الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ( ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ﴾ ) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الضَّرْبِ في الأرْضِ قَرِيبًا، قَوْلُهُ: ( ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ﴾ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ القَصْرَ لَيْسَ بِواجِبٍ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الجُمْهُورُ، وذَهَبَ الأقَلُّونَ إلى أنَّهُ واجِبٌ، ومِنهم عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ والكُوفِيُّونَ والقاضِي إسْماعِيلُ، وحَمّادُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ، وهو مَرْوِيٌّ، عَنْ مالِكٍ، واسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عائِشَةَ الثّابِتِ في الصَّحِيحِ ( «فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَتْ في الحَضَرِ وأُقِرَّتْ في السَّفَرِ» ) ولا يَقْدَحُ في ذَلِكَ مُخالَفَتُها لِما رَوَتْ، فالعَمَلُ عَلى الرِّوايَةِ الثّانِيَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ومِثْلُهُ حَدِيثُ يَعْلى بْنِ أُمَيَّةَ قالَ: سَألْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قُلْتُ ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقَدْ أمِنَ النّاسُ، فَقالَ لِي، عُمَرُ،: عَجِبْتُ مِمّا عَجِبْتَ (p-٣٢٥)مِنهُ، فَسَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ «فَقالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» أخْرَجَهُ أحْمَدُ، ومُسْلِمٌ وأهْلُ السُّنَنِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: «فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» أنَّ القَصْرَ واجِبٌ. قَوْلُهُ: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ظاهِرُ هَذا الشَّرْطِ أنَّ القَصْرَ لا يَجُوزُ في السَّفَرِ قَصْرُ الصَّلاةِ إلّا مَعَ خَوْفِ الفِتْنَةِ مِنَ الكافِرِينَ لا مَعَ الأمْنِ، ولَكِنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ بِالسُّنَّةِ أنَّ «النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَصَرَ مَعَ الأمْنِ» كَما عَرَفْتَ، فالقَصْرُ مَعَ الخَوْفِ ثابِتٌ بِالكِتابِ، والقَصْرُ مَعَ الأمْنِ ثابِتٌ بِالسُّنَّةِ، ومَفْهُومُ الشَّرْطِ لا يَقْوى عَلى مُعارَضَةِ ما تَواتَرَ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنَ القَصْرِ مَعَ الأمْنِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذا الشَّرْطَ خَرَجَ مَخْرَجَ الغالِبِ؛ لِأنَّ الغالِبَ عَلى المُسْلِمِينَ إذْ ذاكَ القَصْرُ لِلْخَوْفِ في الأسْفارِ، ولِهَذا قالَ يَعْلى بْنُ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ ما قالَ كَما تَقَدَّمَ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: ( ﴿أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ﴾ ) بِسُقُوطِ ( ﴿إنْ خِفْتُمْ﴾ ) والمَعْنى عَلى هَذِهِ القِراءَةِ: كَراهَةَ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما هي مُبِيحَةٌ لِلْقَصْرِ في السَّفَرِ لِلْخائِفِ مِنَ العَدُوِّ، فَمَن كانَ آمِنًا فَلا قَصْرَ لَهُ، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ قَوْلَهُ: إنْ خِفْتُمْ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِما قَبْلَهُ وأنَّ الكَلامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنَ الصَّلاةِ ثُمَّ افْتَتَحَ فَقالَ: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَأقِمْ لَهم يا مُحَمَّدُ صَلاةَ الخَوْفِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكم عَدُوًّا مُبِينًا﴾ مُعْتَرِضٌ، ذَكَرَ مَعْنى هَذا الجُرْجانِيُّ، والمَهْدَوِيُّ وغَيْرُهُما، ورَدَّهُ القُشَيْرِيُّ والقاضِي أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ، وقَدْ حَكى القُرْطُبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَعْنى ما ذَكَرَهُ الجُرْجانِيُّ ومَن مَعَهُ، ومِمّا يَرُدُّ هَذا ويَدْفَعُهُ الواوُ في قَوْلِهِ: ( ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ ) وقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ فَقالَ: إنَّ الواوَ زائِدَةٌ وإنَّ الجَوابَ لِلشَّرْطِ المَذْكُورِ، أعْنِي قَوْلَهُ: ( ﴿إنْ خِفْتُمْ﴾ ) هو قَوْلُهُ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ ذِكْرَ الخَوْفِ مَنسُوخٌ بِالسُّنَّةِ، وهي حَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنا ذِكْرَهُ، وما ورَدَ في مَعْناهُ. قَوْلُهُ: أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا قالَ الفَرّاءُ: أهْلُ الحِجازِ يَقُولُونَ فَتَنْتُ الرَّجُلَ، ورَبِيعَةُ، وقَيْسٌ، وأسَدٌ وجَمِيعُ أهْلِ نَجْدٍ يَقُولُونَ أفْتَنْتُ الرَّجُلَ، وفَرَّقَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ بَيْنَهُما فَقالا فَتَنْتُهُ: جَعَلْتُ فِيهِ فِتْنَةً مِثْلَ كَحَلْتُهُ، وأفْتَنْتُهُ: جَعَلْتُهُ مُفَتَّنًا، وزَعَمَ الأصْمَعِيُّ أنَّهُ لا يَعْرِفُ أفْتَنْتَهُ. والمُرادُ بِالفِتْنَةِ القِتالُ والتَّعَرُّضُ بِما يَكْرَهُ، قَوْلُهُ: ( عَدُوًّا ) أيْ: أعْداءً. قَوْلُهُ: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ هَذا خِطابٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، ولِمَن بَعْدَهُ مِن أهْلِ الأمْرِ حُكْمُهُ كَما هو مَعْرُوفٌ في الأُصُولِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] ونَحْوُهُ، وإلى هَذا ذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ، وشَذَّ أبُو يُوسُفَ، وإسْماعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ فَقالا: لا تُصَلّى صَلاةُ الخَوْفِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ؛ لِأنَّ هَذا الخِطابَ خاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، قالا: ولا يَلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ لِما لَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنَ المَزِيَّةِ العُظْمى، وهَذا مَدْفُوعٌ فَقَدْ أمَرَنا اللَّهُ بِاتِّباعِ رَسُولِهِ والتَّأسِّي بِهِ، وقَدْ قالَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «صَلُّوا كَما رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» والصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أعْرَفُ بِمَعانِي القُرْآنِ، وقَدْ صَلَّوْها بَعْدَ مَوْتِهِ في غَيْرِ مَرَّةٍ كَما ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، ومَعْنى ( ﴿فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ ) أرَدْتَ الإقامَةَ، كَقَوْلِهِ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكم﴾، وقَوْلِهِ: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ٩٨] قَوْلُهُ: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ يَعْنِي: بَعْدَ أنْ تَجْعَلَهم طائِفَتَيْنِ، طائِفَةٌ تَقِفُ بِإزاءِ العَدُوِّ، وطائِفَةٌ تَقُومُ مِنهم مَعَكَ في الصَّلاةِ ( ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ ) أيْ: الطّائِفَةُ الَّتِي تُصَلِّي مَعَهُ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى الطّائِفَةِ الَّتِي بِإزاءِ العَدُوِّ، والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لِأنَّ الطّائِفَةَ القائِمَةَ بِإزاءِ العَدُوِّ لا بُدَّ أنْ تَكُونَ قائِمَةً بِأسْلِحَتِها، وإنَّما يَحْتاجُ إلى الأمْرِ بِذَلِكَ مَن كانَ في الصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ يَظُنُّ أنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنهُ حالَ الصَّلاةِ، فَأمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يَكُونَ آخِذًا لِسِلاحِهِ؛ أيْ: غَيْرُ واضِعٍ لَهُ، ولَيْسَ المُرادُ الأخْذَ بِاليَدِ، بَلِ المُرادُ أنْ يَكُونُوا حامِلِينَ لِسِلاحِهِمْ لِيَتَناوَلُوهُ مِن قُرْبٍ إذا احْتاجُوا إلَيْهِ، ولِيَكُونَ ذَلِكَ أقْطَعَ لِرَجاءِ عَدُوِّهِمْ مِن إمْكانِ فُرْصَتِهِ فِيهِمْ. وقَدْ قالَ بِإرْجاعِ الضَّمِيرِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ إلى الطّائِفَةِ القائِمَةِ بِإزاءِ العَدُوِّ ابْنُ عَبّاسٍ قالَ: لِأنَّ المُصَلِّيَةَ لا تُحارِبُ، وقالَ غَيْرُهُ: إنَّ الضَّمِيرَ راجِعٌ إلى المُصَلِّيَةِ، وجَوَّزَ الزَّجّاجُ، والنَّحّاسُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ أمْرًا لِلطّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأنَّهُ أرْهَبُ لِلْعَدُوِّ، وقَدْ أوْجَبَ أخْذَ السِّلاحِ في هَذِهِ الصَّلاةِ أهْلُ الظّاهِرِ حَمْلًا لِلْأمْرِ عَلى الوُجُوبِ. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّ المُصَلِّينَ لا يَحْمِلُونَ السِّلاحَ وأنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الصَّلاةَ، وهو مَدْفُوعٌ بِما في هَذِهِ الآيَةِ وبِما في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَوْلُهُ: ( ﴿فَإذا سَجَدُوا﴾ ) أيْ: القائِمُونَ في الصَّلاةِ فَلْيَكُونُوا أيْ: الطّائِفَةُ القائِمَةُ بِإزاءِ العَدُوِّ مِن ورائِكم أيْ مِن وراءِ المُصَلِّينَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَإذا سَجَدَ المُصَلُّونَ مَعَهُ؛ أيْ: أتَمُّوا الرَّكْعَةَ تَعْبِيرًا بِالسُّجُودِ عَنْ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ أوْ عَنْ جَمِيعِ الصَّلاةِ فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكم أيْ: فَلْيَنْصَرِفُوا بَعْدَ الفَراغِ إلى مُقابَلَةِ العَدُوِّ لِلْحِراسَةِ ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى وهي: القائِمَةُ في مُقابَلَةِ العَدُوِّ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ عَلى الصِّفَةِ الَّتِي كانَتْ عَلَيْها الطّائِفَةُ الأُولى ( ولْيَأْخُذُوا ) أيْ: هَذِهِ الطّائِفَةُ الأُخْرى ( ﴿حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾ ) زِيادَةَ التَّوْصِيَةِ لِلطّائِفَةِ الأُخْرى بِأخْذِ الحَذَرِ مَعَ أخْذِ السِّلاحِ، قِيلَ: وجْهُهُ أنَّ هَذِهِ المَرَّةَ مَظِنَّةٌ لِوُقُوفِ الكَفَرَةِ عَلى كَوْنِ الطّائِفَةِ القائِمَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في شُغْلٍ شاغِلٍ. وأمّا في المَرَّةِ الأُولى فَرُبَّما يَظُنُّونَهم قائِمِينَ لِلْحَرْبِ، وقِيلَ: لِأنَّ العَدُوَّ لا يُؤَخِّرُ قَصْدَهُ عَنْ هَذا الوَقْتِ؛ لِأنَّهُ آخِرُ الصَّلاةِ، والسِّلاحُ ما يَدْفَعُ بِهِ المَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ في الحَرْبِ، ولَمْ يُبَيِّنْ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ كَمْ تُصَلِّي كُلُّ طائِفَةٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ ؟ وقَدْ ورَدَتْ صَلاةُ الخَوْفِ في السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ عَلى أنْحاءٍ مُخْتَلِفَةٍ وصِفاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وكُلُّها صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ، مَن فَعَلَ واحِدَةً مِنها فَقَدْ فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ، ومَن ذَهَبَ مِنَ العُلَماءِ إلى اخْتِيارِ صِفَةٍ دُونَ غَيْرِها فَقَدْ أبْعَدَ عَنِ الصَّوابِ، وقَدْ أوْضَحْنا هَذا في شَرْحِنا لِلْمُنْتَقى، وفي سائِرِ مُؤَلَّفاتِنا. قَوْلُهُ: ﴿ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكم وأمْتِعَتِكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكم مَيْلَةً واحِدَةً﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي لِأجْلِها أمَرَهَمُ اللَّهُ بِالحَذَرِ وأخْذِ السِّلاحِ؛ (p-٣٢٦)أيْ: ودُّوا غَفْلَتَكم عَنْ أخْذِ السِّلاحِ وعَنِ الحَذَرِ لِيَصِلُوا إلى مَقْصُودِهِمْ ويَنالُوا فُرْصَتَهم، فَيَشُدُّونَ عَلَيْكم شَدَّةً واحِدَةً، والأمْتِعَةُ ما يُتَمَتَّعُ بِهِ في الحَرْبِ، ومِنهُ الزّادُ والرّاحِلَةُ. قَوْلُهُ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكم﴾ رَخَّصَ لَهم سُبْحانَهُ في وضْعِ السِّلاحِ إذا نالَهم أذًى مِنَ المَطَرِ وفي حالِ المَرَضِ؛ لِأنَّهُ يَصْعُبُ مَعَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ حَمْلُ السِّلاحِ، ثُمَّ أمَرَهم بِأخْذِ الحَذَرِ لِئَلّا يَأْتِيهِمُ العَدُوُّ عَلى غِرَّةٍ وهم غافِلُونَ، وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أبِي حَنْظَلَةَ قالَ: سَألْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلاةِ السَّفَرِ، فَقالَ: رَكْعَتانِ. قُلْتُ: فَأيْنَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ونَحْنُ آمِنُونَ ؟ قالَ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ حِبّانَ، والبَيْهَقِيُّ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ أنَّهُ سَألَ ابْنَ عُمَرَ: أرَأيْتَ قَصْرَ الصَّلاةِ في السَّفَرِ ؟ إنّا لا نَجِدُها في كِتابِ اللَّهِ، إنَّما نَجِدُ ذِكْرَ صَلاةِ الخَوْفِ، فَقالَ ابْنُ عُمَرَ: يا بْنَ أخِي إنَّ اللَّهَ أرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ولا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإنَّما نَفْعَلُ كَما رَأيْنا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَفْعَلُ، وقَصْرُ الصَّلاةِ في السَّفَرِ سُنَّةٌ سَنَّها رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وفي الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما، عَنْ حارِثَةَ بْنِ وهْبٍ الخُزاعِيِّ قالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ الظُّهْرَ والعَصْرَ بِمِنًى أكْثَرَ ما كانَ النّاسُ وآمَنَهُ رَكْعَتَيْنِ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «صَلَّيْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ ونَحْنُ آمِنُونَ لا نَخافُ شَيْئًا رَكْعَتَيْنِ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيٍّ قالَ: «سَألَ قَوْمٌ مِنَ التُّجّارِ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا نَضْرِبُ في الأرْضِ فَكَيْفَ نُصَلِّي ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ ثُمَّ انْقَطَعَ الوَحْيُ، فَلَمّا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ غَزا النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَصَلّى الظُّهْرَ، فَقالَ المُشْرِكُونَ: قَدْ أمْكَنَكم مُحَمَّدٌ وأصْحابُهُ مِن ظُهُورِهِمْ هَلّا شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ ؟ فَقالَ قائِلٌ مِنهم: إنَّ لَهم أُخْرى مِثْلَها في أثَرِها، فَأنْزَلَ اللَّهُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكم عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا﴾ فَنَزَلَتْ صَلاةُ الخَوْفِ» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، والدّارَقُطْنِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، «عَنْ أبِي عَيّاشٍ الزُّرَقِيِّ قالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِعُسْفانَ فاسْتَقْبَلَنا المُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ وهم بَيْنَنا وبَيْنَ القِبْلَةِ فَصَلّى بِنا النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالُوا: قَدْ كانُوا عَلى حالٍ لَوْ أصَبْنا غِرَّتَهم، ثُمَّ قالُوا: تَأْتِي عَلَيْهِمُ الآنَ صَلاةٌ هي أحَبُّ إلَيْهِمْ مِن أبْنائِهِمْ وأنْفُسِهِمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآياتِ ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾» ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ الصَّلاةِ الَّتِي صَلَّوْها مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، والأحادِيثُ في صِفَةِ صَلاةِ الخَوْفِ كَثِيرَةٌ، وهي مُسْتَوْفاةٌ في مَواطِنِها، فَلا نُطَوِّلُ بِذِكْرِها هاهُنا. وأخْرَجَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كانَ بِكم أذًى مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾ قالَ: نَزَلَتْ في عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كانَ جَرِيحًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب