الباحث القرآني
(p-٥٨٩)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٢٣٠] ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ .
﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ - أيْ: بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ -: ﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ﴾ - بِرَجْعَةٍ ولا بِنِكاحٍ جَدِيدٍ: ﴿مِن بَعْدُ﴾ - أيْ: - مِن بَعْدِ هَذا الطَّلاقِ -: ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أيْ: حَتّى تَذُوقَ وطْءَ زَوْجٍ آخَرَ، وهي العُسَيْلَةُ الَّتِي صَرَّحَ بِها النَّبِيُّ ﷺ في نِكاحٍ صَحِيحٍ. وفي جَعْلِ هَذا غايَةً لِلْحَلِّ، زَجْرٌ لِمَن لَهُ غَرَضٌ ما في امْرَأتِهِ عَنْ طَلاقِها ثَلاثًا، لِأنَّ كُلَّ ذِي مُرُوءَةٍ يَكْرَهُ أنْ يَفْتَرِشَ امْرَأتَهُ آخَرُ.
فُرُوعٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ:
الأوَّلُ: قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في " زادِ المَعادِ ": حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في المُطَلَّقَةِ ثَلاثًا لا تَحِلُّ لِلْأوَّلِ حَتّى يَطَأها الزَّوْجُ الثّانِي. ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أنَّ امْرَأةَ رِفاعَةَ القَرْظِيِّ جاءَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّ رِفاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي. وإنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ القَرْظِيَّ، وإنَّ ما مَعَهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ! فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفاعَةَ؟ (p-٥٩٠)لا، حَتّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»» . وفي " سُنَنِ النَّسائِيِّ ". عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««العُسَيْلَةُ الجِماعُ ولَوْ لَمْ يَنْزِلْ»» . وفِيها عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأتَهُ ثَلاثًا فَيَتَزَوَّجُها الرَّجُلُ فَيُغْلِقُ البابَ ويُرْخِي السِّتْرَ ثُمَّ يُطَلِّقُها قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها؟ قالَ: «لا تَحِلُّ لِلْأوَّلِ حَتّى يُجامِعَها الآخَرُ»» . فَتَضَمَّنَ هَذا الحُكْمُ أُمُورًا:
أحَدُها: أنَّهُ لا يُقْبَلُ قَوْلُ المَرْأةِ عَلى الرَّجُلِ: أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى جِماعِها.
الثّانِي: أنَّ إصابَةَ الزَّوْجِ الثّانِي شَرْطٌ في حِلِّها لِلْأوَّلِ، خِلافًا لِمَنِ اكْتَفى بِمُجَرَّدِ العَقْدِ، فَإنَّ قَوْلَهُ مَرْدُودٌ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لا مَرَدَّ لَها.
الثّالِثُ: أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ الإنْزالُ بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ الجِماعِ الَّذِي هو ذَوْقُ العُسَيْلَةِ.
الرّابِعُ: أنَّهُ ﷺ لَمْ يَجْعَلْ مُجَرَّدَ العَقْدِ المَقْصُودِ - الَّذِي هو نِكاحُ رَغْبَةٍ - كافِيًا، ولا اتِّصالَ الخَلْوَةِ بِهِ وإغْلاقَ الأبْوابِ وإرْخاءَ السُّتُورِ حَتّى يَتَّصِلَ بِهِ الوَطْءُ.... وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَكْفِي مُجَرَّدُ عَقْدِ التَّحْلِيلِ الَّذِي لا غَرَضَ لِلزَّوْجِ والزَّوْجَةِ فِيهِ سِوى صُورَةِ العَقْدِ وإحْلالُها لِلْأوَّلِ بِطَرِيقِ الأوْلى.
فَإنَّهُ إذا كانَ عَقْدُ الرَّغْبَةِ المَقْصُودُ لِلدَّوامِ (p-٥٩١)غَيْرَ كافٍ حَتّى يُوجَدَ فِيهِ الوَطْءُ، فَكَيْفَ يَكْفِي عَقْدُ تَيْسٍ مُسْتَعارٍ لِيُحِلَّها، لا رَغْبَةَ لَهُ في إمْساكِها، وإنَّما هو عارِيَةٌ كَحِمارِ الفُرْسِ المُسْتَعارِ لِلضِّرابِ!.
وقالَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - قَبْلَ ذَلِكَ: وأمّا نِكاحُ المُحَلِّلِ، فَفي " التِّرْمِذِيِّ " و" المُسْنَدِ " مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ««لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَهُ»»، قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وفي " المُسْنَدِ " مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ««لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلُ لَهُ»»، وإسْنادُهُ حَسَنٌ. وفِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلُهُ. وفي " سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ" مِن حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««ألا أُخْبِرُكم بِالتَّيْسِ المُسْتَعارِ؟» قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ! قالَ: «هو المُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ»» . فَهَؤُلاءِ الأرْبَعَةُ مِن ساداتِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وقَدْ شَهِدُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِلَعْنِهِ أصْحابَ التَّحْلِيلِ، وهُمُ المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَهُ. وهَذا إمّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ فَهو خَبَرُ صِدْقٍ. وإمّا دُعاءٌ مُسْتَجابٌ قَطْعًا. وهَذا يُفِيدُ أنَّهُ مِنَ الكَبائِرِ المَلْعُونِ فاعِلُها. ولا فَرْقَ عِنْدَ أهْلِ المَدِينَةِ وأهْلِ الحَدِيثِ وفُقَهائِهِمْ بَيْنَ اشْتِراطِ ذَلِكَ بِالقَوْلِ أوْ بِالتَّواطُؤِ والقَصْدِ. فَإنَّ القُصُودَ في العُقُودِ عِنْدَهم مُعْتَبَرَةٌ. والأعْمالُ بِالنِّيّاتِ. والشَّرْطُ المُتَواطَأُ عَلَيْهِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ المُتَعاقِدانِ كالمَلْفُوظِ عِنْدَهم. والألْفاظُ لا تُرادُ لِعَيْنِها بَلْ لِلدَّلالَةِ عَلى المَعانِي، فَإذا ظَهَرَتِ المَعانِي والمَقاصِدُ فَلا عِبْرَةَ بِالألْفاظِ، لِأنَّها وسائِلُ قَدْ تَحَقَّقَتْ غاياتُها فَتَرَتَّبَ عَلَيْها أحْكامُها.
(p-٥٩٢)وقَدْ ساقَ ابْنُ كَثِيرٍ الأحادِيثَ الوارِدَةَ في ذَلِكَ: مِنها ما قَدَّمْناهُ، ومِنها ما رَواهُ الحاكِمُ في " مُسْتَدْرَكِهِ ": عَنْ نافِعٍ قالَ: «جاءَ رَجُلٌ إلى ابْنِ عُمَرَ. فَسَألَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا فَتَزَوَّجَها أخٌ لَهُ، مِن غَيْرِ مُؤامَرَةٍ مِنهُ، لِيَحِلَّها لِأخِيهِ: هَلْ تَحِلُّ لِلْأوَّلِ؟ فَقالَ لا. إلّا نِكاحُ رَغْبَةٍ، كُنّا نُعِدُّ هَذا سِفاحًا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ». ثُمَّ قالَ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإسْنادِ ولَمْ يُخْرِجاهُ. ورَوى أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: لا أوُتى بِمُحَلِّلٍ ولا مُحَلَّلٍ لَهُ إلّا رَجَمْتُهُما. ورَوى البَيْهَقِيُّ: أنَّ عُثْمانَ بْنَ عَفّانَ رَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأةً لِيَحِلَّها لِزَوْجِها، فَفَرَّقَ بَيْنَهُما. وكَذا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
وبِالجُمْلَةِ: فالتَّحْلِيلُ غَيْرُ جائِزٍ في الشَّرْعِ. ولَوْ كانَ جائِزًا لَمْ يُلْعَنْ فاعِلُهُ والرّاضِي بِهِ. وإذا كانَ لَعْنُ الفاعِلِ لا يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمٍ فِعْلِهِ لَمْ تَبْقَ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلى التَّحْرِيمِ قَطُّ. وإذا كانَ هَذا الفِعْلُ حَرامًا غَيْرَ جائِزٍ في الشَّرِيعَةِ فَلَيْسَ هو النِّكاحَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ كَما أنَّهُ لَوْ قالَ: لَعَنَ اللَّهُ بائِعَ الخَمْرِ لَمْ يَلْزَمْ مِن لَفْظِ بائِعٍ أنَّهُ قَدْ جازَ بَيْعُهُ وصارَ مِنَ البَيْعِ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾ [البقرة: ٢٧٥] والأمْرُ ظاهِرٌ.
فَصْلٌ
قالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في " أعْلامِ المُوَقِّعِينَ ":
إلْزامُ الحالِفِ بِالطَّلاقِ والعَتاقِ، إذا حَنِثَ، بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ وعِتْقِ عَبْدِهِ - مِمّا حَدَّثَ الإفْتاءُ بِهِ بَعْدَ انْقِراضِ عَصْرِ الصَّحابَةِ - فَلا يُحْفَظُ عَنْ صَحابِيٍّ في صِيغَةِ القَسَمِ إلْزامُ الطَّلاقِ بِهِ أبَدًا. وإنَّما المَحْفُوظُ إلْزامُ الطَّلاقِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ والجَزاءِ - الَّذِي قُصِدَ بِهِ الطَّلاقُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ - كَما في " صَحِيحِ البُخارِيِّ " عَنْ نافِعٍ قالَ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأتِهِ البَتَّةَ إنْ خَرَجَتْ. فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ خَرَجَتْ (p-٥٩٣)فَقَدْ بانَتْ مِنهُ، وإنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. فَهَذا لا يُنازِعُ فِيهِ إلّا مَن يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلاقِ المُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ مُطْلَقًا. وأمّا مَن يَفْصِلُ بَيْنَ القِسْمِ المَحْضِ والتَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الوُقُوعُ، فَإنَّهُ يَقُولُ بِالآثارِ المَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحابَةِ كُلِّها في هَذا البابِ. فَإنَّهُ صَحَّ عَنْهُمُ الإفْتاءُ بِالوُقُوعِ في صُورٍ. وصَحَّ عَنْهم عَدَمُ الوُقُوعِ في صُورٍ. والصَّوابُ: ما أفْتَوْا بِهِ في النَّوْعَيْنِ. ولا يُؤْخَذُ بِبَعْضِ فَتاوِيهِمْ ويُتْرَكُ بَعْضُها. فَأمّا الوُقُوعُ: فالمَحْفُوظُ عَنْهم ما ذَكَرَهُ البُخارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وما رَواهُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في رَجُلٍ قالَ لِامْرَأتِهِ: إنْ فَعَلْتِ كَذا وكَذا فَهي طالِقٌ، فَفَعَلَتْهُ. قالَ: هي واحِدَةٌ وهو أحَقُّ بِها. عَلى أنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وكَذَلِكَ ما ذَكَرَهُ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في رَجُلٍ قالَ لِامْرَأتِهِ: هي طالِقٌ إلى سَنَةٍ. قالَ: يَتَمَتَّعُ بِها إلى سَنَةٍ. ومِن هَذا قَوْلُ أبِي ذَرٍّ لِامْرَأتِهِ وقَدْ ألَحَّتْ عَلَيْهِ في سُؤالِهِ عَنْ لَيْلَةِ القَدْرِ فَقالَ: إنْ عُدْتِ سَألْتِينِي فَأنْتِ طالِقٌ. فَهَذِهِ جَمِيعُ الآثارِ المَحْفُوظَةِ عَنِ الصَّحابَةِ في وُقُوعِ الطَّلاقِ المُعَلَّقِ. وأمّا الآثارُ عَنْهم في خِلافِهِ: فَصَحَّ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ عَبّاسٍ وحَفْصَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فِيمَن حَلَفَتْ بِأنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ لَها حُرٌّ إنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ عَبْدِها وبَيْنَ امْرَأتِهِ أنَّها تُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِها ولا تُفَرِّقُ بَيْنَهُما. رَواهُ الأثْرَمُ في " سُنَنِهِ " والجُوزَجانِيُّ في " المُتَرْجِمِ " والدّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ.
وقاعِدَةُ الإمامِ أحْمَدَ: أنَّ ما أفْتى بِهِ الصَّحابَةُ لا يَخْرُجُ عَنْهُ، إذا لَمْ يَكُنْ في البابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ. فَعَلى أصْلِهِ الَّذِي بَنى مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ، يَلْزَمُهُ القَوْلُ بِهَذا الأثَرِ لِصِحَّتِهِ وانْتِفاءِ عِلَّتِهِ. قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وعائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ - أُمَّيِ المُؤْمِنِينَ - أنَّهم جَعَلُوا في قَوْلِ لَيْلى بِنْتِ العَجْماءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَها حُرٌّ وكُلُّ مالٍ لَها هَدْيٌ وهي يَهُودِيَّةٌ ونَصْرانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقِ امْرَأتَكَ،كَفّارَةَ يَمِينٍ واحِدَةً. وإذا صَحَّ هَذا عَنِ الصَّحابَةِ ولَمْ يُعْلَمْ لَهم مُخالِفٌ في قَوْلِ الحالِفِ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ فَعَلَ، أنَّهُ يَجْزِيهِ كَفّارَةُ يَمِينٍ، ولَمْ يَلْزَمُوهُ بِالعِتْقِ المَحْبُوبِ إلى اللَّهِ، فَأنْ لا يُلْزِمُوهُ بِالطَّلاقِ البَغِيضِ إلى اللَّهِ أوْلى وأحْرى. كَيْفَ وقَدْ أفْتى عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ (p-٥٩٤)رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الحالِفُ بِالطَّلاقِ، أنَّهُ لا شَيْءَ عَلَيْهِ... ولَمْ يُعْرَفْ لَهُ في الصَّحابَةِ مُخالِفٌ؟ قالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ إبْراهِيمِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ التَّيْمِيُّ المَعْرُوفُ بِابْنِ بَرِيرَةَ الأنْدَلُسِيِّ في شَرْحِهِ لِأحْكامِ عَبْدِ الحَقِّ، البابِ الثّالِثِ في حُكْمِ اليَمِينِ بِالطَّلاقِ أوِ الشَّكِّ مِنهُ: وقَدْ قَدَّمْنا في كِتابِ الأيْمانِ اخْتِلافَ العُلَماءِ في اليَمِينِ بِالطَّلاقِ والعِتْقِ والمَشْيِ وغَيْرِ ذَلِكَ، هَلْ يَلْزَمُ أمْ لا؟ فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وشُرَيْحٌ وطاوُسٌ: لا يَلْزُمُ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، ولا يُقْضى بِالطَّلاقِ عَلى مَن حَلَفَ بِهِ فَحَنِثَ. ولا يُعْرَفُ في ذَلِكَ مُخالِفٌ مِنَ الصَّحابَةِ - هَذا لَفْظُهُ بِعَيْنِهِ - فَهَذِهِ فَتْوى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الحَلِفِ بِالعِتْقِ والطَّلاقِ.
وقَدْ قَدَّمْنا فَتاوِيهم في وُقُوعِ الطَّلاقِ المُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ - ولا تَعارُضَ بَيْنَ ذَلِكَ - فَإنَّ الحالِفَ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَ الطَّلاقِ وإنَّما قَصَدَ مَنعَ نَفْسِهِ بِالحَلِفِ بِما لا يُرِيدُ وُقُوعَهُ.. إلى أنْ قالَ: وإذا دَخَلَتِ اليَمِينُ بِالطَّلاقِ في قَوْلِ الحالِفِ: أيْمانُ البَيْعَةِ تَلْزَمُنِي - وهي الأيْمانُ الَّتِي رَتَّبَها الحَجّاجُ - فَلِمَ لا تَكُونُ أوْلى بِالدُّخُولِ في لَفْظِ الأيْمانِ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ ﷺ؟ فَإنْ كانَتْ يَمِينُ الطَّلاقِ يَمِينًا شَرْعِيَّةً - بِمَعْنى أنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَها - وجَبَ أنْ تُعْطى حُكْمَ الأيْمانِ. وإنْ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا شَرْعِيَّةً كانَتْ باطِلَةً في الشَّرْعِ فَلا يَلْزَمُ الحالِفُ بِها شَيْءٌ، كَما صَحَّ عَنْ طاوُسٍ مِن رِوايَةِ عَبْدِ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طاوُسٍ عَنْهُ: لَيْسَ الحَلِفُ بِالطَّلاقِ شَيْئًا. وصَحَّ عَنْ عِكْرِمَةَ مِن رِوايَةِ سُنَيْدِ بْنِ داوُدَ في " تَفْسِيرِهِ " عَنْهُ: إنَّها مِن خُطُواتِ الشَّيْطانِ لا يَلْزَمُ بِها شَيْءٌ. وصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ - قاضِي عَلِيٍّ - وابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّها لا يَلْزَمُ بِها الطَّلاقُ. وهو مَذْهَبُ داوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وجَمِيعِ أصْحابِهِ. فَهَذِهِ أقْوالُ أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعَيْنِ ومَن بَعْدَهم. اهـ.
(p-٥٩٥)فَصْلٌ
وقالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ - أيْضًا - في " أعْلامِ المُوَقِّعِينَ ":
إنَّ المُطَلِّقَ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وزَمَنِ أبِي بَكْرٍ، وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ، كانَ إذا جَمَعَ الطَّلَقاتِ الثَّلاثَ بِفَمٍ واحِدٍ جُعِلَتْ واحِدَةً. كَما ثَبَتَ ذَلِكَ في الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. فَرَوى مُسْلِمٌ في " صَحِيحِهِ" عَنِ ابْنِ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «كانَ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وسَنَتَيْنِ مِن خِلافَةِ عُمَرَ: طَلاقُ الثَّلاثِ واحِدَةٌ. فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: إنَّ النّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا في أمْرٍ كانَتْ لَهم فِيهِ أناةٌ. فَلَوْ أمْضَيْناهُ عَلَيْهِمْ؛ فَأمْضاهُ عَلَيْهِمْ». ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «طَلَّقَ رُكانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أخُو بَنِي مُطَّلِبٍ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَجْلِسٍ واحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْها حُزْنًا شَدِيدًا. قالَ: فَسَألَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَيْفَ طَلَّقَها؟ قالَ: طَلَّقَها ثَلاثًا، قالَ: فَقالَ: في مَجْلِسٍ واحِدٍ؟ قالَ نَعَمْ. قالَ: فَإنَّما تِلْكَ واحِدَةٌ فارْجِعْها إنْ شِئْتَ، قالَ: فَرَجَعَها». كانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَرى: إنَّما الطَّلاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ. وقَدْ صَحَّحَ الإمامُ أحْمَدُ هَذا الإسْنادَ وحَسَّنَهُ. ثُمَّ إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ. أنَّ هَذا هو السُّنَّةُ، وأنَّهُ تَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبادِهِ إذْ جَعَلَ الطَّلاقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وما كانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَمْلِكِ المُكَلَّفُ إيقاعَ كُلِّهِ جُمْلَةً واحِدَةً. كاللَّعّانِ فَإنَّهُ لَوْ قالَ: أشْهَدُ بِاللَّهِ أرْبَعَ شَهاداتٍ إنِّي لِمَنَ الصّادِقِينَ، كانَ مَرَّةً واحِدَةً. ولَوْ حَلَفَ في القَسامَةِ وقالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا إنَّ هَذا قاتِلُهُ، كانَ يَمِينًا واحِدَةً. ولَوْ قالَ المُقِرُّ بِالزِّنا: أنا أُقِرُّ أرْبَعَ مَرّاتٍ أنِّي زَنَيْتُ، كانَ مَرَّةً واحِدَةً. فَمَن يَعْتِبَرُ الأرْبَعَ لا يَجْعَلُ ذَلِكَ (p-٥٩٦)الإقْرارَ إلّا واحِدًا. وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ««مَن قالَ في يَوْمٍ سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطاياهُ وإنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ»» . فَلَوْ قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذا الثَّوابُ حَتّى يَقُولَها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ««مَن سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ وحَمَّدَهُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ وكَبَّرَهُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ»» .. الحَدِيثَ، لا يَكُونُ عامِلًا بِهِ حَتّى يَقُولَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لا يُجْمَعُ الكُلُّ بِلَفْظٍ واحِدٍ.. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ««مَن قالَ في يَوْمٍ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِائَةَ مَرَّةٍ كانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتّى يُمْسِيَ»» . لا يَحْصُلُ هَذا إلّا بِقَوْلِها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وهَذا كَما أنَّهُ في الأقْوالِ والألْفاظِ فَكَذَلِكَ هو في الأفْعالِ سَواءٌ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: ١٠١] إنَّما هو مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وكَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: رَأى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤادِهِ مَرَّتَيْنِ، إنَّما هو مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وكَذا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: (p-٥٩٧)««لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِن جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»» . فَهَذا هو المَعْقُولُ مِنَ اللُّغَةِ والعُرْفِ. فالأحادِيثُ المَذْكُورَةُ، وهَذِهِ النُّصُوصُ المَذْكُورَةُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] كُلُّها مِن بابٍ واحِدٍ ومِشْكاةٌ واحِدَةٌ. والأحادِيثُ المَذْكُورَةُ تُفَسِّرُ المُرادَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] فَهَذا كِتابُ اللَّهِ، وهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِهِ، وهَذِهِ لُغَةُ العَرَبِ، وهَذا عُرْفُ التَّخاطُبِ، وهَذا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، والصَّحابَةِ كُلِّهم مَعَهُ في عَصْرِهِ، وثَلاثِ سِنِينَ مِن عَصْرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلى هَذا المَذْهَبِ، فَلَوْ عَدَّهُمُ العادُّ لَزادُوا عَلى الألْفِ قَطْعًا. ولِهَذا ادَّعى بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أنَّ هَذا إجْماعٌ قَدِيمٌ، ولَمْ تَجْمَعِ الأُمَّةُ - ولِلَّهِ الحَمْدُ - عَلى خِلافِهِ. بَلْ لَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مَن يُفْتِي بِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وإلى يَوْمِنا هَذا. فَأفْتى بِهِ مِنَ الصَّحابَةِ ابْنُ عَبّاسٍ والزُّبَيْرُ وابْنُ عَوْفٍ. وعَنْ عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ رِوايَتانِ، ومِنَ التّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وطاوُسٌ. ومِن تابِعِيهِمْ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ. ومِمَّنْ بَعْدَهم داوُدُ إمامُ أهْلِ الظّاهِرِ، وبَعْضُ أصْحابِ مالِكٍ، وبَعْضُ الحَنَفِيَّةِ، وأفْتى بَعْضُ أصْحابِ أحْمَدَ - حَكاهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْهُ - قالَ: وكانَ الجَدُّ يُفْتِي بِهِ أحْيانًا.
والمَقْصُودُ أنَّ هَذا القَوْلَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والقِياسُ والإجْماعُ القَدِيمُ. ولَمْ يَأْتِ بَعْدَهُ إجْماعٌ يُبْطِلُهُ. ولَكِنْ رَأى أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النّاسَ قَدِ اسْتَهانُوا بِأمْرِ الطَّلاقِ، وكَثُرَ مِنهم إيقاعُهُ جُمْلَةً واحِدَةً، فَرَأى مِنَ المَصْلَحَةِ عُقُوبَتَهم بِإمْضائِهِ عَلَيْهِمْ، لِيَعْلَمُوا أنَّ أحَدَهُمْ، إذا أوْقَعَهُ جُمْلَةً، بانَتْ مِنهُ المَرْأةُ وحُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، نِكاحَ رَغْبَةٍ يُرادُ لِلدَّوامِ لا نِكاحَ تَحْلِيلٍ، فَإنَّهُ كانَ مِن أشَدِّ النّاسِ فِيهِ، فَإذا عَلِمُوا ذَلِكَ كَفُّوا عَنِ الطَّلاقِ. فَرَأى عُمَرُ هَذا مَصْلَحَةً لَهم في زَمانِهِ. ورَأى أنَّ ما كانُوا عَلَيْهِ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وعَهْدِ الصِّدِّيقِ وصَدْرًا مِن خِلافَتِهِ - كانَ اللّائِقَ بِهِمْ، لِأنَّهم لَمْ يَتَتابَعُوا فِيهِ. وكانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ في الطَّلاقِ. وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ مَنِ اتَّقاهُ مَخْرَجًا. فَلَمّا تَرَكُوا تَقْوى اللَّهِ وتَلاعَبُوا بِكِتابِ اللَّهِ وطَلَّقُوا عَلى غَيْرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ ألْزَمَهم بِما التَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهم. فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إنَّما شَرَعَ الطَّلاقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. ولَمْ يَشْرَعْهُ كُلَّهُ مَرَّةً واحِدَةً. فَمَن جَمَعَ الثَّلاثَ في مَرَّةٍ واحِدَةٍ فَقَدْ تَعَدّى (p-٥٩٨)حُدُودَ اللَّهِ، وظَلَمَ نَفْسَهُ، ولَعِبَ بِكِتابِ اللَّهِ. فَهو حَقِيقٌ أنْ يُعاقَبَ ويُلْزَمَ بِما التَزَمَهُ، ولا يُقَرُّ عَلى رُخْصَةِ اللَّهِ وسِعَتِهِ، وقَدْ ضَيَّعَها عَلى نَفْسِهِ. ولَمْ يَتَّقِ اللَّهَ ويُطَلِّقُ كَما أمَرَهُ اللَّهُ وشَرَعَهُ لَهُ، بَلِ اسْتَعْجَلَ فِيما جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الأناةَ فِيهِ، رَحْمَةً وإحْسانًا. واخْتارَ الأغْلَظَ والأشَدَّ. فَهَذا ما تَغَيَّرَتْ بِهِ البَلْوى لِتَغَيُّرِ الزَّمانِ، وعَلِمَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم حُسْنَ سِياسَةِ عُمَرَ وتَأْدِيبَهُ لِرَعِيَّتِهِ في ذَلِكَ، فَوافَقُوهُ عَلى ما ألْزَمَ بِهِ، ثُمَّ قالَ: فَلَمّا تَغَيَّرَ الزَّمانُ، وبَعْدَ العَهْدِ بِالسُّنَّةِ وآثارِ القَوْمِ، وقامَتْ سُوقُ التَّحْلِيلِ ونَفَقَتْ في النّاسِ، فالواجِبُ أنْ يُرَدَّ الأمْرُ إلى ما كانَ عَلَيْهِ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وخَلِيفَتِهِ مِنَ الإفْتاءِ بِما يُعَطِّلُ سُوقَ التَّحْلِيلِ ويُقَلِّلُها ويُخَفِّفُ شَرَّها. وإذا عُرِضَ عَلى مَن وفَّقَهُ اللَّهُ وبَصَّرَهُ بِالهُدى وفَقَّهَهُ في دِينِهِ. مَسْألَةُ كَوْنِ الثَّلاثِ واحِدَةً ومَسْألَةُ التَّحْلِيلِ، ووازَنَ بَيْنَهُما - تَبَيَّنَ لَهُ التَّفاوُتُ، وعَلِمَ أيَّ المَسْألَتَيْنِ أوْلى بِالدِّينِ وأصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ قالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: ويَمْتَنِعُ في هَذِهِ الأزْمِنَةِ مُعاقَبَةُ النّاسِ بِما عاقَبَهم بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُ أنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ حَرامٌ، لا سِيَّما وكَثِيرٌ مِنَ الفُقَهاءِ لا يَرى تَحْرِيمَهُ، فَكَيْفَ يُعاقَبُ مَن لَمْ يَرْتَكِبْ مُحَرَّمًا عِنْدَ نَفْسِهِ؟
الثّانِي: أنَّ عُقُوبَتَهم بِذَلِكَ تَفْتَحُ عَلَيْهِمْ بابَ التَّحْلِيلِ الَّذِي كانَ مَسْدُودًا عَلى عَهْدِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. والعُقُوبَةُ - إذا تَضَمَّنَتْ مَفْسَدَةً أكْثَرَ مِنَ الفِعْلِ المُعاقَبِ عَلَيْهِ - كانَ تَرْكُها أحَبَّ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ. ولا يَسْتَرِيبُ أحَدٌ في أنَّ الرُّجُوعَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وصَدْرٍ مِن خِلافَةِ عُمَرَ أوْلى مِنَ الرُّجُوعِ إلى التَّحْلِيلِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ.
(p-٥٩٩)فَصْلٌ
وأمّا طَلاقُ الغَضْبانِ فَفي " أعْلامِ المُوَقِّعِينَ " ما نَصُّهُ:
إنَّ اللَّفْظَ إنَّما يُوجِبُ مَعْناهُ لِقَصْدِ المُتَكَلِّمِ بِهِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ رَفَعَ المُؤاخَذَةَ عَمَّنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِأمْرٍ بِغَيْرِ تَلَفُّظٍ أوْ عَمَلٍ، كَما رَفَعَها عَمَّنْ تَلَفَّظَ مِن غَيْرِ قَصْدٍ لِمَعْناهُ ولا إرادَةٍ. ولِهَذا لَمْ يُكِّفِرْ مَن جَرى عَلى لِسانِهِ لَفْظُ الكُفْرِ سَبْقًا مِن غَيْرِ قَصْدٍ، لِفَرَحٍ أوْ دُهْشٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَما في حَدِيثِ الفَرَحِ الإلَهِيِّ بِتَوْبَةِ العَبْدِ، وضَرَبَ مَثَلَ ذَلِكَ: مَن فَقَدَ راحِلَتَهُ عَلَيْها طَعامُهُ وشَرابُهُ في الأرْضِ المُهْلِكَةِ فَأيَسَ مِنها ثُمَّ وجَدَها فَقالَ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وأنا رَبُّكَ، أخْطَأ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ، ولَمْ يُؤاخَذْ بِذَلِكَ وكَذَلِكَ إذا أخْطَأ مِن شِدَّةِ الغَضَبِ لَمْ يُؤاخَذْ. ومِن هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهم بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ﴾ [يونس: ١١] قالَ السَّلَفُ: هو دُعاءُ الإنْسانِ عَلى نَفْسِهِ ووَلَدِهِ وأهْلِهِ في حالِ الغَضَبِ، لَوِ اسْتَجابَهُ اللَّهُ تَعالى لَأهْلَكَهُ وأهْلَكَ مَن يَدْعُو عَلَيْهِ، ولَكِنَّهُ لا يَسْتَجِيبُهُ لِعِلْمِهِ أنَّ الدّاعِيَ لَمْ يَقْصِدْهُ. ومِن هَذا رَفْعُهُ ﷺ حُكْمَ الطَّلاقِ عَمَّنْ طَلَّقَ في إغْلاقٍ. قالَ الإمامُ أحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ: هو الغَضَبُ.
(p-٦٠٠)وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أبُو داوُدَ. وهو قَوْلُ القاضِي إسْماعِيلَ بْنِ إسْحاقَ - أحَدِ أئِمَّةِ المالِكِيَّةِ ومُقْدَّمِ فُقَهاءِ أهْلِ العِراقِ مِنهم - وهي عِنْدَهُ مِن لَغْوِ اليَمِينِ أيْضًا. فَأدْخَلَ يَمِينَ الغَضْبانِ في لَغْوِ اليَمِينِ وفي يَمِينِ الإغْلاقِ. وحَكاهُ شارِحُ أحْكامِ عَبْدِ الحَقِّ عَنْهُ - وهو ابْنُ بَرِيرَةَ الأنْدَلُسِيُّ - قالَ: وهَذا قَوْلُ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وغَيْرِهِما مِنَ الصَّحابَةِ: أنَّ الأيْمانَ المُنْعَقِدَةَ كُلَّها في حالِ الغَضَبِ لا تُلْزَمُ. وفي " سُنَنِ الدّارَقُطْنِيِّ " بِإسْنادٍ فِيهِ لِينٌ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ: «لا يَمِينَ في غَضَبٍ، ولا عَتاقَ فِيما لا يَمْلِكُ». وهُوَ، إنْ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ، فَهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. وقَدْ فَسَّرَ الشّافِعِيُّ «(لا طَلاقَ في إغْلاقٍ)» بِالغَضَبِ، وفَسَّرَهُ مَسْرُوقٌ بِهِ. فَهَذا مَسْرُوقٌ والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وأبُو داوُدَ والقاضِي إسْماعِيلُ كُلُّهم فَسَّرُوا الإغْلاقَ بِالغَضَبِ. وهو مِن أحْسَنِ التَّفْسِيرِ. لِأنَّ الغَضْبانَ قَدْ أغْلَقَ عَلَيْهِ بابَ القَصْدِ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ. وهو كالمُكْرَهِ. بَلِ الغَضْبانُ أوْلى بِالإغْلاقِ مِنَ المُكْرَهِ، لِأنَّ المُكْرَهَ قَدْ قَصَدَ رَفَعَ الشَّرِّ الكَثِيرِ بِالشَّرِّ الَّذِي هو دُونَهُ، فَهو قاصِدٌ حَقِيقَةً. ومِن هَهُنا أوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلاقَ مَن أوْقَعَهُ. وأمّا الغَضْبانُ فَإنَّ انْغِلاقَ بابِ القَصْدِ والعِلْمِ عَنْهُ كانْغِلاقِهِ عَنِ السَّكْرانِ والمَجْنُونِ. فَإنَّ غُولَ العَقْلِ يَغْتالُهُ الخَمْرُ بَلْ أشَدُّ. وهو شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ، ولا يَشُكُّ فَقِيهُ النَّفْسِ في أنَّ هَذا لا يَقَعُ طَلاقُهُ. ولِهَذا قالَ حَبْرُ الأُمَّةِ - الَّذِي دَعا لَهُ النَّبِيُّ ﷺ، بِالفِقْهِ في الدِّينِ: إنَّما يَقَعُ الطَّلاقُ مِن وطَرٍ. ذَكَرَهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ، أيْ: عَنْ غَرَضٍ مِنَ المُطَلِّقِ في وُقُوعِهِ. وهَذا مِن كَمالِ فِقْهِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وإجابَةِ دُعاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَهُ؛ إذِ الألْفاظُ إنَّما تَتَرَتَّبُ عَلَيْها مُوجِباتُها لِقَصْدِ اللّافِظِ بِها. واللَّهُ لَمْ يُؤاخِذْنا بِاللَّغْوِ في أيْمانِنا. ومِنَ اللَّغْوِ ما قالَتْهُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وجُمْهُورُ السَّلَفِ: إنَّهُ قَوْلُ الحالِفِ: لا واللَّهِ، وبَلى، واللَّهِ. في عَرْضِ كَلامِهِ مِن غَيْرِ عَقْدٍ لِلْيَمِينِ، كَذَلِكَ لا يُؤاخِذُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أيْمانِ الطَّلاقِ كَقَوْلِ الحالِفِ في عَرْضِ كَلامِهِ: عَلَيَّ الطَّلاقُ لا أفْعَلُ (p-٦٠١)و(الطَّلاقُ يَلْزَمُنِي لا أفْعَلُ) مِن غَيْرِ قَصْدٍ لِعَقْدِ اليَمِينِ. بَلْ إذا كانَ اسْمُ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ لا يَنْعَقِدُ بِهِ يَمِينُ اللَّغْوِ، فَيَمِينُ الطَّلاقِ أوْلى أنْ لا يَنْعَقِدَ، ولا تَكُونَ أعْظَمَ حُرْمَةً مِنَ الحَلِفِ بِاللَّهِ. وهَذا أحَدُ القَوْلَيْنِ في مَذْهَبِ أحْمَدَ وهو الصَّوابُ. فَإيّاكَ أنْ تُهْمِلَ قَصْدَ المُتَكَلِّمِ ونِيَّتَهُ وعُرْفَهُ، فَتَجْنِي عَلَيْهِ وعَلى الشَّرِيعَةِ، وتُنْسِبُ إلَيْها ما هي بَرِيئَةٌ مِنهُ، وتُلْزِمُ الحالِفَ والمُقِرَّ والنّاذِرَ والعاقِدَ ما لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ بِهِ. فاللَّغْوُ في الأقْوالِ نَظِيرُ الخَطَأِ والنِّسْيانِ في الأفْعالِ. وقَدْ رَفَعَ اللَّهُ المُؤاخَذَةَ بِهَذا. وهَذا كَما قالَ المُؤْمِنُونَ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦] ! فَقالَ رَبُّهم تَبارَكَ وتَعالى: قَدْ فَعَلْتُ.
وفِي قالَ شَيْخُنا: حَقِيقَةُ الإغْلاقِ: أنْ يُغْلَقَ عَلى الرَّجُلِ قَلْبُهُ فَلا يَقْصِدُ الكَلامَ أوْ لا يَعْلَمُ بِهِ كَأنَّهُ انْغَلَقَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ وإرادَتُهُ.
قالَ أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ: الغَلْقُ ضِيقُ الصَّدْرِ وقِلَّةُ الصَّبْرِ حَتّى لا يَجِدَ لَهُ مُخَلِّصًا.
قالَ شَيْخُنا: ويَدْخُلُ في ذَلِكَ طَلاقُ المُكْرَهِ والمَجْنُونِ ومَن زالَ عَقْلُهُ بِسُكْرٍ أوْ غَضَبِ وكُلِّ مَن لا قَصْدَ لَهُ ولا مَعْرِفَةَ لَهُ بِما قالَ.
والغَضَبُ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ:
أحَدُها: ما يُزِيلُ العَقْلَ فَلا يَشْعُرُ صاحِبُهُ بِما قالَ. وهَذا لا يَقَعُ طَلاقُهُ بِلا نِزاعٍ.
الثّانِي: ما يَكُونُ في مَبادِيهِ، بِحَيْثُ لا يَمْنَعُ صاحِبَهُ مِن تَصَوُّرِ ما يَقُولُ وقَصْدِهِ، فَهَذا يَقَعُ طَلاقُهُ.
الثّالِثُ: أنْ يَسْتَحْكِمَ ويَشْتَدَّ بِهِ، فَلا يُزِيلُ عَقْلَهُ بِالكُلِّيَّةِ، ولَكِنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ نِيَّتِهِ بِحَيْثُ يَنْدَمُ عَلى ما فَرَطَ مِنهُ إذا زالَ. فَهَذا مَحَلُّ نَظَرٍ. وعَدَمُ الوُقُوعِ في هَذِهِ الحالَةِ قَوِيٌّ مُتَّجِهٌ.
(p-٦٠٢)فَصْلٌ
وأمّا طَلاقُ الحائِضِ والنُّفَساءِ والمَوْطُوءَةِ في طُهْرِها، فَفي الصَّحِيحَيْنِ «أنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ - عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ - فَسَألَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ فَقالَ: «مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَها بَعْدَ ذَلِكَ وإنْ شاءَ طَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ»» . ولِمُسْلِمٍ: ««مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُطَلِّقْها إذا طَهُرَتْ أوْ وهي حامِلٌ»» وفي لَفْظٍ: ««إنْ شاءَ طَلَّقَها طاهِرًا قَبْلَ أنْ يَمَسَّ، فَذَلِكَ الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ كَما أمَرَ اللَّهُ تَعالى»» . وفي لَفْظٍ لِلْبُخارِيِّ: ««مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُطَلِّقْها في قُبُلِ عِدَّتِها»» . وفي لَفْظٍ لِأحْمَدَ وأبِي داوُدَ والنَّسائِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ فَرَدَّها عَلَيْهِ (p-٦٠٣)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يَرَها شَيْئًا وقالَ: «إذا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أوْ لِيَمْسِكْ»» . وقالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ،» فَتَضَمَّنَ هَذا الحُكْمُ أنَّ الطَّلاقَ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: وجْهانِ حَلالانِ ووَجْهانِ حَرامانِ.
فالحَلالُ: أنْ يُطَلِّقَ امْرَأتَهُ طاهِرًا مِن جِماعٍ. أوْ يُطَلِّقَها حامِلًا مُسْتَبِينًا حَمَلَها. والحَرامُ: أنْ يُطَلِّقَها وهي حائِضٌ. أوْ يُطَلِّقَها في طُهْرٍ جامِعَها فِيهِ. هَذا في طَلاقِ المَدْخُولِ بِها. وأمّا مَن لَمْ يُدْخَلْ بِها فَيَجُوزُ طَلاقُها حائِضًا وطاهِرًا.
ثُمَّ إنَّ الخِلافَ في وُقُوعِ الطَّلاقِ المُحَرَّمِ لَمْ يَزَلْ ثابِتًا بَيْنَ السَّلَفِ والخَلْفِ. وقَدْ وهِمَ مَنِ ادَّعى الإجْماعَ عَلى وُقُوعِهِ وقالَ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ وخَفِيَ عَلَيْهِ مِنَ الخِلافِ ما اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وقَدْ قالَ الإمامُ أحْمَدُ: مَنِ ادَّعى الإجْماعَ فَهو كاذِبٌ. وما يَدْرِيهِ لَعَلَّ النّاسَ اخْتَلَفُوا؟ كَيْفَ والخِلافُ بَيْنَ النّاسِ في هَذِهِ المَسْألَةِ مَعْلُومُ الثُّبُوتِ عَنِ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأخِّرِينَ..؟!.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ الخُشَنِيُّ: ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ: ثَنا عَبْدُ الوَهّابِ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ الثَّقَفِيُّ. ثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ مَوْلى ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ، في رَجُلٍ يُطَلِّقُ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ، قالَ ابْنُ عُمَرَ: لا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ. ذَكَرَهُ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ في " المُحَلّى " بِإسْنادِهِ إلَيْهِ.
وقالَ عَبْدُ الرَّزّاقِ في " مُصَنَّفِهِ " عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ: أنَّهُ كانَ لا يَرى طَلاقَ ما خالَفَ وجْهَ الطَّلاقِ ووَجْهَ العِدَّةِ. وكانَ يَقُولُ: وجْهُ الطَّلاقِ أنْ يُطَلِّقَها طاهِرًا مِن غَيْرِ جِماعٍ أوْ إذا اسْتَبانَ حَمْلُها.
قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: العَجَبُ مِن جَراءَةِ مَنِ ادَّعى الإجْماعَ عَلى خِلافِ هَذا وهو لا يَجِدُ فِيما يُوافِقُ قَوْلَهُ - في إمْضاءِ الطَّلاقِ في الحَيْضِ أوْ في الطُّهْرِ الَّذِي جامَعَها فِيهِ - كَلِمَةً عَنْ أحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، غَيْرَ رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وقَدْ عارَضَها ما هو أحْسَنُ مِنها عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
(p-٦٠٤)وقالَ أبُو مُحَمَّدٍ: بَلْ نَحْنُ أسْعَدُ بِدَعْوى الإجْماعِ هَهُنا لَوِ اسْتَجَزْنا ما يَسْتَجِيزُونَ - ونَعُوذُ بِاللَّهِ مِن ذَلِكَ - وذَلِكَ أنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ أحَدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ قاطِبَةً، ومِن جُمْلَتِهِمْ جَمِيعُ المُخالِفِينَ لَنا في ذَلِكَ أنَّ الطَّلاقَ في الحَيْضِ أوْ في طُهْرٍ جامَعَها فِيهِ بِدْعَةٌ. فَإذًا لا شَكَّ في هَذا عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُونَ الحُكْمَ بِتَجْوِيزِ البِدْعَةِ الَّتِي يُقِرُّونَ أنَّها بِدَعَةٌ وضَلالَةٌ؟ ألَيْسَ بِحُكْمِ المُشاهَدَةِ، مُجِيزُ البِدْعَةِ مُخالِفًا لِإجْماعِ القائِلِينَ بِأنَّها بِدْعَةٌ..؟!.
قالَ أبُو مُحَمَّدٍ: وحَتّى لَوْ لَمْ يَبْلُغْنا الخِلافُ لَكانَ القاطِعُ عَلى جَمِيعِ أهْلِ الإسْلامِ بِما لا يَقِينَ عِنْدَهُ، ولا بَلَغَهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ كاذِبًا عَلى جَمِيعِهِمْ.
هَذا ما أفادَهُ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في " زادِ المَعادِ ". ثُمَّ ذَكَرَ حُجَجَ المانِعِينَ مِن وُقُوعِهِ، وحُجَجَ مَن أوْقَعَهُ، والمُناقَشَةَ فِيها، فَراجِعْهُ إنْ شِئْتَ.
وذُكِرَ في خِلالِ البَحْثِ: أنَّهُ لا دَلِيلَ في قَوْلِهِ: ««مُرْهُ فَلْيُراجِعْها»» عَلى وُقُوعِ الطَّلاقِ، لِأنَّ المُراجِعَةَ قَدْ وقَعَتْ في كَلامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عَلى ثَلاثَةِ مَعانٍ: مِنها: ابْتِداءُ النِّكاحِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ ولا خِلافَ بَيْنَ أحَدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ بِالقُرْآنِ أنَّ المُطَلِّقَ - هَهُنا - هو الزَّوْجُ الثّانِي. وأنَّ التَّراجُعَ بَيْنَها وبَيْنَ الزَّوْجِ الأوَّلِ. وذَلِكَ نِكاحٌ مُبْتَدَأٌ. ومِنها: الرَّدُّ الحِسِّيُّ إلى الحالَةِ الَّتِي كانَ عَلَيْها أوَّلًا كَقَوْلِهِ لِأبِي النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ لَمّا نَحَلَ ابْنَهُ غُلامًا خَصَّهُ بِهِ دُونَ ولَدِهِ: رُدَّهُ. فَهَذا رَدُّ ما لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الهِبَةُ الجائِرَةُ الَّتِي سَمّاها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (p-٦٠٥)جَوْرًا، وأخْبَرَ أنَّها لا تَصِحُّ، وأنَّها خِلافُ العَدْلِ. ومِن هَذا قَوْلُهُ لِمَن فَرَّقَ بَيْنَ جارِيَةٍ ووَلَدِها في البَيْعِ، فَنَهاهُ عَنْ ذَلِكَ ورَدَّ البَيْعَ. ولَيْسَ هَذا الرَّدُّ مُسْتَلْزِمًا لِصِحَّةِ البَيْعِ، فَإنَّهُ بَيْعٌ باطِلٌ، بَلْ هو رَدُّ شَيْئَيْنِ إلى حالَةِ اجْتِماعِهِما كَما كانا. وهَكَذا الأمْرُ، بِمُراجَعَةِ ابْنِ عُمَرَ امْرَأتَهُ، ارْتِجاعٌ ورَدٌّ إلى حالَةِ الِاجْتِماعِ كَما كانا قَبْلَ الطَّلاقِ، ولَيْسَ في ذَلِكَ ما يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلاقِ في الحَيْضِ البَتَّةَ، وثَمَّةَ وُجُوهٍ أُخْرى، واللَّهُ أعْلَمُ.
فَصْلٌ
وأمّا الخُلْعُ: فالتَّحْقِيقُ أنَّهُ فَسْخٌ لا طَلاقَ. وأنَّ العِدَّةَ فِيهِ حَيْضَةٌ، رَوى أبُو داوُدَ في " سُنَنِهِ " عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ «أنَّ امْرَأةَ ثابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ اخْتَلَعَتْ مِن زَوْجِها، فَأمَرَها النَّبِيُّ ﷺ أنْ تَعْتَدَّ حَيْضَةً،» فَفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى حُكْمَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْها ثَلاثُ حِيَضٍ بَلْ تَكْفِيها حَيْضَةٌ. وهَذا كَما أنَّهُ صَرِيحُ السُّنَّةِ فَهو مَذْهَبُ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، والرَّبِيعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ وعَمِّها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وهو مِن كِبارِ الصَّحابَةِ - فَهَؤُلاءِ الأرْبَعَةُ مِنَ الصَّحابَةِ لا يُعْرَفُ لَهم مُخالِفٌ مِنهم - وذَهَبَ إلى هَذا المَذْهَبِ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ والإمامُ أحْمَدُ، في رِوايَةٍ عَنْهُ اخْتارَها شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. قالَ: هَذا القَوْلُ هو مُقْتَضى قَواعِدِ الشَّرِيعَةِ. فَإنَّ العِدَّةَ إنَّما جُعِلَتْ ثَلاثَ حِيَضٍ لِيَطُولَ زَمَنُ الرَّجْعَةِ ويَتَرَوّى الزَّوْجُ ويَتَمَكَّنَ مِنَ الرَّجْعَةِ في مُدَّةِ العِدَّةِ. فَإذا لَمْ تَكُنْ عَلَيْها رَجْعَةٌ، فالمَقْصُودُ مُجَرَّدُ بَراءَةِ رَحِمِها مِنَ الحَمْلِ. وذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ حَيْضَةٌ كالِاسْتِبْراءِ. ولا يَنْتَقِضُ هَذا بِالمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا. فَإنَّ بابَ الطَّلاقِ جَعَلَ حُكْمَ العِدَّةِ فِيهِ واحِدًا بائِنَةً ورَجْعِيَّةً. قالُوا: وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الخُلْعَ فَسْخٌ، ولَيْسَ بِطَلاقٍ. وهو مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ وعُثْمانَ وابْنِ عُمَرَ والرَّبِيعِ وعَمِّها. ولا يَصِحُّ (p-٦٠٦)عَنْ صَحابِيٍّ أنَّهُ طَلاقٌ البَتَّةَ. فَرَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيانَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنَّهُ قالَ: الخُلْعُ تَفْرِيقٌ ولَيْسَ بِطَلاقٍ. وذَكَرَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ سُفْيانَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طاوُسٍ: أنَّ إبْراهِيمَ ابْنَ سَعْدٍ سَألَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنهُ، أيَنْكِحُها؟ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَعَمْ! ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلاقَ في أوَّلِ الآيَةِ وآخِرِها، والخُلْعُ بَيْنَ ذَلِكَ.
والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِطَلاقٍ، أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى رَتَّبَ عَلى الطَّلاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ الَّذِي لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدُهُ، ثَلاثَةَ أحْكامٍ كُلُّها مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الخُلْعِ:
أحَدُها: أنَّ الزَّوْجَ أحَقُّ بِالرَّجْعَةِ فِيهِ.
الثّانِي: أنَّهُ مَسْحُوبٌ مِنَ الثَّلاثِ فَلا يَحِلُّ بَعْدَ اسْتِيفاءِ العَدَدِ إلّا بَعْدَ زَوْجٍ وإصابَةٍ.
الثّالِثُ: أنَّ العِدَّةَ فِيهِ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ.
وقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ والإجْماعِ أنَّهُ لا رَجْعَةَ في الخُلْعِ. وثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وأقْوالِ الصَّحابَةِ أنَّ العِدَّةَ فِيهِ حَيْضَةٌ واحِدَةٌ. وثَبَتَ بِالنَّصِّ جَوازُهُ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ ووُقُوعِ ثالِثَةٍ بَعْدَهُ. وهَذا ظاهِرٌ جِدًّا في كَوْنِهِ لَيْسَ بِطَلاقٍ؛ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلا أنْ يَخافا ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] وهَذا - وإنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِالمُطَلَّقَةِ تَطْلِيقَتَيْنِ - فَإنَّهُ يَتَناوَلُها وغَيْرَها. ولا يَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إلى مَن لَمْ يُذْكَرْ، ويُخَلّى عَنْهُ المَذْكُورُ، بَلْ إمّا أنْ يَخْتَصَّ بِالسّابِقِ، أوْ يَتَناوَلَهُ وغَيْرَهُ. ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ وهَذا يَتَناوَلُ مَن طُلِّقَتْ بَعْدَ فِدْيَةٍ تَطْلِيقَتَيْنِ قَطْعًا؛ لِأنَّها هي المَذْكُورَةُ. فَلا بُدَّ مِن دُخُولِها تَحْتَ اللَّفْظِ. فَهَذا فَهْمُ تُرْجُمانِ القُرْآنِ الَّذِي دَعا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلَ القُرْآنِ، وهي دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ بِلا شَكٍّ. وإذا كانَتْ أحْكامُ الفِدْيَةِ غَيْرَ أحْكامِ الطَّلاقِ، دَلَّ عَلى أنَّها غَيْرُ جِنْسِهِ. فَهَذا مُقْتَضى النَّصِّ والقِياسِ وأقْوالِ الصَّحابَةِ. انْتَهى.
(p-٦٠٧)هَذِهِ خُلاصَةُ الحُجَجِ في هَذِهِ الفُرُوعِ المُهِمَّةِ مَعْرِفَتُها. ولا يَعْرِفُ قَدْرَها إلّا مَن صَغى فَهْمُهُ عَنِ التَّعَصُّباتِ. ومَن نَظَرَ إلى ما عَمَّتْ بِهِ البَلْوى - مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِحالِ لِلْقِيلِ والقالِ، وتَرْكِ ما حَقَّقَهُ بِالدَّلائِلِ الأئِمَّةُ الأبْطالُ - قَضى العَجَبَ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ - أيِ: الزَّوْجُ الثّانِي -: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما﴾ أيْ: عَلى المَرْأةِ ومُطَلَّقِها الأوَّلِ: -: ﴿أنْ يَتَراجَعا﴾ أيْ: إلى ما كانا فِيهِ مِنَ النِّكاحِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بَعْدَ عِدَّةِ طَلاقِ الثّانِي - المَعْلُومَةِ مِمّا تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] الآيَةَ -: ﴿إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ أيِ: الَّتِي أوْجَبَ مُراعاتَها عَلى الزَّوْجَيْنِ مِنَ الحُقُوقِ: ﴿وتِلْكَ﴾ أيِ: الأحْكامُ المَذْكُورَةُ: ﴿حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] أيْ: أحْكامُهُ المَحْمِيَّةُ مِنَ التَّغْيِيرِ والمُخالَفَةِ: ﴿يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: يَكْشِفُ اللَّبْسَ عَنْها لِقَوْمٍ فِيهِمْ نَهْضَةٌ وجِدٌّ في الِاجْتِهادِ، فَيُجَدِّدُونَ النَّظَرَ والتَّأمُّلَ بِغايَةِ الِاجْتِهادِ في كُلِّ وقْتٍ، فَبِذَلِكَ يُعْطِيهِمُ اللَّهُ مَلَكَةً يُمَيِّزُونَ بِها ما يَلْبَسُ عَلى غَيْرِهِمْ: ﴿إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا﴾ [الأنفال: ٢٩] ﴿واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢] - أفادَهُ البِقاعِيُّ.
{"ayah":"فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَیۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَاۤ أَن یَتَرَاجَعَاۤ إِن ظَنَّاۤ أَن یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ یُبَیِّنُهَا لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق