الباحث القرآني
* بابُ صَلاةِ الخَوْفِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ الآيَةَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ صَلاةُ الخَوْفِ عَلى ضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ واخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ فِيها، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ تَقُومُ طائِفَةٌ مَعَ الإمامِ وطائِفَةٌ بِإزاءِ العَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إلى مَقامِ أصْحابِهِمْ، ثُمَّ تَأْتِي الطّائِفَةُ الأُخْرى الَّتِي بِإزاءِ العَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ ويُسَلِّمُ ويَنْصَرِفُونَ إلى مَقامِ أصْحابِهِمْ، ثُمَّ تَأْتِي الطّائِفَةُ الَّتِي بِإزاءِ العَدُوِّ فَيَقْضُونَ رَكْعَةً بِغَيْرِ قِراءَةٍ ويَتَشَهَّدُونَ ويُسَلِّمُونَ ويَذْهَبُونَ إلى وجْهِ العَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطّائِفَةُ الأُخْرى فَيَقْضُونَ رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ بِقِراءَةٍ " .
وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: " إذا كانَ العَدُوُّ بَيْنَهم وبَيْنَ القِبْلَةِ جَعَلَ النّاسَ طائِفَتَيْنِ، فَيُكَبِّرُ ويُكَبِّرُونَ ويَرْكَعُ ويَرْكَعُونَ جَمِيعًا مَعَهُ، وسَجَدَ الإمامُ والصَّفُّ الأوَّلُ، ويَقُومُ الصَّفُّ الآخَرُ في وُجُوهِ العَدُوِّ، فَإذا قامُوا مِنَ السُّجُودِ (p-٢٣٧)سَجَدَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ، فَإذا فَرَغُوا مِن سُجُودِهِمْ قامُوا وتَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ وتَأخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، فَيُصَلِّي بِهِمُ الإمامُ الرَّكْعَةَ الأُخْرى كَذَلِكَ، وإنْ كانَ العَدُوُّ في دُبُرِ القِبْلَةِ قامَ الإمامُ ومَعَهُ صَفٌّ مُسْتَقْبِلٌ القِبْلَةَ والصَّفُّ الآخَرُ مُسْتَقْبِلٌ العَدُوَّ، فَيُكَبِّرُ ويُكَبِّرُونَ جَمِيعًا ويَرْكَعُ ويَرْكَعُونَ جَمِيعًا، ثُمَّ يَسْجُدُ الصَّفُّ الَّذِي مَعَ الإمامِ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ فَيَكُونُونَ مُسْتَقْبِلِي العَدُوِّ، ثُمَّ يَجِيءُ الآخَرُونَ فَيَسْجُدُونَ ويُصَلِّي بِهِمُ الإمامُ جَمِيعًا الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ، فَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا ويَسْجُدُ الصَّفُّ الَّذِي مَعَهُ، ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ إلى وجْهِ العَدُوِّ، ويَجِيءُ الآخَرُونَ فَيَسْجُدُونَ مَعَهُ ويَفْرُغُونَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الإمامُ وهم جَمِيعًا " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ورُوِيَ عَنْ أبِي يُوسُفَ في صَلاةِ الخَوْفِ ثَلاثُ رِواياتٍ، إحْداها مِثْلُ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ، والأُخْرى مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ أبِي لَيْلى إذا كانَ العَدُوُّ في القِبْلَةِ، وإذا كانَ في غَيْرِ القِبْلَةِ فَمِثْلُ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ.
والثّالِثَةُ أنَّهُ لا تُصَلّى بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ صَلاةُ الخَوْفِ بِإمامٍ واحِدٍ وإنَّما تُصَلّى بِإمامَيْنِ كَسائِرِ الصَّلَواتِ. ورُوِيَ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ. ورُوِيَ أيْضًا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ أبِي لَيْلى وقالَ: " إنْ فَعَلْتَ كَذَلِكَ جازَ " وقالَ مالِكٌ: " يَتَقَدَّمُ الإمامُ بِطائِفَةٍ وطائِفَةٌ بِإزاءِ العَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ ويَقُومُ قائِمًا وتُتِمُّ الطّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ لِأنْفُسِها رَكْعَةً أُخْرى، ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ ويُسَلِّمُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلى مَكانِ الطّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ فَيَقُومُونَ مَكانَهم، وتَأْتِي الطّائِفَةُ الأُخْرى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ ويُسَلِّمُ ويَقُومُونَ فَيُتِمُّونَ لِأنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ " قالَ ابْنُ القاسِمِ: كانَ مالِكٌ يَقُولُ: " لا يُسَلِّمُ الإمامُ حَتّى تُتِمَّ الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ لِأنْفُسِها، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ " لِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ؛ ثُمَّ رَجَعَ إلى حَدِيثِ القاسِمِ وفِيهِ أنَّ الإمامَ يُسَلِّمُ، ثُمَّ تَقُومُ الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ فَيَقْضُونَ. وقالَ الشّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِ مالِكٍ، إلّا أنَّهُ قالَ: " الإمامُ لا يُسَلِّمُ حَتّى تُتِمَّ الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ لِأنْفُسِها، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ " . وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ مِثْلَ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ، إلّا أنَّهُ قالَ: " الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ إذا صَلَّتْ مَعَ الإمامِ وسَلَّمَ الإمامُ قَضَتْ لِأنْفُسِها الرَّكْعَةَ الَّتِي لَمْ يُصَلُّوها مَعَ الإمامِ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ وتَجِيءُ الطّائِفَةُ الأُولى فَتَقْضِي بَقِيَّةَ صَلاتِها " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: أشَدُّ هَذِهِ الأقاوِيلُ مُوافَقَةً لِظاهِرِ الآيَةِ قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: (p-٢٣٨)﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ وفي ضِمْنِ ذَلِكَ أنَّ طائِفَةً مِنهم بِإزاءِ العَدُوِّ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ الطّائِفَةَ الَّتِي بِإزاءِ العَدُوِّ وجائِزٌ أنْ يُرِيدَ بِهِ الطّائِفَةَ المُصَلِّيَةَ؛ والأوْلى أنْ يَكُونَ الطّائِفَةُ الَّتِي بِإزاءِ العَدُوِّ؛ لِأنَّها تَحْرُسُ هَذِهِ المُصَلِّيَةَ؛ وقَدْ عُقِلَ مِن ذَلِكَ أنَّهم لا يَكُونُونَ جَمِيعًا مَعَ الإمامِ لِأنَّهم لَوْ كانُوا مَعَ الإمامِ لَما كانَتْ طائِفَةٌ مِنهم قائِمَةً مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بَلْ يَكُونُونَ جَمِيعًا مَعَهُ، وذَلِكَ خِلافُ الآيَةِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكُمْ﴾ وعَلى مَذْهَبِ مالِكٍ يَقْضُونَ لِأنْفُسِهِمْ ولا يَكُونُونَ مِن ورائِهِمْ إلّا بَعْدَ القَضاءِ. وفي الآيَةِ الأمْرُ لَهم بِأنْ يَكُونُوا بَعْدَ السُّجُودِ مِن ورائِهِمْ، وذَلِكَ مُوافِقٌ لِقَوْلِنا. ثُمَّ قالَ: ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الإمامَ يَجْعَلُهم طائِفَتَيْنِ في الأصْلِ: طائِفَةٌ مَعَهُ، وطائِفَةٌ بِإزاءِ العَدُوِّ عَلى ما قالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى﴾ وعَلى مَذْهَبِ مُخالِفِنا هي مَعَ الإمامِ لا تَأْتِيهِ.
والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ وذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الصَّلاةِ، ومُخالِفُنا يَقُولُ: يَفْتَتِحُ الجَمِيعُ الصَّلاةَ مَعَ الإمامِ فَيَكُونُونَ حِينَئِذٍ بَعْدَ الِافْتِتاحِ فاعِلِينَ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلاةِ؛ وذَلِكَ خِلافُ الآيَةِ فَهَذِهِ الوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنا مِن مَعْنى الآيَةِ مُوافِقَةٌ لِمَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ. وقَوْلُنا مُوافِقٌ لِلسُّنَّةِ الثّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولِلْأُصُولِ، وذَلِكَ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإذا رَكَعَ فارْكَعُوا وإذا سَجَدَ فاسْجُدُوا» وقالَ: «إنِّي امْرُؤٌ قَدْ بَدَّنْتُ فَلا تُبادِرُونِي بِالرُّكُوعِ ولا بِالسُّجُودِ» . ومِن مَذْهَبِ المُخالِفِ أنَّ الطّائِفَةَ الأُولى تَقْضِي صَلاتَها وتَخْرُجَ مِنها قَبْلَ الإمامِ. وفي الأُصُولِ أنَّ المَأْمُومَ مَأْمُورٌ بِمُتابَعَةِ الإمامِ لا يَجُوزُ لَهُ الخُرُوجُ مِنها قَبْلَهُ؛ وأيْضًا جائِزٌ أنْ يَلْحَقَ الإمامَ سَهْوٌ يَلْزَمُ المَأْمُومَ ولا يُمَكِّنُ الخارِجِينَ مِن صَلاتِهِ قَبْلَ فَراغِهِ أنْ يَسْجُدُوا.
ويُخالِفُ هَذا القَوْلُ الأُصُولَ مِن جِهَةٍ أُخْرى، وهي اشْتِغالُ المَأْمُومِ بِقَضاءِ صَلاتِهِ والإمامُ قائِمٌ أوْ جالِسٌ تارِكٌ لِأفْعالِ الصَّلاةِ، فَيَحْصُلُ بِهِ مُخالَفَةُ الإمامِ في الفِعْلِ وتَرْكِ الإمامِ لِأفْعالِ الصَّلاةِ لِأجْلِ المَأْمُومِ، وذَلِكَ يُنافِي مَعْنى الِاقْتِداءِ والِائْتِمامِ ومَنعِ الإمامِ مِنَ الِاشْتِغالِ بِالصَّلاةِ لِأجْلِ المَأْمُومِ؛ فَهَذانِ وجْهانِ أيْضًا خارِجانِ مِنَ الأُصُولِ.
فَإنْ قِيلَ: جائِزٌ أنْ تَكُونَ صَلاةُ الخَوْفِ مَخْصُوصَةً بِجَوازِ انْصِرافِ الطّائِفَةِ الأُولى قَبْلَ الإمامِ كَما جازَ المَشْيُ فِيها. قِيلَ لَهُ: المَشْيُ لَهُ نَظِيرٌ في الأُصُولِ، وهو الرّاكِبُ المُنْهَزِمُ. يُصَلِّي وهو سائِرٌ (p-٢٣٩)بِالِاتِّفاقِ؛ فَكانَ لِما ذَكَرْنا أصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَجازَ أنْ لا تَفْسُدَ صَلاةُ الخَوْفِ.
وأيْضًا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنا أنَّ الَّذِي سَبَقِهِ الحَدَثُ في الصَّلاةِ يَنْصَرِفُ ويَتَوَضَّأُ ويَبْنِي، قَدْ ورَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ رَوى ابْنُ عَبّاسٍ وعائِشَةُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «مَن قاءَ أوْ رَعُفَ في صَلاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ ولْيَتَوَضَّأْ ولْيَبْنِ عَلى ما مَضى مِن صَلاتِهِ»، والرَّجُلُ يَرْكَعُ ويَمْشِي إلى الصَّفِّ فَلا تَبْطُلُ صَلاتُهُ؛ ورَكَعَ أبُو بَكْرٍ حِينَ دَخَلَ المَسْجِدَ ومَشى إلى الصَّفِّ، فَلَمّا فَرَغَ النَّبِيُّ ﷺ قالَ لَهُ: «زادَكَ اللَّهُ حِرْصًا ولا تَعُدْ» ولَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنافِ الصَّلاةِ، فَكانَ لِلْمَشْيِ في الصَّلاةِ نَظائِرُ في الأُصُولِ ولَيْسَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاةِ قَبْلَ فَراغِ الإمامِ نَظِيرٌ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ. وأيْضًا فَإنَّ المَشْيَ فِيها اتِّفاقٌ بَيْنَنا وبَيْنَ مالِكٍ والشّافِعِيِّ، ولَمّا قامَتْ بِهِ الدَّلالَةُ سَلَّمْناهُ لَها، وما عَدا ذَلِكَ فَواجِبٌ حَمْلُهُ عَلى مُوافَقَةِ الأُصُولِ حَتّى تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى جَوازِ خُرُوجِهِ عَنْها.
ومِمّا يَدُلُّ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ عَلى ما وُصِفَ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً والطّائِفَةُ الأُخْرى مُواجِهَةُ العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وقامُوا في مَقامِ أُولَئِكَ وجاءَ أُولَئِكَ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرى، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قامَ هَؤُلاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهم وقامَ هَؤُلاءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهم»؛ قالَ أبُو داوُدَ: وكَذَلِكَ رَواهُ نافِعٌ وخالِدُ بْنُ مَعْدانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ؛ وقالَ أبُو داوُدَ: وكَذَلِكَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ ويُوسُفَ بْنِ مِهْرانَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وكَذَلِكَ رَوى يُونُسُ عَنِ الحَسَنِ عَنْ أبِي مُوسى أنَّهُ فَعَلَهُ. وقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: " فَقَضى هَؤُلاءِ رَكْعَةً وهَؤُلاءِ رَكْعَةً " عَلى أنَّهم قَضَوْا عَلى وجْهٍ يُجَوِّزُ القَضاءَ، وهو أنْ تَرْجِعَ الثّانِيَةُ إلى مَقامِ الأُولى وجاءَتِ الأُولى فَقَضَتْ رَكْعَةً وسَلَّمَتْ ثُمَّ جاءَتِ الثّانِيَةُ فَقَضَتْ رَكْعَةً وسَلَّمَتْ. وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ في حَدِيثِ خُصَيْفٍ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى في حَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ صَلاةَ الخَوْفِ، قامَ فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وكانَ العَدُوُّ في غَيْرِ القِبْلَةِ، فَصَفَّ مَعَهُ صَفًّا وأخَذَ صَفٌّ السِّلاحَ واسْتَقْبَلُوا العَدُوَّ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والصَّفُّ الَّذِي مَعَهُ، ثُمَّ رَكَعَ ورَكَعَ الصَّفُّ الَّذِي مَعَهُ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الصَّفُّ الَّذِينَ صُفُّوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَأخَذُوا السِّلاحَ، وتَحَوَّلَ الآخَرُونَ فَقامُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَرَكَعَ النَّبِيُّ ﷺ ورَكَعُوا وسَجَدَ وسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ فَذَهَبَ الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ وجاءَ الآخَرُونَ فَقَضَوْا رَكْعَةً فَلَمّا فَرَغُوا أخَذُوا السِّلاحَ، وتَحَوَّلَ الآخَرُونَ وصَلَّوْا رَكْعَةً؛ فَكانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ رَكْعَتانِ (p-٢٤٠)ولِلْقَوْمِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ»؛ فَبَيَّنَ في هَذا الحَدِيثِ انْصِرافَ الطّائِفَةِ الثّانِيَةِ قَبْلَ قَضاءِ الرَّكْعَةِ الأُولى، وهو مَعْنى ما أجْمَلَهُ ابْنُ عُمَرَ في حَدِيثِهِ.
وقَدْ رُوِيَ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِن رِوايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: «أنَّ الطّائِفَةَ الثّانِيَةَ قَضَتْ رَكْعَةً لِأنْفُسِها قَبْلَ قَضاءِ الطّائِفَةِ الأُولى الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْها»، والصَّحِيحُ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا؛ لِأنَّ الطّائِفَةَ الأُولى قَدْ أدْرَكَتْ أوَّلَ الصَّلاةِ والثّانِيَةَ لَمْ تُدْرِكْ، فَغَيْرُ جائِزٍ لِلثّانِيَةِ الخُرُوجُ مِن صَلاتِها قَبْلَ الأُولى؛ ولِأنَّهُ لَمّا كانَ مِن حُكْمِ الطّائِفَةِ الأُولى أنْ تُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ في مَقامَيْنِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الثّانِيَةِ أنْ تَقْضِيَهُما في مَقامَيْنِ لا في مَقامٍ واحِدٍ لِأنَّ سَبِيلَ صَلاةِ الخَوْفِ أنْ تَكُونَ مَقْسُومَةً بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ عَلى التَّعْدِيلِ بَيْنَهُما فِيها.
واحْتَجَّ مالِكٌ بِحَدِيثٍ رَواهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وذَكَرَ فِيهِ أنَّ الطّائِفَةَ الأُولى صَلَّتِ الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وهَذا لَمْ يَرْوِهِ أحَدٌ إلّا يَزِيدُ بْنُ رُومانَ؛ وقَدْ خُولِفَ فِيهِ فَرَوى شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القاسِمِ عَنْ أبِيهِ عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى بِهِمْ صَلاةَ الخَوْفِ فَصَفَّ صَفًّا خَلْفَهُ وصَفَّ مَصافَّ العَدُوِّ، فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبَ هَؤُلاءِ وجاءَ أُولَئِكَ، فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قامُوا فَقَضَوْا رَكْعَةً رَكْعَةً» .
فَفِي هَذا الحَدِيثِ أنَّ الطّائِفَةَ الأُولى لَمْ تَقْضِ الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ إلّا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن صَلاتِهِ؛ وهَذا أوْلى لِما قَدَّمْناهُ مِن دَلائِلِ الأُصُولِ عَلَيْهِ. وقَدْ رَوى يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ القاسِمِ عَنْ صالِحٍ مِثْلَ رِوايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ. وفي حَدِيثِ مالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ أنَّ تِلْكَ الصَّلاةَ إنَّما كانَتْ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِذاتِ الرِّقاعِ؛ وقَدْ رَوى يَحْيى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ جابِرٍ قالَ: «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِذاتِ الرِّقاعِ، فَصَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِطائِفَةٍ مِنهم، ثُمَّ انْصَرَفُوا وجاءَ الآخَرُونَ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ؛ فَصَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أرْبَعًا وكُلُّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ»؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى اضْطِرابِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ صَلاةُ الخَوْفِ عَلى وُجُوهٍ أُخَرَ، فاتَّفَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ وجابِرٌ وحُذَيْفَةُ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً والطّائِفَةُ الأُخْرى مُواجِهُونَ العَدُوَّ، ثُمَّ صَلّى بِالطّائِفَةِ الأُخْرى رَكْعَةً، وأنَّ أحَدًا مِنهم لَمْ يَقْضِ بَقِيَّةَ صَلاتِهِ قَبْلَ فَراغِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . ورَوى صالِحُ بْنُ خَوّاتٍ عَلى ما قَدِ اخْتُلِفَ عَنْهُ فِيهِ
مِمّا قَدَّمْنا ذِكْرَهُ.
ورَوى أبُو عَيّاشٍ الزُّرَقِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في صَلاةِ الخَوْفِ نَحْوَ (p-٢٤١)المَذْهَبِ الَّذِي حَكَيْناهُ عَنِ ابْنِ أبِي لَيْلى وأبِي يُوسُفَ إذا كانَ العَدُوُّ في القِبْلَةِ. ورَوى أيُّوبُ وهِشامٌ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ هَذا المَعْنى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وكَذَلِكَ رَواهُ داوُدُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وكَذَلِكَ عَبْدُ المَلِكِ عَنْ عَطاءِ بْنِ جابِرٍ، وكَذَلِكَ قَتادَةُ عَنِ الحَسَنِ عَنْ حِطّانَ عَنْ أبِي مُوسى مِن فِعْلِهِ. ورَواهُ عِكْرِمَةُ بْنُ خالِدٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وكَذَلِكَ هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ . وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وجابِرٍ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ قَبْلَ هَذا، واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنْهُما فِيها.
ورُوِيَ فِيها نَوْعٌ آخَرُ، وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُقْرِي قالَ: حَدَّثَنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ وابْنُ لَهِيعَةَ قالا: أخْبَرَنا أبُو الأسْوَدِ أنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ مَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ أنَّهُ سَألَ أبا هُرَيْرَةَ: هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ ؟ فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ؛ قالَ مَرْوانُ: مَتى ؟ فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ عامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ «قامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى صَلاةِ العَصْرِ فَقامَتْ مَعَهُ طائِفَةٌ وطائِفَةٌ أُخْرى مُقابِلَ العَدُوِّ وظُهُورُهم إلى القِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَكَبَّرُوا جَمِيعًا الَّذِينَ مَعَهُ واَلَّذِينَ مُقابِلِي العَدُوِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَكْعَةً واحِدَةً ورَكَعَتِ الطّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَجَدَتِ الطّائِفَةُ الَّتِي تَلِيهِ والآخَرُونَ قِيامٌ مُقابِلِي العَدُوِّ، ثُمَّ قامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقامَتِ الطّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ فَذَهَبُوا إلى العَدُوِّ فَقابَلُوهم وأقْبَلَتِ الطّائِفَةُ الَّتِي كانَتْ مُقابِلِي العَدُوِّ فَرَكَعُوا وسَجَدُوا ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ قائِمٌ كَما هو، ثُمَّ قامُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَكْعَةً أُخْرى ورَكَعُوا مَعَهُ وسَجَدَ وسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أقْبَلَتِ الطّائِفَةُ الَّتِي كانَتْ مُقابِلِي العَدُوِّ فَرَكَعُوا وسَجَدُوا ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ قاعِدٌ ومَن مَعَهُ، ثُمَّ كانَ السَّلامُ فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وسَلَّمُوا جَمِيعًا؛ فَكانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَكْعَتانِ ولِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ» .
وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ نَوْعٌ آخَرُ مِن صَلاةِ الخَوْفِ، وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعاذٍ قالَ: حَدَّثَنا أبِي قالَ: حَدَّثَنا الأشْعَثُ عَنِ الحَسَنِ عَنْ أبِي بَكْرَةَ قالَ: «صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في خَوْفٍ الظُّهْرَ، فَصَفَّ بَعْضَهم خَلْفَهُ وبَعْضَهم بِإزاءِ العَدُوِّ، فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلَّوْا فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أصْحابِهِمْ، ثُمَّ جاءَ أُولَئِكَ فَصَلُّوا خَلْفَهُ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ؛ فَكانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أرْبَعًا ولِأصْحابِهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ»، وبِذَلِكَ كانَ يُفْتِي الحَسَنُ. قالَ أبُو داوُدَ: وكَذَلِكَ رَواهُ يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وكَذَلِكَ رَواهُ سُلَيْمانُ (p-٢٤٢)اليَشْكُرِيُّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ قَدَّمْنا قَبْلَ ذَلِكَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ وجابِرًا رَوَيا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ صَلّى بِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَةً رَكْعَةً فَكانَ لِرَسُولِ اللَّهِ رَكْعَتانِ ولِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَةٌ»
وأنَّ هَذا مَحْمُولٌ عِنْدَنا عَلى أنَّهُ كانَ رَكْعَةً في جَماعَةٍ وفَعَلَها مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَذَهَبَ ابْنُ أبِي لَيْلى وأبُو يُوسُفَ إذا كانَ العَدُوُّ في القِبْلَةِ إلى حَدِيثِ أبِي عَيّاشٍ الزُّرَقِيِّ الَّذِي ذَكَرْناهُ.
وجائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ صَلّى هَذِهِ الصَّلَواتِ عَلى الوُجُوهِ الَّتِي ورَدَتْ بِها الرِّواياتُ وذَلِكَ؛ لِأنَّها لَمْ تَكُنْ صَلاةً واحِدَةً فَتَتَضادُّ الرِّواياتُ فِيها وتَتَنافى، بَلْ كانَتْ صَلَواتٍ في مَواضِعَ مُخْتَلِفَةٍ؛ بِعَسْفانَ في حَدِيثِ أبِي عَيّاشٍ الزُّرَقِيِّ، وفي حَدِيثِ جابِرٍ بِبَطْنِ النَّخْلِ؛ ومِنها حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ في غَزْوَةِ نَجْدٍ وذَكَرَ فِيهِ أنَّ الصَّلاةَ كانَتْ بِذاتِ الرِّقاعِ، وصَلّاها في حَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ. ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ قَدْ صَلّى في بَعْضِ هَذِهِ المَواضِعِ عِدَّةَ صَلَواتٍ؛ لِأنَّ في بَعْضِ حَدِيثِ جابِرٍ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: " إنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى بِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ذَكَرَ أنَّهُ كانَ بِذاتِ الرِّقاعِ، وفي حَدِيثِ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ أيْضًا أنَّهُ صَلّاها بِذاتِ الرِّقاعِ؛ وهُما مُخْتَلِفانِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما ذَكَرَ فِيهِ مِن صِفَةِ صَلاتِهِ خِلافَ صِفَةِ الأُخْرى؛ وكَذَلِكَ حَدِيثُ أبِي عَيّاشٍ الزُّرَقِيِّ ذَكَرَ أنَّهُ صَلّاها بِعَسْفانَ، وذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا أنَّهُ صَلّاها بِعَسْفانَ؛ فَرُوِيَ تارَةً نَحْوُ حَدِيثِ أبِي عَيّاشٍ وتارَةً عَلى خِلافِهِ.
واخْتِلافُ هَذِهِ الآثارِ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ صَلّى هَذِهِ الصَّلَواتِ عَلى اخْتِلافِها عَلى حَسَبِ وُرُودِ الرِّواياتِ بِها وعَلى ما رَآهُ النَّبِيُّ احْتِياطًا في الوَقْتِ مِن كَيْدِ العَدُوِّ وما هو أقْرَبُ إلى الحَذَرِ والتَّحَرُّزِ عَلى ما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ مِن أخْذِ الحَذَرِ في قَوْلِهِ: ﴿ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهم ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكم وأمْتِعَتِكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكم مَيْلَةً واحِدَةً﴾ ولِذَلِكَ كانَ الِاجْتِهادُ سائِغًا في جَمِيعِ أقاوِيلِ الفُقَهاءِ عَلى اخْتِلافِها؛ لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيها إلّا أنَّ الأوْلى عِنْدَنا ما وافَقَ ظاهِرَ الكِتابِ والأُصُولِ.
وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الثّابِتُ الحُكْمِ مِنها واحِدًا والباقِي مَنسُوخٌ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الجَمِيعُ ثابِتًا غَيْرَ مَنسُوخٍ تَوْسِعَةً وتَرْفِيهًا لِئَلّا يُحْرَجَ مَن ذَهَبَ إلى بَعْضِها، ويَكُونُ الكَلامُ في الأفْضَلِ مِنها كاخْتِلافِ الرِّواياتِ في التَّرْجِيعِ في الأذانِ وفي تَثْنِيَةِ الإقامَةِ وتَكْبِيراتِ العِيدَيْنِ والتَّشْرِيقِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا الكَلامُ فِيهِ بَيْنَ الفُقَهاءِ في الأفْضَلِ؛ فَمَن ذَهَبَ إلى وجْهٍ مِنها فَغَيْرُ مُعَنَّفٍ عَلَيْهِ في اخْتِيارِهِ، وكانَ الأوْلى عِنْدَنا ما وافَقَ ظاهِرَ الآيَةِ والأُصُولَ.
وفِي حَدِيثِ جابِرٍ وأبِي بَكْرَةَ (p-٢٤٣)أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى بِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ كانَ مُقِيمًا حِينَ صَلّاها كَذَلِكَ، ويَكُونُ قَوْلُهُما " إنَّهُ سَلَّمَ في الرَّكْعَتَيْنِ " المُرادُ بِهِ تَسْلِيمُ التَّشَهُّدِ وذَلِكَ لِأنَّ ظاهِرَ الكِتابِ يَنْفِيهِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الخَبَرِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهم فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكُمْ﴾ وظاهِرُ الخَبَرِ يُوجِبُ أنْ يَكُونُوا مُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ السُّجُودِ عَلى الحالِ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قَبْلَهُ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ مُقِيمًا في بادِيَةٍ وهي ذاتُ الرِّقاعِ ولَيْسَتْ مَوْضِعَ إقامَةٍ ولا هي بِالقُرْبِ مِنَ المَدِينَةِ ؟ قِيلَ لَهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ خَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ لَمْ يَنْوِ سَفَرَ ثَلاثٍ وإنَّما نَوى في كُلِّ مَوْضِعٍ يَبْلُغُ إلَيْهِ سَفَرَ يَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ، فَيَكُونُ مُقِيمًا عِنْدَنا؛ إذْ لَمْ يُنْشِئْ سَفَرَ ثَلاثٍ وإنْ كانَ في البادِيَةِ؛ ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ فَعَلَها في الوَقْتِ الَّذِي يُعادُ الفَرْضُ فِيهِ، وذَلِكَ مَنسُوخٌ عِنْدَنا؛ وعَلى أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صَلاةَ خَوْفٍ وإنَّما هي صَلاةٌ عَلى هَيْئَةِ سائِرِ الصَّلَواتِ، ولا خِلافَ أنَّ صَلاةَ الخَوْفِ مُخالِفَةٌ لِسائِرِ الصَّلَواتِ المَفْعُولَةِ في حالِ الأمْنِ.
وأمّا القَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ أبِي يُوسُفَ في أنَّهُ لا تُصَلّى بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ صَلاةُ الخَوْفِ وأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ تُصَلّى عِنْدَ الخَوْفِ بِإمامَيْنِ؛ فَإنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلى ظاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ فَخَصَّ هَذِهِ الصَّلاةَ بِكَوْنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِمْ، وأباحَ لَهم فِعْلَها مَعَهُ عَلى هَذا الوَجْهِ لِيُدْرِكُوا فَضِيلَةَ الصَّلاةِ خَلْفَهُ الَّتِي مِثْلُها لا يُوجَدُ في الصَّلاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ بَعْدَهُ لِأحَدٍ أنْ يُصَلِّيَها إلّا بِإمامَيْنِ؛ لِأنَّ فَضِيلَةَ الصَّلاةِ خَلْفَ الثّانِي كَهي خَلْفَ الأوَّلِ، فَلا يُحْتاجُ إلى مَشْيٍ واخْتِلافٍ واسْتِدْبارِ القِبْلَةِ مِمّا هو مُنافٍ لِلصَّلاةِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأمّا تَخْصِيصُ النَّبِيِّ ﷺ بِالخِطابِ بِها بِقَوْلِهِ: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ بِالِاقْتِصارِ عَلَيْهِ بِهَذا الحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأنَّ الَّذِي قالَ: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ هو الَّذِي قالَ: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ [الأعراف: ١٥٨] فَإذا وجَدْنا النَّبِيَّ ﷺ قَدْ فَعَلَ فِعْلًا فَعَلَيْنا اتِّباعُهُ فِيهِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النَّبِيِّ ﷺ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأئِمَّةِ بَعْدَهُ ؟ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ﴾ [الممتحنة: ١٢] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وأنِ احْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩] وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ جاءُوكَ فاحْكم بَيْنَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] فِيهِ تَخْصِيصُ النَّبِيِّ ﷺ بِالمُخاطَبَةِ، والأئِمَّةُ بَعْدَهُ مُرادُونَ بِالحُكْمِ مَعَهُ.
وأمّا إدْراكُ فَضِيلَةِ الصَّلاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَيْسَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عِلَّةً لِإباحَةِ المَشْيِ في الصَّلاةِ واسْتِدْبارِ القِبْلَةِ والأفْعالِ الَّتِي تَرْكُها (p-٢٤٤)مِن فُرُوضِ الصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ مَعْلُومًا أنَّ فِعْلَ الصَّلاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا، فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِتَرْكِ الفَرْضِ لِأجْلِ إدْراكِ الفَضْلِ، فَلَمّا كانَ هَذا عَلى ما وصَفْنا بَطَلَ اعْتِلالُهُ بِذَلِكَ وصَحَّ أنَّ فِعْلَ صَلاةِ الخَوْفِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ جائِزٌ بَعْدَهُ كَما جازَ مَعَهُ.
وقَدْ رَوى جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ جَوازَ فِعْلِ صَلاةِ الخَوْفِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ مَسْعُودٍ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وأبُو مُوسى وحُذَيْفَةُ وسَعِيدُ بْنُ العاصِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ في آخَرِينَ مِنهم، مِن غَيْرِ خِلافٍ يُحْكى عَنْ أحَدٍ مِنهم، ومِثْلُهُ يَكُونُ إجْماعًا لا يَسَعُ خِلافُهُ. واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ الِاخْتِلافِ في صَلاةِ المَغْرِبِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " يُصَلِّي بِالطّائِفَةِ الأُولى رَكْعَتَيْنِ وبِالطّائِفَةِ الثّانِيَةِ رَكْعَةً " إلّا أنَّ مالِكًا والشّافِعِيَّ يَقُولانِ: " يَقُومُ الإمامُ قائِمًا حَتّى يُتِمُّوا لِأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالطّائِفَةِ الثّانِيَةِ رَكْعَةً أُخْرى، ثُمَّ يُسَلِّمُ الإمامُ وتَقُومُ الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ فَيَقْضُونَ رَكْعَتَيْنِ " وقالَ الشّافِعِيُّ: " إنْ شاءَ الإمامُ ثَبَتَ جالِسًا حَتّى تُتِمَّ الطّائِفَةُ الأُولى لِأنْفُسِهِمْ، وإنْ شاءَ كانَ قائِمًا، ويُسَلِّمُ الإمامُ بَعْدَ فَراغِ الطّائِفَةِ الثّانِيَةِ " .
وقالَ الثَّوْرِيُّ: " يَقُومُ صَفٌّ خَلْفَهُ وصَفٌّ مُوازِي العَدُوِّ، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلى مَقامِ أُولَئِكَ ويَجِيءُ هَؤُلاءِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً ويَجْلِسُونَ، فَإذا قامَ ذَهَبَ هَؤُلاءِ إلى مَصافِّ أُولَئِكَ وجاءَ أُولَئِكَ فَرَكَعُوا وسَجَدُوا والإمامُ قائِمٌ؛ لِأنَّ قِراءَةَ الإمامِ لَهم قِراءَةٌ، وجَلَسُوا، ثُمَّ قامُوا يُصَلُّونَ مَعَ الإمامِ الرَّكْعَةَ الثّالِثَةَ، فَإذا جَلَسُوا وسَلَّمَ الإمامُ ذَهَبُوا إلى مَصافِّ أُولَئِكَ وجاءَ الآخَرُونَ فَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ "، وذَهَبَ في ذَلِكَ إلى أنَّ عَلَيْهِ التَّعْدِيلَ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ في الصَّلاةِ، فَيُصَلِّي بِكُلِّ واحِدَةٍ رَكْعَةً؛ وقَدْ تُرِكَ هَذا المَعْنى حِينَ جَعَلَ لِلطّائِفَةِ الأُولى أنْ تُصَلِّيَ مَعَ الإمامِ الرَّكْعَةَ الأُولى والثّالِثَةَ والطّائِفَةُ الثّانِيَةُ إنَّما صَلَّتِ الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ مَعَهُ.
وقالَ الثَّوْرِيُّ: " إنَّهُ إذا كانَ مُقِيمًا فَصَلّى بِهِمُ الظُّهْرَ، أنَّهُ يُصَلِّي بِالطّائِفَةِ الأُولى رَكْعَتَيْنِ وبِالثّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ " فَلَمْ يَقْسِمُ الصَّلاةَ بَيْنَهم عَلى أنْ تُصَلِّيَ كُلُّ طائِفَةٍ مِنهم مَعَهُ رَكْعَةً عَلى حِيالِها؛ ومَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ هَذا مُخالِفٌ لِلْأُصُولِ مِن وجْهٍ آخَرَ، وذَلِكَ أنَّهُ أمَرَ الإمامَ أنْ يَقُومَ قائِمًا حَتّى تَفْرُغَ الطّائِفَةُ الأُولى مِنَ الرَّكْعَةِ الثّانِيَةِ، وذَلِكَ خِلافُ الأُصُولِ عَلى ما بَيَّنّا فِيما سَلَفَ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ والشّافِعِيِّ؛ واَللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
(p-٢٤٥)
* * *
ذِكْرُ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ في الصَّلاةِ في حالِ القِتالِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " لا يُصَلِّي في حالِ القِتالِ، فَإنْ قاتَلَ في الصَّلاةِ فَسَدَتْ صَلاتُهُ " وقالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ: " يُصَلِّي إيماءً إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى الرُّكُوعِ والسُّجُودِ " . وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى الرُّكُوعِ مِنَ القِتالِ كَبَّرَ بَدَلَ كُلِّ رَكْعَةٍ تَكْبِيرَةً " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا بَأْسَ بِأنْ يَضْرِبَ في الصَّلاةِ الضَّرْبَةَ ويَطْعَنَ الطَّعْنَةَ، فَإنْ تابَعَ الطَّعْنَ والضَّرْبَ أوْ عَمِلَ عَمَلًا يَطُولُ بَطَلَتْ صَلاتُهُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّ القِتالَ يُبْطِلُ الصَّلاةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ صَلّى صَلاةَ الخَوْفِ في مَواضِعَ عَلى ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ، ولَمْ يُصَلِّ يَوْمَ الخَنْدَقِ أرْبَعَ صَلَواتٍ حَتّى كانَ هُوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قالَ: «مَلَأ اللَّهُ بُيُوتَهم وقُبُورَهم نارًا كَما شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطى»، ثُمَّ قَضاهُنَّ عَلى التَّرْتِيبِ.
فَأخْبَرَ أنَّ القِتالَ شَغَلَهُ عَنِ الصَّلاةِ، ولَوْ كانَتِ الصَّلاةُ جائِزَةً في حالِ القِتالِ لَما تَرَكَها كَما لَمْ يَتْرُكْها في حالِ الخَوْفِ في غَيْرِ قِتالٍ. وقَدْ كانَتِ الصَّلاةُ مَفْرُوضَةً في حالِ الخَوْفِ قَبْلَ الخَنْدَقِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى بِذاتِ الرِّقاعِ صَلاةَ الخَوْفِ؛ وقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ والواقِدِيُّ أنَّ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ كانَتْ قَبْلَ الخَنْدَقِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ القِتالَ يُنافِي الصَّلاةَ وأنَّ الصَّلاةَ لا تَصِحُّ مَعَهُ.
وأيْضًا فَلَمّا كانَ القِتالُ فِعْلًا يُنافِي الصَّلاةَ لا تَصِحُّ مَعَهُ في غَيْرِ الخَوْفِ، كانَ حُكْمُهُ في الخَوْفِ كَهو في غَيْرِهِ، مِثْلُ الحَدَثِ والكَلامِ والأكْلِ والشُّرْبِ وسائِرِ الأفْعالِ المُنافِيَةِ لِلصَّلاةِ؛ وإنَّما أُبِيحَ لَهُ المَشْيُ فِيها؛ لِأنَّ المَشْيَ لا يُنافِي الصَّلاةَ في كُلِّ حالٍ عَلى ما بَيَّنّاهُ فِيما سَلَفَ، ولِأنَّهم مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ المَشْيَ لا يُفْسِدُها، فَسَلَّمْناهُ لِلْإجْماعِ، وما عَداهُ مِنَ الأفْعالِ المُنافِيَةِ لِلصَّلاةِ فَهو مَحْمُولٌ عَلى أصْلِهِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَأْمُورُونَ بِأخْذِ السِّلاحِ الطّائِفَةُ الَّتِي مَعَ الإمامِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الطّائِفَةُ الَّتِي بِإزاءِ العَدُوِّ؛ لِأنَّ في الآيَةِ ضَمِيرًا لِلطّائِفَةِ الَّتِي بِإزاءِ العَدُوِّ، وضَمِيرُها ظاهِرٌ في نَسَقِ الآيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾
ومِن وجْهٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا، وهو أنَّهُ أمَرَ الطّائِفَةَ المُصَلِّيَةَ مَعَ الإمامِ بِأخْذِ السِّلاحِ، ولَمْ يَقُلْ فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهم؛ لِأنَّ في وجْهِ العَدُوِّ طائِفَةً غَيْرَ مُصَلِّيَةٍ حامِيَةً لَها قَدْ كَفَتْ هَذِهِ أخْذَ الحَذَرِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِن وجْهَيْنِ عَلى أنَّ (p-٢٤٦)قَوْلَهُ: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ إنَّما أُرِيدَ بِهِ الطّائِفَةُ الَّتِي مَعَ الإمامِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الطّائِفَةَ الثّانِيَةَ قالَ: ﴿ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾ ولَوْ كانُوا مَأْمُورِينَ بِأخْذِ السِّلاحِ بَدِيًّا لاكْتَفى بِذِكْرِها بَدِيًّا لَهم.
والوَجْهُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾ فَجَمَعَ لَهم بَيْنَ الأمْرَيْنِ مِن أخْذِ الحَذَرِ والسِّلاحِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ الطّائِفَةَ الأُولى قَدْ صارَتْ بِإزاءِ العَدُوِّ وهي في الصَّلاةِ، وذَلِكَ أوْلى بِطَمَعِ العَدُوِّ فِيهِمْ؛ إذْ قَدْ صارَتِ الطّائِفَتانِ جَمِيعًا في الصَّلاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ إنَّما أُرِيدَ بِهِ الطّائِفَةُ الأُولى؛ وهَذا أيْضًا يَدُلُّ عَلى أنَّ الطّائِفَةَ الَّتِي تَقِفُ بِإزاءِ العَدُوِّ بَدِيًّا غَيْرُ داخِلَةٍ في الصَّلاةِ، وأنَّها إنَّما تَدْخُلُ في الصَّلاةِ بَعْدَ مَجِيئِها في الرَّكْعَةِ الثّانِيَةِ ولِذَلِكَ أُمِرَتْ بِأخْذِ الحَذَرِ والسِّلاحِ جَمِيعًا لِأنَّ الطّائِفَةَ الَّتِي في وجْهِ العَدُوِّ في الصَّلاةِ فَيَشْتَدُّ طَمَعُ العَدُوِّ فِيها لِعِلْمِهِمْ بِاشْتِغالِها بِالصَّلاةِ.
ألا تَرى أنَّ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ قالَ لِأصْحابِهِ بِعَسْفانَ بَعْدَما صَلّى النَّبِيُّ ﷺ الظُّهْرَ: " دَعُوهم فَإنَّ لَهم بَعْدَها صَلاةٌ هي أحَبُّ إلَيْهِمْ مِن أبْنائِهِمْ، فَإذا صَلَّوْها حَمَلْنا عَلَيْهِمْ " فَصَلّى النَّبِيُّ ﷺ الخَوْفَ؛ ولِذَلِكَ أمَرَهُمُ اللَّهُ بِأخْذِ الحَذَرِ والسِّلاحِ جَمِيعًا، واَللَّهُ أعْلَمُ.
ولَمّا جازَ أخْذُ السِّلاحِ في الصَّلاةِ وذَلِكَ عَمَلٌ فِيها دَلَّ عَلى أنَّ العَمَلَ اليَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِيها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكم وأمْتِعَتِكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكم مَيْلَةً واحِدَةً﴾ إخْبارٌ عَمّا كانَ عَزَمَ عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ مِنَ الإيقاعِ بِالمُسْلِمِينَ إذا اشْتَغَلُوا بِالصَّلاةِ، فَأطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَيْهِ وأمَرَ المُسْلِمِينَ بِأخْذِ الحَذَرِ مِنهم.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكم وخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ فِيهِ إباحَةُ وضْعِ السِّلاحِ لِما فِيهِ مِنَ المَشَقَّةِ في حالِ المَرَضِ والوَحْلِ والطِّينِ؛ وسَوّى اللَّهُ تَعالى بَيْنَ أذى المَطَرِ والمَرَضِ ورَخَّصَ فِيهِما جَمِيعًا في وضْعِ السِّلاحِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن كانَ في وحْلٍ وطِينٍ فَجائِزٌ لَهُ أنْ يُصَلِّيَ بِالإيماءِ كَما يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ في حالِ المَرَضِ إذا لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوعُ والسُّجُودُ؛ إذْ كانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ سَوّى بَيْنَ أذى المَطَرِ والمَرَضِ فِيما وصَفْنا، وأمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِأخْذِ الحَذَرِ مِنَ العَدُوِّ وأنْ لا يَغْفُلُوا عَنْهُ فَيَكُونُ سِلاحُهم بِالقُرْبِ مِنهم بِحَيْثُ يُمْكِنُهم أخْذُهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهِمُ العَدُوُّ.
{"ayah":"وَإِذَا كُنتَ فِیهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡیَأۡخُذُوۤا۟ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُوا۟ فَلۡیَكُونُوا۟ مِن وَرَاۤىِٕكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَاۤىِٕفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ یُصَلُّوا۟ فَلۡیُصَلُّوا۟ مَعَكَ وَلۡیَأۡخُذُوا۟ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَیَمِیلُونَ عَلَیۡكُم مَّیۡلَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذࣰى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَن تَضَعُوۤا۟ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُوا۟ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق