الباحث القرآني

﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ لا مُتَعَلِّقًا بِآيَةِ الخُلْعِ لِيُلْزِمَ المَحْذُورَ، ويَكُونُ ذِكْرُ الخَلْعِ اعْتِراضًا لِبَيانِ أنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ مَجّانًا تارَةً وبِعِوَضٍ أُخْرى، والمَعْنى فَإنْ طَلَّقَها بَعْدَ الثِّنْتَيْنِ أوْ بَعْدَ الطَّلاقِ المَوْصُوفِ بِما تَقَدَّمَ. ﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ أيْ: مِن بَعْدِ ذَلِكَ التَّطْلِيقِ ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أيْ: تَتَزَوَّجُ زَوْجًا غَيْرَهُ ويُجامِعُها، فَلا يَكْفِي مُجَرَّدُ العَقْدِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ المُسَيِّبِ وخَطَّؤُهُ؛ لِأنَّ العَقْدَ فُهِمَ مِن زَوْجًا، والجِماعَ مِن تَنْكِحُ، وبِتَقْدِيرِ عَدَمِ الفَهْمِ، وحَمْلُ النِّكاحِ عَلى العَقْدِ تَكُونُ الآيَةُ مُطْلَقَةً إلّا أنَّ السُّنَّةَ قَيَّدَتْها، فَقَدْ أخْرَجَ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ والبُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وجَماعَةٌ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها -، قالَتْ: «جاءَتِ امْرَأةُ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فَقالَتْ: إنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي، فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ وما مَعَهُ الأمْثَلُ هُدْبَةَ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فَقالَ: أتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلى رِفاعَةَ، لا حَتّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ”،» وعَنْ عِكْرِمَةَ:“إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في هَذِهِ المَرْأةِ، واسْمُها عائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ، وكانَ نَزَلَ فِيها ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ ”، فَيُجامِعُها، فَإنْ طَلَّقَها بَعْدَ ما جامَعَها، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَراجَعا، وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّ النّاكِحَ الثّانِيَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ زَوْجًا، فَلَوْ كانَتْ أمَةً وطُلِّقَتْ ألْبَتَّةَ، ثُمَّ وطِئَها سَيِّدُها لا تَحِلُّ لِلْأوَّلِ، وعَلى أنَّهُ لَوِ اشْتَراها الزَّوْجُ مِن سَيِّدِها أوْ وهَبَها سَيِّدُها لَهُ بَعْدَ أنْ بَتَّ طَلاقَها، لَمْ يَحِلَّ لَهُ وطْؤُها في الصُّورَتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ وعَلى أنَّ الوَلِيَّ لَيْسَ شَرْطًا في النِّكاحِ؛ لِأنَّهُ أضافَ العَقْدَ إلَيْها، والحِكْمَةُ في هَذا الحُكْمِ رَدْعُ الزَّوْجِ عَنِ التَّسَرُّعِ إلى الطَّلاقِ؛ لِأنَّهُ إذا عُلِمَ أنَّهُ إذا بَتَّ الطَّلاقَ لا تَحِلُّ لَهُ حَتّى يُجامِعَها رَجُلٌ آخَرُ، ولَعَلَّهُ عَدُّوهُ ارْتَدَعَ عَنْ أنْ يُطَلِّقَها ألْبَتَّةَ؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ جائِزًا شَرْعًا، لَكِنْ تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّباعُ وتَأْباهُ غَيْرَةُ الرِّجالِ، والنِّكاحُ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ فاسِدٌ عِنْدَ مالِكٍ وأحْمَدَ والثَّوْرِيِّ والظّاهِرِيَّةِ وكَثِيرِينَ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «“ألا أُخْبِرُكم بِالتَّيْسِ المُسْتَعارِ؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: هو المُحَلِّلُ، لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلُ لَهُ» وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -، قالَ: لا أُوتى بِمُحَلِّلٍ ولا مُحَلَّلٍ لَهُ إلّا رَجَمْتُهُما"، والبَيْهَقِيُّ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ أنَّ عُثْمانَ (p-142)- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأةً لِيُحَلِّلها لِزَوْجِها فَفَرَّقَ بَيْنَهُما، وقالَ: لا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلّا بِنِكاحِ رَغْبَةٍ غَيْرِ دُلْسَةٍ، وعِنْدَنا هو مَكْرُوهٌ. والحَدِيثُ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ صِحَّةِ النِّكاحِ؛ لِما أنَّ المَنعَ عَنِ العَقْدِ لا يَدُلُّ عَلى فَسادِهِ، وفي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ مُحَلِّلًا ما يَقْتَضِي الصِّحَّةَ؛ لِأنَّها سَبَبُ الحِلِّ، وحَمَلَ بَعْضُهُمُ الحَدِيثَ عَلى مَنِ اتَّخَذَهُ تَكَسُّبًا أوْ عَلى ما إذا شَرَطَ التَّحْلِيلَ في صُلْبِ العَقْدِ لا عَلى مَن أضْمَرَ ذَلِكَ في نَفْسِهِ، فَإنَّهُ لَيْسَ بِتِلْكَ المَرْتَبَةِ، بَلْ قِيلَ: إنَّ فاعِلَ ذَلِكَ مَأْجُورٌ ﴿فَإنْ طَلَّقَها﴾ الزَّوْجُ الثّانِي ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما﴾ أيْ: عَلى الزَّوْجِ الأوَّلِ والمَرْأةِ ﴿أنْ يَتَراجَعا﴾ أنْ يَرْجِعَ كُلٌّ مِنهُما إلى صاحِبِهِ بِالزَّواجِ بَعْدَ مُضِيِّ العِدَّةِ ﴿إنْ ظَنّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾ إنْ كانَ في ظَنِّهِما أنَّهُما يُقِيمانِ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي حَدَّها اللَّهُ - تَعالى - وشَرَعَها، وتَفْسِيرُ الظَّنِّ بِالعِلْمِ هَهُنا قِيلَ: غَيْرُ صَحِيحٌ لَفْظًا، أمّا مَعْنى فَلِأنَّهُ لا يَعْلَمُ ما في المُسْتَقْبَلِ يَقِينًا في الأكْثَرِ، وأمّا لَفْظا فَلِأنَّ أنِ المَصْدَرِيَّةَ لِلتَّوَقُّعِ وهو يُنافِي العِلْمَ، ورُدَّ بِأنَّ المُسْتَقْبَلَ قَدْ يُعْلَمُ ويُتَيَقَّنُ في بَعْضِ الأُمُورِ وهو يَكْفِي لِلصِّحَّةِ، وبِأنَّ سِيبَوَيْهِ أجازَ - وهو شَيْخُ العَرَبِيَّةِ - ما عَلِمْتُ إلّا أنْ يَقُومَ زَيْدٌ والمُخالِفُ لَهُ فِيهِ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، ولا يَخْفى أنَّ الِاعْتِراضَ الأوَّلَ فِيما نَحْنُ فِيهِ مِمّا لا يُجْدِي نَفْعًا؛ لِأنَّ المُسْتَقْبَلَ وإنْ كانَ قَدْ يُعْلَمُ في بَعْضِ الأُمُورِ إلّا أنَّ ما هُنا لَيْسَ كَذَلِكَ، ولَيْسَ المُراجَعَةُ مَرْبُوطَةً بِالعِلْمِ، بَلِ الظَّنُّ يَكْفِي فِيها، ﴿وتِلْكَ﴾ إشارَةٌ إلى الأحْكامِ المَذْكُورَةِ إلى هُنا ﴿حُدُودَ اللَّهِ﴾ أيْ: أحْكامِهِ المُعَيَّنَةِ المَحْمِيَّةِ مِنَ التَّعَرُّضِ لَها بِالتَّغْيِيرِ والمُخالَفَةِ ﴿يُبَيِّنُها﴾ بِهَذا البَيانِ اللّائِقِ، أوْ سـيُبَيِّنُها بِناءً عَلى أنْ بَعْضَها يَلْحَقُهُ زِيادَةُ كَشْفٍ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُهُ في مِثْلِ ذَلِكَ، أوْ حالٌ مِن حُدُودُ اللَّهِ والعامِلُ مَعْنى الإشارَةِ، وقُرِئَ (نُبَيِّنُها) بِالنُّونِ عَلى الِالتِفاتِ ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 230﴾ أيْ: يَفْهَمُونَ ويَعْمَلُونَ بِمُقْتَضى العِلْمِ، فَهو لِلتَّحْرِيضِ عَلى العَمَلِ - كَما قِيلَ - أوْ لِأنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِالبَيانِ، أوْ لِأنَّ ما سَيَلْحَقُ بَعْضَ الحُدُودِ مِنهُ لا يَعْقِلُهُ إلّا الرّاسِخُونَ، أوْ لِيُخْرِجَ غَيْرَ المُكَلَّفِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب