الباحث القرآني
قالَ في المُطَلَّقَةِ ثَلاثًا ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ أيْ إنْ طَلَّقَها الثّانِيَ فَلا جُناحَ عَلَيْها وعَلى الزَّوْجِ الأوَّلِ أنْ يَتَراجَعا والمُرادُ بِهِ تَجْدِيدُ العَقْدِ، ولَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالصُّورَةِ الَّتِي يُطْلَقُ فِيها الثّانِي فَقَطْ، بَلْ مَتى تَفارَقا بِمَوْتٍ أوْ خُلْعٍ أوْ فَسْخٍ أوْ طَلاقٍ حَلَّتْ لِلْأوَّلِ، قِياسًا عَلى الطَّلاقِ.
وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ «لا تَأْكُلُوا في آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولا تَشْرَبُوا في صِحافِها فَإنَّها لَهم في الدُّنْيا، ولَكم في الآخِرَةِ».
وَقَوْلُهُ: «الَّذِي يَشْرَبُ في آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ إنّما يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ».
وَهَذا التَّحْرِيمُ لا يَخْتَصُّ بِالأكْلِ والشُّرْبِ، بَلْ يَعُمُّ سائِرَ وُجُوهِ الِانْتِفاعِ، فَلا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَغْتَسِلَ بِها، ولا يَتَوَضَّأ بِها، ولا يَدَّهِنَ فِيها، ولا يَكْتَحِلَ مِنها، وهَذا أمْرٌ لا يَشُكُّ فِيهِ عالِمٌ.
* [فَصْلٌ: حِكْمَةُ تَحْرِيمِ المَرْأةِ بَعْدَ الطَّلاقِ الثَّلاثِ]
وَأمّا تَحْرِيمُ المَرْأةِ عَلى الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلاقِ الثَّلاثِ وإباحَتُها لَهُ بَعْدَ نِكاحِها لِلثّانِي فَلا يَعْرِفُ حِكْمَتَهُ إلّا مَن لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأسْرارِ الشَّرِيعَةِ وما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِن الحِكَمِ والمَصالِحِ الكُلِّيَّةِ؛ فَنَقُولُ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَمّا كانَ إباحَةُ فَرْجِ المَرْأةِ لِلرَّجُلِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ ومَنعِهِ مِنهُ مِن أعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وإحْسانِهِ إلَيْهِ كانَ جَدِيرًا بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ومُراعاتِها، والقِيامِ بِحُقُوقِها، وعَدَمِ تَعْرِيضِها لِلزَّوالِ، وتَنَوَّعَتْ الشَّرائِعُ في ذَلِكَ بِحَسَبِ المَصالِحِ الَّتِي عَلِمَها اللَّهُ في كُلِّ زَمانٍ ولِكُلِّ أُمَّةٍ، فَجاءَتْ شَرِيعَةُ التَّوْراةِ بِإباحَتِها لَهُ بَعْدَ الطَّلاقِ ما لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَإذا تَزَوَّجَتْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، ولَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَيْها.
وَفِي ذَلِكَ مِن الحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ ما لا يَخْفى؛ فَإنَّ الزَّوْجَ إذا عَلِمَ أنَّهُ إذا طَلَّقَ المَرْأةَ وصارَ أمْرُها بِيَدِها، وأنَّ لَها أنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ، وأنَّها إذا نَكَحَتْ غَيْرَهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أبَدًا، كانَ تَمَسُّكُهُ بِها أشَدَّ، وحِذْرُهُ مِن مُفارِقَتِها أعْظَمَ، وشَرِيعَةُ التَّوْراةِ جاءَتْ بِحَسَبِ الأُمَّةِ المُوسَوِيَّةِ فِيها مِن الشِّدَّةِ والإصْرِ ما يُناسِبُ حالَها، ثُمَّ جاءَتْ شَرِيعَةُ الإنْجِيلِ بِالمَنعِ مِن الطَّلاقِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ ألْبَتَّةَ، فَإذا تَزَوَّجَ بِامْرَأةٍ فَلَيْسَ لَهُ أنْ يُطَلِّقَها، ثُمَّ جاءَتْ الشَّرِيعَةُ الكامِلَةُ الفاضِلَةُ المُحَمَّدِيَّةُ الَّتِي هي أكْمَلُ شَرِيعَةٍ نَزَلَتْ مِن السَّماءِ عَلى الإطْلاقِ وأجَلُّها وأفْضَلُها وأعْلاها وأقْوَمُها بِمَصالِحِ العِبادِ في المَعاشِ والمَعادِ بِأحْسَنِ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ وأكْمَلِهِ وأوْفَقِهِ لِلْعَقْلِ والمَصْلَحَةِ؛ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أكْمَلَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ دِينَها، وأتَمَّ عَلَيْها نِعْمَتَهُ، وأباحَ لَها مِن الطَّيِّباتِ ما لَمْ يُبِحْهُ لِأُمَّةٍ غَيْرِها، فَأباحَ لِلرَّجُلِ أنْ يَنْكِحَ مِن أطايِبِ النِّساءِ أرْبَعًا، وأنْ يَتَسَرّى مِن الإماءِ بِما شاءَ، ولَيْسَ التَّسَرِّي في شَرِيعَةٍ أُخْرى غَيْرِها، ثُمَّ أكْمَلَ لِعَبْدِهِ شَرْعَهُ، وأتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، بِأنْ مَلَّكَهُ أنْ يُفارِقَ امْرَأتَهُ ويَأْخُذَ غَيْرَها؛ إذْ لَعَلَّ الأُولى لا تَصْلُحُ لَهُ ولا تُوافِقُهُ، فَلَمْ يَجْعَلْها غُلًّا في عُنُقِهِ، وقَيْدًا في رِجْلِهِ، وإصْرًا عَلى ظَهْرِهِ، وشَرَعَ لَهُ فِراقَها عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ لَها ولَهُ، بِأنْ يُفارِقَها واحِدَةً ثُمَّ تَتَرَبَّصُ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.
والغالِبُ أنَّها في ثَلاثَةِ أشْهُرٍ، فَإنْ تاقَتْ نَفْسُهُ إلَيْها، وكانَ لَهُ فِيها رَغْبَةٌ، وصَرَفَ مُقَلِّبُ القُلُوبِ قَلْبَهُ إلى مَحَبَّتِها، وجَدَ السَّبِيلَ إلى رَدِّها مُمْكِنًا، والبابَ مَفْتُوحًا، فَراجَعَ حَبِيبَتَهُ، واسْتَقْبَلَ أمْرَهُ، وعادَ إلى يَدِهِ ما أخْرَجَتْهُ يَدُ الغَضَبِ ونَزَغاتُ الشَّيْطانِ مِنها، ثُمَّ لا يَأْمَنُ غَلَباتِ الطِّباعِ ونَزَغاتِ الشَّيْطانِ مِن المُعاوَدَةِ، فَمُكِّنَ مِن ذَلِكَ أيْضًا مَرَّةً ثانِيَةً، ولَعَلَّها أنْ تَذُوقَ مِن مَرارَةِ الطَّلاقِ وخَرابِ البَيْتِ ما يَمْنَعُها مِن مُعاوَدَةِ ما يُغْضِبُهُ، ويَذُوقُ هو مِن ألَمِ فِراقِها ما يَمْنَعُهُ مِن التَّسَرُّعِ إلى الطَّلاقِ، فَإذا جاءَتْ الثّالِثَةُ جاءَ ما لا مَرَدَّ لَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ، وقِيلَ لَهُ: قَدْ انْدَفَعَتْ حاجَتُك بِالمَرَّةِ الأُولى والثّانِيَةِ؛ ولَمْ يَبْقَ لَك عَلَيْها بَعْدَ الثّالِثَةِ سَبِيلٌ، فَإذا عَلِمَ أنَّ الثّالِثَةَ فِراقٌ بَيْنَهُ وبَيْنَها وأنَّها القاضِيَةُ أمْسَكَ عَنْ إيقاعِها، فَإنَّهُ إذا عَلِمَ أنَّها بَعْدَ الثّالِثَةِ لا تَحِلُّ لَهُ إلّا بَعْدَ تَرَبُّصِ ثَلاثَةِ قُرُوءٍ وتَزَوُّجٍ بِزَوْجٍ راغِبٍ في نِكاحِها وإمْساكِها، وأنَّ الأوَّلَ لا سَبِيلَ لَهُ إلَيْها حَتّى يَدْخُلَ بِها الثّانِي دُخُولًا كامِلًا يَذُوقُ فِيهِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عُسَيْلَةَ صاحِبِهِ بِحَيْثُ يَمْنَعُهُما ذَلِكَ مِن تَعْجِيلِ الفِراقِ ثُمَّ يُفارِقُها بِمَوْتٍ أوْ طَلاقٍ أوْ خُلْعٍ ثُمَّ تَعْتَدُّ مِن ذَلِكَ عِدَّةً كامِلَةً تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ يَأْسُهُ بِهَذا الطَّلاقِ الَّذِي هو مِن أبْغَضِ الحَلالِ إلى اللَّهِ، وعَلِمَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أنَّهُ لا سَبِيلَ لَهُ إلى العَوْدِ بَعْدَ الثّالِثَةِ، لا بِاخْتِيارِهِ ولا بِاخْتِيارِها، وأكَّدَ هَذا المَقْصُودَ بِأنْ لَعَنَ الزَّوْجَ الثّانِيَ إذا لَمْ يَنْكِحْ نِكاحَ رَغْبَةٍ يَقْصِدُ فِيهِ الإمْساكَ، بَلْ نَكَحَ نِكاحَ تَحْلِيلٍ، ولَعَنَ الزَّوْجَ الأوَّلَ إذْ رَدَّها بِهَذا النِّكاحِ، بَلْ يَنْكِحُها الثّانِي كَما نَكَحَها الأوَّلُ، ويُطَلِّقُها كَما طَلَّقَها الأوَّلُ، وحِينَئِذٍ فَتُباحُ لِلْأوَّلِ كَما تُباحُ لِغَيْرِهِ مِن الأزْواجِ.
وَأنْتَ إذا وازَنْت بَيْنَ هَذا وبَيْنَ الشَّرِيعَتَيْنِ المَنسُوخَتَيْنِ، ووازَنْت بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّرِيعَةِ المُبَدِّلَةِ المُبِيحَةِ ما لَعَنَ اللَّهُ ورَسُولُهُ فاعِلَهُ، تَبَيَّنَ لَك عَظَمَةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وجَلالَتُها، وهَيْمَنَتُها عَلى سائِرِ الشَّرائِعِ، وأنَّها جاءَتْ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ وأتَمِّها وأحْسَنِها وأنْفَعْها لِلْخَلْقِ، وأنَّ الشَّرِيعَتَيْنِ المَنسُوخَتَيْنِ خَيْرٌ مِن الشَّرِيعَةِ المُبَدِّلَةِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ شَرَعَهُما في وقْتٍ، ولَمْ يَشْرَعْ المُبَدِّلَةَ أصْلًا.
وَهَذِهِ الدَّقائِقُ ونَحْوُها مِمّا يَخْتَصُّ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِفَهْمِهِ مَن يَشاءُ؛ فَمَن وصَلَ إلَيْها فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، ومَن لَمْ يَصِلْ إلَيْها فَلْيُسَلِّمْ لِأحْكَمِ الحاكِمِينَ وأعْلَمِ العالِمِينَ.
وَلْيَعْلَمْ أنَّ شَرِيعَتَهُ فَوْقَ عُقُولِ العُقَلاءِ وفْقَ فِطَرِ الألِبّاءِ:
؎وَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمْدِ لا تَتَقَدَّمِي ∗∗∗ إلى الشَّمْسِ واسْتَغْشِي ظَلامَ اللَّيالِيا
؎وَسامِحْ ولا تُنْكِرْ عَلَيْها وخَلِّها ∗∗∗ وإنْ أنْكَرَتْ حَقًّا فَقُلْ خَلِّ ذا لِيا
غَيْرُهُ:
؎عابَ التَّفَقُّهَ قَوْمٌ لا عُقُولَ لَهم ∗∗∗ وما عَلَيْهِ إذا عابُوهُ مِن ضَرَرِ
؎ما ضَرَّ شَمْسَ الضُّحى والشَّمْسُ طالِعَةٌ ∗∗∗ أنْ لا يَرى ضَوْءَها مَن لَيْسَ ذا بَصَرِ.
* (فائدة)
وَأمّا اسْتِحْلالُ الزِّنا بِاسْمِ النِّكاحِ فَهو الزِّنا بِالمَرْأةِ الَّتِي لا غَرَضَ لَهُ أنْ يُقِيمَ مَعَها ولا أنْ تَكُونَ زَوْجَتَهُ، وإنَّما غَرَضُهُ أنْ يَقْضِيَ مِنها وطَرَهُ أوْ يَأْخُذَ جُعْلًا عَلى الفَسادِ بِها ويَتَوَصَّلُ إلى ذَلِكَ بِاسْمِ النِّكاحِ وإظْهارِ صُورَتِهِ، وقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ والمَلائِكَةُ والزَّوْجُ والمَرْأةُ أنَّهُ مُحَلِّلٌ لا ناكِحٌ، وأنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ، وإنَّما هو تَيْسٌ مُسْتَعارٌ لِلضِّرابِ بِمَنزِلَةِ حِمارِ العُشْرِيِّينَ.
فَيا لِلَّهِ العَجَبُ، أيُّ فَرْقٍ في نَفْسِ الأمْرِ بَيْنَ الزِّنا وبَيْنَ هَذا؟ نَعَمْ هَذا زِنًا بِشُهُودٍ مِن البَشَرِ وذَلِكَ زِنًا بِشُهُودٍ مِن الكِرامِ الكاتِبِينَ كَما صَرَّحَ بِهِ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالُوا: لا يَزالانِ زانِيَيْنِ وإنْ مَكَثا عِشْرِينَ سَنَةً إذا عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ إنّما يُرِيدُ أنْ يُحَلِّلَها، والمَقْصُودُ أنَّ هَذا المُحَلِّلَ إذا قِيلَ لَهُ: هَذا زِنًا، قالَ: لَيْسَ بِزِنًا بَلْ نِكاحٌ، كَما أنَّ المُرابِيَ إذا قِيلَ لَهُ: هَذا رِبًا، قالَ: بَلْ هو بَيْعٌ، وكَذَلِكَ كُلُّ مَن اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا بِتَغْيِيرِ اسْمِهِ وصُورَتِهِ كَمَن يَسْتَحِلُّ الحَشِيشَةَ بِاسْمِ لُقَيْمَةِ الرّاحَةِ، ويَسْتَحِلُّ المَعازِفَ كالطُّنْبُورِ والعُودِ والبَرْبَطِ بِاسْمٍ يُسَمِّيها بِهِ، وكَما يُسَمِّي بَعْضُهم المُغَنِّيَ بِالحادِي والمُطْرِبِ والقَوّالِ، وكَما يُسَمِّي الدَّيُّوثَ بِالمُصْلِحِ والمُوَفِّقِ والمُحْسِنِ.
* (فصل)
ومن مكايد الشيطان التي بلغ فيها مرادة: مكيدة التحليل، الذي لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله، وشبهه بالتيس المستعار، وعظم بسببه العار والشنار، وعير المسلمين به الكفار، وحصل بسببه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد واستكريت له التيوس المستعارات، وضاقت به ذرعا النفوس الأبيات، ونفرت منه أشد من نفارها من السفاح وقالت: لو كان هذا نكاحًا صحيحًا لم يلعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته، وفاعل السنة مقرب غير ملعون، والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون، فقد سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتيس المستعار، وسماه السلف بمسمار النار، فلو شاهدت الحرائر المصونات، على حوانيت المحللين متبذلات، تنظر المرأة إلى التيس نظرة الشاة إلى شفرة الجازر، وتقول: يا ليتنى قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت، نهض واستتبعها خلفه للوقت، بلا زفاف ولا إعلان، بل بالتخفى والكتمان، فلا جهاز ينقل، ولا فراش إلى بيت الزوج يحول، ولا صواحب يهدينها إليه، ولا مصلحات يجلينها عليه، ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر، ولا وليمة ولا نثار، ولا دف إعلان ولا شعار، والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر، حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب، والمطلق والولي واقفان على الباب، دنا ليطهرها بمائه النجس الحرام، ويطيبها بلعنة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، حتى إذا قضيا عرس التحليل، ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل. فإنها لا تحصل باللعن الصريح، ولا يوجبها إلا النكاح الجائر الصحيح. فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفًا وتعجيلًا، وإلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلًا. فهل سمعتم بزوج لا يأخذ بالساق حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والاتفاق؟ حتى إذا طهرها وطيبها، وخلصها بزعمه من الحرام وجنبها. قال لها: اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق، فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والاتفاق، فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها: هل كان ذاك؟ فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجرًا، وقد أرهقوهما من أمرهما عسرًا هذا، وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها في عقدين، ويجمع ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين، وإذا كان هذا من شأنه وصفته، فهو حقيق بما رواه عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (لَعَنَ رَسولُ اللهِ ﷺ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ".
رواه الحاكم في الصحيح والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: والعمل عليه عند أهل العلم. منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وهو قول الفقهاء من التابعين.
ورواه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه" بإسناد صحيح، ولفظهما "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الواشِمَةَ والمُؤْتَشِمَةَ، والواصِلَةَ والمَوْصُولَةَ، والمُحَلِّلَ والمُحَلِّلَ لَهُ، وآكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ".
وفى "مسند الإمام أحمد"، و"سنن النسائي" أيضًا: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "آكِلُ الرِّبا ومُوكِلُهُ وشاهِدُهُ وكاتِبُهُ، إذا عَلِمُوا بِهِ، والواصِلَةُ والمُسْتَوْصِلَةُ، ولاوِى الصَّدَقةِ والمُعْتَدِى فِيها، والمُرْتَدُّ عَلى عَقِبَيْهِ أعْرابِيا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، والمحلل والمُحَلِّلُ لَه: مَلْعُونُونَ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَوْمَ القِيامَةِ".
وعن على بن أبى طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "أنه لعن المحلل له"، رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات، وثقهم ابن معين وغيره.
وقال الترمذي في كتاب "العلل": سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة.
وقال أبو عبد الله بن ماجه في سننه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله ﷺ المحلِّل والمحلَّل له".
وعن ابن عباس أيضًا قال: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلم عَنِ المُحَلَّلِ؟ فقال: لا، إلا نِكاحَ رَغْبَةٍ، لا نِكاحَ دِلْسَةٍ ولا اسْتِهْزاءً بِكِتابِ اللهِ، ثمَّ تَذوقُ العُسَيْلَةَ".
رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب المترجم قال: أخبرني إبراهيم بن إسماعيل ابن أبي جبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه، وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيرًا من الحفاظ يضعفه والشافعى حسن الرأى فيه، ويحتج بحديثه.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"ألا أخْبِرُكم بِالتَّيْسِ المُسْتَعارِ؟ قالُوا: بَلى، يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: هو المُحَلِّلُ. لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمَحَلَّلَ لَهُ".
رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كلهم موثقون، لم يجرح واحد منهم.
وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين: "أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء رجل من أهل القرية، بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئًا من ماله فتزوجها ليحلها له، فقال لا، ثم ذكر أن النبي ﷺ سئل عن مثل ذلك فَقالَ: "لا، حَتّى يَنْكِحَ مُرْتَغِبًا لِنَفْسِه، فإذا فَعَلَ ذلِكَ لَمْ تَحِل لَهُ حَتّى يَذُوقُ العُسَيْلَةَ".
ورواه أبو بكر بن أبى شيبة في المصنف بإسناد جيد.
وهذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدل على ثبوته عنده، وقد عمل به أصحاب رسول الله ﷺ كما سيأتى، وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة، ومثل هذا حجة باتفاق الأئمة، وهو والذي قبله نص في التحليل المنوى، وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلًا له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها، لم يأمرني، ولم يعلم؟ قال: لا. إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله ﷺ سفاحًا" ذكره شيخ الإسلام في إبطال التحليل.
* (فصل)
وأما الآثار عن الصحابة.
ففى كتاب "المصنف" لابن أبي شيبة، و"سنن" الأثرم، و"الأوسط" لابن المنذر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما".
ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر: "لا أوتى بمحلل ولا محللًا إلا رجمتهما" وهو صحيح عن عمر.
وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة قال: "سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن تحليل المرأة لزوجها؟ فقال: ذاك السفاح"، ورواه ابن أبي شيبة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عبد الله بن شريك العامري، قال: سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: "سئل عن رجل طلق ابنة عم له، ثم رغب فيها وندم، فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: كلاهما زان، وإن مكث عشرين سنة، أو نحو ذلك، إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له".
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لعن الله المحلل والمحلل له".
وروى الجوزجاني بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، فقال: لعن الله الحال والمحلل له".
قال شيخ الإسلام: وهذه الآثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره، ولم يتواطآ عليه فهي مبينة أن هذا هو التحليل، وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فإن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعلم بمراده ومقصوده. لاسيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر. هذا مع أنه لم يعلم أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فرق بين تحليل وتحليل، ولا رخصوا في شيء من أنواعه، مع أن المطلقة ثلاثًا مثل امرأة رفاعة القرظى قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة: وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها، فيمنعونها من ذلك. ولو كان التحليل جائزًا لدلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك، فإنها لم تكن تعدم من يحللها، لو كان التحليل جائزًا.
قال: والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط في العقد كثير جدا ليس هذا موضع ذكرها، انتهى.
* (فصل)
ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى: ﴿فَإنْ طَلّقَها فَلاَ تَحِلّ لهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠].
والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي لعن المحلل والمحلل له، وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى: فلم يجعلوه زوجًا وأبطلوا نكاحه، ولعنوه.
وأعجب من هذا قول بعضهم: نحن نحتج بكونه سماه "محللًا" فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللًا.
فيقال: هذه من العظائم، فإن هذا يتضمن أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن من فعل السنة التي جاء بها، وفعل ما هو جائز صحيح في شريعته، وإنما سماه محللًا لأنه أحل ما حرم الله، فاستحق اللعنة، فإن الله سبحانه حرمها على المطلق، حتى تنكح زوجًا غيره، والنكاح اسم في كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحًا، وهو الذي شرع إعلانه، والضرب عليه بالدفوف، والوليمة فيه، وجعل للإيواء والسكن، وجعله الله مودة ورحمة، وجرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل، فإن المحلل لم يدخل على نفقة ولا كسوة، ولا سكنى، ولا إعطاء مهر، ولا تحصل نسب ولا صهر، ولا قصد المقام مع الزوجة، وإنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب، ولهذا شبهه به النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثم لعنه، فعلم قطعًا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن، ولا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن، وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح، ولا المحلل بزوج، وأن هذا منكر قبيح تعير به المرأة والزوج، والمحلل والولى، فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله ورسوله، وأحبه، وأخبر أنه سنته، ومن رغب عنه فليس منه؟
وتأمل قوله تعالى: ﴿فَإنْ طَلّقَها فَلا جُناحِ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾ [البقرة: ٢٣٠].
أى فإن طلقها هذا الثاني، فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا، أي ترجع إليه بعقد جديد، فأتى بحرق "إن" الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم، والتحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين، بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهي طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها في وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلوًا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه، والله سبحانه أنه شرع النكاح للوصلة الدائمة وللاستمتاع، وهذا النكاح جعله أصحابه سببًا لا نقطاعه، ولوقوع الطلاق فيه، فإنه متى وطئ كان وطؤه سببًا لانقطاع النكاح، وهذا ضد شرع الله.
وأيضا. فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه. فهذا زوج، وهذا زوج، وهذا نكاح، وهذا نكاح، وكذلك الطلاق، ومعلوم أن نكاح المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه، ولا اسمه كاسمه، ذاك زوج راغب، قاصد للنكاح. باذل للمهر، ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح، والمحلل برئ من ذلك كله، غير ملتزم لشيء منه.
وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرّم نكاح المُتْعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة، وأن يقيم معها زمانًا، وهو ملتزم لحقوق النكاح، فالمحلل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزُو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى بالتحريم.
وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه:
أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعًا في أول الإسلام، ونكاح التحليل لمُ يشرع في زمن من الأزمان.
الثاني: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولم يكن في الصحابة محلل قط.
الثالث: أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة، فأباحه ابن عباس، وإن قيل: إنه رجع عنه، وأباحه عبد الله بن مسعود. ففى "الصحيحين" عنه قال: "كُنّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم، ولَيْسَ لَنا نِساءٌ، فَقُلْنا: ألا نَخْتَصِى؟ فَنَهانا عَنْ ذلِكَ، ثُمَّ رَخّصَ لَنا أنْ نَنْكِحَ المَرْأةَ بِالثّوْبِ إلى أجَلٍ".
ثم قرأ عبد الله: ﴿يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طيِّباتِ ما أحَلَّ اللهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧]. وفتْوى ابن عباس بها مشهورة.
قال عُروة: "قام عبد الله بن الزبير بمكة فقال: إن ناسًا أعمى الله قلوبهم، كما أعمى أبصارهم، يفتون بالمتعة يُعرِّض بعبد الله بن عباس، فناداه، فقال: إنك لجِلْفُ جافٍ، فلعمرى لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقال له ابن الزبير: فجرّبْ نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجمنَّك بأحجارك".
فهذا قول ابن مسعود وابن عباس في المتعة، وذاك قولهما وروايتهما في نكاح التحليل.
الرابع: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يجئ عنه في لعن المستمتع والمستمتع بها حرف واحد، وجاء عنه في لعن المحلل والمحلل له، وعن الصحابة: ما قد تقدم.
الخامس: أن المستمتع له غرض صحيح في المرأة، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح. فغرضه المقصود بالنكاح مدة، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس. فنكاحه غير مقصود له، ولا للمرأة، ولا للولى، وإنما هو كما قال الحسن: "مسمار نار في حدود الله" وهذه التسمية مطابقة للمعنى.
قال شيخ الإسلام: يريد الحسن: أن المسمار هو الذي يثبت الشيء المسمور، فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها، وقد حرمها الله عليه.
السادس: أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهرًا وباطنا، والمحلل ماكر مخادع، متخذ آيات الله هزوًا. ولذلك جاء في وعيده ولعنه ما لم يجئ في وعيد المستمتع مثله، ولا قريب منه.
السابع: أن المستمتع يريد المرأة لنفسه، وهذا هو سر النكاح ومقصوده، فيريد بنكاحه حلها له، ولا يطؤها حرامًا، والمحلل لا يريد حلها لنفسه، وإنما يريد حلها لغيره، ولهذا سمى محللًا، فأين من يريد أن يحُل له وطء امرأة يخاف أن يطأهًا حرامًا إلى من لا يريد ذلك، وإنما يريد بنكاحها أن يحُل وطأها لغيره؟ فهذا ضد شرع الله ودنيه، وضد ما وُضع له النكاح.
الثامن: أن الفِطَر السليمة والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر من التحليل أشد نفار، وتُعِّير به أعظم تعيير، حتى إن كثيرًا من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا، ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول، ولو نفرت منه لم يُبَح في أول الإسلام.
التاسع: أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب، وإجارة الدار مدة للانتفاع والسكنى، وإجارة العبد للخدمة مدة، ونحو ذلك، مما للباذل فيه غرض صحيح. ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح، الذي شرع بوصف الدوام والاستمرار، وهذا بخلاف نكاح المحلل، فإنه لا يشبه شيئًا من ذلك، ولهذا شبهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح، وشبهوه باستعارة التيس للضراب.
العاشر: أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب، كالبيع والإجارة، والهبة والنكاح، مفْضِيةً إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات، فجعل البيع سببا لملك الرَّقبة، والاجارة سببًا لملك المنفعة أو الانتفاع، والنكاح سببًا لملك البضع وحل الوطء. والمحلل مناقضٌ معاكس لشرع الله تعالى ودينه، فإنه جعل نكاحه سببًا لتمليك المطلق - البضع وإحلاله له، ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع، وحله له، ولا له غرض في ذلك، ولا دخل عليه. وإنما قصد به أمرًا آخر لم يشرع له ذلك السبب، ولم يجعل طريقًا له.
الحادي عشر: أن المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرًا وباطنا، وهو في الباطن غير ملتزم له. وكذلك المحلل يظهر أنه زوج، وأنه يريد النكاح، ويسمى المهر، ويشهد على رضى المرأة، وفي الباطن بخلاف ذلك، لا يريد أن يكون زوجًا، ولا أن تكون المرأة زوجة له، ولا يريد بذل الصداق، ولا القيام بحقوق النكاح، وقد أظهر خلاف ما أبطن، وأنه مريد لذلك. والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو، والمطلق: أن الأمر كذلك، وأنه غير زوج على الحقيقة، ولا هي امرأته على الحقيقة.
الثاني عشر: أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية، ولا نكاح أهل الإسلام، فكان أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورًا منكرة، ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل، ولا يفعلونه. ففى "صحيح البخاري" عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: "أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليَّته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها". و"نكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته، إذا طهرت من طمثها: أرسلى إلى فلان، فاستبضعى منه، فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط مادون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليالى بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه، ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، ولا تمنع من جاءها، وهن البغايا. كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم.
ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقره ولم يهدمه، ولا كان أهل الجاهلية يرضون به، فلم يكن من أنكحتهم، فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به.
{"ayah":"فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَیۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَاۤ أَن یَتَرَاجَعَاۤ إِن ظَنَّاۤ أَن یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ یُبَیِّنُهَا لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق