الباحث القرآني

الطَّلاقُ بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، أى التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أى كرّة بعد كرّة، لا كرّتين اثنتين. ونحو ذلك من التثانى التي يراد بها التكرير قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك. وقوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم. وقيل: معناه الطلاق الرجعى مرّتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث، فإمساك بمعروف أى برجعة، أو تسريح بإحسان أى بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها. وقيل: بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث. وروى أنّ سائلا سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أو تسريح بإحسان» [[أخرجه الدارقطني من رواية عبد الواحد بن زياد عن إسماعيل بن سميع عن أنس به. وقال في العلل: وهم فيه ليث بن حماد رواية عن عبد الواحد. والمحفوظ عن إسماعيل بن سميع عن أبى رزين مرسلا. وقد أخرجه ابن أبى شيبة عن أبى معاوية. وعبد الرزاق عن الثوري كلاهما عن إسماعيل بن سميع. ورواه الدارقطني أيضا من رواية حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس قال قال رجل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «إنى أسمع اللَّه يقول: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، هي الثالثة» .]] وعند أبى حنيفة وأصحابه: الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه، لما روى في حديث ابن عمر أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة [[أخرجه الدارقطني والطبراني من رواية شعيب بن رزين أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد العزيز بن عمير «أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرءين فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فقال: يا ابن عمير، ما هكذا أمرك اللَّه. قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء: فأمرنى بمراجعتها. فقال: إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك- الحديث» .]] » وعند الشافعي. لا بأس بإرسال الثلاث، لحديث العجلاني الذي لا عن امرأته فطلقها ثلاثاً بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلم ينكر عليه [[متفق عليه من حديث سهل بن سعد لكن قيل: إن قوله «فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى اللَّه عليه وسلم بطلاقها» من كلام الزهري رواية عن سهل (تنبيه) قال عبد الحق في الأحكام: لم يصح اللفظ بالثلاث إلا في حديث الملاعن. وتعقب بما في مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت «طلقى زوجي ثلاثا فخاصمته ... الحديث» .]] . روى أنّ جميلة بنت عبد اللَّه بن أبىّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها. فأتت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسى ورأسه شيء، واللَّه ما أعيب عليه في دين ولا خلق، ولكنى أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً، إنى رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً. فنزلت، وكان قد أصدقها حديقة فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام [[أخرجه الطبري في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر بن سليمان قال: قرأت على فضيل عن أبى جرير أنه سأل عكرمة «هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد اللَّه بن أبى بن سلول، أتت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فذكره «ولم يسمها» وقد سماها البخاري من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة «أن جميلة- فذكره» ولابن ماجة من رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس «أن جميلة بنت سلول» وكذا أخرجه عبد الرزاق من وجه آخر «أن امرأة أتت النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وهي جميلة بنت عبد اللَّه بن أبى» وعند الدارقطني من طريق ابن جريج أخبرنا أبو الزبير «أن ثابت بن قيس كانت عنده زينب بنت عبد اللَّه بن أبى. وكان أصدقها حديقة، فكرهته- إلى آخره» فان كان محفوظاً فيحتمل أن يكون لها اسمان. وقد رويت القصة لغيرها. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرو عن حبيبة بنت سهل «أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجدها عند بابه في الغلس. فقال من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل. قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس» ومن طريقه أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، ولابن ماجة من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت ابن قيس بن شماس، وكان رجلا دميما. فقالت: يا رسول اللَّه لولا مخافة اللَّه لبزقت في وجهه: فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فردت عليه حديقته. وفرق بينهما» ولأحمد من حديث سهل بن أبى حثمة قال «كانت بنت سهل- الحديث» .]] . فإن قلت: لمن الخطاب في قوله وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن؟ قلت: يجوز الأمران جميعاً: أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ مما أعطيتموهنّ من الصدقات إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود اللَّه فيما يلزمهما من مواجب الزوجية، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فيما فدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر. والخلع بالزيادة على المهر مكروه وهو جائز في الحكم. وروى أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر رضى اللَّه عنه، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال: كيف وجدت مبيتك؟ قالت: ما بت منذ كنت عنده أقرّ لعيني منهن. فقال لزوجها: اخلعها ولو بقرطها [[أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة والطبري وإبراهيم الحربي في أواخر الغريب له كلهم من رواية أيوب عن كثير مولى سمرة «أن عمر أتى بامرأة ناشزة فذكره» قال إبراهيم: الناشز التي تعصى زوجها.]] . قال قتادة: يعنى بمالها كله، هذا إذا كان النشوز منها، فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئا. وقرئ إلا أن يخافا، على البناء للمفعول وإبدال أن لا يقيما من ألف الضمير، وهو من بدل الاشتمال كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود اللَّه. ونحوه (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ويعضده قراءة عبد اللَّه (إلا أن تخافوا) وفي قراءة أبىّ: إلا أن يظنا. ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن. يقولون: أخاف أن يكون كذا، وأفرق أن يكون، يريدون أظن فَإِنْ طَلَّقَها الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) واستوفى نصابه. أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرّتين فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ من بعد ذلك التطليق حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ حتى تتزوّج غيره، والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كما التزوج. ويقال: فلانة ناكح في بنى فلان. وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره وهو سعيد ابن المسيب. والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة، لما روى عروة عن عائشة رضى اللَّه عنها أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقى وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجنى، وإنما معه مثل هدبة الثوب وإنه طلقني قبل أن يمسني، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك [[متفق عليه من هذا الوجه.]] . وروى أنها لبثت ما شاء اللَّه، ثم رجعت فقالت: إنه كان قد مسنى، فقال لها: كذبت في قولك الأوّل، فلن أصدّقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [[قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة- فذكر الحديث. وفيه «فقعدت ما شاء اللَّه. ثم جاءته فأخبرته أنه قد مسها، فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول، وقال: اللهم إن كان إثما بها أن يحلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحة مرة أخرى. ثم أتت أبا بكر وعمر في خلافتهما فمنعاها» .]] فأتت أبا بكر رضى اللَّه عنه فقالت: أأرجع إلى زوجي الأوّل، فقال: قد عهدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين قال لك ما قال، فلا ترجعى إليه، فلما قبض أبو بكر رضى اللَّه عنه قالت مثله لعمر رضى اللَّه عنه فقال: إن أتيتينى بعد مرّتك هذه لأرجمنك، فمنعها. فإن قلت: فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت: ذهب سفيان والأوزاعى وأبو عبيد ومالك وغيرهم إلى أنه غير جائز، وهو جائز عند أبى حنيفة مع الكراهة. وعنه أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أنه لعن المحلل والمحلل له [[روى عن ابن مسعود وعلى وجابر وعقبة بن عامر، وأبى هريرة. وابن عباس. قلت: أحال بها على تخريج الهداية وحديث ابن مسعود أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن دقيق العيد على شرط البخاري. وحديث ابن عباس أخرجه ابن ماجة. وحديث على أخرجه أحمد وأبو داود. وحديث أبى هريرة رواه أحمد والبيهقي وحديث عقبة بن عامر أخرجه ابن ماجة. وحديث جابر ذكره الترمذي.]] . وعن عمر رضى اللَّه عنه: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما [[أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة، من رواية المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر عن عمر فذكره.]] . وعن عثمان رضى اللَّه عنه: لا إلا نكاح رغبة غير مدالسة [[لم أجده عن عثمان بل وجدته عن ابن عمر. أخرجه الحاكم من رواية عمر بن نافع عن أبيه أنه قال «جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا إلا نكاح رغبة. كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» وقد روى مرفوعا أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنها «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سئل عن المحلل. فقال: لا، إلا نكاح رغبة غير دلسة، ولا مستهزئ بكتاب اللَّه تعالى لم يذق العسيلة» وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل ابن أبى حبيبة وهو ضعيف.]] . فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني. أَنْ يَتَراجَعا أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج إِنْ ظَنَّا إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل: إن علما أنهما يقيمان، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا اللَّه عز وجل. ومن فسر الظن هاهنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب