الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ۝﴾ [البقرة: ٢٣٠]. بعدَ أنْ ذكَرَ اللهُ الطلقةَ الثالثةَ إجمالًا في الآيةِ السابقةِ: ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، ذكَرَ في هذه الآيةِ لوازِمَ الطلقةِ الثالثةِ، وما يَتْبَعُها مِن أحكامٍ، ولا يختلِفُ العلماءُ مِنَ السلفِ والخلَفِ: أنّ الزوجَ إذا طلَّقَ زوجتَهُ ثلاثًا، بانَتْ منه، ولا يَحِلُّ رجوعُها إليه إلاَّ بعدَ زواجِها زواجًا صحيحًا بآخَرَ، حكى الإجماعَ جماعةٌ، كابنِ المُنذِرِ وغيرِه. نكاحُ التحليلِ: ونِكاحُ التحليلِ كبيرةٌ مِن الكبائرِ، فقد روى التِّرْمِذيُّ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، قال: «لعَنَ رسولُ اللهِ ﷺ المُحِلَّ والمُحَلَّلَ لَهُ»[[أخرجه الترمذي (١١٢٠) (٣/٤٢٠).]]. وأبطَلَ عقدَ نِكاحِ المحلِّلِ، وأوجَبَ إعادتَهُ بشروطِهِ لفسادِهِ: مالكٌ والثَّوْريُّ، وأجاز العَقْدَ أبو حنيفةَ وصاحِباهُ ولهم قَوْلانِ في مَنعِ رجوعِها للأوَّلِ به. والشافعيُّ يَقولُ: إنْ تشارَطا على التحليلِ، فهو نكاحُ مُتْعةٍ باطلٌ مفسوخٌ، وإن لم يتشارَطا وبيَّتَها الزوجُ في النفسِ، فللشافعيِّ قَولانِ، قولُهُ القديمُ يُوافِقُ قولَ مالكٍ، والجديدُ يُوافقُ قولَ أبي حنيفةَ والنكاحُ صحيحٌ. وبعضُ السلفِ يشدِّدُ في ذلك، قال الحسنُ وإبراهيمُ: «إذا هَمَّ أحدُ الثلاثةِ بالتحليلِ، فسَدَ النكاحُ». وقال سالمٌ والقاسمُ: «لا بأسَ أنْ يتزوَّجَها لِيُحِلَّها، إذا لم يَعْلَمِ الزوجانِ، وهو مأجورٌ»، وبه قال ربيعةُ ويحيى بنُ سعيدٍ[[«تفسير القرطبي» (٤/٩٢).]]. وهذا قولٌ ضعيفٌ يُجسِّرُ على التحليلِ، وربَّما يُواطِئُ عليه ولو بالتلميحِ، فالسُّنَّةُ اشترَطَتِ الوطءَ، تضييقًا لبابِ الرجوعِ، لأنّ مِثلَهما غالبًا لا تصلُحُ أحوالُهما بعدَ طلاقِ الثلاثِ، وقد جعَلَ اللهُ لهما هذا العَدَدَ، وما بعدَهُ لا تكادُ تَطِيبُ النفوسُ به، وحتّى لا تتعلَّقَ نفوسُ الزوجَيْنِ بالرَّجْعةِ، فتتعطَّلَ حياتُهما عنِ استقبالِ زواجٍ آخرَ، والتشوُّفُ لمخرجٍ ضعيفٍ قد يَحمِلُهما على التعريضِ في المجالسِ لِمَن يُحسِنُ إليهما ـ بلا تصريحٍ ـ بزواجٍ تَرجِعُ به لزوجِها الأوَّلِ. حدُّ النكاحِ الذي ترجِعُ به المبتوتةُ لزوجها: وقد وقَع الخلافُ عندَهم في القدرِ الكافي مِن النكاحِ الذي تَرجِعُ به الزوجةُ مِن نِكاحِها الثاني إلى زوجِها الأوَّلِ، وفي المسألةِ أقوالٌ: أوَّلُهـا: أنّ العَقْدَ كافٍ، ولو لم يدخُلِ الزوجُ بها، وهذا قولُ ابنِ المسيَّبِ. ومَن أخَذَ بهذا القولِ، أخَذَ بأقلِّ ما يَدُلُّ عليه اسمُ النكاحِ، وهو العقدُ، وأنّ النكاحَ إذا أُطلِقَ في القرآنِ، فيُرادُ به العقدُ. ولم يُوافِقِ ابنَ المسيَّبِ على قولِهِ هذا مِن السلفِ أحدٌ فيما أعلمُ. ثـانيهـا: أنّ النكاحَ لا يُعتبَرُ حتّى يلتقِيَ الختانانِ، وهو الوطءُ الذي يُوجِبُ الغُسْلَ ولو لم يُنْزِلْ، وهو قولُ جمهورِ السلفِ والفقهاءِ. وذلك لأنّ النكاحَ إذا أُطلِقَ في القرآنِ، فيُرادُ به العقدُ، إلاَّ هذه الآيةَ فيُرادُ به الجماعُ، على قولِ عامَّةِ المفسِّرينَ، ولقولِهِ ﷺ: (إذا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، لم تَحِلَّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ويَذُوقَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عُسَيْلَةَ صاحِبِهِ) [[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٣٩٧٧) (٥/٥٩).]]. وظاهرُ الحديثِ: عدَمُ اعتبارِ وطءِ المكرَهَةِ والنائمةِ والمُغمى عليها، لأنّه اشترَطَ ذَوْقَهما جميعًا، وهذا فيه بيانٌ لقوَّةِ قصدِ النكاحِ، وليس التحليلَ. وذلك أنّ الزوجَ الذي يطلِّقُ زوجتَهُ ويُريدُ إعادتَها بزوجٍ آخَرَ، فلا يُريدُ أن يطأَها الآخَرُ، وإلاَّ زَهِدَتْ نفسُهُ فيها غالبًا، وهذا قطعٌ للنفوسِ أن تتلاعبَ بالشريعةِ وتتحايَلَ عليها. قال ابنُ المنذِرِ: «ومعنى ذوقِ العُسَيْلةِ هو الوَطْءُ، وعلى هذا جماعةُ العلماءِ، إلاَّ سعيدَ بنَ المسيَّبِ»[[«الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (٥/٢٣٨).]]. ثالثُها: أنّ النكاحَ لا يَصِحُّ بوطءٍ إلاَّ بوطءٍ معه إنزالٌ، قال به الحسَنُ. واستدَلَّ بعضُ أهلِ الرَّأيِ بالآيةِ على أنّ الخُلْعَ يَلحقُهُ طلاقٌ، ولا يُعتبَرُ طَلْقةً، فقد ذكَرَ اللهُ في الآيةِ السابقةِ طَلقتَيْنِ، ثمَّ ذكَرَ الفداءَ، وهو الخُلْعُ، ثمَّ قالَ: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾، ولو كان الخُلْعُ طلاقًا، لَبانَتْ منه بالخُلْعِ بعدَ طلقتَيْنِ، لا بالطَّلْقةِ الثالثةِ بعدَ طلقتَيْنِ وخُلْعٍ، وذلك أنّ اللهَ ذكَرَ الطلقةَ الثالثةَ تعقيبًا في قولِه: ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾، والفاءُ في الآيةِ لتعقيبِ الطلقةِ الثالثةِ بعدَ خُلْعٍ. وفي هذا الاستدلالِ نظَرٌ، وذلك أنّ اللهَ ذكَرَ في الآيةِ السابقةِ الطلاقَ الثلاثَ مُجْمَلًا كما تقدَّمَ، ثمَّ فصَّلَ الأمرَ في الثالثةِ بعدَما ذكَرَ الطلاقَ والخُلْعَ، لأنّ ذِكْرَ الخُلعِ بعدَ الطلقةِ الثالثةِ في غيرِ محلِّه، فهي تَبِينُ منه في الثالثةِ ولا حاجةَ للخُلْعِ بعدَه، ولكنَّ اللهَ ذكَرَ الطلاقَ الثلاثَ مُجْمَلًا، ثمَّ ذكَرَ الخُلْعَ، ثمَّ ذكَرَ أحكامَ الطلقةِ الثالثةِ. وهذا غايةُ الإحكامِ، لِيُعلَمَ أنّ الخُلْعَ لا يَنزِلُ إلاَّ قبلَ الطلقةِ الثالثةِ، ولذا ذكَرَ اللهُ الطلقةَ الثالثةَ مرَّتَيْنِ، مَرَّةً مُجمَلةً، لبيانِ عددِ الطَّلَقاتِ، ومرَّةً مفصَّلةً بعدَ ذِكْرِ الخُلْعِ. طلاقُ المختلِعةِ في عدِّتِها: وعَكْسُ هذه المسألةِ: وقوعُ الطلاقِ بعدَ خُلْعٍ، وقد اختلَفَ العلماءُ في وقوعِ الطلاقِ على المختَلِعةِ في عِدَّتِها، عـلـى قـولَيْنِ: الأوَّلُ: الجوازُ، وقال به ابنُ المسيَّبِ وشُرَيْحٌ وطاوُسٌ والنَّخَعيُّ والثَّوْريُّ وأبو حنيفةَ. الثاني: عدمُ جوازِهِ ووقوعِهِ، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ وابنِ الزُّبَيْرِ، والحسَنِ، وقال به الشافعيُّ وأحمدُ. وقال مالكٌ: إنِ افتدَتْ منه على أن يطلِّقَها ثلاثًا متتابِعًا نَسَقًا حِينَ طلَّقَها، فذلك ثابتٌ عليه، وإن كان بين ذلك صُماتٌ، فما أتْبَعَهُ بعدَ الصُّماتِ فلَيس بشيءٍ. وإذا طلَّق الرجلُ مملوكةً تَزوَّجَها، ثمَّ طلَّقها البتَّةَ، ثمَّ اشتراها، فلا تَحِلُّ له بمِلْكِ اليمينِ باتفاقِ الأئمَّةِ الأربعةِ. ورُوِيَ عنِ ابنِ عبّاسٍ وعطاءٍ وطاوُسٍ: جوازُ وطْئِهِ لها، لعمومِ قولِه: ﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٣]. والاستدلالُ بهذا العمومِ مستدرَكٌ، فالعمومُ في الآيةِ لا يَشمَلُ المَحارِمَ مِن النسبِ أو الرضاعِ. ونكاحُ الكتابيِّ يحلِّلُ الكتابيَّةَ لزَوْجِها المسلمِ الأوَّلِ، لأنّ نِكاحَهُمْ فيما بينَهم صحيحٌ. رجوعُ المطلَّقةِ لزوجِها الأوَّل بطلاق جديدٍ: ولا خلافَ عند العلماءِ: أنّ الزوْجةَ إذا صحَّ رجوعُها لِزَوْجِها الأوَّلِ: أنّها تَرجِعُ إليه بنكاحٍ جديدٍ، وطلقاتٍ جديدةٍ ثلاثٍ كاملةٍ، حكى الاتِّفاقَ ابنُ المنذِرِ[[«الأوسط» (٩/٢٨٢)، و«الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (٥/٢٤٢).]]، لظاهرِ الآيةِ، فاللهُ أرجَعَها، ورجوعُها يُحمَلُ على كَمالِه. وإذا كان قد طلَّقها طلقةً أو طلقتَيْنِ، ثمَّ بانَتْ منه، ثم تزوَّجت غيرَهُ فطلَّقها، فهَل تَرجِعُ إلى زوجِها الأوَّلِ بطَلَقاتِها الماضيةِ، أو بطلاقٍ جديدٍ؟ على قولَيْنِ للفقهاءِ: الأوَّلُ: أنّها تَرجِعُ بما بَقِيَ مِن طلاقِها، وهو قولُ الجمهورِ مِن الصحابةِ، كعُمَرَ وعليٍّ وأُبَيٍّ وعِمْرانَ وزَيْدٍ. وقال به مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ. القولُ الثاني: أنّها تَرجِعُ بطلاقٍ جديدٍ، كما أنّها رجعَتْ إليه بنكاحٍ جديدٍ، وهذا قولٌ مرويٌّ عنِ ابنِ عبّاسٍ وابنِ عُمَرَ. وهو قولُ أصحابِ ابنِ مسعودٍ، كما روى ابنُ أبي شَيْبةَ عنِ الأعمشِ عن إبراهيمَ، قال: «كان أصحابُ عبدِ اللهِ يقولونَ: أيَهْدِمُ الزوْجُ الثَّلاثَ، ولا يَهدِمُ الواحدةَ والاثنتَيْنِ؟!»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٨٣٨٨) (٤/١١٣).]]. وخالَفَهم عَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ[[ينظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (١٨٣٩٠) (٤/١١٣).]]. وللنَّخَعيِّ قولٌ غيرُ هذَيْنِ، فيفرِّقُ بين المدخولِ بها وبين غيرِ المدخولِ بها، فالمدخولُ بها تَرجِعُ بطلاقٍ جديدٍ، وغيرُ المدخولِ بها ترجِعُ بما بَقِي مِن طلاقِها[[ينظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (١٨٣٩٤) (٤/١١٣).]]. قولُه تعالى: ﴿إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ تشديدٌ في أمرِ الرجعةِ بعد الزوجِ الثاني، فقد قيَّدها بالظنِّ بالإصلاحِ، وإقامةِ أمرِ اللهِ، وفي ذلك إشارةٌ إلى ضعفِ احتمالِ صلاحِ بقاءِ الزوجَيْنِ بعدَ الثلاثِ. وهذا تشديدٌ مِن اللهِ، حتّى لا يتكرَّرَ العدوانُ والظلمُ، وبيانٌ منه أنّ مثلَ هذه الحدودِ والأحكامِ لا يُدرِكُها إلاَّ عالمٌ بصيرٌ، وربَّما استَثْقَلَها جاهلٌ، وتعدّاها فاسقٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب