الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ قِسْمَيِ الطَّلاقِ البائِنِ - وكانَ نَظَرُ الطَّلاقِ إلى العَدَدِ أشَدَّ (p-٣١٣)مِن نَظَرِهِ إلى العِوَضِ قَدَّمَ قِسْمَهُ في قَوْلِهِ ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَقالَ مُوَحِّدًا لِئَلّا يُفْهَمَ الحَكَمُ عَلى الجَمْعِ أنَّ الجَمْعَ قَيْدٌ في الحُكْمِ وأفْهَمَ التَّكْرِيرُ لِلْجَمْعِ شِدَّةَ الذَّمِّ لِما كانُوا يَفْعَلُونَ في الجاهِلِيَّةِ مِن غَيْرِ هَذِهِ الأحْكامِ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ أيِ الثّالِثَةَ الَّتِي تَقَدَّمَ التَّخْيِيرُ فِيها بِلَفْظِ التَّسْرِيحِ فَكَأنَّهُ قالَ: فَإنِ اخْتارَ الطَّلاقَ الباتَّ بَعْدَ المَرَّتَيْنِ إمّا في العِدَّةِ مِنَ الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ أوْ بَعْدَ الرَّجْعَةِ بِعِوَضٍ أوْ غَيْرِهِ ولا فَرْقَ في جَعْلِها ثالِثَةً بَيْنَ أنْ تَكُونَ بَعْدَ تَزَوُّجِ المَرْأةِ بِزَوْجٍ آخَرَ أوْ لا. قالَ الحَرالِيُّ: فَرَدَّدَ مَعْنى التَّسْرِيحِ الَّذِي بَيَّنَهُ في (p-٣١٤)مَوْضِعِهِ بِلَفْظِ الطَّلاقِ لِما هَيَّأها بِوَجْهٍ إلى المَعادِ، وذَلِكَ فِيما يُقالُ مِن خُصُوصِ هَذِهِ الأُمَّةِ وإنَّ حُكْمَ الكِتابِ الأوَّلِ أنَّ المُطَلَّقَةَ ثَلاثًا لا تَعُودُ أبَدًا فَلِهَذا العَوْدِ بَعْدَ زَوْجٍ صارَ السَّراحُ طَلاقًا - انْتَهى. ﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ﴾ ولَمّا كانَ إسْقاطُ الحَرْفِ والظَّرْفِ يُوهِمُ أنَّ الحُرْمَةَ تَخْتَصُّ بِما اسْتَغْرَقَ زَمَنُ البُعْدِ فَيُفْهَمُ أنَّ نِكاحَهُ لَها في بَعْضِ ذَلِكَ الزَّمَنِ يَحُلُّ قالَ: ﴿مِن بَعْدُ﴾ أيْ في زَمَنٍ ولَوْ قَلَّ مِن أزْمانِ ما بَعْدَ اسْتِيفاءِ الدَّوْرِ الَّذِي هو الثَّلاثُ بِما أفادَهُ إثْباتُ الجارِّ، وتَمْتَدُّ الحُرْمَةُ ﴿حَتّى﴾ أيْ إلى أنْ ﴿تَنْكِحَ﴾ أيْ تُجامِعَ بِذَوْقِ العُسَيْلَةِ الَّتِي صَرَّحَ بِها النَّبِيُّ ﷺ، قالَ الفارِسِيُّ: إذا قالَ العَرَبُ: نَكَحَ فُلانٌ فُلانَةَ، أرادُوا عَقَدَ عَلَيْها؛ وإذا قالُوا: (p-٣١٥)نَكَحَ امْرَأتَهُ أوْ زَوْجَتَهُ، أرادُوا جامَعَها؛ وقالَ الإمامُ: إنَّ هَذا الَّذِي قالَهُ أبُو عَلِيٍّ جارٍ عَلى قَوانِينِ الأُصُولِ وإنَّهُ لا يَصِحُّ إرادَةُ غَيْرِهِ ودَلَّ عَلى ذَلِكَ بِقِياسِ رُتْبَةٍ، فالآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ لا يُكْتَفى في التَّحْلِيلِ بِدُونِ الجِماعِ كَما بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وإلّا كانَتِ السُّنَّةُ ناسِخَةً، لِأنَّ غايَةَ الحُرْمَةِ في الآيَةِ العَقْدُ وفي الخَبَرِ الوَطْءُ وخَبَرُ الواحِدِ لا يَنْسَخُ القُرْآنَ، وأشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿زَوْجًا﴾ إلى أنَّ شَرْطَ هَذا الجِماعِ أنْ يَكُونَ حَلالًا في عَقْدٍ صَحِيحٍ ﴿غَيْرَهُ﴾ أيِ المُطَلِّقَ، وفي جَعْلِ هَذا غايَةً لِلْحَلِّ زَجْرٌ لِمَن لَهُ غَرَضٌ ما في امْرَأتِهِ عَنْ طَلاقِها ثَلاثًا لِأنَّ كُلَّ ذِي مَرْوَةٍ يَكْرَهُ أنْ يَفْتَرِشَ امْرَأتَهُ آخَرُ ومُجَرَّدُ العَقْدِ لا يُفِيدُ هَذِهِ الحِكْمَةَ وذَلِكَ بَعْدَ أنْ أثْبَتَ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِن كَمالِ رَأْفَتِهِ بِعِبادِهِ الرَّجْعَةَ في الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ مَرَّتَيْنِ (p-٣١٦)لِأنَّ الإنْسانَ في حالِ الوِصالِ لا يَدْرِي ما يَكُونُ حالُهُ بَعْدَهُ ولا تُفِيدُهُ الأُولى كَمالَ التَّجْرِبَةِ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ شَكٍّ بَعْدَها وفي الثّانِيَةِ يَضْعُفُ ذَلِكَ جِدًّا ويَقْرُبُ الحالُ مِنَ التَّحَقُّقِ فَلا يُحْمَلُ عَلى الفِراقِ بَعْدَها إلّا قِلَّةُ التَّأمُّلِ ومَحْضُ الخَرْقِ بِالعَجَلَةِ المَنهِيِّ عَنْها ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ أيِ الثّانِي وتَعْبِيرُهُ بِإنِ الَّتِي لِلشَّكِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ مَتى شَرَطَ الطَّلاقَ عَلى المُحَلِّلِ بَطَلَ العَقْدُ بِخُرُوجِهِ عَنْ دائِرَةِ الحُدُودِ المَذْكُورَةِ. لِأنَّ النِّكاحَ كَما قالَ الحَرالِيُّ عَقْدُ حُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ لا حَدُّ مُتْعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِمْتاعُ إلى أمَدٍ مُحَلَّلًا في السُّنَّةِ وعِنْدَ الأئِمَّةِ لِما يُفَرَّقُ بَيْنَ النِّكاحِ والمُتْعَةِ مِنَ التَّأْبِيدِ والتَّحْدِيدِ - انْتَهى. ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما﴾ أيْ عَلى المَرْأةِ ومُطَلِّقِها الأوَّلِ ﴿أنْ يَتَراجَعا﴾ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بَعْدَ عِدَّةِ طَلاقِ الثّانِي المَعْلُومَةِ مِمّا تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] وهَذِهِ مُطْلَقَةٌ إلى ما كانا فِيهِ مِنَ النِّكاحِ ﴿إنْ ظَنّا﴾ أيْ وقَعَ في ظَنِّ كُلٍّ مِنهُما ﴿أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ الَّتِي (p-٣١٧)حَدَّها لَهُما في العِشْرَةِ. قالَ الحَرالِيُّ: لَمّا جَعَلَ الطَّلاقَ سَراحًا جَعَلَ تَجْدِيدَ النِّكاحِ مُراجَعَةَ كُلِّ ذَلِكَ إيذانًا بِأنَّ الرَّجْعَةَ لِلزَّوْجِ أوْلى مِن تَجْدِيدِ الغَيْرِ - انْتَهى. ولَمّا كانَ الدِّينُ مَعَ سُهُولَتِهِ ويُسْرِهِ شَدِيدًا لَنْ يُشادَّهُ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ وكانَتِ الأحْكامُ مَعَ وُضُوحِها قَدْ تَخْفى لِما في تَنْزِيلِ الكُلِّيّاتِ عَلى الجُزْئِيّاتِ مِنَ الدِّقَّةِ لِأنَّ الجُزْئِيَّ الواحِدَ قَدْ يَتَجاذَبُهُ كُلِّيّانِ فَأكْثَرُ فَلا تُجَرِّدُها مِن مَواقِعِ الشُّبَهِ إلّا مَن نَوَّرَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ عَطَفَ عَلى تِلْكَ الماضِيَةِ تَعْظِيمًا لِلْحُدُودِ قَوْلَهُ: ﴿وتِلْكَ﴾ أيِ الأحْكامُ المُتَناهِيَةُ في مَدارِجِ العِظَمِ ومَراتِبِ الحِكَمِ ﴿حُدُودَ اللَّهِ﴾ أيِ العَظِيمَةُ بِإضافَتِها إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وبِتَعْلِيقِها بِالِاسْمِ الأعْظَمِ ﴿يُبَيِّنُها﴾ أيْ يَكْشِفُ اللَّبْسَ عَنْها بِتَنْوِيرِ القَلْبِ ﴿لِقَوْمٍ﴾ فِيهِمْ نَهْضَةٌ وجِدٌّ في الِاجْتِهادِ وقِيامٌ وكِفايَةٌ ﴿يَعْلَمُونَ﴾ أيْ يُجَدِّدُونَ النَّظَرَ والتَّأمُّلَ بِغايَةِ الِاجْتِهادِ في كُلِّ وقْتٍ فَبِذَلِكَ يُعْطِيهِمُ اللَّهُ مَلَكَةً يُمَيِّزُونَ بِها ما يُلْبِسُ عَلى غَيْرِهِمْ ﴿إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا﴾ [الأنفال: ٢٩] ﴿واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب