الباحث القرآني

﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾، أيْ: مِن بَعْدِ هَذا الطَّلاقِ الثّالِثِ، ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، والنِّكاحُ يُطْلَقُ عَلى العَقْدِ وعَلى الوَطْءِ، فَحَمَلَهُ ابْنُ المُسَيَّبِ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وذَكَرَهُ النَّحّاسُ في مَعانِي القُرْآنِ لَهُ عَلى العَقْدِ، وقالَ: إذا عَقَدَ عَلَيْها الثّانِي حَلَّتْ لِلْأوَّلِ، وإنْ لَمْ يَدْخُلْ بِها ولَمْ يُصِبْها، وخالَفَهُ الجُمْهُورُ؛ لِحَدِيثِ امْرَأةِ رِفاعَةَ المَشْهُورِ، فَقالَ الحَسَنُ: لا يَحِلُّ إلّا الوَطْءُ والإنْزالُ، وهو ذَوْقُ العَسِيلَةِ. وقالَ باقِي العُلَماءِ: تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ يُحِلُّ، وقالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ: التِقاءُ (p-٢٠١)الخِتانَيْنِ يُحِلُّ، وهو راجِعٌ لِلْقَوْلِ قَبْلَهُ؛ إذْ لا يَلْتَقِيانِ إلّا مَعَ المَغِيبِ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ نِكاحَ المُحَلِّلِ جائِزٌ؛ إذْ لَمْ يَعْنِي الحِلَّ إلّا بِنِكاحِ زَوْجٍ، وهَذا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ نِكاحُ زَوْجٍ فَهو جائِزٌ، وإلى هَذا ذَهَبَ ابْنُ أبِي لَيْلى، وأبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وداوُدُ، وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ في رِوايَةٍ، والثَّوْرِيِّ في رِوايَةٍ، وقَوْلِ الشّافِعِيِّ في كِتابِهِ الجَدِيدِ المِصْرِيِّ؛ إذا لَمْ يَشْتَرِطِ التَّحْلِيلَ في حِينِ العَقْدِ. وقالَ القاسِمُ، وسالِمٌ، ورَبِيعَةُ، ويَحْيى بْنُ سَعْدٍ: لا بَأْسَ أنْ يَتَزَوَّجَها لِيُحَلِّلَها إذا لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجانِ، وهو مَأْجُورٌ، وقالَ مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ في القَدِيمِ، وأبُو حَنِيفَةَ في رِوايَةٍ: لا يَجُوزُ، ولا تَحِلُّ لِلْأوَّلِ، ولا يُقَرُّ عَلَيْهِ، وسَواءٌ عَلِما أمْ لَمْ يَعْلَما. وعَنِ الثَّوْرِيِّ أنَّهُ لَوْ شَرَطَ بَطَلَ الشَّرْطُ وجازَ النِّكاحُ، وهو قَوْلُ ابْنِ أبِي لَيْلى في ذَلِكَ وفي نِكاحِ المُتْعَةِ. وقالَ الحَسَنُ، وإبْراهِيمُ: إذا عَلِمَ أحَدُ الثَّلاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ فَسَدَ النِّكاحُ. وفي قَوْلِهِ: ﴿زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ النّاكِحَ يَكُونُ زَوْجًا، فَلَوْ كانَتْ أمَةً وطُلِّقَتْ ثَلاثًا - أوِ اثْنَتَيْنِ عَلى مَذْهَبِ مَن يَرى ذَلِكَ - ثُمَّ وطِئَها سَيِّدُها لَمْ تَحِلَّ لِلْأوَّلِ، قالَهُ عَلِيٌّ، وعُبَيْدَةُ، ومَسْرُوقٌ، والشَّعْبِيُّ، وجابِرٌ، وإبْراهِيمُ، وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، وحَمّادٌ، وأبُو زِيادٍ، وجَماعَةُ فُقَهاءِ الأمْصارِ. ورُوِيَ عَنْ عُثْمانَ، وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، والزُّبَيْرِ أنَّهُ يُحِلُّها إذا غَشِيَها غَشَيانًا لا يُرِيدُ بِذَلِكَ مُخادَعَةً ولا إحْلالًا، وتَرْجِعُ إلى زَوْجِها بِخِطْبَةٍ وصَداقٍ. وفي قَوْلِهِ: ”زَوْجًا“ دَلالَةٌ أيْضًا عَلى أنَّهُ لَوْ كانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وهي أمَةٌ ووَهَبَها السَّيِّدُ لَهُ بَعْدَ بَتِّ طَلاقِها، أوِ اشْتَراها الزَّوْجُ بَعْدَ ما بَتَّ طَلاقُها لَمْ تَحِلَّ لَهُ في الصُّورَتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. قالَ أبُو عُمَرَ: عَلى هَذا جَماعَةُ العُلَماءِ وأئِمَّةُ الفَتْوى: مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ، والحَسَنُ: تَحِلُّ بِمِلْكِ اليَمِينِ. وفي قَوْلِهِ: ”زَوْجًا غَيْرَهُ“ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ إذا تَزَوَّجَ الذِّمِّيَّةَ المَبْتُوتَةَ مِنَ المُسْلِمِ بِالثَّلاثِ ذِمِّيٌّ، ودَخَلَ بِها وطُلِّقَتْ؛ حَلَّتْ لِلْأوَّلِ. وبِهِ قالَ الحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وأبُو عُبَيْدٍ، وأصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ. وقالَ مالِكٌ، ورَبِيعَةُ: لا يُحِلُّها. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ”حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا“ أنَّهُ بِنِكاحٍ صَحِيحٍ، فَلَوْ نُكِحَتْ نِكاحًا فاسِدًا لَمْ يَحِلَّ، وهو قَوْلُ أكْثَرِ العُلَماءِ: مالِكٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وإسْحاقَ، وأبِي عُبَيْدٍ، وأصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ. وقالَ الحَكَمُ: هو زَوْجٌ. وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المَرْأةَ إذا قالَتْ لِلزَّوْجِ الأوَّلِ: قَدْ تَزَوَّجْتُ، ودَخَلَ عَلَيَّ زَوْجِي وصَدَّقَها؛ أنَّها تَحِلُّ لِلْأوَّلِ. قالَ الشّافِعِيُّ: والوَرَعُ أنْ لا يَفْعَلَ إذا وقَعَ في نَفْسِهِ أنَّها كَذَبَتْهُ. وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اسْمَ زَوْجٍ كافٍ، سَواءٌ كانَ قَوِيَّ النِّكاحِ أمْ ضَعِيفَهُ، أوْ صَبِيًّا أوْ مُراهِقًا، أوْ مَجْبُوبًا بَقِيَ لَهُ ما يُغَيِّبُهُ كَما يُغَيِّبُ غَيْرُ الخَصِيِّ، وسَواءً أدْخَلَهُ بِيَدِهِ أوْ بِيَدِها، وكانَتْ مُحْرِمَةً أوْ صائِمَةً، وهَذا كُلُّهُ عَلى ما وصَفَ الشّافِعِيُّ قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ، وقَوْلُ بَعْضِ أصْحابِ مالِكٍ. وقالَ مالِكٌ في أحَدِ قَوْلَيْهِ: لَوْ وطِئَها نائِمَةً أوْ مُغْمًى عَلَيْها لَمْ تَحِلَّ لِمُطَلِّقِها، ومَذْهَبُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ أنَّ المُطَلَّقَةَ ثَلاثًا لا تَحِلُّ لِذَلِكَ الزَّوْجِ إلّا بِخَمْسَةِ شَرائِطَ: تَعْتَدُّ مِنهُ، ويُعْقَدُ لِلثّانِي، ويَطَؤُها، ثُمَّ يُطَلِّقُها، وتَعْتَدُّ مِنهُ. وكَوْنُ الوَطْءِ شَرْطًا قِيلَ: ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وقِيلَ: بِالكِتابِ، وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ. وقِيلَ: هو المُخْتارُ؛ لِأنَّ أبا عَلِيٍّ نَقَلَ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: نَكَحَ فُلانٌ فُلانَةً بِمَعْنى عَقَدَ عَلَيْها. ونَكَحَ امْرَأتَهُ أوْ زَوْجَتَهُ أيْ: جامَعَها. وقَدْ مَرَّ لَنا طُرُقٌ مِن هَذا. قالَ في (المُنْتَخَبِ)، بَعْدَ كَلامٍ كَثِيرٍ مَحْصُولُهُ أنَّ قَوْلَهُ: حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، يَدُلُّ عَلى ما تَقَدَّمَ الزَّوْجِيَّةَ، وهي العَقْدُ الحاصِلُ بَيْنَهُما، ثُمَّ النِّكاحُ عَلى مَن سَبَقَتْ زَوْجَتُهُ، فَيَتَعَيَّنُ أنْ يُرادَ بِهِ الوَطْءُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ”تَنْكِحَ“ دالًّا عَلى الوَطْءِ، و”زَوْجًا“ يَدُلُّ عَلى العَقْدِ. ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَهُ؛ إذْ يَجُوزُ أنْ لا يَدُلَّ عَلى أنْ تَتَقَدَّمَ الزَّوْجِيَّةُ بِجَعْلِ تَسْمِيَتِهِ زَوْجًا بِما تَؤُولُ إلَيْهِ حالُهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَتّى يَعْقِدَ عَلى مَن يَكُونُ زَوْجًا. وقالَ في (المُنْتَخَبِ) أيْضًا: أمّا قَوْلُ مَن يَقُولُ: الآيَةُ لا تَدُلُّ عَلى الوَطْءِ، وإنَّما ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّ (p-٢٠٢)الآيَةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الحِلِّ مَمْدُودًا إلى غايَةٍ، وما كانَ غايَةً لِلشَّيْءِ يَجِبُ انْتِهاءُ الحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ؛ فَيَلْزَمُ انْتِفاءُ الحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ النِّكاحِ، فَلَوْ كانَ النِّكاحُ عِبارَةً عَنِ العَقْدِ لَكانَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى وُجُوبِ انْتِهاءِ هَذِهِ الحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ العَقْدِ، فَكانَ رَفْعُها بِالخَبَرِ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، أمّا إذا حَمَلْنا النِّكاحَ عَلى الوَطْءِ، وحَمَلْنا قَوْلَهُ: ”زَوْجًا“ عَلى العَقْدِ، لَمْ يَلْزَمْ هَذا الإشْكالَ. انْتَهى. ولا يَلْزَمُ ما ذَكَرَهُ مِن هَذا الإشْكالِ، وهو أنَّهُ يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ؛ لِأنَّ القائِلَ يَقُولُ: لَمْ يَجْعَلْ نَفْيَ الحِلِّ مُنْتَهِيًا إلى هَذِهِ الغايَةِ الَّتِي هي نِكاحُها زَوْجًا غَيْرَهُ فَقَطْ. وإنْ كانَ الظّاهِرُ في الآيَةِ ذَلِكَ، بَلْ ثَمَّ مَعْطُوفاتٍ قَبْلَ الغايَةِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ وما بَعْدَها، يَدُلُّ عَلى إرادَتِها، وهي غاياتٌ أيْضًا، والتَّقْدِيرُ: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ، أيْ: مِن بَعْدِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها مِنهُ، وتُعْقَدَ عَلى زَوْجٍ غَيْرِهِ ويَدْخُلَ بِها ويُطَلِّقَها، وتَنْقَضِيَ عِدَّتُها مِنهُ؛ فَحِينَئِذٍ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ المُطَلِّقِ ثَلاثًا أنْ يَتَراجَعا، فَقَدْ صارَتِ الآيَةُ مِن بابِ ما يَحْتاجُ بَيانُ الحِلِّ فِيهِ إلى تَقْدِيرِ هَذِهِ المَحْذُوفاتِ وتَبْيِينِها، ودَلَّ عَلى إرادَتِها الكِتابُ والسُّنَّةُ الثّابِتَةُ، وإذا كانَتْ كَذَلِكَ، وبَيَّنَ هَذِهِ المَحْذُوفاتِ الكِتابُ والسُّنَّةُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِن بابِ نَسْخِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ، ألا تَرى أنَّهُ يَلْزَمُ أيْضًا مِن حَمْلِ النِّكاحِ هُنا عَلى الوَطْءِ أنْ يُضْمَرَ قَبْلَهُ: حَتّى تُعْقَدَ عَلى زَوْجٍ ويَطَأها. فَلا فَرْقَ في الإضْمارِ بَيْنَ أنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلى الغايَةِ المَذْكُورَةِ المُرادِ بِها الوَطْءُ، أوْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا عَنْها إذا أُرِيدَ بِهِ العَقْدُ، فَهَذا إضْمارٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ فَلَيْسَ مِن بابِ النَّسْخِ في شَيْءٍ. * * * ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾، قِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى زَوْجِ النَّكِرَةِ، وهو الثّانِي، وأتى بِلَفْظِ ”إنْ“ دُونَ ”إذا“ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ طَلاقَهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عَلى ما يَخْطُرُ لَهُ دُونَ الشَّرْطِ. انْتَهى. ومَعْناهُ أنَّ ”إذا“ إنَّما تَأْتِي لِلْمُتَحَقِّقِ، وإنْ تَأْتِي لِلْمُبْهَمِ والمُجَوَّزِ وُقُوعُهُ وعَدَمُ وُقُوعِهِ، أوْ لِلْمُحَقَّقِ المُبْهَمِ زَمانُ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٤]، والمَعْنى: فَإنْ طَلَّقَها وانْقَضَتْ عِدَّتُها مِنهُ، ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما﴾ [البقرة: ٢٢٩]، أيْ: عَلى الزَّوْجِ المُطَلِّقِ الثَّلاثَ وهَذِهِ الزَّوْجَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ولا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّ اللَّفْظَ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الزَّوْجِ الثّانِي والمَرْأةِ، وتَكُونُ الآيَةُ قَدْ أفادَتْ حُكْمَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ المَبْتُوتَةَ ثَلاثًا تَحِلُّ لِلْأوَّلِ بَعْدَ نِكاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وهَذا مَفْهُومٌ مِن صَدْرِ الآيَةِ؛ والحُكْمُ الثّانِي: أنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الثّانِي الَّذِي طَلَّقَها أنْ يُراجِعَها؛ لِأنَّهُ يَنْزِلُ مَنزِلَةَ الأوَّلِ، فَيَجُوزُ لَهُما أنْ يَتَراجَعا، ويَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا لِما يَتَبادَرُ إلَيْهِ الذِّهْنُ مِن أنَّهُ إذا طَلَّقَها الثّانِي حَلَّتْ لِلْأوَّلِ، فَبِكَوْنِها حَلَّتْ لَهُ اخْتَصَّتْ بِهِ ولا يَجُوزُ لِلثّانِي أنْ يَرُدَّها؛ فَيَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾ مُبَيِّنًا أنَّ حُكْمَ الثّانِي حُكْمُ الأوَّلِ، وأنَّهُ لا يَتَحَتَّمُ أنَّ الأوَّلَ يُراجِعُها، بَلْ بِدَلِيلِ إنِ انْقَضَتْ عِدَّتُها مِنَ الثّانِي فَهي مُخَيَّرَةٌ فِيمَن يَرْتَدُّ مِنهُما أنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَإنْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُها - وكانَ الطَّلاقُ رَجْعِيًّا - فَلِزَوْجِها الثّانِي أنْ يُراجِعَها، وعَلى هَذا لا يَحْتاجُ إلى حَذْفٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾، وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾، ويَحْتاجَ إلى الحَذْفِ إذا كانَ الضَّمِيرُ في ”عَلَيْهِما“ عائِدًا عَلى المُطَلِّقِ ثَلاثًا وعَلى الزَّوْجَةِ، وذَلِكَ المَحْذُوفُ هو: وانْقَضَتْ عِدَّتُها مِنهُ، أيْ: فَإنْ طَلَّقَها الثّانِي وانْقَضَتْ عِدَّتُها مِنهُ فَلا جُناحَ عَلى المُطَلِّقِ ثَلاثًا والزَّوْجَةِ أنْ يَتَراجَعا. * * * وقَوْلُهُ: ﴿إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ أيْ: إنْ ظَنَّ الزَّوْجُ الثّانِي والزَّوْجَةُ أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ؛ لِأنَّ الطَّلاقَ لا يَكادُ يَكُونُ في الغالِبِ إلّا عِنْدَ التَّشاجُرِ والتَّخاصُمِ والتَّباغُضِ، وتَكُونُ الضَّمائِرُ كُلُّها مُنْساقَةً انْسِياقًا واحِدًا لا تَلْوِينَ فِيهِ، ولا اخْتِلافَ مَعَ اسْتِفادَةِ هَذَيْنِ الحُكْمَيْنِ مِن حَمْلِ الضَّمائِرِ عَلى ظاهِرِها، وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ غَيْرُ مَنقُولٍ، بَلِ الَّذِي فَهِمُوهُ هو تَكْوِينُ الضَّمائِرِ واخْتِلافُها. ﴿أنْ يَتَراجَعا﴾، أيْ: في أنْ يَتَراجَعا، والضَّمِيرُ في ”عَلَيْهِما“، وفي ”أنْ يَتَراجَعا“ عَلى ما فَسَّرُوهُ، عائِدٌ عَلى الزَّوْجِ الأوَّلِ والزَّوْجَةِ الَّتِي طَلَّقَها الزَّوْجُ الثّانِي. قالَ (p-٢٠٣)ابْنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّهُ الحُرُّ إذا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُها، ونَكَحَتْ زَوْجًا ودَخَلَ بِها، ثُمَّ نَكَحَها الأوَّلُ؛ أنَّها تَكُونُ عِنْدَهُ عَلى ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلى الأوَّلِ. فَقالَتْ طائِفَةٌ: تَكُونُ عَلى ما بَقِيَ مِن طَلاقِها، وبِهِ قالَ أكابِرُ الصَّحابَةِ: عُمَرُ، وعَلِيٌّ، وأُبَيٌّ، وعِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، ومُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ، ومِنَ التّابِعِينَ: عَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ، وابْنُ المُسَيَّبِ، والحَسَنُ. ومِنَ الأئِمَّةِ: مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والشّافِعِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو عُبَيْدٍ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ نَصْرٍ. وقالَتْ طائِفَةٌ: يَكُونُ عَلى نِكاحٍ جَدِيدٍ بِهَدْمِ الزَّوْجِ الثّانِي الواحِدَةِ والثِّنْتَيْنِ كَما يَهْدِمُ الثَّلاثَ، وبِهِ قالَ ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعَطاءٌ، والنَّخَعِيُّ، وشُرَيْحٌ، وأصْحابُ عَبْدِ اللَّهِ إلّا عُبَيْدَةَ، وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، وأبِي يُوسُفَ. وقِيلَ قَوْلٌ ثالِثٌ: إنْ دَخَلَ بِها الآخَرُ فَطَلاقٌ جَدِيدٌ، ونِكاحُ الأوَّلِ جَدِيدٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بِها فَعَلى ما بَقِيَ. * * * ﴿إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾، أيْ: إنْ ظَنَّ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أنَّهُ يُحْسِنُ عِشْرَةَ صاحِبِهِ، وما يَكُونُ لَهُ التَّوافُقُ بَيْنَهُما مِنَ الحُدُودِ الَّتِي حَدَّها اللَّهُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، وقَدْ ذَكَرْنا طَرَفًا مِمّا لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى الآخَرِ في قَوْلِهِ: ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وقالَ ابْنُ خُوَيْزِ: اخْتَلَفَ أصْحابُنا، - يَعْنِي أصْحابَ مالِكٍ - هَلْ عَلى الزَّوْجَةِ خِدْمَةٌ أمْ لا ؟ فَقالَ بَعْضُهم: لَيْسَ عَلى الزَّوْجَةِ أنْ تُطالِبَ بِغَيْرِ الوَطْءِ. وقالَ بَعْضُهم: عَلَيْها خِدْمَةُ مِثْلِها، فَإنْ كانَتْ شَرِيفَةَ المَحَلِّ، لِيَسارِ أُبُوَّةٍ أوْ تَرَفُّهٍ، فَعَلَيْها تَدْبِيرُ أمْرِ المَنزِلِ وأمْرِ الخادِمِ، وإنْ كانَتْ مُتَوَسِّطَةَ الحالِ فَعَلَيْها أنْ تَفْرِشَ الفِراشَ ونَحْوَهُ، وإنْ كانَتْ مِن نِساءِ الكُرْدِ والدَّيْنَمِ في بَلَدِهِنَّ كُلِّفَتْ ما تَكَلَّفَهُ نِساؤُهم، وقَدْ جَرى أمْرُ المُسْلِمِينَ في بُلْدانِهِمْ، في قَدِيمِ الأمْرِ وحَدِيثِهِ، بِما ذَكَرْنا، ألا تَرى أنَّ نِساءَ الصَّحابَةِ كُنَّ يُكَلَّفْنَ الطَّحْنَ، والخَبِيزَ، والطَّبِيخَ، وفَرْشَ الفِراشِ، وتَقْرِيبَ الطَّعامِ، وأشْباهَ ذَلِكَ، ولا نَعْلَمُ امْرَأةً امْتَنَعَتْ مِن ذَلِكَ، بَلْ كانُوا يَضْرِبُونَ نِساءَهم إذا قَصَّرْنَ في ذَلِكَ. و﴿إنْ ظَنّا﴾ شَرْطٌ جَوابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ؛ فَيَكُونُ جَوازُ التَّراجُعِ مَوْقُوفًا عَلى شَرْطَيْنِ: أحَدُهُما: طَلاقُ الزَّوْجِ الثّانِي، والآخَرُ: ظَنُّهُما إقامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، ومَفْهُومُ الشَّرْطِ الثّانِي أنَّهُ لا يَجُوزُ إنْ لَمْ يَظُنّا، ومَعْنى الظَّنِّ هُنا تَغْلِيبُ أحَدِ الجائِزَيْنِ، وبِهَذا يَتَبَيَّنُ أنَّ مَعْنى الخَوْفِ في آيَةِ الخُلْعِ مَعْنى الظَّنِّ؛ لِأنَّ مَساقَ الحُدُودِ مَساقٌ واحِدٌ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: المَعْنى: أيْقَنّا، جَعَلَ الظَّنَّ هُنا بِمَعْنى اليَقِينِ، وضَعُفَ قَوْلُهم بِأنَّ اليَقِينَ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ؛ إذْ هو مَغِيبٌ عَنْهُما. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَن فَسَّرَ العِلْمَ هُنا بِالظَّنِّ فَقَدْ وهِمَ مِن طَرِيقِ اللَّفْظِ، والمَعْنى: لِأنَّكَ لا تَقُولُ: عَلِمْتُ أنْ يَقُومَ زَيْدٌ، ولَكِنْ: عَلِمْتُ أنَّهُ يَقُومُ زَيْدٌ؛ ولِأنَّ الإنْسانَ لا يَعْلَمُ ما في الغَدِ، وإنَّما يَظُنُّ ظَنًّا. انْتَهى كَلامُهُ. وما ذَكَرَهُ مِن أنَّكَ لا تَقُولُ عَلِمْتُ أنْ يَقُومَ زَيْدٌ، قَدْ قالَهُ غَيْرُهُ، قالُوا: إنَّ ”أنِ“ النّاصِبَةَ لِلْمُضارِعِ لا يَعْمَلُ فِيها فِعْلُ تَحْقِيقٍ، نَحْوَ: العِلْمِ واليَقِينِ والتَّحْقِيقِ، وإنَّما يَعْمَلُ في أنَّ المُشَدَّدَةِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ في (الإيضاحِ): ولَوْ قُلْتَ: عَلِمْتُ أنْ يَقُومَ زَيْدٌ، فَنَصَبْتَ الفِعْلَ بِـ ”أنْ“ لَمْ يَجُزْ؛ لِأنَّ هَذا مِن مَواضِعِ ”أنْ“؛ لِأنَّها مِمّا قَدْ ثَبَتَ واسْتَقَرَّ، كَما أنَّهُ لا يَحْسُنُ: أرْجُو أنَّكَ تَقُومُ، وظاهِرُ كَلامِ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ مُخالِفٌ لِما ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِن أنْ يَجُوزَ أنْ تَقُولَ: ما عَلِمْتُ إلّا أنْ يَقُومَ زَيْدٌ، فَأُعْمِلَ ”عَلِمْتُ“ في ”أنْ“ . قالَ بَعْضُ أصْحابِنا: ووَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَهُما أنَّ ”عَلِمْتُ“ قَدْ تُسْتَعْمَلُ ويُرادُ بِها العِلْمُ القَطْعِيُّ، فَلا يَجُوزُ وُقُوعُ ”أنْ“ بَعْدَها كَما ذَكَرَهُ الفارِسِيُّ، وقَدْ تُسْتَعْمَلُ ويُرادُ بِها الظَّنُّ القَوِيُّ، فَيَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ في ”أنْ“ . ويَدُلُّ عَلى اسْتِعْمالِها ولا يُرادُ بِها العِلْمُ القَطْعِيُّ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠]، فالعِلْمُ هُنا إنَّما يُرادُ بِهِ الظَّنُّ القَوِيُّ؛ لِأنَّ القَطْعَ بِإيمانِهِنَّ غَيْرُ مُتَوَصَّلٍ إلَيْهِ، وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وأعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرِ ظَنٍّ وتَقْوى اللَّهِ مِن خَيْرِ المَعادِ (p-٢٠٤)فَقَوْلُهُ ”عِلْمَ حَقٍّ“ يَدُلُّ عَلى أنَّ العِلْمَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ عِلْمِ حَقٍّ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ”غَيْرَ ظَنٍّ“ يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ يُقالُ: عَلِمْتُ وهو ظانٌّ؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِن أنَّ ”عَلِمْتُ“ قَدْ يَعْمَلُ في ”أنْ“ إذا أُرِيدَ بِها غَيْرُ العِلْمِ القَطْعِيِّ. قَوْلُ جَرِيرٍ: ؎نَرْضى عَنِ اللَّهِ أنَّ النّاسَ قَدْ عَلِمُوا ∗∗∗ أنْ لا يُدانِينا مِن خَلْقِهِ بَشَرُ فَأتى بِأنِ النّاصِبَةِ لِلْفِعْلِ بَعْدَ عَلِمْتُ. انْتَهى كَلامُهُ. وثَبَتَ بِقَوْلِ جَرِيرٍ وتَجْوِيزِ سِيبَوَيْهِ أنَّ ”عَلِمَ“ تَدْخُلُ عَلى أنِ النّاصِبَةِ؛ فَلَيْسَ بِوَهْمٍ، كَما ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن طَرِيقِ اللَّفْظِ. وأمّا قَوْلُهُ: لِأنَّ الإنْسانَ لا يَعْلَمُ ما في غَدٍ، وإنَّما يَظُنُّ ظَنًّا؛ لَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلِ الإنْسانُ يَعْلَمُ أشْياءَ كَثِيرَةً مِمّا يَكُونُ في الغَدِ، ويَجْزِمُ بِها ولا يَظُنُّها. والفاءُ في ”فَلا تَحِلُّ“ جَوابُ الشَّرْطِ، و”لَهُ“ و”مِن بَعْدُ“ و”حَتّى“ ثَلاثَتُها تَتَعَلَّقُ بِتَحِلَّ، واللّامُ: مَعْناها التَّبْلِيغُ، ومِن: ابْتِداءُ الغايَةِ، وحَتّى: لِلتَّعْلِيلِ. وبُنِيَ لِقَطْعِهِ عَنِ الإضافَةِ؛ إذْ تَقْدِيرُهُ مِن بَعْدِ الطَّلاقِ الثّالِثِ، وزَوْجًا أُتِيَ بِهِ لِلتَّوْطِئَةِ أوْ لِلتَّقْيِيدِ، أظْهَرُهُما الثّانِي؛ فَإنْ كانَ لِلتَّوْطِئَةِ لا لِلتَّقْيِيدِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلى سَبِيلِ الغَلَبَةِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ أكْثَرُ مِمّا يَتَزَوَّجُ الحَرائِرَ، ويَصِيرُ لَفْظُ الزَّوْجِ كالمُلْغى؛ فَيَكُونُ في ذَلِكَ دَلالَةً عَلى أنَّ الأمَةَ إذا بَتَّ طَلاقُها ووَطِئَها سَيِّدُها؛ حَلَّ لِلْأوَّلِ نِكاحُها؛ إذْ لَفْظُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِقَيْدٍ. وإنْ كانَ لِلتَّقْيِيدِ - وهو الظّاهِرُ - فَلا يُحَلِّلُها وطْءُ سَيِّدِها. والفاءُ في ”فَلا جُناحَ“ جَوابُ الشَّرْطِ قَبْلَهُ، و”عَلَيْهِما“ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، أمّا المَجْمُوعُ ”جُناحٌ“؛ إذْ هو مُبْتَدَأٌ عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وإمّا عَلى أنَّهُ خَبَرُ ”لا“ عَلى مَذْهَبِ أبِي الحَسَنِ، و﴿أنْ يَتَراجَعا﴾ أيْ: في أنْ يَتَراجَعا، والخِلافُ بَعْدَ حَذْفِ ”في“ أبْقى ”أنْ“ مَعَ ما بَعْدَها في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أمْ في مَوْضِعِ جَرٍّ ؟ تَقَدَّمَ لَنا ذِكْرُهُ. و﴿أنْ يُقِيما﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولَيْنِ سَدَّ مَسَدَّهُما؛ لِجَرَيانِ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إلَيْهِ في هَذا الكَلامِ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، والمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ عَلى مَذْهَبِ أبِي الحَسَنِ، وأبِي العَبّاسِ. * * * ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، ”تِلْكَ“: مُبْتَدَأٌ، و”حُدُودُ“: خَبَرٌ، و”يُبَيِّنُها“: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ مُبَيِّنَةً، والعامِلُ فِيها اسْمُ الإشارَةِ، وذُو الحالِ: حُدُودُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهم خاوِيَةً﴾ [النمل: ٥٢] . و”لِقَوْمٍ“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”يُبَيِّنُها“، و”تِلْكَ“: إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الأحْكامِ، وقُرِئَ: ”نُبَيِّنُها“ بِالنُّونِ عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ، وهي قِراءَةٌ تُرْوى عَنْ عاصِمٍ. ومَعْنى التَّبَيُّنِ هُنا: الإيضاحُ، وخَصَّ المُبَيَّنَ لَهم بِالعِلْمِ تَشْرِيفًا لَهم؛ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِما بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى مِن نَصْبِ دَلِيلٍ عَلى ذَلِكَ مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ، وإنْ كانَ التَّبَيُّنُ بِمَعْنى خَلْقِ البَيانِ، فَلا بُدَّ مِن تَخْصِيصِ المُبَيَّنِ لَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ مَن طُبِعَ عَلى قَلْبِهِ لا يُخْلَقُ في قَلْبِهِ التَّبْيِينُ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ نَهْيَ اللَّهِ عِبادَهُ عَنِ ابْتِذالِ اسْمِهِ تَعالى، وجَعْلِهِ كَثِيرَ التَّرْدادِ، وعَلى ألْسِنَتِهِمْ في أقْسامِهِمْ عَلى بِرٍّ وتَقْوًى وإصْلاحٍ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مُبالَغَةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ في أقْسامِهِمْ عَلى ما يُنافِي البِرَّ والتَّقْوى والصَّلاحَ بِجِهَةِ الأحْرى والأوْلى؛ لِأنَّ الإكْثارَ مِنَ اليَمِينِ بِاللَّهِ تَعالى فِيهِ عَدَمُ مُبالاةٍ، واكْتِراثِ المُقْسَمِ بِهِ؛ إذِ الأيْمانُ مُعَرَّضَةٌ لِحِنْثِ الإنْسانِ فِيها كَثِيرًا، وقَلَّ أنْ يُرى كَثِيرُ الحَلِفِ إلّا كَثِيرَ الحِنْثِ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِأنَّهُ تَعالى سَمِيعٌ لِأقْوالِهِمْ، عَلِيمٌ بِنِيّاتِهِمْ. ولَمّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ ما ذَكَرْناهُ، سامَحَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّ ما كانَ يَسْبِقُ عَلى ألْسِنَتِهِمْ عَلى سَبِيلِ اللَّغْوِ، وعَدَمِ القَصْدِ لِلْيَمِينِ لا يُؤاخَذُونَ بِهِ، وإنَّما يُؤاخَذُ بِما انْطَوى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، وكَسَبَهُ القَلْبُ بِالتَّعَهُّدِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِما يَدُلُّ عَلى المُسامَحَةِ في لَغْوِ اليَمِينِ مِن صِفَةِ الغُفْرانِ والحِلْمِ. ولَمّا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنَ الأحْكامِ مَعَ النِّساءِ؛ ذَكَرَ حُكْمَ الإيلاءِ مَعَ النِّساءِ، وهو: الحَلِفُ عَلى الِامْتِناعِ مِن وطْئِهِنَّ؛ فَجَعَلَ لِذَلِكَ مُدَّةً، وهو أرْبَعَةُ أشْهُرٍ أقْصى ما تَصْبِرُ المَرْأةُ عَنْ زَوْجِها غالِبًا، ثُمَّ بَعْدَ انْتِظارِ هَذِهِ المُدَّةِ وانْقِضائِها إنْ فاءَ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ، لا يُؤاخِذُهُ بَلْ يُسامِحُهُ في تِلْكَ اليَمِينِ، وإنْ عَزَمَ الطَّلاقَ أوْقَعَهُ. ولَمّا جَرى ذِكْرُ الطَّلاقِ (p-٢٠٥)اسْتَطْرَدَ إلى ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِن أحْكامِهِ؛ فَذَكَرَ عِدَّةَ المُطَلَّقَةِ وأنَّها ثَلاثَةُ قُرُوءٍ، ودَلَّ ذِكْرُ القُرْءِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمُطَلَّقاتِ هُنَّ النِّساءُ اللَّواتِي يَحِضْنَ ويَطْهُرْنَ، ولَمْ يُطَلَّقْنَ قَبْلَ المَسِيسِ ولا هُنَّ حَوامِلُ، ودَلَّ عَلى إرادَةِ هَذِهِ المُخَصَّصاتِ آياتٌ أُخَرُ، وذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُنَّ كِتْمانُ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ، فَعَمَّ الدَّمَ والوَلَدَ؛ لِأنَّهُنَّ كُنَّ يَكْتُمْنَ ذَلِكَ لِأغْراضٍ لَهُنَّ، وعَلَّقَ ذَلِكَ عَلى الإيمانِ بِاللَّهِ وهو الخالِقُ ما في أرْحامِهِنَّ، وعَلى الإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وهو الوَقْتُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الحِسابُ، والثَّوابُ والعِقابُ عَلى ما يَرْتَكِبُهُ الإنْسانُ مِن تَحْرِيمِ ما أحَلَّ اللَّهُ، وتَحْلِيلِ ما حَرَّمَ اللَّهُ، ومُخالَفَتِهِ فِيما شَرَعَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ أزْواجَهُنَّ الَّذِينَ طَلَّقُوهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في مُدَّةِ العِدَّةِ، وشَرَطَ في الأحَقِّيَّةِ إرادَةَ إصْلاحِ الأزْواجِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ إذا قَصَدَ بِرَجْعَتِها الضَّرَرَ لا يَكُونُ أحَقَّ بِالرَّدِّ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ لِلزَّوْجَةِ حُقُوقًا عَلى الرَّجُلِ، مِثْلَ ما أنَّ لِلرَّجُلِ حُقُوقًا عَلى الزَّوْجَةِ، فَكُلٌّ مِنهُما مَطْلُوبٌ بِإيفاءِ ما يَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ لِلرَّجُلِ مَزِيدَ مَزِيَّةٍ ودَرَجَةٍ عَلى المَرْأةِ؛ فَيَكُونُ حَقُّ الرَّجُلِ أكْثَرَ وطَواعِيَةُ المَرْأةِ لَهُ ألْزَمَ، ولَمْ يُبَيِّنِ الدَّرَجَةَ ما هي، ويَظْهَرُ أنَّها ما يُؤْلَفُ مِن كَثْرَةِ الطَّواعِيَةِ، والِاهْتِبالِ بِقَدْرِهِ، والتَّعْظِيمِ لَهُ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ: ”بِالمَعْرُوفِ“ وهو الشَّيْءُ الَّذِي عَرَفَهُ النّاسُ في عَوائِدِهِمْ مِن كَثْرَةِ تَوَدُّدِ المَرْأةِ لِزَوْجِها وامْتِثالِ ما يَأْمُرُ بِهِ. وخَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِوَصْفِ العِزَّةِ: وهي الغَلَبَةُ والقَهْرُ، والحِكْمَةُ: وهي وضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ ما يَلِيقُ بِهِ، وهُما الوَصْفانِ اللَّذانِ يَحْتاجُ إلَيْهِما التَّكْلِيفُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ الطَّلاقَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ في تِلْكَ العِدَّةِ هو مَرَّتانِ، طَلْقَةٌ بَعْدَ طَلْقَةٍ، وبَعْدَ وُقُوعِ الطَّلْقَتَيْنِ إمّا أنْ يَرُدَّها ويُمْسِكَها بِمَعْرُوفٍ، أوْ يُسَرِّحَها بِإحْسانٍ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَ هَذا حُكْمَ الخُلْعِ؛ لِأنَّ مَشْرُوعِيَّتَهُ لا تَكُونُ إلّا قَبْلَ وُجُودِ الطَّلْقَةِ الثّالِثَةِ، وأمّا بَعْدَها فَلا يَنْبَغِي خُلْعٌ؛ فَلِذَلِكَ جاءَ بَيْنَ الطَّلاقِ الَّذِي لَهُ فِيهِ رَجْعَةٌ، وبَيْنَ الطَّلاقِ الَّذِي يَبُتُّ العِصْمَةَ. وذَكَرَ مِن أحْكامِهِ أنَّهُ لا يَحِلُّ أخْذُ شَيْءٍ مِن مالِ الزَّوْجَةِ إلّا بِشَرْطِ أنْ يَخافا أنْ لا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الخَوْفِ أنْ لا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنهُما مَعًا، فَلَوْ خافَ أحَدُهُما لَمْ يَجُزِ الخُلْعُ، هَذا ظاهِرُ الآيَةِ. ثُمَّ نَهى تَعالى عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ وتَجاوُزِها، وأخْبَرَ أنَّ مَن تَعَدّاها ظالِمٌ. قالَ تَعالى ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ يَعْنِي: ثَلاثَةً، والمَعْنى: إنْ أوْقَعَ التَّسْرِيحَ المُرَدَّدَ فِيهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، فَهي لا تَحِلُّ لَهُ إلّا بَعْدَ نِكاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، فَإنْ طَلَّقَها الزَّوْجُ الثّانِي، وأرادَ الأوَّلُ أنْ يُراجِعَها فَلَهُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ شَرَطَ في هَذا التَّراجُعِ ظَنَّهُما إقامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، فَمَتى لَمْ يَظُنّا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُما أنْ يَتَراجَعا، هَذا ظاهِرُ اللَّفْظِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ يُوَضِّحُ آياتِهِ لِقَوْمٍ مُتَّصِفِينَ بِالعِلْمِ، أمّا مَن لا يَعْلَمُ فَهو أعْمى لا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ الآياتِ، ولا يَتَّضِحُ لَهُ: ﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ [الرعد: ١٩] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب