الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الحُكْمُ الخامِسُ مِن أحْكامِ الطَّلاقِ، وهو بَيانُ أنَّ الطَّلْقَةَ الثّالِثَةَ قاطِعَةٌ لِحَقِّ الرَّجْعَةِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الَّذِينَ قالُوا: إنَّ قَوْلَهُ ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ إشارَةٌ إلى الطَّلْقَةِ الثّالِثَةِ، قالُوا: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ، إلّا أنّا بَيَّنّا أنَّ الأوْلى أنْ لا يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ الطَّلْقَةَ الثّالِثَةَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ لِلزَّوْجِ مَعَ المَرْأةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثّانِيَةِ أحْوالًا ثَلاثَةً، أحَدُها: أنْ يُراجِعَها، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ والثّانِي: أنْ لا يُراجِعَها، بَلْ يَتْرُكَها حَتّى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ وتَحْصُلَ البَيْنُونَةُ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ والثّالِثُ: أنْ يُطَلِّقَها طَلْقَةً ثالِثَةً، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ فَإذا كانَتِ الأقْسامُ ثَلاثَةً، واللَّهُ تَعالى ذَكَرَ ألْفاظًا ثَلاثَةً وجَبَ تَنْزِيلُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الألْفاظِ الثَّلاثَةِ عَلى مَعْنًى مِنَ المَعانِي الثَّلاثَةِ، فَأمّا إنْ جَعَلْنا قَوْلَهُ: ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ عِبارَةً عَنِ الطَّلْقَةِ الثّالِثَةِ كُنّا قَدْ صَرَفْنا لَفْظَيْنِ إلى مَعْنًى واحِدٍ عَلى سَبِيلِ التَّكْرارِ، وأهْمَلْنا القِسْمَ الثّالِثَ، ومَعْلُومٌ أنَّ الأوَّلَ أوْلى. واعْلَمْ أنَّ وُقُوعَ آيَةِ الخُلْعِ فِيما بَيْنَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ كالشَّيْءِ الأجْنَبِيِّ، ونَظْمُ الآيَةِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإنْ قِيلَ: فَإذا كانَ النَّظْمُ الصَّحِيحُ هو هَذا فَما السَّبَبُ في إيقاعِ آيَةِ الخُلْعِ فِيما بَيْنَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ؟(p-٩٠) قُلْنا: السَّبَبُ أنَّ الرَّجْعَةَ والخُلْعَ لا يَصِحّانِ إلّا قَبْلَ الطَّلْقَةِ الثّالِثَةِ، أمّا بَعْدَها فَلا يَبْقى شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. فَلِهَذا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ حُكْمَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ أتْبَعَهُ بِحُكْمِ الخُلْعِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الكُلِّ حُكْمَ الطَّلْقَةِ الثّالِثَةِ؛ لِأنَّها كالخاتِمَةِ لِجَمِيعِ الأحْكامِ المُعْتَبَرَةِ في هَذا البابِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ المُجْتَهِدِينَ أنَّ المُطَلَّقَةَ بِالثَّلاثِ لا تَحِلُّ لِذَلِكَ الزَّوْجِ إلّا بِخَمْسِ شَرائِطَ: تَعْتَدُّ مِنهُ، وتَعْقِدُ لِلثّانِي، ويَطَؤُها، ثُمَّ يُطَلِّقُها، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنهُ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ، واخْتَلَفَ العُلَماءُ في أنَّ شَرْطَ الوَطْءِ بِالسُّنَّةِ أوْ بِالكِتابِ، قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: الأمْرانِ مَعْلُومانِ بِالكِتابِ. وهَذا هو المُخْتارُ. وقَبْلَ الخَوْضِ في الدَّلِيلِ لا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلى مُقَدِّمَةٍ، قالَ عُثْمانُ بْنُ جِنِّي: سَألْتُ أبا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِمْ: نَكَحَ المَرْأةَ، فَقالَ: فَرَّقَتِ العَرَبُ بِالِاسْتِعْمالِ، فَإذا قالُوا: نَكَحَ فُلانٌ فُلانَةَ، أرادُوا أنَّهُ عَقَدَ عَلَيْها، وإذا قالُوا: نَكَحَ امْرَأتَهُ أوْ زَوْجَتَهُ، أرادُوا بِهِ المُجامَعَةَ. وأقُولُ: هَذا الَّذِي قالَهُ أبُو عَلِيٍّ كَلامٌ مُحَقَّقٌ بِحَسَبَ القَوانِينِ العَقْلِيَّةِ؛ لِأنَّ الإضافَةَ الحاصِلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُغايِرَةٌ لِذاتِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُضافَيْنِ، فَإذا قِيلَ: نَكَحَ فُلانٌ زَوْجَتَهُ، فَهَذا النِّكاحُ أمْرٌ حاصِلٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ زَوْجَتِهِ، فَهَذا النِّكاحُ مُغايِرٌ لَهُ ولِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ لَيْسَتِ اسْمًا لِتِلْكَ المَرْأةِ بِحَسَبَ ذاتِها، بَلِ اسْمًا لِتِلْكَ الذّاتِ بِشَرْطِ كَوْنِها مَوْصُوفَةً بِالزَّوْجِيَّةِ، فالزَّوْجَةُ ماهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الذّاتِ ومِنَ الزَّوْجِيَّةِ، والمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ لا مَحالَةَ عَلى المُرَكَّبِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا قُلْنا: نَكَحَ فُلانٌ زَوْجَتَهُ، فالنِّكاحُ مُتَأخِّرٌ عَنِ المَفْهُومِ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، والزَّوْجِيَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى الزَّوْجَةِ مِن حَيْثُ إنَّها زَوْجَةٌ، تَقَدُّمَ المُفْرَدِ عَلى المُرَكَّبِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ ذَلِكَ النِّكاحَ غَيْرُ الزَّوْجِيَّةِ، إذا ثَبَتَ هَذا كانَ قَوْلُهُ: ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ النِّكاحُ غَيْرَ الزَّوْجِيَّةِ، فَكُلُّ مَن قالَ بِذَلِكَ قالَ: إنَّهُ الوَطْءُ، فَثَبَتَ أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الوَطْءِ، فَقَوْلُهُ: ﴿تَنْكِحَ﴾ يَدُلُّ عَلى الوَطْءِ، وقَوْلُهُ: ﴿زَوْجًا﴾ يَدُلُّ عَلى العَقْدِ، وأمّا قَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّ الآيَةَ غَيْرُ دالَّةٍ عَلى الوَطْءِ وإنَّما ثَبَتَ الوَطْءُ بِالسُّنَّةِ، فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الآيَةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الحِلِّ مَمْدُودًا إلى غايَةٍ، وهي قَوْلُهُ: ﴿حَتّى تَنْكِحَ﴾ وما كانَ غايَةً لِلشَّيْءِ يَجِبُ انْتِهاءُ الحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ، فَيَلْزَمُ انْتِهاءُ الحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ النِّكاحِ، فَلَوْ كانَ النِّكاحُ عِبارَةً عَنِ العَقْدِ لَكانَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى وُجُوبِ انْتِهاءِ الحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ العَقْدِ، فَكانَ رَفْعُها بِالخَبَرِ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ، وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. أمّا إذا حَمَلْنا النِّكاحَ عَلى الوَطْءِ، وحَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿زَوْجًا﴾ عَلى العَقْدِ، لَمْ يَلْزَمْ هَذا الإشْكالُ، وأمّا الخَبَرُ المَشْهُورُ في السُّنَّةِ فَما رُوِيَ «أنَّ تَمِيمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَظِيِّ، كانَتْ تَحْتَ رِفاعَةَ بْنِ وهْبِ بْنِ عَتِيكٍ القُرَظِيِّ ابْنِ عَمِّها، فَطَلَّقَها ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ القُرَظِيِّ، فَأتَتِ النَّبِيَّ ﷺ وقالَتْ: كُنْتُ تَحْتَ رِفاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وإنَّ ما مَعَهُ مِثْلَ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وإنَّهُ طَلَّقَنِي قَبْلَ أنْ يَمَسَّنِي، أفَأرْجِعُ إلى ابْنِ عَمِّي؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ”أتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفاعَةَ ؟ لا حَتّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ“، والمُرادُ بِالعُسَيْلَةِ الجِماعُ، شَبَّهَ اللَّذَّةَ فِيهِ بِالعَسَلِ. فَلَبِثَتْ ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ عادَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالَتْ: إنْ زَوْجِي مَسَّنِي. فَكَذَّبَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ: كَذَبْتِ في الأوَّلِ فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخَرِ. فَلَبِثَتْ حَتّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأتَتْ أبا بَكْرٍ فاسْتَأْذَنَتْ، فَقالَ: لا تَرْجِعِي إلَيْهِ. فَلَبِثَتْ حَتّى مَضى لِسَبِيلِهِ، فَأتَتْ عُمَرَ فاسْتَأْذَنَتْ، فَقالَ: لَئِنْ رَجَعْتِ إلَيْهِ لَأرْجُمَنَّكِ. وفي قِصَّةِ (p-٩١)رِفاعَةَ نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ»﴾ . أمّا القِياسُ فَلِأنَّ المَقْصُودَ مِن تَوْقِيفِ حُصُولِ الحَلِّ عَلى هَذا الشَّرْطِ زَجْرُ الزَّوْجِ عَنِ الطَّلاقِ؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّ الزَّوْجَ يَسْتَنْكِرُ أنْ يَفْتَرِشَ زَوْجَتَهُ رَجُلٌ آخَرُ، ولِهَذا المَعْنى قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إنَّما حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى عَلى نِساءِ النَّبِيِّ أنْ يَنْكِحْنَ غَيْرَهُ لِما فِيهِ مِنَ الغَضاضَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الزَّجْرَ إنَّما يَحْصُلُ بِتَوْقِيفِ الحِلِّ عَلى الدُّخُولِ، فَأمّا مُجَرَّدُ العَقْدِ فَلَيْسَ فِيهِ زِيادَةُ نَفْرَةٍ، فَلا يَصِحُّ جَعْلُهُ مانِعًا وزاجِرًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ: إذا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ واحِدَةً أوِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ نَكَحَتْ زَوْجًا آخَرَ وأصابَها، ثُمَّ عادَتْ إلى الأوَّلِ بِنِكاحٍ جَدِيدٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْها إلّا طَلْقَةٌ واحِدَةٌ، وهي الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ مِنَ الطَّلَقاتِ الأُولى، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَمْلِكُ عَلَيْها ثَلاثًا كَما لَوْ نَكَحَتْ زَوْجًا بَعْدَ الثَّلاثِ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ أنَّ هَذِهِ طَلْقَةٌ ثالِثَةٌ، فَوَجَبَ أنْ تَحْصُلَ الحُرْمَةُ الغَلِيظَةُ، إنَّما قُلْنا: إنَّها طَلْقَةٌ ثالِثَةٌ لِأنَّها طَلْقَةٌ وُجِدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، والطَّلْقَةُ الثّالِثَةُ مُوجِبَةٌ لِلْحُرْمَةِ الغَلِيظَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ الآيَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ أعَمُّ مِن أنْ يُطَلِّقَها الطَّلْقَةَ الثّالِثَةَ مَسْبُوقًا بِنِكاحِ غَيْرِهِ، أوْ غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِنِكاحِ غَيْرِهِ، فَكانَ الكُلُّ داخِلًا فِيهِ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذا تَزَوَّجَ بِالمُطَلَّقَةِ ثَلاثًا لِلْغَيْرِ عَلى أنَّهُ إذا أحَلَّها لِلْأوَّلِ بِأنْ أصابَها فَلا نِكاحَ بَيْنَهُما، فَهَذا نِكاحُ مُتْعَةٍ بِأجَلٍ مَجْهُولٍ، وهو باطِلٌ، ولَوْ تَزَوَّجَها بِشَرْطِ أنْ لا يُطَلِّقَها إذا أحَلَّها لِلْأوَّلِ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: لا يَصِحُّ. والثّانِي: يَصِحُّ ويَبْطُلُ الشَّرْطُ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ. ولَوْ تَزَوَّجَها مُطْلَقًا مُعْتَقِدًا بِأنَّهُ إذا أحَلَّها طَلَّقَها فالنِّكاحُ صَحِيحٌ، ويُكْرَهُ ذَلِكَ، ويَأْثَمُ بِهِ، وقالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ وأحْمَدُ: هَذا النِّكاحُ باطِلٌ، دَلِيلُنا أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الحُرْمَةَ تَنْتَهِي بِوَطْءٍ مَسْبُوقٍ بِعَقْدٍ، وقَدْ وُجِدَتْ فَوَجَبَ القَوْلُ بِانْتِهاءِ الحُرْمَةِ، وحَيْثُ حَكَمْنا بِفَسادِ النِّكاحِ فَوَطِئَها، هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ ؟ قَوْلانِ، والأصَحُّ أنَّهُ لا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ فالمَعْنى: إنْ طَلَّقَها الزَّوْجُ الثّانِي الَّذِي تَزَوَّجَها بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثّالِثَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما﴾ أيْ عَلى المَرْأةِ المُطَلَّقَةِ والزَّوْجِ الأوَّلِ أنْ يَتَراجَعا بِنِكاحٍ جَدِيدٍ، فَذَكَرَ لَفْظَ النِّكاحِ بِلَفْظِ التَّراجُعِ؛ لِأنَّ الزَّوْجِيَّةَ كانَتْ حاصِلَةً بَيْنَهُما قَبْلَ ذَلِكَ، فَإذا تَناكَحا فَقَدْ تَراجَعا إلى ما كانا عَلَيْهِ مِنَ النِّكاحِ، فَهَذا تَراجُعٌ لُغَوِيٌّ. * * * بَقِيَ في الآيَةِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: ظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ عِنْدَما يُطَلِّقُها الزَّوْجُ الثّانِي تَحِلُّ المُراجَعَةُ لِلزَّوْجِ الأوَّلِ، إلّا أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ العِدَّةِ اسْتِبْراءُ الرَّحِمِ، وهَذا المَعْنى حاصِلٌ هاهُنا، وهَذا هو الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ في أنَّ التَّحْلِيلَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ؛ لِأنَّ الوَطْءَ لَوْ كانَ مُعْتَبَرًا لَكانَتِ العِدَّةُ واجِبَةً، وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى سُقُوطِ العِدَّةِ؛ لَأنَّ الفاءَ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾ تَدُلُّ عَلى أنَّ حِلَّ المُراجَعَةِ حاصِلٌ عَقِيبَ طَلاقِ الزَّوْجِ الثّانِي، إلّا أنَّ الجَوابَ ما قَدَّمْنا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الخَلِيلُ والكِسائِيُّ: مَوْضِعُ ﴿أنْ يَتَراجَعا﴾ خَفْضٌ بِإضْمارِ الخافِضِ، تَقْدِيرُهُ: في أنْ يَتَراجَعا، وقالَ الفَرّاءُ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ. * * * (p-٩٢) أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ ﴿إنْ ظَنّا﴾ أيْ إنْ عَلِما وأيْقَنا أنَّهُما يُقِيمانِ حُدُودَ اللَّهِ، وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّكَ لا تَقُولُ: عَلِمْتُ أنْ يَقُومَ زَيْدٌ، ولَكِنْ عَلِمْتُ أنَّهُ يَقُومُ زَيْدٌ. والثّانِي: أنَّ الإنْسانَ لا يَعْلَمُ ما في القَدَرِ، وإنَّما يَظُنُّهُ. والثّالِثُ: أنَّهُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إنْ أرادُوا إصْلاحًا﴾؛ فَإنَّ المُعْتَبَرَ هُناكَ الظَّنُّ، فَكَذا هاهُنا، وإذا بَطَلَ هَذا القَوْلُ فالمُرادُ مِنهُ نَفْسُ الظَّنِّ، أيْ مَتى حَصَلَ هَذا الظَّنُّ، وحَصَلَ لَهُما العَزْمُ عَلى إقامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، حَسُنَتْ هَذِهِ المُراجَعَةُ، ومَتى لَمْ يَحْصُلْ هَذا الظَّنُّ وخافا عِنْدَ المُراجَعَةِ مِن نُشُوزٍ مِنها أوْ إضْرارٍ مِنهُ، فالمُراجَعَةُ تَحْرُمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: كَلِمَةُ ”إنْ“ في اللُّغَةِ لِلشَّرْطِ، والمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عُدْمِ الشَّرْطِ، فَظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّهُ مَتى لَمْ يَحْصُلْ هَذا الظَّنُّ لَمْ يَحْصُلْ جَوازُ المُراجَعَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإنَّ جَوازَ المُراجَعَةِ ثابِتٌ، سَواءٌ حَصَلَ هَذا الظَّنُّ أوْ لَمْ يَحْصُلْ، إلّا أنّا نَقُولُ: لَيْسَ المُرادُ أنَّ هَذا شَرْطٌ لِصِحَّةِ المُراجَعَةِ، بَلِ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ يَلْزَمُهم عِنْدَ المُراجَعَةِ بِالنِّكاحِ الجَدِيدِ رِعايَةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعالى، وقَصْدُ الإقامَةِ لِحُدُودِ اللَّهِ وأوامِرِهِ. * * * ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إشارَةٌ إلى ما بَيَّنَهُ مِنَ التَّكالِيفِ، وقَوْلُهُ: ﴿يُبَيِّنُها﴾ إشارَةٌ إلى الِاسْتِقْبالِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما مُتَناقِضٌ، وعِنْدِي أنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ أكْثَرُها عامَّةٌ يَتَطَرَّقُ إلَيْها تَخْصِيصاتٌ كَثِيرَةٌ، وأكْثَرُ تِلْكَ المُخَصِّصاتِ إنَّما عُرِفَتْ بِالسُّنَّةِ، فَكانَ المُرادُ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّ هَذِهِ الأحْكامَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هي حُدُودُ اللَّهِ، وسَيُبَيِّنُها اللَّهُ تَعالى كَمالَ البَيانِ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ﷺ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النَّحْلِ: ٤٤]. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ أبانٍ: ”نُبَيِّنُها“ بِالنُّونِ، وهي نُونُ التَّعْظِيمِ، والباقُونَ بِالياءِ عَلى أنَّهُ يَرْجِعُ عَلى اسْمِ اللَّهِ تَعالى. والمَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إنَّما خُصَّ العُلَماءُ بِهَذا البَيانِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهم هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالآياتِ، فَغَيْرُهم بِمَنزِلَةِ مَن لا يُعْتَدُّ بِهِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢] . والثّانِي: أنَّهُ خَصَّهم بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: ﴿ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البَقَرَةِ: ٩٨] . والثّالِثُ: يَعْنِي بِهِ العَرَبَ لِعِلْمِهِمْ بِاللِّسانِ. والرّابِعُ: يُرِيدُ مَن لَهُ عَقْلٌ وعِلْمٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣] والمَقْصُودُ أنَّهُ لا يُكَلِّفُ إلّا عاقِلًا عالِمًا بِما يُكَلِّفُهُ؛ لِأنَّهُ مَتى كانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أُزِيحَ عُذْرُ المُكَلَّفِ. والخامِسُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يَعْنِي ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الأحْكامِ يُبَيِّنُها اللَّهُ لِمَن يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ الكِتابَ وبَعَثَ الرَّسُولَ لِيَعْمَلُوا بِأمْرِهِ ويَنْتَهُوا عَمّا نُهُوا عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب