الباحث القرآني
بابُ عَدَدِ الطَّلاقِ
قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ ذُكِرَتْ في مَعْناهُ وُجُوهٌ؛ أحَدُها أنَّهُ بَيانٌ لِلطَّلاقِ الَّذِي تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ؛ يُرْوى ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ وقَتادَةَ؛ والثّانِي أنَّهُ بَيانٌ لِطَلاقِ السُّنَّةِ المَندُوبِ إلَيْهِ؛ ويُرْوى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ ومُجاهِدٍ؛ والثّالِثُ أنَّهُ أمَرَ بِأنَّهُ إذا أرادَ أنْ يُطَلِّقَها ثَلاثًا فَعَلَيْهِ تَفْرِيقُ الطَّلاقِ؛ فَيَتَضَمَّنُ الأمْرَ بِالطَّلاقِ مَرَّتَيْنِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُما الثّالِثَةَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُ بَيانٌ لِما يَبْقى مَعَهُ الرَّجْعَةُ مِنَ الطَّلاقِ؛ وإنْ ذَكَرَ مَعَهُ الرَّجْعَةَ عُقَيْبَهُ؛ فَإنَّ ظاهِرَهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَصَدَ بِهِ بَيانَ المُباحِ مِنهُ؛ وأمّا ما عَداهُ فَمَحْظُورٌ؛ وبَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذا أوْقَعَهُ عَلى الوَجْهِ المَأْمُورِ بِهِ بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ عُقَيْبَهُ؛ والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المَقْصِدَ فِيهِ الأمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلاقِ؛ وبَيانُ حُكْمِ ما يَتَعَلَّقُ بِإيقاعِ ما دُونَ الثَّلاثِ مِنَ الرَّجْعَةِ؛ أنَّهُ قالَ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ وذَلِكَ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّهُ لَوْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ مَعًا لَما جازَ أنْ يُقالَ: "طَلَّقَها مَرَّتَيْنِ"؛ وكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلى آخَرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أنْ يُقالَ: "أعْطاهُ مَرَّتَيْنِ"؛ حَتّى يُفَرِّقَ الدَّفْعَ؛ فَحِينَئِذٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ.
وإذا كانَ هَذا هَكَذا؛ فَلَوْ كانَ الحُكْمُ المَقْصُودُ بِاللَّفْظِ هو ما تَعَلَّقَ بِالتَّطْلِيقَتَيْنِ مِن بَقاءِ الرَّجْعَةِ؛ لَأدّى ذَلِكَ إلى إسْقاطِ فائِدَةِ ذِكْرِ المَرَّتَيْنِ؛ إذا كانَ هَذا الحُكْمُ ثابِتًا في المَرَّةِ الواحِدَةِ إذا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ ذِكْرَهُ لِلْمَرَّتَيْنِ إنَّما هو أمْرٌ بِإيقاعِهِ مَرَّتَيْنِ؛ ونَهْيٌ عَنِ الجَمْعِ بَيْنَهُما في مَرَّةٍ واحِدَةٍ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ لَوْ كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْأمْرَيْنِ لَكانَ الواجِبُ حَمْلَهُ (p-٧٤)عَلى إثْباتِ الحُكْمِ في إيجابِ الفائِدَتَيْنِ؛ وهُما: الأمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلاقِ؛ مَتى أرادَ أنْ يُطَلِّقَ اثْنَتَيْنِ؛ وبَيانُ حُكْمِ الرَّجْعَةِ؛ إذا طَلَّقَ كَذَلِكَ؛ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَوْعِبًا لِلْمَعْنَيَيْنِ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ وإنْ كانَ ظاهِرُهُ الخَبَرَ؛ فَإنَّ مَعْناهُ الأمْرُ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]؛ ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣]؛ وما جَرى هَذا المُجْرى مِمّا هو في صِيغَةِ الخَبَرِ؛ ومَعْناهُ الأمْرُ؛ والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ أمْرٌ؛ ولَيْسَ بِخَبَرٍ؛ أنَّهُ لَوْ كانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلى ما أُخْبِرَ بِهِ؛ لِأنَّ أخْبارَ اللَّهِ (تَعالى) لا تَنْفَكُّ مِن وُجُودِ مُخْبَراتِها؛ فَلَمّا وجَدْنا النّاسَ قَدْ يُطَلِّقُونَ الواحِدَةَ؛ والثَّلاثَ مَعًا - ولَوْ كانَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ اِسْمًا لِلْخَبَرِ لاسْتَوْعَبَ جَمِيعَ ما تَحْتَهُ -؛ ثُمَّ وجَدْنا في النّاسِ مَن يُطَلِّقُ لا عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ في الآيَةِ؛ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدِ الخَبَرَ؛ وأنَّهُ تَضَمَّنَ أحَدَ مَعْنَيَيْنِ: إمّا الأمْرَ بِتَفْرِيقِ الطَّلاقِ؛ مَتى أرَدْنا الإيقاعَ؛ أوِ الإخْبارَ عَنِ المَسْنُونِ المَندُوبِ إلَيْهِ مِنهُ؛ وأوْلى الأشْياءِ حَمْلُهُ عَلى الأمْرِ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الخَبَرِ؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بِمَعْنى قَوْلِهِ: "طَلِّقُوا مَرَّتَيْنِ؛ مَتى أرَدْتُمُ الطَّلاقَ"؛ وذَلِكَ يَقْتَضِي الإيجابَ؛ وإنَّما يَنْصَرِفُ إلى النَّدْبِ بِدَلالَةٍ؛ ويَكُونُ كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"اَلصَّلاةُ مَثْنى مَثْنى؛ والتَّشَهُّدُ في كُلِّ رَكْعَتَيْنِ؛ وتَمَسْكُنٌ؛ وخُشُوعٌ"؛» فَهَذِهِ صِيغَةُ الخَبَرِ؛ والمُرادُ الأمْرُ بِالصَّلاةِ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ.
وعَلى أنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلى أنَّ المُرادَ بَيانُ المَسْنُونِ مِنَ الطَّلاقِ كانَتْ دَلالَتُهُ قائِمَةً عَلى حَظْرِ جَمْعِ الِاثْنَتَيْنِ؛ أوِ الثَّلاثِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ مُنْتَظِمٌ لِجَمِيعِ الطَّلاقِ المَسْنُونِ؛ فَلا يَبْقى شَيْءٌ مِن مَسْنُونِ الطَّلاقِ إلّا وقَدِ انْطَوى تَحْتَ هَذا اللَّفْظِ؛ فَإذا ما خَرَجَ عَنْهُ فَهو عَلى خِلافِ السُّنَّةِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ مَن جَمَعَ اثْنَتَيْنِ؛ أوْ ثَلاثًا؛ في كَلِمَةٍ فَهو مُطَلِّقٌ لِغَيْرِ السُّنَّةِ؛ فانْتَظَمَتْ هَذِهِ الآيَةُ الدَّلالَةَ عَلى مَعانٍ؛ مِنها أنَّ مَسْنُونَ الطَّلاقِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أعْدادِ الثَّلاثِ؛ إذا أرادَ أنْ يُطَلِّقَ ثَلاثًا؛ ومِنها أنَّ لَهُ أنْ يُطَلِّقَ اثْنَتَيْنِ في مَرَّتَيْنِ؛ ومِنها أنَّ ما دُونَ الثَّلاثِ تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ؛ ومِنها أنَّهُ إذا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ في الحَيْضِ وقَعَتا؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ حَكَمَ بِوُقُوعِهِما؛ ومِنها أنَّهُ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ الزِّيادَةَ عَلى الثَّلاثِ؛ عَلى ما رُوِيَ عَنِابْنِ عَبّاسٍ؛ وغَيْرِهِ؛ أنَّهم كانُوا يُطَلِّقُونَ ما شاؤُوا مِنَ العَدَدِ؛ ثُمَّ يُراجِعُونَ؛ فَقُصِرُوا عَلى الثَّلاثِ؛ ونُسِخَ بِهِ ما زادَ.
فَفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى حُكْمِ العَدَدِ المَسْنُونِ مِنَ الطَّلاقِ؛ ولَيْسَ فِيها ذِكْرُ الوَقْتِ المَسْنُونِ فِيهِ إيقاعُ الطَّلاقِ؛ وقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ وبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ طَلاقَ العِدَّةِ؛ «فَقالَ لِابْنِ عُمَرَ - حِينَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ -: "ما هَكَذا أمَرَكَ اللَّهُ؛ إنَّما طَلاقُ العِدَّةِ أنْ تُطَلِّقَها طاهِرًا مِن غَيْرِ جِماعٍ؛ (p-٧٥)أوْ حامِلًا وقَدِ اسْتَبانَ حَمْلُها؛ فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ"».
فَكانَ طَلاقُ السُّنَّةِ مَعْقُودًا بِوَصْفَيْنِ؛ أحَدُهُما العَدَدُ؛ والآخَرُ الوَقْتُ؛ فَأمّا العَدَدُ فَألّا يَزِيدَ في طُهْرٍ واحِدٍ عَلى واحِدَةٍ؛ وأمّا الوَقْتُ فَأنْ يُطَلِّقَها طاهِرًا مِن غَيْرِ جِماعٍ؛ أوْ حامِلًا قَدِ اسْتَبانَ حَمْلُها.
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في طَلاقِ السُّنَّةِ لِذَواتِ الأقْراءِ؛ فَقالَ أصْحابُنا: أحْسَنُ الطَّلاقِ أنْ يُطَلِّقَها إذا طَهُرَتْ قَبْلَ الجِماعِ؛ ثُمَّ يَتْرُكَها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها؛ وإنْ أرادَ أنْ يُطَلِّقَها ثَلاثًا؛ طَلَّقَها عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ واحِدَةً قَبْلَ الجِماعِ؛ وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: وبَلَغَنا عَنْ إبْراهِيمَ؛ عَنْ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهم كانُوا يَسْتَحِبُّونَ ألّا يَزِيدُوا في الطَّلاقِ عَلى واحِدَةٍ حَتّى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ؛ وأنَّ هَذا عِنْدَهم أفْضَلُ مِن أنْ يُطَلِّقَها ثَلاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ واحِدَةً.
وقالَ مالِكٌ؛ وعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أبِي سَلَمَةَ الماجِشُونُ؛ واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ؛ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ؛ والأوْزاعِيُّ: "طَلاقُ السُّنَّةِ أنْ يُطَلِّقَها في طُهْرٍ قَبْلَ الجِماعِ تَطْلِيقَةً واحِدَةً"؛ ويَكْرَهُونَ أنْ يُطَلِّقَها ثَلاثًا في ثَلاثَةِ أطْهارٍ؛ لَكِنَّهُ إنْ لَمْ يُرِدْ رَجْعَتَها تَرَكَها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها مِنَ الواحِدَةِ.
وقالَ الشّافِعِيُّ - فِيما رَواهُ عَنْهُ المُزَنِيُّ -: لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أنْ يُطَلِّقَها ثَلاثًا؛ ولَوْ قالَ لَها: "أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا لِلسُّنَّةِ"؛ وهي طاهِرٌ مِن غَيْرِ جِماعٍ؛ طُلِّقَتْ ثَلاثًا مَعًا.
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَنَبْدَأُ بِالكَلامِ عَلى الشّافِعِيِّ في ذَلِكَ؛ فَنَقُولُ: إنَّ دَلالَةَ الآيَةِ الَّتِي تَلَوْتَها ظاهِرَةٌ في بُطْلانِ هَذِهِ المَقالَةِ؛ لِأنَّها تَضَمَّنَتِ الأمْرَ بِإيقاعِ الِاثْنَتَيْنِ في مَرَّتَيْنِ؛ فَمَن أوْقَعَ الِاثْنَتَيْنِ في مَرَّةٍ فَهو مُخالِفٌ لِحُكْمِها؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧]؛ وظاهِرُهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الثَّلاثِ؛ لِما فِيها مِن تَحْرِيمِ ما أحَلَّ لَنا مِنَ الطَّيِّباتِ؛ والدَّلِيلُ عَلى أنَّ الزَّوْجاتِ قَدْ تَناوَلَهُنَّ هَذا العُمُومُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣]؛ فَوَجَبَ بِحَقِّ العُمُومِ حَظْرُ الطَّلاقِ المُوجِبِ لِتَحْرِيمِها؛ ولَوْلا قِيامُ الدَّلالَةِ في إباحَةِ إيقاعِ الثَّلاثِ في وقْتِ السُّنَّةِ؛ وإيقاعِ الواحِدَةِ لِغَيْرِ المَدْخُولِ بِها؛ لاقْتَضَتِ الآيَةُ حَظْرَهُ.
ومِن جِهَةٍ أُخْرى؛ مِن دَلائِلِ الكِتابِ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) لَمْ يُبِحِ الطَّلاقَ ابْتِداءً لِمَن تَجِبُ عَلَيْها العِدَّةُ إلّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ؛ مِنها قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ ﴿أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢]؛ فَلَمْ يُبِحِ الطَّلاقَ المُبْتَدَأ لِذَواتِ العِدَدِ إلّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ؛ وحُكْمُ الطَّلاقِ مَأْخُوذٌ مِن هَذِهِ الآياتِ؛ لَوْلاها لَمْ يَكُنِ الطَّلاقُ مِن أحْكامِ الشَّرْعِ؛ فَلَمْ يَجُزْ لَنا إثْباتُهُ مَسْنُونًا إلّا عَلى هَذِهِ (p-٧٦)الشَّرِيطَةِ؛ وبِهَذا الوَصْفِ؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"مَن أدْخَلَ في أمْرِنا ما لَيْسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ"؛» وأقَلُّ أحْوالِ هَذا اللَّفْظِ حَظْرُ خِلافِ ما تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ الَّتِي تَلَوْنا؛ مِن إيقاعِ الطَّلاقِ المُبْتَدَإ مَقْرُونًا بِما يُوجِبُ الرَّجْعَةَ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ؛ عَنْ مالِكٍ؛ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ؛ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقالَ: "مُرْهُ فَلْيُراجِعْها؛ ثُمَّ لْيُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ؛ ثُمَّ تَحِيضَ؛ ثُمَّ تَطْهُرَ؛ ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وإنْ شاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ؛ فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ"؛» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ قالَ: حَدَّثَنا عَنْبَسَةُ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ؛ عَنِ ابْنِ شِهابٍ قالَ: «أخْبَرَنِي سالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ عَنْ أبِيهِ؛ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قالَ: "مُرْهُ فَلْيُراجِعْها؛ ثُمَّ لْيُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ؛ ثُمَّ تَحِيضَ؛ ثُمَّ تَطْهُرَ؛ ثُمَّ إنْ شاءَ طَلَّقَها طاهِرًا قَبْلَ أنْ يَمَسَّ؛ فَذَلِكَ الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ كَما أمَرَ اللَّهُ"؛» فَذَكَرَ سالِمٌ في رِوايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ؛ ونافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَهُ أنْ يُراجِعَها؛ ثُمَّ يَدَعَها حَتّى تَطْهُرَ؛ ثُمَّ تَحِيضَ؛ ثُمَّ تَطْهُرَ؛ ثُمَّ إنْ شاءَ طَلَّقَ؛ أوْ أمْسَكَ».
ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ؛ عَنِ الحَسَنِ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ؛ ورَوى يُونُسُ؛ وأنَسُ بْنُ سِيرِينَ؛ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ؛ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَهُ أنْ يُراجِعَها حَتّى تَطْهُرَ؛ ثُمَّ قالَ: "إنْ شاءَ طَلَّقَ؛ وإنْ شاءَ أمْسَكَ"؛» والأخْبارُ الأُوَلُ أوْلى؛ لِما فِيها مِنَ الزِّيادَةِ؛ ومَعْلُومٌ أنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ إنَّما ورَدَ في قِصَّةٍ واحِدَةٍ؛ وإنَّما ساقَ بَعْضُهم لَفْظَ النَّبِيِّ ﷺ عَلى وجْهِهِ؛ وحَذَفَ بَعْضُهم ذِكْرَ الزِّيادَةِ؛ إغْفالًا؛ أوْ نِسْيانًا؛ فَوَجَبَ اسْتِعْمالُهُ بِما فِيهِ مِن زِيادَةِ ذِكْرِ الحَيْضَةِ؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ الشّارِعَ ﷺ قالَ ذَلِكَ عارِيًا مِن ذِكْرِ الزِّيادَةِ؛ وذَكَرَهُ مَرَّةً مَقْرُونًا بِها؛ إذْ كانَ فِيهِ إثْباتُ القَوْلِ مِنهُ في حالَيْنِ؛ وهَذا مِمّا لا نَعْلَمُهُ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ إثْباتُهُ؛ وعَلى أنَّهُ لَوْ كانَ الشّارِعُ ﷺ قَدْ قالَ ذَلِكَ في حالَيْنِ؛ لَمْ يَخْلُ مِن أنْ يَكُونَ المُتَقَدِّمُ مِنهُما هو الخَبَرَ الَّذِي فِيهِ الزِّيادَةُ؛ والآخَرُ مُتَأخِّرًا عَنْهُ؛ فَيَكُونَ ناسِخًا لَهُ؛ وأنْ يَكُونَ الَّذِي لا زِيادَةَ فِيهِ هو المُتَقَدِّمَ؛ ثُمَّ ورَدَ بَعْدَهُ ذِكْرُ الزِّيادَةِ؛ فَيَكُونَ ناسِخًا لِلْأوَّلِ؛ بِإثْباتِ الزِّيادَةِ؛ ولا سَبِيلَ لَنا إلى العِلْمِ بِتارِيخِ الخَبَرَيْنِ؛ لا سِيَّما وقَدْ أشارَ الجَمِيعُ مِنَ الرُّواةِ إلى قِصَّةٍ واحِدَةٍ؛ فَإذا لَمْ يُعْلَمِ التّارِيخُ وجَبَ إثْباتُ الزِّيادَةِ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما أنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ لا يُعْلَمُ تارِيخُهُما فالواجِبُ الحُكْمُ بِهِما مَعًا؛ ولا يُحْكَمُ بِتَقَدُّمِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ؛ كالغَرْقى والقَوْمُ يَقَعُ عَلَيْهِمُ البَيْتُ؛ وكَما نَقُولُ في البَيْعَيْنِ (p-٧٧)مِن قِبَلِ رَجُلٍ واحِدٍ: "إذا قامَتْ عَلَيْهِما البَيِّنَةُ؛ ولَمْ يُعْلَمْ تارِيخُهُما؛ فَيُحْكَمُ بِوُقُوعِهِما مَعًا"؛ فَكَذَلِكَ هَذانِ الخَبَرانِ؛ وجَبَ الحُكْمُ بِهِما مَعًا؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُما تارِيخٌ؛ فَلَمْ يَثْبُتِ الحُكْمُ إلّا مَقْرُونًا بِالزِّيادَةِ المَذْكُورَةِ فِيهِ.
والوَجْهُ الآخَرُ أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ الشّارِعَ قَدْ ذَكَرَ الزِّيادَةَ وأثْبَتَها؛ وأمَرَ بِاعْتِبارِها؛ بِقَوْلِهِ: «"مُرْهُ فَلْيَدَعْها حَتّى تَطْهُرَ؛ ثُمَّ تَحِيضَ؛ ثُمَّ تَطْهُرَ؛ ثُمَّ يُطَلِّقُها إنْ شاءَ"؛» لِوُرُودِها مِن طُرُقٍ صَحِيحَةٍ؛ فَإذا كانَتْ ثابِتَةً في وقْتٍ؛ واحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ مَنسُوخَةً بِالخَبَرِ الَّذِي فِيهِ حَذْفُ الزِّيادَةِ؛ واحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ غَيْرَ مَنسُوخَةٍ؛ لَمْ يَجُزْ لَنا إثْباتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمالِ؛ ووَجَبَ بَقاءُ حُكْمِ الزِّيادَةِ؛ ولَمّا ثَبَتَ ذَلِكَ؛ وأمَرَ الشّارِعُ ﷺ بِالفَصْلِ بَيْنَ التَّطْلِيقَةِ المُوقَعَةِ في الحَيْضِ؛ وبَيْنَ الأُخْرى؛ الَّتِي أمَرَهُ بِإيقاعِها؛ بِحَيْضَةٍ؛ ولَمْ يُبِحْ لَهُ إيقاعَها في الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الحَيْضَةَ؛ ثَبَتَ إيجابُ الفَصْلِ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ؛ وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ الجَمْعُ بَيْنَهُما في طُهْرٍ واحِدٍ؛ لِأنَّهُ ﷺ كَما أمَرَهُ بِإيقاعِها في الطُّهْرِ؛ ونَهاهُ عَنْها في الحَيْضِ؛ فَقَدْ أمَرَهُ أيْضًا بِألّا يُواقِعَها في الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَها فِيها؛ ولا فَرْقَ بَيْنَهُما.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ إذا طَلَّقَها؛ ثُمَّ راجَعَها في ذَلِكَ الطُّهْرِ؛ جازَ لَهُ إيقاعُ تَطْلِيقَةٍ أُخْرى في ذَلِكَ الطُّهْرِ؛ فَقَدْ خالَفَ بِذَلِكَ ما أرَدْتَ تَأْكِيدَهُ مِنَ الزِّيادَةِ المَذْكُورَةِ في الخَبَرِ؛ قِيلَ لَهُ: ذَكَرْنا هَذِهِ المَسْألَةَ في الأُصُولِ؛ ومَنعَهُ مِن إيقاعِ التَّطْلِيقَةِ الثّانِيَةِ في ذَلِكَ الطُّهْرِ؛ وإنْ راجَعَها؛ حَتّى يَفْصِلَ بَيْنَهُما بِحَيْضَةٍ؛ وهَذا هو الصَّحِيحُ؛ والرِّوايَةُ الأُخْرى غَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْها؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في النَّهْيِ عَنْ إيقاعِ الثَّلاثِ مَجْمُوعَةً؛ بِما لا مَساغَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ؛ وهو ما حَدَّثَنا ابْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ شاذانَ الجَوْهَرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُعَلّى بْنُ مَنصُورٍ قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ زُرَيْقٍ؛ أنَّ عَطاءً الخُراسانِيَّ حَدَّثَهم عَنِ الحَسَنِ قالَ: «حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ تَطْلِيقَةً وهي حائِضٌ؛ ثُمَّ أرادَ أنْ يُتْبِعَها بِتَطْلِيقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ عِنْدَ القُرْأيْنِ الباقِيَيْنِ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: "يا ابْنَ عُمَرَ؛ ما هَكَذا أمَرَكَ اللَّهُ؛ إنَّكَ قَدْ أخْطَأْتَ السُّنَّةَ؛ والسُّنَّةُ أنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ"؛ فَأمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ فَراجَعْتُها؛ وقالَ: "إذا هي طَهُرَتْ فَطَلِّقْ عِنْدَ ذَلِكَ؛ أوْ أمْسِكْ"؛ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أرَأيْتَ لَوْ كُنْتُ طَلَّقْتُها ثَلاثًا؛ أكانَ لِي أنْ أُراجِعَها؟ قالَ: "لا؛ كانَتْ تَبِينُ؛ وتَكُونُ مَعْصِيَةً"؛» فَأخْبَرَ ﷺ نَصًّا في هَذا الحَدِيثِ بِكَوْنِ الثَّلاثِ مَعْصِيَةً؛ فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ النَّبِيُّ ﷺ في سائِرِ أخْبارِ ابْنِ عُمَرَ - حِينَ ذَكَرَ الطُّهْرَ الَّذِي هو وقْتٌ لِإيقاعِ طَلاقِ السُّنَّةِ -: "ثُمَّ لْيُطَلِّقْها إنْ شاءَ"؛ ولَمْ يُخَصِّصْ ثَلاثًا مِمّا دُونَها؛ كانَ ذَلِكَ إطْلاقًا لِلِاثْنَتَيْنِ؛ والثَّلاثِ مَعًا؛ قِيلَ (p-٧٨)لَهُ: لَمّا ثَبَتَ بِما قَدَّمْنا؛ مِن إيجابِهِ الفَصْلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِحَيْضَةٍ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "ثُمَّ لْيُطَلِّقْها إنْ شاءَ؛ عَلِمْنا أنَّهُ إنَّما أرادَ واحِدَةً؛ لا أكْثَرَ مِنها؛ لِاسْتِحالَةِ إرادَتِهِ نَسْخَ ما أوْجَبَهُ بَدِيًّا مِن إيجابِهِ الفَصْلَ بَيْنَهُما؛ وما اقْتَضاهُ ذَلِكَ مِن حَظْرِ الجَمْعِ بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ وُجُودُ النّاسِخِ؛ والمَنسُوخِ في خِطابٍ واحِدٍ؛ لِأنَّ النَّسْخَ لا يَصِحُّ إلّا بَعْدَ اسْتِقْرارِ الحُكْمِ؛ والتَّمَكُّنِ مِنَ الفِعْلِ؛ ألا تَرى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ في خِطابٍ واحِدٍ: "قَدْ أبَحْتُ لَكم هَذا النّابَ مِنَ السِّباعِ؛ وقَدْ حَظَرْتُهُ عَلَيْكُمْ"؟ لِأنَّ ذَلِكَ عَبَثٌ؛ واللَّهُ (تَعالى) مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ العَبَثِ؛ وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ قَوْلَهُ: "ثُمَّ لْيُطَلِّقْها إنْ شاءَ"؛ مَبْنِيٌّ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن حُكْمِهِ في ابْتِداءِ الخِطابِ؛ وهو ألّا يَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ في طُهْرٍ واحِدٍ؛ وأيْضًا فَلَوْ خَلا هَذا اللَّفْظُ مِن دَلالَةِ حَظْرِ الجَمْعِ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ في طُهْرٍ واحِدٍ؛ لَما دَلَّ عَلى إباحَتِهِ لِوُرُودِهِ مُطْلَقًا عارِيًا مِن ذِكْرِ ما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: "ثُمَّ لْيُطَلِّقْها إنْ شاءَ"؛ لَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ فِيهِ أكْثَرَ مِن واحِدٍ؛ وكَذَلِكَ نَقُولُ في نَظائِرِ ذَلِكَ مِنَ الأوامِرِ: إنَّهُ إنَّما يَقْتَضِي أدْنى ما يَتَناوَلُهُ الِاسْمُ؛ وإنَّما يُصْرَفُ إلى الأكْثَرِ بِدَلالَةٍ - كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ: "طَلِّقِ امْرَأتِي" - أنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ إيقاعُهُ بِالأمْرِ إنَّما هو تَطْلِيقَةٌ واحِدَةٌ؛ لا أكْثَرُ مِنها؛ وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا - فِيمَن قالَ لِعَبْدِهِ: "تَزَوَّجْ" -: إنَّهُ يَقَعُ عَلى امْرَأةٍ واحِدَةٍ؛ فَإنْ تَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ نِكاحُ واحِدَةٍ مِنهُما إلّا أنْ يَقُولَ المَوْلى: أرَدْتُ اثْنَتَيْنِ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَلْيُطَلِّقْها إنْ شاءَ"؛ لَمْ يَقْتَضِ إلّا تَطْلِيقَةً واحِدَةً؛ وما زادَ عَلَيْها فَإنَّما يَثْبُتُ بِدَلالَةٍ.
فَهَذا الَّذِي قَدَّمْناهُ مِن دَلالَةِ الكِتابِ؛ والسُّنَّةِ عَلى حَظْرِ جَمْعٍ الثَّلاثِ؛ والِاثْنَتَيْنِ في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ؛ قَدْ ورَدَ بِمِثْلِهِ اتِّفاقُ السَّلَفِ؛ مِن ذَلِكَ ما رَوى الأعْمَشُ؛ عَنْ أبِي إسْحاقَ؛ عَنْ أبِي الأحْوَصِ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أنَّهُ قالَ: "طَلاقُ السُّنَّةِ أنْ يُطَلِّقَها تَطْلِيقَةً واحِدَةً؛ وهي طاهِرٌ؛ في غَيْرِ جِماعٍ؛ فَإذا حاضَتْ وطَهُرَتْ؛ طَلَّقَها أُخْرى"؛وقالَ إبْراهِيمُ مِثْلَ ذَلِكَ.
ورَوى زُهَيْرٌ عَنْ أبِي إسْحاقَ؛ عَنْ أبِي الأحْوَصِ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: مَن أرادَ الطَّلاقَ الَّذِي هو الطَّلاقُ؛ فَلْيُطَلِّقْ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مِن غَيْرِ جِماعٍ؛ فَإنْ بَدا لَهُ أنْ يُراجِعَها راجَعَها؛ وأشْهَدَ رَجُلَيْنِ؛ وإذا كانَتِ الثّانِيَةُ في مَرَّةٍ أُخْرى فَكَذَلِكَ؛ فَإنَّ اللَّهَ (تَعالى) يَقُولُ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ ورَوى ابْنُ سِيرِينَ؛ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: لَوْ أنَّ النّاسَ أصابُوا حَدَّ الطَّلاقِ ما نَدِمَ أحَدٌ عَلى امْرَأةٍ يُطَلِّقُها وهي طاهِرٌ مِن غَيْرِ جِماعٍ؛ أوْ حامِلًا قَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُها؛ فَإذا بَدا لَهُ أنْ يُراجِعَها راجَعَها؛ وإنْ بَدا لَهُ أنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَها خَلّى سَبِيلَها.
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ قالَ: أخْبَرَنا أيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ؛ عَنْ مُجاهِدٍ (p-٧٩)قالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ؛ فَجاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ لَهُ إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا؛ قالَ: فَسَكَتَ ابْنُ عَبّاسٍ حَتّى ظَنَنْتُ أنَّهُ رادُّها إلَيْهِ؛ ثُمَّ قالَ: يَنْطَلِقُ أحَدُكم فَيَرْكَبُ الأُحْمُوقَةَ؛ ثُمَّ يَقُولُ: يا ابْنَ عَبّاسٍ؛ يا ابْنَ عَبّاسٍ؛ وإنَّ اللَّهَ (تَعالى) قالَ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢]؛ وإنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ؛ فَلَمْ أجِدْ لَكَ مَخْرَجًا؛ عَصَيْتَ رَبَّكَ؛ وبانَتْ مِنكَ امْرَأتُكَ؛ وإنَّ اللَّهَ (تَعالى) قالَ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ أيْ قَبْلَ عِدَّتِهِنَّ.
وعَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ؛ أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأتِي ثَلاثًا؛ فَقالَ: أثِمْتَ بِرَبِّكَ؛ وحَرُمَتْ عَلَيْكَ امْرَأتُكَ؛ وأبُو قِلابَةَ قالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا؛ قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها؛ فَقالَ: لا أرى مَن فَعَلَ ذَلِكَ إلّا قَدْ حُرِجَ؛ ورَوى ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: كانُوا يُنَكِّلُونَ مَن طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَقْعَدٍ واحِدٍ؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ كانَ إذا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَجْلِسٍ واحِدٍ؛ أوْجَعَهُ ضَرْبًا؛ وفَرَّقَ بَيْنَهُما؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ هَؤُلاءِ الصَّحابَةِ حَظْرُ جَمْعِ الثَّلاثِ؛ ولا يُرْوى عَنْ أحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ خِلافُهُ؛ فَصارَ إجْماعًا.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَرَضِهِ؛ وأنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعَبْ عَلَيْهِ؛ ولَوْ كانَ جَمْعُ الثَّلاثِ مَحْظُورًا لَما فَعَلَهُ؛ وتَرْكُهُمُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهم رَأوْهُ سائِغًا لَهُ؛ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ في الحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتَ؛ ولا في غَيْرِهِ أنَّهُ طَلَّقَ ثَلاثًا في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ؛ وإنَّما أرادَ أنَّهُ طَلَّقَها ثَلاثًا عَلى الوَجْهِ الَّذِي جُوِّزَ عَلَيْهِ الطَّلاقُ؛ وقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ في أحادِيثَ رَواها جَماعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ؛ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ تَماضُرَ تَطْلِيقَتَيْنِ؛ ثُمَّ قالَ لَها في مَرَضِهِ: إنْ أخْبَرْتِنِي بِطُهْرِكِ لَأُطَلِّقَنَّكِ؛ فَبَيَّنَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْها ثَلاثًا مُجْتَمِعَةً.
وقَدْ رُوِيَ في حَدِيثِ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ شَبِيهًا بِهَذا؛ وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ قالَ: حَدَّثَنا أبانُ ابْنُ يَزِيدَ العَطّارُ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنِي أبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ «أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ حَدَّثَتْهُ أنَّ أبا حَفْصِ بْنَ المُغِيرَةِ طَلَّقَها؛ وأنَّ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ ونَفَرًا مِن بَنِي مَخْزُومٍ أتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقالُوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ؛ إنَّ أبا حَفْصِ بْنَ المُغِيرَةِ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا؛ وإنَّهُ تَرَكَ لَها نَفَقَةً يَسِيرَةً؛ فَقالَ: "لا نَفَقَةَ لَها"؛» وساقَ الحَدِيثَ؛ فَيَقُولُ المُحْتَجُّ لِإباحَةِ إيقاعِ الثَّلاثِ مَعًا بِأنَّهم قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّهُ طَلَّقَها ثَلاثًا؛ فَلَمْ يُنْكِرْهُ؛ وهَذا خَبَرٌ قَدْ أُجْمِلَ فِيهِ ما فُسِّرَ في غَيْرِهِ؛ وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ خالِدٍ الرَّمْلِيُّ قالَ: حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ؛ عَنِ ابْنِ شِهابٍ؛ عَنْ أبِي سَلَمَةَ؛ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أنَّها أخْبَرَتْهُ أنَّها كانَتْ عِنْدَ (p-٨٠)أبِي حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ؛ وأنَّ أبا حَفْصِ بْنَ المُغِيرَةِ طَلَّقَها آخِرَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ؛ فَزَعَمَتْ أنَّها جاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؛ وذَكَرَ الحَدِيثَ؛ قالَ أبُو داوُدَ: وكَذَلِكَ رَواهُ صالِحُ بْنُ كَيْسانَ؛ وابْنُ جُرَيْجٍ؛ وشُعَيْبُ بْنُ أبِي حَمْزَةَ؛ كُلُّهم عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ فَبُيِّنَ في هَذا الحَدِيثِ ما أُجْمِلَ في الحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ أنَّهُ إنَّما طَلَّقَها آخِرَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ؛ وهو أوْلى؛ لِما فِيهِ مِنَ الإخْبارِ عَنْ حَقِيقَةِ الأمْرِ؛ والأوَّلُ فِيهِ ذِكْرُ الثَّلاثِ؛ ولَمْ يُذْكَرْ إيقاعُهُنَّ مَعًا؛ فَهو مَحْمُولٌ عَلى أنَّهُ فَرَّقَهُنَّ؛ عَلى ما ذُكِرَ في هَذا الحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا مِن دَلائِلِ الكِتابِ؛ والسُّنَّةِ؛ واتِّفاقِ السَّلَفِ؛ أنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ مَحْظُورٌ.
فَإنْ قِيلَ فِيما قَدَّمْناهُ مِن دَلالَةِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ عَلى حَظْرِ جَمْعِ الِاثْنَتَيْنِ في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ: إنَّهُ مِن حَيْثُ دَلَّ عَلى ما ذَكَرْتَ فَهو دَلِيلٌ عَلى أنَّ لَهُ أنْ يُطَلِّقَها في طُهْرٍ واحِدٍ مَرَّتَيْنِ؛ إذْ لَيْسَ في الآيَةِ تَفْرِيقُهُما في طُهْرَيْنِ؛ وفِيهِ إباحَةُ تَطْلِيقَتَيْنِ في مَرَّتَيْنِ؛ وذَلِكَ يَقْتَضِي إباحَةَ تَفْرِيقِ الِاثْنَتَيْنِ في طُهْرٍ واحِدٍ؛ وإذا جازَ ذَلِكَ في طُهْرٍ واحِدٍ جازَ جَمْعُهُما بِلَفْظٍ واحِدٍ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أحَدٌ بَيْنَهُما؛ قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن قِبَلِ أنَّ ذَلِكَ اعْتِبارٌ يُؤَدِّي إلى إسْقاطِ حُكْمِ اللَّفْظِ؛ ورَفْعِهِ رَأْسًا؛ وإزالَةِ فائِدَتِهِ؛ وكُلُّ قَوْلٍ يُؤَدِّي إلى رَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ فَهو ساقِطٌ؛ وإنَّما صارَ مُسْقِطًا لِفائِدَةِ اللَّفْظِ؛ وإزالَةِ حُكْمِهِ مِن قِبَلِ أنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ قَدِ اقْتَضى تَفْرِيقَ الِاثْنَتَيْنِ؛ وحَظْرَ جَمْعِهِما في لَفْظٍ واحِدٍ؛ عَلى ما قَدَّمْنا مِن بَيانِهِ؛ وإباحَتُكَ لَتَفْرِيقِهِما في طُهْرٍ واحِدٍ يُؤَدِّي إلى إباحَةِ جَمْعِهِما في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ؛ وفي ذَلِكَ رَفْعُ حُكْمِ اللَّفْظِ؛ ومَتى حَظَرْنا تَفْرِيقَهُما وجَمْعَهُما في طُهْرٍ واحِدٍ؛ وأبَحْناهُ في طُهْرَيْنِ؛ فَلَيْسَ فِيهِ رَفْعُ حُكْمِ اللَّفْظِ؛ بَلْ فِيهِ اسْتِعْمالُهُ عَلى الخُصُوصِ في بَعْضِ المَواضِعِ؛ دُونَ بَعْضٍ؛ فَلَمْ يُؤَدِّ قَوْلُنا بِالتَّفْرِيقِ في طُهْرَيْنِ إلى رَفْعِ حُكْمِهِ؛ وإنَّما أوْجَبَ تَخْصِيصَهُ؛ إذْ كانَ اللَّفْظُ مُوجِبًا لِلتَّفْرِيقِ؛ واتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّهُ إذا أوْجَبَ التَّفْرِيقَ فَرَّقَهُما في طُهْرَيْنِ؛ فَخَصَصْنا تَفْرِيقَهُما في طُهْرٍ واحِدٍ؛ بِدَلالَةِ الِاتِّفاقِ؛ مَعَ اسْتِعْمالِ حُكْمِ اللَّفْظِ؛ ومَتى أبَحْنا التَّفْرِيقَ في طُهْرٍ واحِدٍ أدّى ذَلِكَ إلى رَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا؛ حَتّى يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلطَّلاقِ مَرَّتَيْنِ وتَرْكُهُ سَواءً؛ وهَذا قَوْلٌ ساقِطٌ مَرْدُودٌ.
واحْتَجَّ مَن أباحَ ذَلِكَ أيْضًا بِحَدِيثِ عُوَيْمِرٍ العَجْلانِيِّ؛ حِينَ «لاعَنَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وبَيْنَ امْرَأتِهِ؛ فَلَمّا فَرَغا مِن لِعانِهِما قالَ: كَذَبْتُ عَلَيْها إنْ أمْسَكْتُها؛ هي طالِقٌ ثَلاثًا؛ فَفارَقَها قَبْلَ أنْ يُفَرِّقَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُما»؛ قالَ: فَلَمّا لَمْ يُنْكِرِ الشّارِعُ ﷺ إيقاعَ الثَّلاثِ مَعًا؛ دَلَّ عَلى إباحَتِهِ؛ وهَذا الخَبَرُ لا يَصِحُّ لِلشّافِعِيِّ الِاحْتِجاجُ بِهِ؛ لِأنَّ مِن مَذْهَبِهِ (p-٨١)أنَّ الفُرْقَةَ قَدْ كانَتْ وقَعَتْ بِلِعانِ الزَّوْجِ قَبْلَ لِعانِ المَرْأةِ؛ فَبانَتْ مِنهُ؛ ولَمْ يَلْحَقْها طَلاقٌ؛ فَكَيْفَ كانَ يُنْكِرُ عَلَيْها طَلاقًا لَمْ يَقَعْ؛ ولَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ؟ فَإنْ قِيلَ: فَما وجْهُهُ عَلى مَذْهَبِكَ؟ قِيلَ لَهُ: جائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُسَنَّ الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ؛ ومَنعِ الجَمْعِ بَيْنَ التَّطْلِيقاتِ في طُهْرٍ واحِدٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الشّارِعُ ﷺ؛ وجائِزٌ أيْضًا أنْ تَكُونَ الفُرْقَةُ لَمّا كانَتْ مُسْتَحَقَّةً مِن غَيْرِ جِهَةِ الطَّلاقِ؛ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إيقاعَها بِالطَّلاقِ؛ وأمّا مَن قالَ: سُنَّةُ الطَّلاقِ ألّا يُطَلِّقَ إلّا واحِدَةً؛ وهو ما حَكَيْناهُ عَنْ مالِكِ بْنِ أنَسٍ؛ واللَّيْثِ؛ والحَسَنِ بْنِ حَيٍّ؛ والأوْزاعِيِّ؛ فَإنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلى إباحَةٍ الثَّلاثِ في الأطْهارِ المُتَفَرِّقَةِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ وفي ذَلِكَ إباحَةٌ لِإيقاعِ الِاثْنَتَيْنِ؛ ولَمّا اتَّفَقْنا عَلى أنَّهُ لا يَجْمَعُهُما في طُهْرٍ واحِدٍ؛ وجَبَ اسْتِعْمالُ حُكْمِهِما في الطُّهْرَيْنِ.
وقَدْ رُوِيَ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ أنَّهُ لِلثّالِثَةِ؛ وفي ذَلِكَ تَخْيِيرٌ لَهُ في إيقاعِ الثَّلاثِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ فَقَدِ انْتَظَمَ إيقاعَ الثَّلاثِ لِلْعِدَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ: لِأوْقاتِ العِدَّةِ؛ كَما بَيَّنَهُ الشّارِعُ ﷺ في قَوْلِهِ: «"يُطَلِّقْها طاهِرًا مِن غَيْرِ جِماعٍ؛ أوْ حامِلًا قَدِ اسْتَبانَ حَمْلُها؛ فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَها النِّساءُ"؛» وإذا كانَ المُرادُ بِهِ أوْقاتَ الأطْهارِ تَناوَلَ الثَّلاثَ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨]؛ فَقَدْ عُقِلَ مِنهُ تَكْرارُ فِعْلِ الصَّلاةِ لِدُلُوكِها في سائِرِ الأيّامِ؛ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ لَمّا كانَ عِبارَةً عَنْ أوْقاتِ الأطْهارِ اقْتَضى تَكْرارَ الطَّلاقِ في سائِرِ الأوْقاتِ؛ وأيْضًا لَمّا جازَ لَهُ إيقاعُ الطَّلاقِ في الطُّهْرِ الأوَّلِ؛ لِأنَّها طاهِرٌ مِن غَيْرِ جِماعٍ؛ طُهْرًا لَمْ يُوقِعْ فِيهِ طَلاقًا؛ جازَ إيقاعُهُ في الطُّهْرِ الثّانِي لِهَذِهِ العِلَّةِ؛ وأيْضًا لَمّا اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لَوْ راجَعَها جازَ لَهُ إيقاعُ الطَّلاقِ في الطُّهْرِ الثّانِي؛ وجَبَ أنْ يَجُوزَ ذَلِكَ لَهُ إذا لَمْ يُراجِعْها؛ لِوُجُودِ المَعْنى الَّذِي مِن أجْلِهِ جازَ إيقاعُهُ في الطُّهْرِ الأوَّلِ؛ إذْ لا حَظَّ لِلرَّجْعَةِ في إباحَةِ الطَّلاقِ؛ ولا في حَظْرِهِ؛ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ راجَعَها؛ ثُمَّ جامَعَها في ذَلِكَ الطُّهْرِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ إيقاعُ الطَّلاقِ فِيهِ؛ ولَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ في إباحَتِهِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَجُوزَ لَهُ أنْ يُطَلِّقَها في الطُّهْرِ الثّانِي؛ قَبْلَ الرَّجْعَةِ؛ كَما جازَ لَهُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُراجِعْ؟ فَإنْ قِيلَ: لا فائِدَةَ في الثّانِيَةِ؛ والثّالِثَةِ؛ لِأنَّهُ إنْ أرادَ أنْ يُبِينَها أمْكَنَهُ ذَلِكَ بِالواحِدَةِ؛ بِأنْ يَدَعَها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها؛ وقالَ (تَعالى): ﴿ولا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ وهَذا هو الفارِقُ بَيْنَهُ إذا راجَعَها؛ أوْ لَمْ يُراجِعْها؛ في إباحَةِ الثّانِيَةِ؛ والثّالِثَةِ؛ إذا راجَعَ؛ وحَظْرِهِما إذا لَمْ يُراجِعْ؛ قِيلَ لَهُ: في إيقاعِ الثّانِيَةِ؛ (p-٨٢)والثّالِثَةِ فَوائِدُ بِتَعَجُّلِها؛ لَوْ لَمْ يُوقِعِ الثّانِيَةَ والثّالِثَةَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ؛ وهو أنْ تَبِينَ مِنهُ بِإيقاعِ الثّالِثَةِ قَبْلَ انْقِضاءِ عِدَّتِها؛ فَيَسْقُطَ مِيراثُها مِنهُ لَوْ ماتَ؛ ويَتَزَوَّجَ أُخْتَها؛ أوْ أرْبَعًا سِواها؛ عَلى قَوْلِ مَن يُجِيزُ ذَلِكَ في العِدَّةِ؛ فَلَمْ يَخْلُ في إيقاعِ الثّانِيَةِ؛ والثّالِثَةِ مِن فَوائِدَ؛ وحُقُوقٍ تَحْصُلُ لَهُ؛ فَلَمْ تَكُنْ لَغْوًا مُطْرَحًا؛ وجازَ مِن أجْلِها إيقاعُ ما بَقِيَ مِن طَلاقِها في أوْقاتِ السُّنَّةِ؛ كَما يَجُوزُ ذَلِكَ لَوْ راجَعَها؛ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* * *
ذِكْرِ الِاخْتِلافِ في الطَّلاقِ بِالرِّجالِ
قالَ أبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اِتَّفَقَ السَّلَفُ؛ ومَن بَعْدَهم مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ؛ عَلى أنَّ الزَّوْجَيْنِ المَمْلُوكَيْنِ خارِجانِ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ واتَّفَقُوا عَلى أنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ نُقْصانَ الطَّلاقِ؛ فَقالَ عَلِيٌّ؛ وعَبْدُ اللَّهِ: "اَلطَّلاقُ بِالنِّساءِ"؛ يَعْنِي أنَّ المَرْأةَ إنْ كانَتْ حُرَّةً فَطَلاقُها ثَلاثٌ؛ حُرًّا كانَ زَوْجُها؛ أوْ عَبْدًا؛ وأنَّها إنْ كانَتْ أمَةً فَطَلاقُها اثْنَتانِ؛ حُرًّا كانَ زَوْجُها؛ أوْ عَبْدًا؛ وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ؛ وأبِي يُوسُفَ؛ وزُفَرَ؛ ومُحَمَّدٍ؛ والثَّوْرِيِّ؛ والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ؛ وقالَ عُثْمانُ؛ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ؛ وابْنُ عَبّاسٍ: "اَلطَّلاقُ بِالرِّجالِ"؛ يَعْنُونَ أنَّ الزَّوْجَ إنْ كانَ عَبْدًا فَطَلاقُهُ اثْنَتانِ؛ سَواءٌ كانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً؛ أوْ أمَةً؛ وإنْ كانَ حُرًّا فَطَلاقُهُ ثَلاثٌ؛ حُرَّةً كانَتِ الزَّوْجَةُ؛ أوْ أمَةً؛ وهو قَوْلُ مالِكٍ؛ والشّافِعِيِّ؛ وقالَ ابْنُ عُمَرَ: أيُّهُما رَقَّ نَقَصَ الطَّلاقُ بِرِقِّهِ؛ وهو قَوْلُ عُثْمانَ البَتِّيِّ.
وقَدْ رَوى هُشَيْمٌ عَنْ مَنصُورِ بْنِ زادانَ؛ عَنْ عَطاءٍ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: اَلْأمْرُ إلى المَوْلى في الطَّلاقِ؛ أذِنَ لَهُ العَبْدُ؛ أوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ ويَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] .
رَوى هِشامٌ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ؛ عَنْ أبِي مَعْبَدٍ؛ مَوْلى ابْنِ عَبّاسٍ؛ أنَّ غُلامًا كانَ لِابْنِ عَبّاسٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ؛ فَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: اِرْجِعْها؛ لا أُمَّ لَكَ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ؛ فَأبى؛ فَقالَ: هي لَكَ؛ فاتَّخِذْها؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ رَأى طَلاقَهُ واقِعًا؛ لَوْلاهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ: اِرْجِعْها؛ وقَوْلُهُ: هي لَكَ؛ يَدُلُّ عَلى أنَّها كانَتْ أمَةً؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الغُلامُ حُرًّا؛ لِأنَّهُما إذا كانا مَمْلُوكَيْنِ؛ فَلا خِلافَ أنَّ رِقَّهُما يُنْقِصُ الطَّلاقَ؛ وقَدْ رُوِيَ في ذَلِكَ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ لا يَرى طَلاقَ العَبْدِ شَيْئًا؛ ويَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ المُبارَكِ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ؛ أنَّ عُمَرَ بْنَ مُعَتِّبٍ أخْبَرَهُ «أنَّ أبا حَسَنٍ؛ مَوْلى بَنِي نَوْفَلٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ اسْتَفْتى ابْنَ عَبّاسٍ في مَمْلُوكٍ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ فَطَلَّقَها تَطْلِيقَتَيْنِ؛ ثُمَّ أعْتَقَها بَعْدَ (p-٨٣)ذَلِكَ؛ هَلْ يَصْلُحُ لَهُ أنْ يَخْطُبَها بَعْدَ ذَلِكَ؛ قالَ: نَعَمْ؛ قَضى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ».
قالَ أبُو داوُدَ: وقَدْ سَمِعْتُ أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قالَ: قالَ عَبْدُ الرَّزّاقِ: قالَ ابْنُ المُبارَكِ لِعُمَرَ: مَن أبُو حَسَنٍ هَذا؟ لَقَدْ تَحَمَّلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً؛ قالَ أبُو داوُدَ: وأبُو حَسَنٍ هَذا رَوى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ؛ وكانَ مِنَ الفُقَهاءِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا الحَدِيثُ يَرُدُّهُ الإجْماعُ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ الصَّدْرِ الأوَّلِ؛ ومَن بَعْدَهم مِنَ الفُقَهاءِ؛ أنَّهُما إذا كانا مَمْلُوكَيْنِ أنَّها تَحْرُمُ بِالِاثْنَتَيْنِ؛ ولا تَحِلُّ لَهُ إلّا بَعْدَ زَوْجٍ؛ والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ الطَّلاقَ بِالنِّساءِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ؛ وعائِشَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «"طَلاقُ الأمَةِ تَطْلِيقَتانِ؛ وعِدَّتُها حَيْضَتانِ"؛» وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَنَدِهِ؛ وقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الأُمَّةُ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ في نُقْصانِ العِدَّةِ؛ وإنْ كانَ وُرُودُهُ مِن طَرِيقِ الآحادِ؛ فَصارَ في حَيِّزِ التَّواتُرِ؛ لِأنَّ ما تَلَقّاهُ النّاسُ بِالقَبُولِ مِن أخْبارِ الآحادِ فَهو عِنْدَنا في مَعْنى المُتَواتِرِ؛ لِما بَيَّنّاهُ في مَواضِعَ؛ ولَمْ يُفَرِّقِ الشّارِعُ في قَوْلِهِ: «وعِدَّتُها حَيْضَتانِ»؛ بَيْنَ مَن كانَ زَوْجُها حُرًّا؛ أوْ عَبْدًا؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ اعْتِبارُ الطَّلاقِ بِها دُونَ الزَّوْجِ؛ ودَلِيلٌ آخَرُ؛ وهو أنَّهُ لَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ الرِّقَّ يُوجِبُ نَقْصَ الطَّلاقِ؛ كَما يُوجِبُ نَقْصَ الحَدِّ؛ ثُمَّ كانَ الِاعْتِبارُ في نُقْصانِ الحَدِّ بِرِقِّ مَن يَقَعُ بِهِ دُونَ مَن يُوقِعُهُ؛ وجَبَ أنْ يُعْتَبَرَ نُقْصانُ الطَّلاقِ بِرِقِّ مَن يَقَعُ بِهِ؛ دُونَ مَن يُوقِعُهُ؛ وهو المَرْأةُ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الثَّلاثِ عَلَيْها؛ عَلى الوَجْهِ المَسْنُونِ؛ وإنْ كانَ حُرًّا؛ إذا كانَتِ الزَّوْجَةُ أمَةً؛ ألا تَرى أنَّهُ إذا أرادَ تَفْرِيقَ الثَّلاثِ عَلَيْها في أطْهارٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَمْ يُمْكِنْهُ إيقاعُ الثّالِثَةِ بِحالٍ؟ فَلَوْ كانَ مالِكًا لِلْجَمِيعِ لَمَلَكَ التَّفْرِيقَ عَلى الوَجْهِ المَسْنُونِ؛ كَما لَوْ كانَتْ حُرَّةً؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مالِكٍ لِلثَّلاثِ إذا كانَتِ الزَّوْجَةُ أمَةً. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ذِكْرُ الحِجاجِ لِإيقاعِ الطَّلاقِ (اَلثَّلاثِ) مَعًا
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ اَلْآيَةَ؛ يَدُلُّ عَلى وُقُوعِ الثَّلاثِ مَعًا؛ مَعَ كَوْنِهِ مَنهِيًّا عَنْهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ قَدْ أبانَ عَنْ حُكْمِهِ إذا أوْقَعَ اثْنَتَيْنِ؛ بِأنْ يَقُولَ: "أنْتِ طالِقٌ؛ أنْتِ طالِقٌ"؛ في طُهْرٍ واحِدٍ؛ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ خِلافُ السُّنَّةِ؛ فَإذا كانَ في مَضْمُونِ الآيَةِ الحُكْمُ بِجَوازِ وُقُوعِ الِاثْنَتَيْنِ عَلى هَذا الوَجْهِ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلى صِحَّةِ وُقُوعِهِما لَوْ أوْقَعَهُما مَعًا؛ لِأنَّ أحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما؛ وفِيها الدَّلالَةُ عَلَيْهِ مِن وجْهٍ آخَرَ؛ وهو قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؛ فَحَكَمَ بِتَحْرِيمِها عَلَيْهِ بِالثّالِثَةِ؛ بَعْدَ الِاثْنَتَيْنِ؛ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ إيقاعِهِما في طُهْرٍ واحِدٍ؛ أوْ في أطْهارٍ؛ (p-٨٤)فَوَجَبَ الحُكْمُ بِإيقاعِ الجَمِيعِ عَلى أيِّ وجْهٍ أوْقَعَهُ؛ مِن مَسْنُونٍ؛ أوْ غَيْرِ مَسْنُونٍ؛ ومُباحٍ؛ أوْ مَحْظُورٍ.
فَإنْ قِيلَ: قَدَّمْتَ بَدِيًّا في مَعْنى الآيَةِ أنَّ المُرادَ بِها بَيانُ المَندُوبِ إلَيْهِ؛ والمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الطَّلاقِ؛ وإيقاعُ الطَّلاقِ (اَلثَّلاثِ) مَعًا خِلافُ المَسْنُونِ عِنْدَكَ؛ فَكَيْفَ نَحْتَجُّ بِها في إيقاعِها عَلى غَيْرِ الوَجْهِ المُباحِ؛ والآيَةُ لَمْ تَتَضَمَّنْها عَلى هَذا الوَجْهِ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى هَذِهِ المَعانِي كُلِّها؛ مِن إيقاعِ الِاثْنَتَيْنِ؛ والثَّلاثِ لِغَيْرِ السُّنَّةِ؛ وأنَّ المَندُوبَ إلَيْهِ؛ والمَسْنُونَ تَفْرِيقُها في الأطْهارِ؛ ولَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُرادُ الآيَةِ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قالَ: "طَلِّقُوا ثَلاثًا في الأطْهارِ؛ وإنْ طَلَّقْتُمْ جَمِيعًا مَعًا وقَعْنَ"؛ كانَ جائِزًا؟ وإذا لَمْ يَتَنافَ المَعْنَيانِ واحْتَمَلَتْهُما الآيَةُ؛ وجَبَ حَمْلُها عَلَيْهِما؛ فَإنْ قِيلَ: مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ مَحْمُولٌ عَلى ما بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ وقَدْ بَيَّنَ الشّارِعُ الطَّلاقَ لِلْعِدَّةِ؛ وهو أنْ يُطَلِّقَها في ثَلاثَةِ أطْهارٍ؛ إنْ أرادَ إيقاعَ الثَّلاثِ؛ ومَتى خالَفَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ طَلاقُهُ؛ قِيلَ لَهُ: نَسْتَعْمِلُ الآيَتَيْنِ عَلى ما تَقْتَضِيانِهِ مِن أحْكامِهِما؛ فَنَقُولُ: إنَّ المَندُوبَ إلَيْهِ؛ المَأْمُورَ بِهِ؛ هو الطَّلاقُ لِلْعِدَّةِ؛ عَلى ما بَيَّنَهُ في هَذِهِ الآيَةِ؛ وإنْ طَلَّقَ لِغَيْرِ العِدَّةِ؛ وجَمَعَ الثَّلاثَ وقَعْنَ؛ لِما اقْتَضَتْهُ الآيَةُ الأُخْرى؛ وهي قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾؛ إذْ لَيْسَ في قَوْلِهِ: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ نَفْيٌ لِما اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الأُخْرى؛ عَلى أنَّ في فَحْوى الآيَةِ؛ الَّتِي فِيها ذِكْرُ الطَّلاقِ لِلْعِدَّةِ؛ دَلالَةً عَلى وُقُوعِها إذا طَلَّقَ لِغَيْرِ العِدَّةِ؛ وهو قَوْلُهُ ( تَعالى): ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودُ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق: ١]؛ فَلَوْلا أنَّهُ إذا طَلَّقَ لِغَيْرِ العِدَّةِ وقَعَ؛ ما كانَ ظالِمًا لِنَفْسِهِ بِإيقاعِهِ؛ ولا كانَ ظالِمًا لِنَفْسِهِ بِطَلاقِهِ.
وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى وُقُوعِها إذا طَلَّقَ لِغَيْرِ العِدَّةِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى) في نَسَقِ الخِطابِ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢]؛ يَعْنِي - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّهُ إذا أوْقَعَ الطَّلاقَ عَلى ما أمَرَهُ اللَّهُ؛ كانَ لَهُ مَخْرَجًا مِمّا أوْقَعَ؛ إنْ لَحِقَهُ نَدَمٌ؛ وهو الرَّجْعَةُ؛ وعَلى هَذا المَعْنى تَأوَّلَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ حِينَ قالَ لِلسّائِلِ الَّذِي سَألَهُ؛ وقَدْ طَلَّقَ ثَلاثًا: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢]؛ وإنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أجِدْ لَكَ مَخْرَجًا؛ عَصَيْتَ رَبَّكَ؛ وبانَتْ مِنكَ امْرَأتُكَ؛ ولِذَلِكَ قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ -: لَوْ أنَّ النّاسَ أصابُوا حَدَّ الطَّلاقِ؛ ما نَدِمَ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأتَهُ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ عاصِيًا في إيقاعِ الثَّلاثِ مَعًا لَمْ يَقَعْ؛ إذْ لَيْسَ هو الطَّلاقَ المَأْمُورَ بِهِ؛ كَما لَوْ وكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأنْ يُطَلِّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في ثَلاثَةِ أطْهارٍ؛ لَمْ يَقَعْ إذا جَمَعَهُنَّ في طُهْرٍ واحِدٍ؛ قِيلَ لَهُ: أمّا كَوْنُهُ عاصِيًا في الطَّلاقِ (p-٨٥)فَغَيْرُ مانِعٍ صِحَّةَ وُقُوعِهِ؛ لِما دَلَّلْنا عَلَيْهِ فِيما سَلَفَ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ اللَّهَ (تَعالى) جَعَلَ الظِّهارَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا؛ وحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ وُقُوعِهِ؛ فَكَوْنُهُ عاصِيًا لا يَمْنَعُ لُزُومَ حُكْمِهِ؛ والإنْسانُ عاصٍ لِلَّهِ في رِدَّتِهِ عَنِ الإسْلامِ؛ ولَمْ يَمْنَعْ عِصْيانُهُ مِن لُزُومِ حُكْمِهِ؛ وفِراقِ امْرَأتِهِ؛ وقَدْ نَهاهُ اللَّهُ (تَعالى) عَنْ مُراجَعَتِها ضِرارًا؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ فَلَوْ راجَعَها وهو يُرِيدُ ضِرارَها لَثَبَتَ حُكْمُها؛ وصَحَّتْ رَجْعَتُهُ.
وأمّا الفارِقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الوَكِيلِ؛ فَهو أنَّ الوَكِيلَ إنَّما يُطَلِّقُ لِغَيْرِهِ؛ وعَنْهُ يُعَبِّرُ؛ ولَيْسَ يُطَلِّقُ لِنَفْسِهِ؛ ولا يَمْلِكُ ما يُوقِعُهُ؛ ألا تَرى أنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِن حُقُوقِ الطَّلاقِ؛ وأحْكامِهِ؟ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ مالِكًا لِما يُوقِعُهُ؛ وإنَّما يَصِحُّ إيقاعُهُ لِغَيْرِهِ مِن جِهَةِ الأمْرِ؛ إذْ كانَتْ أحْكامُهُ تَتَعَلَّقُ بِالأمْرِ دُونَهُ؛ لَمْ يَقَعْ مَتى خالَفَ الأمْرَ؛ وأمّا الزَّوْجُ فَهو مالِكُ الطَّلاقِ؛ وبِهِ تَتَعَلَّقُ أحْكامُهُ؛ ولَيْسَ يُوقِعُ لِغَيْرِهِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَقَعَ مِن حَيْثُ كانَ مالِكًا لِلثَّلاثِ؛ وارْتِكابُ النَّهْيِ في طَلاقِهِ غَيْرُ مانِعٍ وُقُوعَهُ؛ كَما وصَفْنا في الظِّهارِ؛ والرَّجْعَةِ؛ والرِّدَّةِ؛ وسائِرِ ما يَكُونُ بِهِ عاصِيًا؛ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ وطِئَ أُمَّ امْرَأتِهِ بِشُبْهَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأتُهُ؟ وهَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن حُكْمِ الزَّوْجِ في مِلْكِهِ لِلثَّلاثِ؛ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إذا أوْقَعَهُنَّ مَعًا وقَعَ؛ إذْ هو مُوقِعٌ لِما مَلَكَ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنا سَنَدَهُ؛ حِينَ قالَ: «أرَأيْتَ لَوْ طَلَّقْتُها ثَلاثًا؛ أكانَ لِي أنْ أُراجِعَها؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: "لا.. كانَتْ تَبِينُ؛ ويَكُونُ مَعْصِيَةً"».
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ؛ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكانَةَ؛ عَنْ أبِيهِ؛ «عَنْ جَدِّهِ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ البَتَّةَ؛ فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: "ما أرَدْتَ بِالبَتَّةِ؟"؛ قالَ: واحِدَةً؛ قالَ: "آللَّهِ؟"؛ قالَ: آللَّهِ؛ قالَ: "هُوَ عَلى ما أرَدْتَ"؛» فَلَوْ لَمْ تَقَعِ الثَّلاثُ إذا أرادَها لَما اسْتَحْلَفَهُ بِاللَّهِ ما أرادَ إلّا واحِدَةً.
وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أقاوِيلِ السَّلَفِ فِيهِ؛ وأنَّهُ يَقَعُ؛ وهو مَعْصِيَةٌ؛ فالكِتابُ؛ والسُّنَّةُ؛ وإجْماعُ السَّلَفِ؛ تُوجِبُ إيقاعَ الثَّلاثِ مَعًا؛ وإنْ كانَتْ مَعْصِيَةً.
وذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ؛ عَنْ أبِي يُوسُفَ أنَّهُ قالَ: كانَ الحَجّاجُ بْنُ أرْطاةَ خَشِنًا؛ وكانَ يَقُولُ: طَلاقُ الثَّلاثِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: اَلطَّلاقُ الثَّلاثُ تُرَدُّ إلى الواحِدَةِ؛ واحْتَجَّ بِما رَواهُ عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ؛ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «طَلَّقَ رُكانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَجْلِسٍ؛ فَحَزِنَ عَلَيْها حُزْنًا شَدِيدًا؛ فَسَألَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " كَيْفَ طَلَّقْتَها؟"؛ فَقالَ: طَلَّقْتُها ثَلاثًا؛ قالَ: "فِي مَجْلِسٍ واحِدٍ؟"؛ قالَ: نَعَمْ؛ قالَ: "فَإنَّما تِلْكَ واحِدَةٌ؛ فارْجِعْها إنْ شِئْتَ"؛ قالَ: فَرَجَعْتُها؛» وبِما رَوى أبُو عاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ؛ عَنِ (p-٨٦)ابْنِ طاوُسٍ؛ عَنْ أبِيهِ؛ «أنَّ أبا الصَّهْباءِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الثَّلاثَ كانَتْ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ؛ وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ؛ تُرَدُّ إلى الواحِدَةِ؟ قالَ: نَعَمْ؛» وقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَيْنِ الخَبَرَيْنِ مُنْكَرانِ؛ وقَدْ رَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ ومالِكُ بْنُ الحارِثِ؛ ومُحَمَّدُ بْنُ إياسٍ؛ والنُّعْمانُ بْنُ أبِي عَيّاشٍ؛ كُلُّهم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ فِيمَن طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا؛ أنَّهُ قَدْ عَصى رَبَّهُ؛ وبانَتْ مِنهُ امْرَأتُهُ؛ وقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ أبِي الصَّهْباءِ عَلى غَيْرِ هَذا الوَجْهِ؛ وهو «أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: كانَ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ؛ وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ؛ واحِدَةً؛ فَقالَ عُمَرُ: لَوْ أجَزْناهُ عَلَيْهِمْ».
وهَذا مَعْناهُ عِنْدَنا أنَّهم إنَّما كانُوا يُطَلِّقُونَ ثَلاثًا؛ فَأجازَها عَلَيْهِمْ؛ وقَدْ رَوى ابْنُ وهْبٍ قالَ: أخْبَرَنِي عَيّاشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الفِهْرِيُّ؛ عَنِ ابْنِ شِهابٍ؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ «أنْ عُوَيْمِرًا العَجْلانِيَّ؛ لَمّا لاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُ وبَيْنَ امْرَأتِهِ؛ قالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْها يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أمْسَكْتُها؛ فَهي طالِقٌ ثَلاثًا؛ فَطَلَّقَها ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ عَلَيْهِ».
وما قَدَّمْنا مِن دَلالَةِ الآيَةِ؛ والسُّنَّةِ؛ والِاتِّفاقِ؛ يُوجِبُ إيقاعَ الطَّلاقِ في الحَيْضِ؛ وإنْ كانَ مَعْصِيَةً؛ وزَعَمَ بَعْضُ الجُهّالِ؛ مِمَّنْ لا يُعَدُّ خِلافُهُ؛ أنَّهُ لا يَقَعُ إذا طَلَّقَ في الحَيْضِ؛ واحْتَجَّ بِما حَدَّثَنامُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي أبُو الزُّبَيْرِ؛ «أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أيْمَنَ؛ مَوْلى عُرْوَةَ يَسْألُ ابْنَ عُمَرَ؛ وأبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ؛ فَقالَ: كَيْفَ تَرى في رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ حائِضًا؟ فَقالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأتَهُ حائِضًا؛ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ طَلَّقَ وهي حائِضٌ؛ فَقالَ: فَرَدَّها عَلَيَّ؛ ولَمْ يَرَها شَيْئًا؛ وقالَ: "إذا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ؛ أوْ لِيُمْسِكْ"؛» قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ فَقَدْ رَواهُ جَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؛ مِن ذَلِكَ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ إبْراهِيمَ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ قالَ: «سَألْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قالَ: قُلْتُ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ؛ قالَ: تَعْرِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؛ قالَ: فَإنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ؛ فَأتى عُمَرُ النَّبِيَّ ﷺ فَسَألَهُ فَقالَ: "مُرْهُ فَلْيُراجِعْها؛ ثُمَّ لْيُطَلِّقْها في قُبُلِ عِدَّتِها"؛ قالَ: قُلْتُ: فَيُعْتَدُّ بِها؟ قالَ: فَمَهْ؟ أرَأيْتَ إنْ عَجِزَ واسْتَحْمَقَ؟» فَهَذا خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ في هَذا الحَدِيثِ؛ أنَّهُ اعْتَدَّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ في سائِرِ أخْبارِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ الشّارِعَ أمَرَهُ بِأنْ يُراجِعَها؛ ولَوْ لَمْ يَكُنِ الطَّلاقُ واقِعًا لَما احْتاجَ إلى الرَّجْعَةِ؛ وكانَتْ لا تَصِحُّ (p-٨٧)رَجْعَتُهُ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: "راجَعَ امْرَأتَهُ"؛ ولَمْ يُطَلِّقْها؛ إذْ كانَتِ الرَّجْعَةُ لا تَكُونُ إلّا بَعْدَ الطَّلاقِ؛ ولَوْ صَحَّ ما رُوِيَ أنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا كانَ مَعْناهُ أنَّهُ لَمْ يُبِنْها مِنهُ بِذَلِكَ الطَّلاقِ؛ ولَمْ تَقَعِ الزَّوْجِيَّةُ.
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾:
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَتِ الفاءُ لِلتَّعْقِيبِ؛ وقالَ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ اِقْتَضى ذَلِكَ كَوْنَ الإمْساكِ المَذْكُورِ بَعْدَ الطَّلاقِ؛ وهَذا الإمْساكُ إنَّما هو الرَّجْعَةُ؛ لِأنَّهُ ضِدُّ الطَّلاقِ؛ وقَدْ كانَ وُقُوعُ الطَّلاقِ مُوجِبُهُ التَّفْرِقَةُ عِنْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ؛ فَسَمّى اللَّهُ (تَعالى) الرَّجْعَةَ إمْساكًا لِبَقاءِ النِّكاحِ بِها بَعْدَ مُضِيِّ ثَلاثِ حِيَضٍ؛ ورَفَعَ حُكْمَ البَيْنُونَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِانْقِضاءِ العِدَّةِ؛ وإنَّما أباحَ لَهُ إمْساكَها عَلى وصْفٍ؛ وهو أنْ يَكُونَ بِمَعْرُوفٍ؛ وهو وُقُوعُهُ عَلى وجْهٍ يَحْسُنُ؛ ويَجْمُلُ؛ فَلا يَقْصِدُ بِهِ ضِرارَها؛ عَلى ما ذَكَرَهُ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١] وإنَّما أباحَ لَهُ الرَّجْعَةَ عَلى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ؛ ومَتى راجَعَ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ كانَ عاصِيًا؛ فالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ؛ بِدَلالَةِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ فَلَوْلا صِحَّةُ الرَّجْعَةِ لَما كانَ لِنَفْسِهِ ظالِمًا بِها.
وفِي قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ دَلالَةٌ عَلى وُقُوعِ الرَّجْعَةِ بِالجِماعِ؛ لِأنَّ الإمْساكَ عَلى النِّكاحِ إنَّما هو الجِماعُ؛ وتَوابِعُهُ؛ مِنَ اللَّمْسِ؛ والقُبْلَةِ؛ ونَحْوِها؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ مَن يَحْرُمُ عَلَيْهِ جِماعُها تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لا يَصِحُّ لَهُ عَقْدُ النِّكاحِ عَلَيْها؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الإمْساكَ عَلى النِّكاحِ مُخْتَصٌّ بِالجِماعِ؛ فَيَكُونُ بِالجِماعِ مُمْسِكًا لَها؛ وكَذَلِكَ اللَّمْسُ؛ والقُبْلَةُ لِلشَّهْوَةِ؛ والنَّظَرُ إلى الفَرْجِ بِشَهْوَةٍ؛ إذْ كانَتْ صِحَّةُ عَقْدِ النِّكاحِ مُخْتَصَّةً بِاسْتِباحَةِ هَذِهِ الأشْياءِ؛ فَمَتى فَعَلَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ كانَ مُمْسِكًا لَها؛ بِعُمُومِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ وأمّا قَوْلُهُ: ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وجْهانِ؛ أحَدُهُما أنَّ المُرادَ بِهِ الثّالِثَةُ؛ ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حَدِيثٌ غَيْرُ ثابِتٍ؛ مِن طَرِيقِ النَّقْلِ؛ ويَرُدُّهُ الظّاهِرُ أيْضًا؛ وهو ما حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إسْحاقَ المَرْوَزِيُّ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ الجُرْجانِيُّ قالَ: أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا الثَّوْرِيُّ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ سُمَيْعٍ؛ عَنْ أبِي رَزِينٍ قالَ: «قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ أسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ فَأيْنَ الثّالِثَةُ؟ قالَ: "اَلتَّسْرِيحُ بِإحْسانٍ"؛» وقَدْ رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ؛ مِنهُمُ السُّدِّيُّ؛ والضَّحّاكُ؛ أنَّهُ تَرْكُها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها؛ وهَذا التَّأْوِيلُ أصَحُّ؛ إذْ لَمْ يَكُنِ الخَبَرُ المَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في ذَلِكَ ثابِتًا؛ وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها أنَّ سائِرَ المَواضِعِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ (تَعالى) فِيها؛ عُقَيْبَ الطَّلاقِ؛ الإمْساكَ والفِراقَ؛ إنَّما أرادَ بِهِ تَرْكَ الرَّجْعَةِ (p-٨٨)حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها؛ مِنها قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١]؛ والمُرادُ بِالتَّسْرِيحِ تَرْكُ الرَّجْعَةِ؛ إذْ مَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يَرِدْ "فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ طَلِّقُوهُنَّ واحِدَةً أُخْرى"؛ ومِنهُ قَوْلُهُ ( تَعالى): ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ؛ أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢]؛ ولَمْ يُرِدْ بِهِ إيقاعًا مُسْتَقْبَلًا؛ وإنَّما أرادَ بِهِ تَرْكَها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها؛ والجِهَةُ الأُخْرى أنَّ الثّالِثَةَ مَذْكُورَةٌ في نَسَقِ الخِطابِ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؛ فَإذا كانَتِ الثّالِثَةُ مَذْكُورَةً في صَدْرِ هَذا الخِطابِ؛ مُفِيدَةً لِلْبَيْنُونَةِ المُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ؛ إلّا بَعْدَ زَوْجٍ؛ وجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ عَلى فائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ؛ وهي وُقُوعُ البَيْنُونَةِ بِالِاثْنَتَيْنِ؛ بَعْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ؛ وأيْضًا لَمّا كانَ مَعْلُومًا أنَّ المَقْصِدَ فِيهِ عَدَدُ الطَّلاقِ المُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ؛ ونَسْخُ ما كانَ جائِزًا مِن إيقاعِ الطَّلاقِ بِلا عَدَدٍ مَحْصُورٍ؛ فَلَوْ كانَ قَوْلُهُ ( تَعالى): ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ هو الثّالِثَةَ لَما أبانَ عَنِ المَقْصِدِ في إيقاعِ التَّحْرِيمِ بِالثَّلاثِ؛ إذْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَما دَلَّ عَلى وُقُوعِ البَيْنُونَةِ المُحَرِّمَةِ لَها؛ إلّا بَعْدَ زَوْجٍ؛ وإنَّما عُلِمَ التَّحْرِيمُ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؛ فَوَجَبَ ألّا يَكُونَ قَوْلُهُ ( تَعالى): ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾؛ هو الثّالِثَةَ؛ وأيْضًا لَوْ كانَ التَّسْرِيحُ بِإحْسانٍ هو الثّالِثَةَ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾؛ عُقَيْبَ ذَلِكَ؛ هي الرّابِعَةَ؛ لِأنَّ الفاءَ لِلتَّعْقِيبِ؛ وقَدِ اقْتَضى طَلاقًا مُسْتَقْبَلًا بَعْدَ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ هو تَرْكُها حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُها.
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؛ مُنْتَظِمٌ لِمَعانٍ؛ مِنها تَحْرِيمُها عَلى المُطَلِّقِ ثَلاثًا حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ؛ مُفِيدٌ في شَرْطِ ارْتِفاعِ التَّحْرِيمِ الواقِعِ بِالطَّلاقِ الثَّلاثِ؛ (اَلْعَقْدِ؛ والوَطْءِ) جَمِيعًا؛ لِأنَّ النِّكاحَ هو الوَطْءُ في الحَقِيقَةِ؛ وذِكْرُ الزَّوْجِ يُفِيدُ العَقْدَ؛ وهَذا مِنَ الإيجازِ؛ والِاقْتِصارِ عَلى الكِنايَةِ المُفْهِمَةِ المُغْنِيَةِ عَنِ التَّصْرِيحِ؛ وقَدْ ورَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أخْبارٌ مُسْتَفِيضَةٌ في أنَّها لا تَحِلُّ لِلْأوَّلِ حَتّى يَطَأها الثّانِي؛ مِنها حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ عُرْوَةَ؛ عَنْ عائِشَةَ؛ «أنَّ رِفاعَةَ القُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا؛ فَتَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ؛ فَجاءَتْ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَتْ إنَّها كانَتْ تَحْتَ رِفاعَةَ؛ فَطَلَّقَها آخِرَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ؛ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ؛ وإنَّهُ؛ يا رَسُولَ اللَّهِ؛ ما مَعَهُ إلّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ؛ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ: "لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفاعَةَ؛ لا.. حَتّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ؛ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"».
(p-٨٩)ورَوى ابْنُ عُمَرَ؛ وأنَسُ بْنُ مالِكٍ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ؛ ولَمْ يَذْكُرا قِصَّةَ امْرَأةِ رِفاعَةَ؛ وهَذِهِ أخْبارٌ قَدْ تَلَقّاها النّاسُ بِالقَبُولِ؛ واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى اسْتِعْمالِها؛ فَهي عِنْدَنا في حَيِّزِ التَّواتُرِ؛ ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في ذَلِكَ؛ إلّا شَيْءٌ يُرْوى عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ؛ أنَّهُ قالَ: إنَّها لا تَحِلُّ لِلْأوَّلِ بِنَفْسِ عَقْدِ النِّكاحِ؛ دُونَ الوَطْءِ؛ ولَمْ نَعْلَمْ أحَدًا تابَعَهُ عَلَيْهِ؛ فَهو شاذٌّ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؛ غايَةُ التَّحْرِيمِ: اَلْمُوقَعُ بِالثَّلاثِ؛ فَإذا وطِئَها الزَّوْجُ الثّانِي ارْتَفَعَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ المُوقَعُ؛ وبَقِيَ التَّحْرِيمُ مِن جِهَةِ أنَّها تَحْتَ زَوْجٍ كَسائِرِ النِّساءِ الأجْنَبِيّاتِ؛ فَمَتى فارَقَها الثّانِي؛ وانْقَضَتْ عِدَّتُها؛ حَلَّتْ لِلْأوَّلِ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾؛ مُرَتَّبٌ عَلى ما أوْجَبَ مِنَ العِدَّةِ عَلى المَدْخُولِ بِها؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥]؛ ونَحْوِهِما مِنَ الآيِ الحاظِرَةِ لِلنِّكاحِ في العِدَّةِ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا﴾؛ نَصَّ عَلى ذِكْرِ الطَّلاقِ؛ ولا خِلافَ أنَّ الحُكْمَ في إباحَتِها لِلزَّوْجِ الأوَّلِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلى الطَّلاقِ؛ وأنَّ سائِرَ الفُرَقِ الحادِثَةِ بَيْنَهُما؛ مِن نَحْوِ مَوْتٍ؛ أوْ رِدَّةٍ؛ أوْ تَحْرِيمٍ بِمَنزِلَةِ الطَّلاقِ؛ وإنْ كانَ المَذْكُورُ نَفْسُهُ هو الطَّلاقَ؛ وفِيهِ الدَّلالَةُ أيْضًا عَلى جَوازِ النِّكاحِ بِغَيْرِ ولِيٍّ؛ لِأنَّهُ أضافَ التَّراجُعَ إلَيْها مِن غَيْرِ ذِكْرِ الوَلِيِّ؛ وفِيهِ أحْكامٌ أُخَرُ؛ نَذْكُرُها عِنْدَ ذِكْرِنا لِأحْكامِ الخُلْعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ ولَكِنّا قَدَّمْنا ذِكْرَ الثّالِثَةِ؛ لِأنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ في المَعْنى بِذِكْرِ الِاثْنَتَيْنِ؛ وإنْ تَخَلَّلَهُما ذِكْرُ الخُلْعِ؛ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* * *
بابُ الخُلْعِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلا أنْ يَخافا ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾؛ فَحَظَرَ عَلى الزَّوْجِ بِهَذِهِ الآيَةِ أنْ يَأْخُذَ مِنها شَيْئًا مِمّا أعْطاها؛ إلّا عَلى الشَّرِيطَةِ المَذْكُورَةِ؛ وعُقِلَ بِذَلِكَ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ أخْذُ ما لَمْ يُعْطِها؛ وإنْ كانَ المَذْكُورُ هو ما أعْطاها؛ كَما أنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣]؛ قَدْ دَلَّ عَلى حَظْرِ ما فَوْقَهُ؛ مِن ضَرْبٍ؛ أوْ شَتْمٍ.
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إلا أنْ يَخافا ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾؛ قالَ طاوُسٌ: يَعْنِي فِيما افْتَرَضَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما في العِشْرَةِ؛ والصُّحْبَةِ؛ وقالَ القاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِثْلَ ذَلِكَ؛ وقالَ الحَسَنُ: هو أنْ تَقُولَ المَرْأةُ: "واللَّهِ لا أغْتَسِلُ لَكَ مِن جَنابَةٍ"؛ وقالَ أهْلُ اللُّغَةِ: ﴿إلا أنْ يَخافا﴾؛ مَعْناهُ: إلّا أنْ يَظُنّا؛ وقالَ أبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ: أنْشَدَهُ الفَرّاءُ - رَحِمَهُ اللَّهُ (تَعالى) -:
؎إذا مِتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ ∗∗∗ تَرْوِي عِظامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُها
(p-٩٠)ولا تَدْفِنَنِّي بِالعَراءِ فَإنَّنِي ... أخافُ إذا ما مِتُّ ألّا أذُوقَها
وقالَ آخَرُ:
؎أتانِي كَلامٌ عَنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ∗∗∗ وما خِفْتُ يا سَلّامُ أنَّكَ عائِبِي
يَعْنِي: ما ظَنَنْتُ؛ وهَذا الخَوْفُ مِن تَرْكِ إقامَةِ حُدُودِ اللَّهِ (تَعالى) عَلى وجْهَيْنِ؛ إمّا أنْ يَكُونَ أحَدُهُما سَيِّئَ الخُلُقِ؛ أوْ جَمِيعًا؛ فَيُفْضِيَ بِهِما ذَلِكَ إلى تَرْكِ إقامَةِ حُدُودِ اللَّهِ (تَعالى) فِيما ألْزَمَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِن حُقُوقِ النِّكاحِ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٢٨]؛ وإمّا أنْ يَكُونَ أحَدُهُما مُبْغِضًا لِلْآخَرِ؛ فَيَصْعُبَ عَلَيْهِ حُسْنُ العِشْرَةِ؛ والمُجامَلَةُ؛ فَيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ إلى مُخالَفَةِ أمْرِ اللَّهِ (تَعالى) في تَقْصِيرِهِ في الحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُهُ؛ وفِيما ألْزَمَ الزَّوْجَ؛ مِن إظْهارِ المَيْلِ إلى غَيْرِها؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: ١٢٩]؛ فَإذا وقَعَ أحَدُ هَذَيْنِ؛ وأشْفَقا مِن تَرْكِ إقامَةِ حُدُودِ اللَّهِ (تَعالى)؛ الَّتِي حَدَّها لَهُما؛ حَلَّ الخُلْعُ.
ورَوى جابِرٌ الجُعْفِيُّ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيى؛ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - أنَّهُ قالَ: كَلِماتٌ إذا قالَتْهُنَّ المَرْأةُ حَلَّ لَهُ أنْ يَأْخُذَ الفِدْيَةَ؛ إذا قالَتْ لَهُ: "لا أُطِيعُ لَكَ أمْرًا؛ ولا أبَرُّ لَكَ قَسَمًا؛ ولا أغْتَسِلُ لَكَ مِن جَنابَةٍ"؛ وقالَ المُغِيرَةُ: عَنْ إبْراهِيمَ قالَ: لا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أنْ يَأْخُذَ الفِدْيَةَ مِنَ امْرَأتِهِ إلّا أنْ تَعْصِيَهُ؛ ولا تَبَرَّ لَهُ قَسَمًا؛ وإذا فَعَلَتْ ذَلِكَ؛ وكانَ مِن قِبَلِها؛ حَلَّتْ لَهُ الفِدْيَةُ؛ وإنْ أبى أنْ يَقْبَلَ مِنها الفِدْيَةَ؛ وأبَتْ أنْ تُعْطِيَهُ؛ بَعَثا حَكَمَيْنِ؛ حَكَمًا مِن أهْلِهِ؛ وحَكَمًا مِن أهْلِها.
وذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: تَرْكُها إقامَةَ حُدُودِ اللَّهِ اسْتِخْفافًا بِحَقِّ الزَّوْجِ؛ وسُوءُ خُلُقِها؛ فَتَقُولُ: "واللَّهِ لا أبَرُّ لَكَ قَسَمًا؛ ولا أطَأُ لَكَ مَضْجَعًا؛ ولا أُطِيعُ لَكَ أمْرًا"؛ فَإذا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مِنها الفِدْيَةُ؛ ولا يَأْخُذُ أكْثَرَ مِمّا أعْطاها شَيْئًا؛ ويُخَلِّي سَبِيلَها؛ وإنْ كانَتِ الإساءَةُ مِن قِبَلِها؛ ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤]؛ يَقُولُ: إنْ كانَ عَنْ غَيْرِ ضِرارٍ؛ ولا خَدِيعَةٍ؛ فَهو هَنِيءٌ مَرِيءٌ؛ كَما قالَ اللَّهُ (تَعالى).
وقَدِ اخْتُلِفَ في نَسْخِ هَذِهِ الآيَةِ؛ فَرَوى حَجّاجٌ؛ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أبِي الصَّهْباءِ قالَ: سَألْتُ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ تُرِيدُ مِنهُ امْرَأتُهُ الخُلْعَ؛ قالَ: لا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَأْخُذَ مِنها شَيْئًا؛ قُلْتُ لَهُ: يَقُولُ اللَّهُ في كِتابِهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾؛ قالَ: هَذِهِ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا﴾ [النساء: ٢٠]؛ ورَوى أبُو عاصِمٍ؛ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: أرَأيْتَ إذا كانَتْ لَهُ ظالِمَةً؛ مُسِيئَةً؛ فَدَعاها إلى الخُلْعِ؛ أيَحِلُّ لَهُ؟ قالَ: لا؛ إمّا أنْ يَرْضى فَيُمْسِكَ؛ وإمّا أنْ يُسَرِّحَ؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهو قَوْلٌ شاذٌّ؛ يَرُدُّهُ ظاهِرُ الكِتابِ؛ والسُّنَّةِ؛ واتِّفاقُ (p-٩١)السَّلَفِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ﴾ [النساء: ٢٠]؛ اَلْآيَةَ؛ ما يُوجِبُ نَسْخَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُما مَقْصُورَةُ الحُكْمِ عَلى حالٍ مَذْكُورَةٍ فِيها؛ فَإنَّما حُظِرَ الخُلْعُ إذا كانَ النُّشُوزُ مِن قِبَلِهِ؛ وأرادَ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ؛ غَيْرِها؛ وأباحَهُ إذا خافا ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ؛ بِأنْ تَكُونَ مُبْغِضَةً لَهُ؛ أوْ سَيِّئَةَ الخُلُقِ؛ أوْ كانَ هو سَيِّئَ الخُلُقِ؛ ولا يَقْصِدُ مَعَ ذَلِكَ الإضْرارَ بِها؛ لَكِنَّهُما يَخافانِ ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ في حُسْنِ العِشْرَةِ؛ وتَوْفِيَةِ ما ألْزَمَهُما اللَّهُ (تَعالى) مِن حُقُوقِ النِّكاحِ؛ وهَذِهِ الحالُ غَيْرُ تِلْكَ؛ فَلَيْسَ في إحْداهُما ما يُعْتَرَضُ بِهِ عَلى الأُخْرى؛ ولا يُوجِبُ نَسْخَها؛ ولا تَخْصِيصَها أيْضًا؛ إذْ كُلُّ واحِدَةٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيما ورَدَتْ فِيهِ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ [النساء: ١٩]؛ إذا كانَ خِطابًا لِلْأزْواجِ؛ فَإنَّما حُظِرَ عَلَيْهِمْ أخْذُ شَيْءٍ مِن مالِها؛ إذا كانَ النُّشُوزُ مِن قِبَلِهِ؛ قاصِدًا لِلْإضْرارِ بِها؛ إلّا أنْ تَأْتِيَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ؛ فَقالَ ابْنُ سِيرِينَ؛ وأبُو قِلابَةَ: يَعْنِي أنْ يَظْهَرَ مِنها عَلى زِنًا؛ ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ؛ والزُّهْرِيِّ؛ وعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أنَّ الخُلْعَ لا يَحِلُّ إلّا مِنَ النّاشِزِ؛ فَلَيْسَ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الآياتِ نَسْخٌ؛ وجَمِيعُها مُسْتَعْمَلٌ؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":229,"ayahs":["ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِیحُۢ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ وَلَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُوا۟ مِمَّاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ شَیۡـًٔا إِلَّاۤ أَن یَخَافَاۤ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَا فِیمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ","فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَیۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَاۤ أَن یَتَرَاجَعَاۤ إِن ظَنَّاۤ أَن یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ یُبَیِّنُهَا لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَیۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَاۤ أَن یَتَرَاجَعَاۤ إِن ظَنَّاۤ أَن یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ یُبَیِّنُهَا لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق