ، ويُدْفَعُ بِأنَّهُ مِن صَرِيحِ النَّصِّ لِأنَّ باءَ الإلْصاقِ صَرِيحَةٌ فِيهِ لِأنَّهُ يُقالُ: دَخَلَ بِها إذا أمْسَكَها وأدْخَلَها البَيْتَ فَإنْ قُلْتَ: هَبْ أنَّ الكِنايَةَ لا يُشْتَرَطُ فِيها القَرِينَةُ المانِعَةُ عَنْ إرادَةِ الحَقِيقَةِ لَكِنْ تَلْزَمُ إرادَتُهُ كَما حَقَّقَ في المَعانِي فَلا دَلالَةَ لِلْآيَةِ عَلَيْهِ أُجِيبُ: بِأنَّهُ وإنْ لَمْ يَلْزَمْ إرادَتَهُ لَكِنْ لا مانِعَ مِنهُ عِنْدَ قِيامِ قَرِينَةٍ عَلى إرادَتِهِ، وكَفى بِالآثارِ قَرِينَةٌ، ومِنها ما رُوِيَ مِن طَرِيقِ ابْنِ وهْبٍ عَنْ أبِي أيُّوبَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ««أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ في الَّذِي (p-259)يَتَزَوَّجُ المَرْأةَ فَيَغْمِزُ لا يَزِيدُ عَلى ذَلِكَ لا يَتَزَوَّجُ ابْنَتَها»» وهو مُرْسَلٌ ومُنْقَطِعٌ إلّا أنَّ هَذا لا يَقْدَحُ عِنْدَنا إذا كانَتِ الرِّجالُ ثِقاتٍ فَلِذا أدْرَجُوهُ في مَدْلُولِ النَّظْمِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: «إذا جامَعَ الرَّجُلُ المَرْأةَ أوْ قَبَّلَها أوْ لَمَسَها بِشَهْوَةٍ أوْ نَظَرَ إلى فَرْجِها بِشَهْوَةٍ حُرِّمَتْ عَلى أبِيهِ وابْنِهِ وحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّها وبِنْتُها.
فَإنْ قُلْتَ هَبْ أنَّهُ يُدْخِلُ اللَّمْسَ في صَرِيحِهِ فَكَيْفَ يَدْخُلُ نَظِيرُهُ فِيهِ؟ أُجِيبُ بِأنَّهُ داخِلٌ بِدَلالَةِ النَّصِّ، وما ذُكِرَ مِن مُخالَفَةِ صَرِيحِ الشَّرْطِ مَبْنِيٌّ عَلى اعْتِبارِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ، ونَحْنُ لا نَقُولُ بِهِ مَعَ أنَّهُ غَيْرُ عامٍّ، وبِتَقْدِيرِ عُمُومِهِ لا يَبْعُدُ القَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ فَتَدَبَّرْ.
والزِّنا في الفَرْجِ مُحَرَّمٌ عِنْدَنا فَمَن زَنى بِامْرَأةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِنْتُها خِلافًا لِلشّافِعِيِّ حَيْثُ ذَهَبَ إلى أنَّ الزِّنا لا يُوجِبُ حُرْمَةَ المُصاهَرَةِ لِأنَّها نِعْمَةٌ فَلا تُنالُ بِمَحْظُورٍ، ولِقَوْلِهِ ﷺ: «لا يُحَرِّمُ الحَرامُ الحَلالَ» ولَنا أنَّ الوَطْءَ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ قِياسًا عَلى الوَطْءِ الحَلالِ، ووَصْفُ الحَلِّ لا دَخْلَ لَهُ في المَناطِ فَإنَّ وطْءَ الأمَةِ المُشْتَرِكَةِ وجارِيَةِ الِابْنِ والمُكاتَبَةِ والمُظاهَرِ مِنها وأمَتِهِ المَجُوسِيَّةِ والحائِضِ والنُّفَساءِ ووَطْءَ المُحْرِمِ والصّائِمِ كُلُّهُ حَرامٌ، وتَثْبُتُ بِهِ الحُرْمَةُ المَذْكُورَةُ، ويَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ في الأصْلِ هو ذاتُ اِلْوَطْءِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ لِكَوْنِهِ حَلالًا أوْ حَرامًا. ورُوِيَ «أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ بِامْرَأةٍ في الجاهِلِيَّةِ أفَأنْكَحُ ابْنَتَها فَقالَ ﷺ: ”لا أرى ذَلِكَ ولا يَصْلُحُ أنْ تَنْكِحَ امْرَأةً تَطَّلِعُ مِنِ ابْنَتِها عَلى ما تَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنها“»، وهَذا وإنْ كانَ فِيهِ إرْسالٌ وانْقِطاعٌ لَكِنْ جِئْنا بِهِ في مُقابَلَةِ خَبَرِهِمْ وقَدْ طَعَنَ فِيهِ المُحَدِّثُونَ، وذَكَرَهُ عَبْدُ الحَقِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ قالَ: في إسْنادِهِ إسْحاقُ بْنُ أبِي فَرْوَةَ وهو مَتْرُوكٌ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُجْرًى عَلى ظاهِرِهِ، أرَأيْتَ لَوْ بالَ أوْ صَبَّ خَمْرًا في ماءٍ قَلِيلٍ ألَمْ يَكُنْ حَرامًا مَعَ أنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمالُهُ فَيَجِبُ كَوْنُ المُرادِ مِنهُ أنَّ الحَرامَ لا يَحْرُمُ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ حَرامًا وحِينَئِذٍ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ إذْ لَمْ نَقُلْ بِإثْباتِ الزِّنا حُرْمَةُ المُصاهَرَةِ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ زِنًا بَلْ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ وطْءً، وأجابَ صاحِبُ «الهِدايَةِ» عَنْ قَوْلِهِمْ في تَعْلِيلِ كَوْنِ الزِّنا لا يُوجِبُ حُرْمَةَ المُصاهَرَةِ بِأنَّها نِعْمَةٌ فَلا تُنالُ بِمَحْظُورٍ «بِأنَّ الوَطْءَ يُحَرَّمُ مِن حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ لِلْوَلَدِ لا مِن حَيْثُ ”ذاتُهُ ولا مِن حَيْثُ“ إنَّهُ زِنًا»، وفي «فَتْحِ القَدِيرِ» أنَّ هَذا القَوْلَ «مَغْلَطَةٌ فَإنَّ النِّعْمَةَ لَيْسَتِ التَّحْرِيمَ مِن حَيْثُ هو تَحْرِيمٌ لِأنَّهُ تَضْيِيقٌ ولِذا اتَّسَعَ الحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ”نِعْمَةً“ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بَلْ مِن حَيْثُ هو يَتَرَتَّبُ عَلى المُصاهَرَةِ فَحَقِيقَةُ النِّعْمَةِ هي المُصاهَرَةُ لِأنَّها الَّتِي تُصَيِّرُ الأجْنَبِيَّ قَرِيبًا ”عَضُدًا وساعِدًا يُهِمُّهُ ما أهُمَّكَ ولا مُصاهَرَةَ بِالزِّنا، فالصِّهْرُ زَوْجُ البِنْتِ مَثَلًا لا مِن زِنًا بِبِنْتِ الإنْسانِ فانْتَفَتِ الصَّهْرِيَّةُ وفائِدَتُها أيْضًا إذِ الإنْسانُ يَنْفِرُ مِنَ الزّانِي بِبِنْتِهِ فَلا يَتَعَرَّفُ بِهِ بَلْ يُعادِيهِ فَأنّى يَنْتَفِعُ بِهِ،“ والمَنقُولاتُ مُتَكافِئَةٌ فالمَرْجِعُ القِياسُ، وقَدْ بَيَّنّا فِيهِ إلْغاءَ وصْفٍ زائِدٍ عَلى كَوْنِهِ وصْفًا»، وتَمامُ الكَلامِ في المَبْسُوطاتِ مِن كُتُبِ أئِمَّتِنا.
﴿فَإنْ لَمْ تَكُونُوا﴾ أيْ فِيما قَبْلُ ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ أيْ بِأُولَئِكَ النِّساءِ أُمَّهاتِ الرَّبائِبِ ﴿فَلا جُناحَ﴾ أيْ فَلا إثْمَ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أصْلًا في نِكاحِ بَناتِهِنَّ إذا طَلَّقْتُمُوهُنَّ أوْ مِتْنَ، وهَذا تَصْرِيحٌ بِما أشْعَرَ بِهِ ما قَبْلَهُ، وفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمٍ أنَّ قَيْدَ الدُّخُولِ كَقَيْدِ الكَوْنِ في الحُجُورِ، والفاءُ الأُولى لِتَرْتِيبِ ما بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها عَلى طَرْزِ ما مَرَّ، وفي الِاقْتِصارِ في بَيانِ نَفْيِ الحُرْمَةِ عَلى نَفْيِ الدُّخُولِ إشارَةٌ إلى أنَّ المُعْتَبَرَ في الحُرْمَةِ إنَّما هو الدُّخُولُ دُونَ كَوْنِ الرَّبائِبِ في الحُجُورِ، وإلّا لَقِيلَ: فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ولَسْنَ في حُجُورِكم أوْ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أوْ لَسْنَ في حُجُورِكم جَرْيًا عَلى العادَةِ في إضافَةِ نَفْيِ الحُكْمِ إلى نَفْيٍ تَمامِ العِلَّةِ المُرَكَّبَةِ أوْ أحَدِ جُزْأيْها الدّائِرِ، وإنْ صَحَّ إضافَتُهُ إلى نَفْيِ جُزْئِها المُعَيَّنِ لَكِنَّهُ خِلافَ المُسْتَمِرِّ مِنَ الِاسْتِعْمالِ.
﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ﴾ أيْ زَوْجاتُهم جَمْعُ حَلِيلَةٍ سُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ بِذَلِكَ لِأنَّها تَحِلُّ (p-260)مَعَ زَوْجِها في فِراشٍ واحِدٍ، أوْ لِأنَّها تَحِلُّ مَعَهُ حَيْثُ كانَ فَهي فَعِيلَةٌ بِمَعْنى فاعِلَةٍ، وكَذا يُقالُ لِلزَّوْجِ حَلِيلٌ. وقِيلَ: اشْتِقاقُهُما مِنَ الحَلِّ لِحَلِّ كُلٍّ مِنهُما إزارَ صاحِبِهِ، وقِيلَ: مِنَ الحِلِّ إذْ كَلٌّ مِنهُما حَلالٌ لِصاحِبِهِ فَفَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، والتّاءُ في حَلِيلَةٍ لِإجْرائِها مَجْرى الجَوامِدِ ولَوْ جُعِلَ فَعِيلٌ في جانِبِ الزَّوْجِ بِمَعْنى فاعِلٍ، وفي جانِبِ الزَّوْجَةِ بِمَعْنى مَفْعُولٍ كانَ فِيهِ نَوْعُ لَطافَةٍ لا تَخْفى، والآيَةُ ظاهِرَةٌ في تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ فَقَطْ، وأمّا حُرْمَةُ مَن وطِئَها الِابْنُ مِمَّنْ لَيْسَ بِزَوْجَةٍ فَبِدَلِيلٍ آخَرَ، وقالَ ابْنُ الهُمامِ: «إنِ اعْتُبِرَ الحَلِيلَةُ مِن حُلُولِ الفِراشِ أوْ حَلِّ الإزارِ تَناوَلَ المَوْطُوأةَ بِمِلْكِ اليَمِينِ أوْ شُبْهَةٍ أوْ زِنًا فَيَحْرُمُ الكُلُّ عَلى الآباءِ وهو الحُكْمُ الثّابِتُ عِنْدَنا. . . ولا يَتَناوَلُ المَعْقُودَ عَلَيْها لِلِابْنِ أوْ بَنِيهِ وإنْ سَفُلُوا قَبْلَ الوَطْءِ والفَرْضِ أنَّها بِمُجَرَّدِ العَقْدِ تَحْرُمُ عَلى الآباءِ وذَلِكَ بِاعْتِبارِهِ مِنَ الحِلِّ بِالكَسْرِ، وقَدْ قامَ الدَّلِيلُ عَلى حُرْمَةِ المَزْنِيِّ بِها لِلِابْنِ عَلى الأبِ فَيَجِبُ اعْتِبارُهُ في أعَمَّ مِنَ الحِلِّ والحَلِّ، ثُمَّ يُرادُ بِالأبْناءِ الفُرُوعُ فَتَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ السّافِلِ عَلى الجَدِّ الأعْلى» وكَذا ابْنُ البِنْتِ وإنْ سَفُلَ، والظّاهِرُ مِن كَلامِ اللُّغَوِيِّينَ أنَّ الحَلِيلَةَ الزَّوْجَةُ كَما أشَرْنا إلَيْهِ، واخْتارَ بَعْضُهم إرادَةَ المَعْنى الأعَمِّ الشّامِلِ لِمِلْكِ اليَمِينِ لِيَكُونَ السِّرُّ في التَّعْبِيرِ بِها هُنا دُونَ الأزْواجِ أوِ النِّساءِ أنَّ الرَّجُلَ رُبَّما يَظُنُّ أنَّ مَمْلُوكَةَ ابْنِهِ مَمْلُوكَةٌ لَهُ بِناءًا عَلى أنَّ الوَلَدَ ومالَهُ لِأبِيهِ فَلا يُبالِي بِوَطْئِها وإنْ وطِئَها الِابْنُ فَنَبَّهُوا عَلى تَحْرِيمِها بِعُنْوانٍ صادِقٍ عَلَيْها وعَلى الزَّوْجَةِ صِدْقَ العامِّ عَلى أفْرادِهِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَهُما فَتَدَبَّرْ، وحُكْمُ المَمْسُوساتِ ونَحْوِهِنَّ حُكْمُ اللّاتِي وطِئَهُنَّ الأبْناءُ.
﴿الَّذِينَ مِن أصْلابِكُمْ﴾ صِفَةٌ لِلْأبْناءِ، وذُكِرَ لِإسْقاطِ حَلِيلَةِ المُتَبَنّى، وعَنْ عَطاءٍ أنَّها نَزَلَتْ حِينَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ ﷺ امْرَأةَ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقالَ المُشْرِكُونَ في ذَلِكَ، ولَيْسَ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ إسْقاطُ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنَ الرِّضاعِ فَإنَّها حَرامٌ أيْضًا كَحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنَ النَّسَبِ. وذَكَرَ بَعْضُهم فِيهِ خِلافًا لِلشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ والمَشْهُورُ عَنْهُ الوِفاقُ في ذَلِكَ.
﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ في حَيِّزِ الرَّفْعِ عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ المُحَرَّماتِ، والمُرادُ جَمْعُهُما في النِّكاحِ لا في مِلْكِ اليَمِينِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِما أُخْتَيْنِ مِنَ النَّسَبِ أوِ الرَّضاعَةِ حَتّى قالُوا: لَوْ كانَ لَهُ زَوْجَتانِ رَضِيعَتانِ أرْضَعَتْهُما أجْنَبِيَّةٌ فَسَدَ نِكاحُهُما. وحُكِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ يَفْسُدُ نِكاحُ الثّانِيَةِ فَقَطْ ولا يَحْرُمُ الجَمْعُ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ في مِلْكِ اليَمِينِ، نَعَمْ جَمَعَهُما في الوَطْءِ بِمِلْكِ اليَمِينِ مُلْحَقٌ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلالَةِ لِاتِّحادِهِما في المَدارِ فَيَحْرُمُ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وعَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عُمَرَ، وعَمّارُ بْنُ ياسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم. واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، فَأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ أُمَتانِ أُخْتانِ وطِئَ إحْداهُما ثُمَّ أرادَ أنْ يَطَأ الأُخْرى قالَ: لا حَتّى يُخْرِجَها مِن مِلْكِهِ،وأخْرَجا مِن طَرِيقِ أبِي صالِحٍ عَنْهُ أنَّهُ قالَ في الأُخْتَيْنِ المَمْلُوكَتَيْنِ أحَلَّتْهُما آيَةٌ وحَرَّمَتْهُما آيَةٌ ولا آمُرُ ولا أنْهى ولا أُحَلِّلُ ولا أُحَرِّمُ ولا أفْعَلُهُ أنا ولا أهْلُ بَيْتِي، ورَوى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الجَمْعَ مِمّا لا بَأْسَ بِهِ، وحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ما أُحِبُّ أنْ أُجِيزَ الجَمْعَ ونَهى السّائِلُ عَنْهُ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الظّاهِرَ أنَّ القائِلَ بِالحِلِّ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم رَجَعَ إلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، وإنْ قُلْنا بِعَدَمِ الرُّجُوعِ فالإجْماعُ اللّاحِقُ يَرْفَعُ الخِلافَ السّابِقَ، وإنَّما يَتِمُّ إذا لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلافِ أهْلِ الظّاهِرِ وبِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ فالمُرَجَّحُ التَّحْرِيمُ عِنْدَ المُعارَضَةِ، وإذا تَزَوَّجَ أُخْتَ أمَتِهِ المَوْطُوأةِ صَحَّ النِّكاحُ وحَرُمَ وطْءُ واحِدَةٍ مِنهُما حَتّى يُحَرِّمَ المَوْطُوأةَ عَلى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ فَحِينَئِذٍ يَطَأُ المَنكُوحَةَ لِعَدَمِ الجَمْعِ -كالبَيْعِ كُلًّا أوْ بَعْضًا – والمُتَزَوِّجُ (p-261)الصَّحِيحُ والهِبَةُ مَعَ التَّسْلِيمِ والإعْتاقُ كُلًّا أوْ بَعْضًا والكِتابَةُ ولَوْ تَزَوَّجَ الأُخْتَ نِكاحًا فاسِدًا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أمَتُهُ المَوْطُوأةُ إلّا إذا دَخَلَ بِالمَنكُوحَةِ فَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ المَوْطُوأةُ لِوُجُودِ الجَمْعِ بَيْنَهُما حَقِيقَةً، ولا يُؤَثِّرُ الإحْرامُ والحَيْضُ والنِّفاسُ والصَّوْمُ وكَذا الرَّهْنُ والإجارَةُ والتَّدْبِيرُ لِأنَّ فَرْجَها لا يَحْرُمُ بِهَذِهِ الأسْبابِ، وإذا عادَتِ المَوْطُوأةُ إلى مِلْكِهِ بَعْدَ الإخْراجِ سَواءٌ كانَ بِفَسْخٍ أوْ شِراءٍ جَدِيدٍ لَمْ يَحِلَّ وطْءُ واحِدَةٍ مِنهُما حَتّى يُحَرِّمَ الأمَةَ عَلى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ كَما كانَ أوَّلًا، وظاهِرُ قَوْلِهِمْ: لا يَحِلُّ الوَطْءُ حَتّى يَحْرُمَ أنَّ النِّكاحَ صَحِيحٌ، وقَدْ نَصُّوا عَلى ذَلِكَ وعَلَّلُوهُ بِصُدُورِهِ عَنْ أهْلِهِ مُضافًا إلى مَحَلِّهِ، وأوْرَدَ عَلَيْهِ أنَّ المَنكُوحَةَ مَوْطُوأةٌ حُكْمًا بِاعْتِرافِهِمْ فَيَصِيرُ بِالنِّكاحِ جامِعًا وطْءً حُكْمًا وهو باطِلٌ، ومِن هُنا ذَهَبَ بَعْضُ المالِكِيَّةِ إلى عَدَمِ الصِّحَّةِ، وأُجِيبُ بِأنَّ لُزُومَ الجَمْعِ بَيْنَهُما وطْءً حُكْمًا لَيْسَ بِلازِمٍ لِأنَّ بِيَدِهِ إزالَتَهُ فَلا يَضُرُّ بِالصِّحَّةِ ويَمْنَعُ مِنَ الوَطْءِ بَعْدَها لِقِيامِهِ إذْ ذاكَ، وإسْنادُ الحُرْمَةِ إلى الجَمْعِ لا إلى الثّانِيَةِ بِأنْ يُقالَ: وأخَواتُ نِسائِكم لِلِاحْتِرازِ عَنْ إفادَةٍ الحُرْمَةِ المُؤَبَّدَةِ كَما في المُحَرَّماتِ السّابِقَةِ، ولِكَوْنِهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إفادَةِ حُرْمَةِ الجَمْعِ عَلى سَبِيلِ المَعِيَّةِ، ويَشْتَرِكُ في هَذا الجَمْعُ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها أوْ خالَتِها ونَظائِرُ ذَلِكَ فَإنَّ مَدارَ حُرْمَةِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إفْضاؤُهُ خِلافًا لِما في «المَبْسُوطِ» إلى قَطْعِ ما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِوَصْلِهِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ مِن قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «فَإنَّكم إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أرْحامَكم» وما رَواهُ أبُو داوُدَ في «مَراسِيلِهِ» عَنْ عِيسى بْنِ طَلْحَةَ قالَ: «نَهى النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ تُنْكَحَ المَرْأةُ عَلى قَرابَتِها مَخافَةَ القَطِيعَةِ»» وذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ في الجَمْعِ بَيْنَ مَن ذَكَرْنا بَلْ أوْلى فَإنَّ العَمَّةَ والخالَةَ بِمَنزِلَةِ الأُمِّ فَقَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُبالِغًا في بَيانِ التَّحْرِيمِ: ”«لا تَنْكِحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها ولا عَلى خالَتِها ولا عَلى ابْنَةِ أُخْتِها ولا عَلى ابْنَةِ أخِيها“» مِن قَبِيلِ بَيانِ التَّفْسِيرِ لا بَيانِ التَّعْبِيرِ عِنْدَ بَعْضِ المُحَقِّقِينَ. وقالَ آخَرُونَ: إنَّ الحَدِيثَ مَشْهُورٌ فَقَدْ ثَبَتَ في «صَحِيحَيْ مُسْلِمٍ وابْنِ حِبّانَ»، ورَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ، وتَلَقّاهُ الصَّدْرُ الأوَّلُ بِالقَبُولِ مِنَ الصَّحابَةِ، والتّابِعِينَ، ورَواهُ الجَمُّ الغَفِيرُ مِنهم أبُو هُرَيْرَةَ وجابِرٌ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ وابْنُ مَسْعُودٍ وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ بَلْ لَوْ كانَ مِن أخْبارِ الآحادِ جازَ التَّخْصِيصُ بِهِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلى كَوْنِهِ مَشْهُورًا، وقالَ ابْنُ الهُمامِ: الظّاهِرُ أنَّهُ لا بُدَّ مِنِ ادِّعاءِ الشُّهْرَةِ لِأنَّ الحَدِيثَ مَوْقِعُهُ النَّسْخُ لا التَّخْصِيصُ، وبَيْنَهُ في «فَتْحِ القَدِيرِ» فارْجِعْ إلَيْهِ.
﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ. وقَصْدُ المُبالَغَةِ والتَّأْكِيدِ هُنا غَيْرُ مُناسِبٍ لِلتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لِأنَّ الغُفْرانَ والرَّحْمَةَ لا يُناسِبُ تَأْكِيدَ التَّحْرِيمِ. والمُرادُ مِمّا سَلَفَ ما مَضى قَبْلَ النَّهْيِ فَإنَّهم كانُوا يَجْمَعُونَ بِهِ الأُخْتَيْنِ، أخْرَجَ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وابْنُ ماجَهْ «عَنْ فَيْرُزَ الدَّيْلَمِيِّ أنَّهُ أدْرَكَهُ الإسْلامُ وتَحْتَهُ أُخْتانِ فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «طَلِّقْ أيَّتَهُما شِئْتَ»»، وقالَ عَطاءٌ والسُّدِّيُّ: مَعْناهُ إلّا ما كانَ مِن يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ إذْ جَمَعَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، لَيّا أُمِّ يَهُودا وراحِيلَ أُمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا يُساعِدُهُ التَّذْيِيلُ لِما أنَّ ما فَعَلَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنْ صَحَّ كانَ حَلالًا في شَرِيعَتِهِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى إلّا امْرَأةَ الأبِ والجَمْعَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ وأنَّهُ قالَ: ألا يُرى أنَّهُ قَدْ عَقَّبَ النَّهْيَ عَنْ كُلٍّ مِنهُما بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إلا ما قَدْ سَلَفَ﴾ وهَذا كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ يُشِيرُ إلى كَوْنِ الِاسْتِثْناءِ فِيهِما عَلى سَنَنٍ واحِدٍ ويَأْباهُ اخْتِلافُ ما بَعْدَهُما.
الجُزْءُ الرّابِعُ مِن تَفْسِيرِ رُوحِ المَعانِي، ويَتْلُوهُ الجُزْءُ الخامِسُ أوَّلُهُ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾
{"ayah":"حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَـٰلَـٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِیۤ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَ ٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَـٰعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَاۤىِٕكُمۡ وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُوا۟ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ وَحَلَـٰۤىِٕلُ أَبۡنَاۤىِٕكُمُ ٱلَّذِینَ مِنۡ أَصۡلَـٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُوا۟ بَیۡنَ ٱلۡأُخۡتَیۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق