الباحث القرآني

(p-٣٨٠)ولَمّا أتَمَّ - سُبْحانَهُ وتَعالى - بَيانَ القَصْرِ في الكَمِّيَّةِ؛ مَقْرُونًا بِالخَوْفِ لِما ذُكِرَ؛ وكانَ حُضُورُ النَّبِيِّ ﷺ مَظِنَّةَ الأمْنِ؛ بِالتَّأْيِيدِ بِالمَلائِكَةِ؛ ووَعْدِ العِصْمَةِ مِنَ النّاسِ؛ وما شُهِرَ بِهِ مِنَ الشَّجاعَةِ؛ ونُصِرَ بِهِ مِنَ الرُّعْبِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ القاضِيَةِ بِأنَّ لَهُ العاقِبَةَ؛ بَيَّنَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - حالَ الصَّلاةِ في الكَيْفِيَّةِ عِنْدَ الخَوْفِ؛ وأنَّ صَلاةَ الخَوْفِ تُفْعَلُ عِنْدَ الأُنْسِ بِحَضْرَتِهِ؛ كَما تُفْعَلُ عِنْدَ الِاسْتِيحاشِ بِغَيْبَتِهِ ﷺ فَجَوازُها لِقَوْمٍ لَيْسَ هو ﷺ فِيهِمْ مَفْهُومٌ مُوافَقَةً؛ فَقالَ - سُبْحانَهُ وتَعالى -: ﴿وإذا كُنْتَ﴾؛ حالَ الخَوْفِ الَّذِي تَقَدَّمَ فَرْضُهُ؛ ﴿فِيهِمْ﴾؛ أيْ: في أصْحابِكَ؛ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في السَّفَرِ؛ أوْ في الحَضَرِ؛ ﴿فَأقَمْتَ﴾؛ أيْ: ابْتَدَأْتَ؛ وأوْجَدْتَ؛ ﴿لَهُمُ الصَّلاةَ﴾؛ أيْ: الكامِلَةَ؛ وهي المَفْرُوضَةُ؛ ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾؛ أيْ: في الصَّلاةِ؛ ولْتَقُمِ الطّائِفَةُ الأُخْرى وِجاهَ العَدُوِّ؛ ويَطُوفُونَ في كُلِّ مَوْضِعٍ يُمْكِنُ أنْ يَأْتِيَ مِنهُ العَدُوُّ؛ ﴿ولْيَأْخُذُوا﴾؛ أيْ: المُصَلُّونَ؛ لِأنَّهُمُ المُحْتاجُونَ إلى هَذا الأمْرِ؛ لِدُخُولِهِمْ في حالَةٍ هي بِتَرْكِ السِّلاحِ أجْدَرُ؛ ﴿أسْلِحَتَهُمْ﴾؛ كَما يَأْخُذُها مَن هو خارِجَ الصَّلاةِ؛ وسَبَبُ الأمْرِ بِصَلاةِ الخَوْفِ - كَما في صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ وغَيْرِهِ؛ عَنْ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ (تَعالى) عَنْهُ - «أنَّهم غَزَوْا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقاتَلُوا قَوْمًا مِن جُهَيْنَةَ؛ فَقاتَلُوا قِتالًا شَدِيدًا؛ قالَ جابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ (تَعالى) عَنْهُ -: فَلَمّا صَلَّيْنا الظُّهْرَ؛ قالَ المُشْرِكُونَ: لَوْ مِلْنا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً لاقْتَطَعْناهُمْ؛ (p-٣٨١)فَأخْبَرَ جِبْرائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ قالَ: وقالُوا: إنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلاةٌ هي أحَبُّ إلَيْهِمْ مِنَ الأوْلادِ؛ فَلَمّا حَضَرَتِ العَصْرُ صَفَّنا صَفَّيْنِ؛ والمُشْرِكُونَ بَيْنَنا وبَيْنَ القِبْلَةِ...؛» الحَدِيثَ؛ ﴿فَإذا سَجَدُوا﴾ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالسُّجُودِ ظاهِرَهُ؛ فَيَكُونَ الضَّمِيرُ في ﴿فَلْيَكُونُوا﴾؛ لِلْجَمْعِ - الَّذِينَ مِنهم هَذِهِ الطّائِفَةُ - المَذْكُورِينَ بِطَرِيقِ الإضْمارِ في قَوْلِهِ: ”وإذا كُنْتَ فِيهِمْ“؛ وفي ”فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهُمْ“؛ أيْ: فَإذا سَجَدَ الَّذِينَ قامُوا مَعَكَ في الصَّلاةِ؛ فَلْيَكُنِ المُحَدَّثُ عَنْهم - وهُمُ الباقُونَ؛ الَّذِينَ أنْتَ فِيهِمْ؛ وهَذِهِ الطّائِفَةُ مِنهم - ﴿مِن ورائِكُمْ﴾؛ فَإذا أتَمَّتْ هَذِهِ الطّائِفَةُ صَلاتَها فَلْتَذْهَبْ إلى الحِراسَةِ؛ ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى﴾؛ أيْ: مِنَ الجَماعَةِ؛ ﴿لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾؛ كَما صَلَّتِ الطّائِفَةُ الأُولى؛ فَإنْ كانَتِ الصَّلاةُ ثُنائِيَّةً؛ ولَمْ تُصَلِّ بِكُلِّ طائِفَةٍ جَمِيعَ الصَّلاةِ؛ فَلْتُسَلِّمْ بِالطّائِفَةِ الثّانِيَةِ؛ وإنْ كانَتْ رُباعِيَّةً؛ ولَمْ تُصَلِّ بِكُلِّ فِرْقَةٍ جَمِيعَ الصَّلاةِ؛ فَلْتُتِمَّ صَلاتَها؛ ولْتَذْهَبْ إلى وِجاهِ العَدُوِّ؛ ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى؛ هَكَذا حَتّى تَتِمَّ الصَّلاةُ؛ ويُمْكِنَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالسُّجُودِ الصَّلاةَ - مِن إطْلاقِ اسْمِ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ -؛ فَكَأنَّهُ قالَ: فَإذا صَلَّوْا؛ أيْ: أتَمُّوا صَلاتَهم - عَلى ما مَضَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ -؛ والضَّمِيرُ حِينَئِذٍ (p-٣٨٢)فِي ”فَلْيَكُونُوا“؛ لِلطّائِفَةِ السّاجِدَةِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿ولْيَأْخُذُوا﴾؛ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُهُ لِلْكُلِّ؛ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ الأمْرَ بِذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالمُصَلِّي؛ لِأنَّ غَيْرَهُ لا عائِقَ لَهُ عَنِ الأخْذِ مَتى شاءَ؛ أوْ: ولْتَأْخُذْ جَمِيعُ الطَّوائِفِ - الحارِسُونَ؛ والمُصَلُّونَ - ﴿حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾؛ في حالِ صَلاتِهِمْ؛ وحِراسَتِهِمْ؛ وإتْيانِهِمْ إلى الصَّلاةِ؛ وانْصِرافِهِمْ مِنها؛ فَجَعَلَ الحَذَرَ - الَّذِي هو التَّيَقُّظُ؛ والتَّحَرُّزُ؛ بِإقْبالِ الفِكْرِ عَلى ما يَمْنَعُ كَيْدَ العَدُوِّ - كالآلَةِ المَحْسُوسَةِ؛ وخُصَّ في اسْتِعْمالِهِ في الصَّلاةِ في شَأْنِ العَدُوِّ؛ وخُصَّ آخِرُ الصَّلاةِ بِزِيادَةِ حَذَرٍ؛ إشارَةً إلى أنَّ العَدُوَّ في أوَّلِ الصَّلاةِ قَلَّما يَفْطِنُونَ لِكَوْنِهِمْ في الصَّلاةِ؛ بِخِلافِ الآخِرِ؛ فَلِهَذا خُصَّ بِمَزِيدِ الحَذَرِ؛ وهَذا الكَلامُ - عَلى وجازَتِهُ - مُحْتَمِلٌ - كَما تَرى - لِجَمِيعِ الكَيْفِيّاتِ المَذْكُورَةِ في الفِقْهِ؛ لِصَلاةِ الخَوْفِ؛ إذا لَمْ يَكُنِ العَدُوُّ في وجْهِ القِبْلَةِ؛ عَلى أنَّها تَحْتَمِلُ التَّنْزِيلَ عَلى ما إذا كانَ في وجْهِ القِبْلَةِ بِأنْ يُحْمَلَ الوَراءُ عَلى ما واراهُ السُّجُودُ عَنْكُمْ؛ وإتْيانِ الطّائِفَةِ الأُخْرى؛ عَلى الإقْبالِ عَلى المُتابَعَةِ لِلْإمامِ في الأفْعالِ؛ و”لَمْ يُصَلُّوا“؛ أيْ: بِقَيْدِ المُتابَعَةِ لَهُ فِيها - واللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - الهادِي. وما أحْسَنَ اتِّصالَ ذَلِكَ بِأوَّلِ آياتِ الجِهادِ في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: ٧١]؛ فَهو مِن رَدِّ المَقْطَعِ عَلى المَطْلَعِ؛ ثُمَّ عَلَّلَ أمْرَهُ بِهَذِهِ الكَيْفِيَّةِ عَلى هَذا الِاحْتِياطِ والحَزْمِ؛ بِقَوْلِهِ - مُقَوِّيًا لِتَرْغِيبِهِمْ في ذَلِكَ؛ بِإقْبالِ الخِطابِ (p-٣٨٣)عَلَيْهِمْ -: ﴿ودَّ﴾؛ أيْ: تَمَنّى تَمَنِّيًا عَظِيمًا؛ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أيْ: باشَرُوا الكُفْرَ وقْتًا ما؛ فَكَيْفَ بِمَن هو غَرِيقٌ فِيهِ؟ ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ﴾؛ أيْ: تَقَعُ لَكم غَفْلَةٌ في وقْتٍ ما؛ ﴿عَنْ أسْلِحَتِكُمْ﴾؛ ولَمّا كانَتِ القُوَّةُ بِالآلاتِ مُرْهِبَةً لِلْعَدُوِّ؛ ومُنْكِبَةً؛ قالَ: ﴿وأمْتِعَتِكُمْ﴾؛ ولَمّا كانَتِ الغَفْلَةُ ضَعْفًا ظاهِرًا؛ تَسَبَّبَ عَنْها قَوْلُهُ: ﴿فَيَمِيلُونَ﴾؛ وأشارَ إلى العُلُوِّ والغَلَبَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿عَلَيْكُمْ﴾؛ وأشارَ إلى سُرْعَةِ الأخْذِ بِقَوْلِهِ: ﴿مَيْلَةً﴾؛ وأكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿واحِدَةً﴾ ولَمّا كانَ اللَّهُ - ولَهُ المَنُّ - قَدْ رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الحَرَجَ؛ وكانَ المَطَرُ؛ والمَرَضُ شاقَّيْنِ؛ قالَ: ﴿ولا جُناحَ﴾؛ أيْ: حَرَجَ؛ ﴿عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى﴾؛ أيْ: وإنْ كانَ يَسِيرًا؛ ﴿مِن مَطَرٍ﴾؛ أيْ: لِأنَّ حَمْلَ السِّلاحِ حِينَئِذٍ يَكُونُ سَبَبًا لِبَلِّهِ؛ ﴿أوْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾؛ أيْ: مُتَّصِفِينَ بِالمَرَضِ؛ وكَأنَّ التَّعْبِيرَ بِالوَصْفِ إشارَةٌ إلى أنَّ أدْنى شَيْءٍ مِنهُ لا يُرَخِّصُ؛ ﴿أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ﴾؛ أيْ: لِأنَّ حَمْلَها يَزِيدُ المَرِيضَ وهْنًا. ولَمّا خَفَّفَ ما أوْجَبَهُ أوَّلًا مِن أخْذِ السِّلاحِ؛ بِرَفْعِ الجُناحِ في حالِ العُذْرِ؛ فَكانَ التَّقْدِيرُ: ”فَضَعُوهُ إنْ شِئْتُمْ“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ - بِصِيغَةِ الأمْرِ؛ إشارَةً إلى وُجُوبِ الحَذَرِ مِنهم في كُلِّ حالٍ - قَوْلَهُ: ﴿وخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾؛ أيْ: في كُلِّ حالَةٍ؛ فَإنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ لا يُتَوَقَّعُ مِنهُ ضَرَرٌ؛ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِما بَشَّرَ فِيهِ بِالنَّصْرِ؛ تَشْجِيعًا لِلْمُؤْمِنِينَ؛ وإعْلامًا بِأنَّ الأمْرَ بِالحَزْمِ إنَّما هو (p-٣٨٤)لِلْجَرْيِ عَلى ما رَسَمَهُ مِنَ الحِكْمَةِ في قَوْلِهِ - رَبَطَ المُسَبَّباتِ بِالأسْبابِ؛ فَهو مِن بابِ: ”اعْقِلْها وتَوَكَّلْ“؛ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ المُحِيطَ عِلْمًا؛ وقُدْرَةً؛ ﴿أعَدَّ﴾؛ أيْ: في الأزَلِ؛ ﴿لِلْكافِرِينَ﴾؛ أيْ: الدّائِمِينَ عَلى الكُفْرِ؛ لا مَنِ اتَّصَفَ بِهِ وقْتًا ما؛ وتابَ مِنهُ؛ ﴿عَذابًا مُهِينًا﴾؛ أيْ: يُهِينُهم بِهِ؛ مِن أعْظَمِهِ حَذَرُكُمُ الَّذِي لا يَدَعُ لَهم عَلَيْكم مَقْدِمًا؛ ولا تُمْكِنُهم مَعَهُ مِنكم فُرْصَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب