الباحث القرآني

﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ بَيانٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ النَّصِّ المُجْمَلِ في مَشْرُوعِيَّةِ القَصْرِ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ، وتَصْوِيرٌ لِكَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ التّامَّةِ، والخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِطَرِيقِ التَّجْرِيدِ، وتَعَلَّقَ بِظاهِرِهِ مَن خَصَّ صَلاةَ الخَوْفِ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كالحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، ونُسِبَ ذَلِكَ أيْضًا لَأبِي يُوسُفَ، ونَقَلَهُ عَنِ الجَصّاصِ في كِتابِ الأحْكامِ، والنَّوَوِيِّ في المُهَذَّبِ، وعامَّةُ الفُقَهاءِ عَلى خِلافِهِ، فَإنَّ الأئِمَّةَ بَعْدَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ نُوّابُهُ، وقُوّامٌ بِما كانَ يَقُومُ بِهِ فَيَتَناوَلُهم حُكْمُ الخِطابِ الوارِدِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ . وقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ حِبّانَ، وغَيْرُهُمْ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ قالَ: كُنّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ العاصِ بِطَبَرِسْتانَ فَقالَ: «أيُّكم صَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ؟ فَقالَ حُذَيْفَةُ: أنا، ثُمَّ وصَفَ لَهُ ذَلِكَ، فَصَلُّوا كَما وصَفَ، ولَمْ يَقْضُوا، وكانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - ولَمْ يُنْكِرْهُ أحَدٌ مِنهُمْ، وهُمُ الَّذِينَ لا تَأْخُذُهم في اللَّهِ تَعالى لَوْمَةُ لائِمٍ» وهَذا يَحِلُّ مَحَلَّ الإجْماعِ، ويَرُدُّ ما زَعَمَهُ المُزَنِيُّ مِن دَعْوى النَّسْخِ أيْضًا. ﴿فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ أيْ: أرَدْتَ أنْ تُقِيمَ بِهِمُ الصَّلاةَ ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهُمْ﴾ مَعَكَ بَعْدَ أنْ جَعَلْتَهم طائِفَتَيْنِ، ولْتَقِفِ الطّائِفَةُ الأُخْرى تُجاهَ العَدُوِّ لِلْحِراسَةِ، (p-135)ولِظُهُورِ ذَلِكَ تُرِكَ ﴿ولْيَأْخُذُوا﴾ أيِ: الطّائِفَةُ المَذْكُورَةُ القائِمَةُ مَعَكَ أسْلِحَتَهم مِمّا لا يَشْغَلُ عَنِ الصَّلاةِ كالسَّيْفِ والخِنْجَرِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الآخِذَةَ هي الطّائِفَةُ الحارِسَةُ، فَلا يُحْتاجُ حِينَئِذٍ إلى التَّقْيِيدِ، إلّا أنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ، والمُرادُ مِنَ الأخْذِ عَدَمُ الوَضْعِ، وإنَّما عُبِّرَ بِذَلِكَ عَنْهُ لِلْإيذانِ بِالِاعْتِناءِ بِاسْتِصْحابِ الأسْلِحَةِ، حَتّى كَأنَّهم يَأْخُذُونَها ابْتِداءً ﴿فَإذا سَجَدُوا﴾ أيِ: القائِمُونَ مَعَكَ، أيْ: إذا فَرَغُوا مِنَ السُّجُودِ وأتَمُّوا الرَّكْعَةَ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - ﴿فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكُمْ﴾ أيْ: فَلْيَنْصَرِفُوا لِلْحِراسَةِ مِنَ العَدُوِّ. ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا﴾ بَعْدُ، وهي الَّتِي كانَتْ تَحْرُسُ، ونَكَّرَها لِأنَّها لَمْ تُذْكَرْ مِن قَبْلُ ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ الرَّكْعَةَ الباقِيَةَ مِن صَلاتِكَ، والتَّأْنِيثُ والتَّذْكِيرُ مُراعاةً لِلَّفْظِ والمَعْنى، ولَمْ يُبَيَّنْ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ حالُ الرَّكْعَةِ الباقِيَةِ لِكُلٍّ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ، وقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ. فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وغَيْرُهُمْ، عَنْ سالِمٍ، عَنْ أبِيهِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ هي صَلاةُ الخَوْفِ، صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، والطّائِفَةُ الأُخْرى مُقْبِلَةٌ عَلى العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الَّتِي صَلَّتْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَقامُوا مَقامَ أُولَئِكَ مُقْبِلِينَ عَلى العَدُوِّ، وأقْبَلَتِ الطّائِفَةُ الأُخْرى الَّتِي كانَتْ مُقْبِلَةً عَلى العَدُوِّ فَصَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَكْعَةً أُخْرى، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ، ثُمَّ قامَتْ كُلُّ طائِفَةٍ فَصَلُّوا رَكْعَةً رَكْعَةً، فَتَمَّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ – رَكْعَتانِ، ولِكُلٍّ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَتانِ، رَكْعَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ورَكْعَةٌ بَعْدَ سَلامِهِ. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ««أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ صَلّى صَلاةَ الخَوْفِ صَلّى بِالطّائِفَةِ الأُولى رَكْعَةً، وبِالطّائِفَةِ الأُخْرى رَكْعَةً كَما في الآيَةِ، فَجاءَتِ الطّائِفَةُ الأُولى وذَهَبَتْ هَذِهِ إلى مُقابَلَةِ العَدُوِّ حَتّى قَضَتِ الأُولى الرَّكْعَةَ الأُخْرى بِلا قِراءَةٍ، وسَلَّمُوا، ثُمَّ جاءَتِ الطّائِفَةُ الأُخْرى وقَضَوُا الرَّكْعَةَ الأوْلى بِقِراءَةٍ، حَتّى صارَ لِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتانِ»». وهَذا ما ذَهَبَ إلَيْهِ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وإنَّما سَقَطَتِ القِراءَةُ عَنِ الطّائِفَةِ الأُولى في صَلاتِهِمُ الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ بَعْدَ سَلامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأنَّهم - وإنْ كانُوا في ثانِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في مُقابَلَةِ العَدُوِّ - إلّا أنَّهم في الصَّلاةِ، وفي حُكْمِ المُتابَعَةِ، فَكانَتْ قِراءَةُ الإمامِ قائِمَةً مَقامَ قِراءَتِهِمْ، كَما هو حُكْمُ الِاقْتِداءِ، ولا كَذَلِكَ الطّائِفَةُ الأُخْرى؛ لِأنَّهُمُ اقْتَدَوْا بِالإمامِ في الرَّكْعَةِ الثّانِيَةِ، وأتَمَّ الإمامُ صَلاتَهُ فَلا بُدَّ لَهم مِنَ القِراءَةِ في رَكْعَتِهِمُ الثّانِيَةِ، إذْ لَمْ يَكُونُوا مُقْتَدِينَ بِالإمامِ حِينَئِذٍ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ صَلاةَ الخَوْفِ هي ما في الآيَةِ رَكْعَةٌ واحِدَةٌ، ونُسِبَ ذَلِكَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ. فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، والنَّحّاسُ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: «فَرَضَ اللَّهُ تَعالى عَلى لِسانِ نَبِيِّكم ﷺ في الحَضَرِ أرْبَعًا، وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً»». وأخْرَجَ الأوَّلانِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ يَزِيدَ الفَقِيرِ قالَ: ««سَألَتْ جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ في السَّفَرِ أقَصْرٌ هُما؟ فَقالَ: الرَّكْعَتانِ في السَّفَرِ تَمامٌ، إنَّما القَصْرُ واحِدَةٌ عِنْدَ القِتالِ، بَيْنا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في قِتالٍ إذْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَفَّتْ طائِفَةٌ، وطائِفَةٌ وُجُوهُها قِبَلَ العَدُوِّ، فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً، وسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْطَلَقُوا إلى أُولَئِكَ فَقامُوا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً، وسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ – جَلَسَ فَسَلَّمَ، وسَلَّمَ الَّذِينَ خَلَفَهُ، وسَلَّمَ الأوَّلُونَ، فَكانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ – رَكْعَتانِ، ولِلْقَوْمِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ، ثُمَّ قَرَأ الآيَةَ»». وذَهَبَ الإمامُ مالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - إلى أنَّ كَيْفِيَّةَ صَلاةِ الخَوْفِ أنْ يُصَلِّيَ الإمامُ بِطائِفَةٍ رَكْعَةً، فَإذا قامَ لِلثّانِيَةِ فارَقَتْهُ وأتَمَّتْ، وذَهَبَتْ إلى وجْهِ العَدُوِّ، وجاءَ الواقِفُونَ في وجْهِهِ والإمامُ يَنْتَظِرُهُمْ، فاقْتَدَوْا بِهِ، وصَلّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ، فَإذا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قامُوا فَأتَمُّوا ثانِيَتَهُمْ، ولَحِقُوهُ وسَلَّمَ بِهِمْ. (p-136)وهَذِهِ - كَما رَواهُ الشَّيْخانِ - صَلاةُ النَّبِيِّ ﷺ بِذاتِ الرِّقاعِ، وهي أحَدُ الأنْواعِ الَّتِي اخْتارَها الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - واسْتُشْكِلَ مِن سِتَّةَ عَشَرَ نَوْعًا، ويُمْكِنُ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْها، ويَكُونُ المُرادُ مِنَ السُّجُودِ الصَّلاةُ، والمَعْنى: فَإذا فَرَغُوا مِنَ الصَّلاةِ (فَلْيَكُونُوا) إلَخْ، وأُيِّدَ ذَلِكَ بِأنَّهُ لا قُصُورَ في البَيانِ عَلَيْهِ، وبِأنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) أنَّ الطّائِفَةَ الأخِيرَةَ تُتِمُّ الصَّلاةَ مَعَ الإمامِ، ولَيْسَ فِيهِ إشْعارٌ بِحِراسَتِها مَرَّةً ثانِيَةً وهي في الصَّلاةِ البَتَّةَ، وتَحْتَمِلُ الآيَةُ - بَلْ قِيلَ: إنَّها ظاهِرَةٌ في ذَلِكَ - أنَّ الإمامَ يُصَلِّي مَرَّتَيْنِ كُلَّ مَرَّةٍ بِفِرْقَةٍ، وهي صَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَما رَواهُ الشَّيْخانِ أيْضًا بِبَطْنِ نَخْلٍ، واحْتِمالُها لِلْكَيْفِيَّةِ الَّتِي فَعَلَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِعُسْفانَ بَعِيدٌ جِدًّا، وذَلِكَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ورَواهُ عَنْهُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ وغَيْرُهُما - ««صَفَّ النّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، والآخَرُونَ قِيامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمّا سَجَدُوا وقامُوا جَلَسَ الآخَرُونَ، فَسَجَدُوا في مَكانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلاءِ إلى مَصافِّ هَؤُلاءِ، وهَؤُلاءِ إلى مَصافِّ هَؤُلاءِ، ثُمَّ رَكَعَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا، ثُمَّ سَجَدَ هو والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، والآخَرُونَ قِيامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمّا جَلَسُوا جَلَسَ الآخَرُونَ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ» وتَمامُ الكَلامِ يُطْلَبُ مِن مَحَلِّهِ». ﴿ولْيَأْخُذُوا﴾ أيِ: الطّائِفَةُ الأُخْرى ﴿حِذْرَهُمْ﴾ أيِ: احْتِرازَهُمْ، وشَبَّهَهُ بِما يُتَحَصَّنُ بِهِ مِنَ الآلاتِ، ولِذا أثْبَتَ لَهُ الأخْذَ تَخْيِيلًا، وإلّا فَهو أمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لا يَتَّصِفُ بِالأخْذِ ولا يَضُرُّ عَطْفُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وأسْلِحَتَهُمْ﴾ عَلَيْهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ؛ لِأنَّ التَّجَوُّزَ في التَّخْيِيلِ في الإثْباتِ والنِّسْبَةِ لا في الطَّرَفِ عَلى الصَّحِيحِ، ومِثْلُهُ لا بَأْسَ فِيهِ بِالجَمْعِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَبَوَّءُوا الدّارَ والإيمانَ﴾ . وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ هَذا وأمْثالَهُ مِنَ المُشاكَلَةِ لِما يَلْزَمُ عَلى الكِنايَةِ التَّصْرِيحُ بِطَرَفَيْها، وإنْ دُفِعَ بِأنَّ المُشَبَّهَ بِهِ أعَمُّ مِنَ المَذْكُورِ، وإنْ فُسِّرَ الحَذَرُ بِما يُدْفَعُ بِهِ فَلا كَلامَ، ولَعَلَّ زِيادَةَ الأمْرِ بِالحَذَرِ - كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ - في هَذِهِ المَرَّةِ لِكَوْنِها مَظِنَّةً لِوُقُوفِ الكَفَرَةِ، عَلى كَوْنِ الطّائِفَةِ القائِمَةِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في شُغُلٍ شاغِلٍ، وأمّا قَبْلَها فَرُبَّما يَظُنُّونَهم قائِمِينَ لِلْحِرابِ. ﴿ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكم وأمْتِعَتِكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكم مَيْلَةً واحِدَةً﴾ بَيانٌ لِما لِأجْلِهِ أُمِرُوا بِأخْذِ السِّلاحِ، والخِطابُ لِلْفَرِيقَيْنِ بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ، أيْ: تَمَنَّوْا أنْ يَنالُوا مِنكم غِرَّةً في صَلاتِكم فَيَحْمِلُونَ عَلَيْكم جُمْلَةً واحِدَةً، والمُرادُ بِالأمْتِعَةِ ما يُمَتَّعُ بِهِ في الحَرْبِ لا مُطْلَقًا، وقُرِئَ (أمْتِعاتِكُمْ) والأمْرُ لِلْوُجُوبِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ﴾ حَيْثُ رَخَّصَ لَهم في وضْعِها إذا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ حَمْلُها واسْتِصْحابُها بِسَبَبِ مَطَرٍ أوْ مَرَضٍ، وأُمِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّيَقُّظِ والِاحْتِياطِ، فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿وخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ أيْ: بَعْدَ إلْقاءِ السِّلاحِ لِلْعُذْرِ؛ لِئَلّا يَهْجِمَ عَلَيْكُمُ العَدُوُّ غِيلَةً. واخْتارَ بَعْضُ أئِمَّةِ الشّافِعِيَّةِ أنَّ الأمْرَ لِلنَّدْبِ، وقَيَّدُوهُ بِما إذا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ بِتَرْكِ الحِمْلِ، أمّا لَوْ خافَ وجَبَ الحَمْلُ عَلى الأوْجُهِ، ولَوْ كانَ السِّلاحُ نَجِسًا ومانِعًا لِلسُّجُودِ، وفي شَرْحِ المِنهاجِ لِلْعَلّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ: ولَوِ انْتَفى خَوْفُ الضَّرَرِ وتَأذّى غَيْرُهُ بِحَمْلِهِ كُرِهَ إنْ خَفَّ الضَّرَرُ بِأنِ احْتُمِلَ عادَةً، وإلّا حَرُمَ، وبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ إطْلاقِ كَراهَتِهِ وإطْلاقِ حُرْمَتِهِ. والآيَةُ - كَما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - نَزَلَتْ في عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وكانَ جَرِيحًا. وذَكَرَ أبُو ضَمْرَةَ، ورَواهُ الكَلْبِيُّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ (p-137)«غَزا مُحارِبًا وبَنِي أنِمارٍ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعالى وأحْرَزَهُمُ الذَّرارِيَّ والمالَ، فَنَزَلَ رَسُولٌ ﷺ والمُسْلِمُونَ ولا يَرَوْنَ مِنَ العَدُوِّ واحِدًا، فَوَضَعُوا أسْلِحَتَهم وخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحاجَةٍ لَهُ، وقَدْ وضَعَ سِلاحَهُ، حَتّى قَطَعَ الوادِيَ، والسَّماءُ تَرُشُّ، فَحالَ الوادِي بَيْنَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وبَيْنَ أصْحابِهِ، فَجَلَسَ في ظِلِّ سَمُرَةٍ فَبَصُرَ بِهِ غَوْرَثُ بْنُ الحَرْثِ المُحارِبِيُّ فَقالَ: قَتَلَنِي اللَّهُ تَعالى إنْ لَمْ أقْتُلْهُ، وانْحَدَرَ مِنَ الجَبَلِ، ومَعَهُ السَّيْفُ، ولَمْ يَشْعُرْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلّا وهو قائِمٌ عَلى رَأْسِهِ ومَعَهُ السَّيْفُ، قَدْ سَلَّهُ مَن غِمْدِهِ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ مَن يَعْصِمُكَ مِنِّي الآنَ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي غَوْرَثَ بْنَ الحَرْثِ بِما شِئْتَ، فانْكَبَّ عَدُوُّ اللَّهِ تَعالى لِوَجْهِهِ، وقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأخَذَ سَيْفَهُ فَقالَ: يا غَوْرَثُ مَن يَمْنَعُكَ مِنِّي الآنَ؟ فَقالَ لا أحَدَ، قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أتَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنِّي عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ؟ قالَ: لا، ولَكِنِّي أعْهَدُ إلَيْكَ أنْ لا أُقاتِلَكَ أبَدًا، ولا أُعِينَ عَلَيْكَ عَدُوًّا، فَأعْطاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ – سَيْفَهُ، فَقالَ لَهُ غَوْرَثٌ: لَأنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إنِّي أحَقُّ بِذَلِكَ» فَرَجَعَ غَوْرَثٌ إلى أصْحابِهِ فَقالُوا: يا غَوْرَثُ لَقَدْ رَأيْناكَ قائِمًا عَلى رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ فَما مَنَعَكَ مِنهُ؟ قالَ: اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - أهْوَيْتُ لَهُ بِالسَّيْفِ لِأضْرِبَهُ فَما أدْرِي مَن لَزَجَنِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي، وخَرَّ سَيْفِي، وسَبَقَنِي، إلَيْهِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ –فَأخَذَهُ، وأتَمَّ لَهُمُ القِصَّةَ، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ، ولَمْ يَلْبَثِ الوادِي أنْ سَكَنَ، فَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى أصْحابِهِ، فَأخْبَرَهُمُ الخَبَرَ، وقَرَأ عَلَيْهِمُ الآيَةَ». ﴿إنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا﴾ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِأخْذِ الحَذَرِ، أيْ: أعَدَّ لَهم عَذابًا مُذِلًّا، وهو عَذابُ المَغْلُوبِيَّةِ لَكم ونُصْرَتِكم عَلَيْهِمْ، فاهْتَمُّوا بِأُمُورِكُمْ، ولا تُهْمِلُوا مُباشَرَةَ الأسْبابِ كَيْ يُعَذِّبَهم بِأيْدِيكُمْ، وقِيلَ: لَمّا كانَ الأمْرُ بِالحَذَرِ مِنَ العَدُوِّ مُوهِمًا لِغَلَبَتِهِ واعْتِزازِهِ نَفى ذَلِكَ الإيهامَ بِالوَعْدِ بِالنَّصْرِ وخِذْلانِ العَدُوِّ؛ لِتَقْوى قُلُوبُ المَأْمُورَيْنِ، ويَعْلَمُوا أنَّ التَّحَرُّزَ في نَفْسِهِ عُبادَةٌ، كَما أنَّ النَّهْيَ عَنْ إلْقاءِ النَّفْسِ في التَّهْلُكَةِ لِذَلِكَ، لا لِلْمَنعِ عَنِ الإقْدامِ عَلى الحَرْبِ، وقِيلَ: لا يَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِالعَذابِ المُهِينِ شَرْعُ صَلاةِ الخَوْفِ فَيَكُونُ لِخَتْمِ الآيَةِ بِهِ مُناسَبَةٌ تامَّةٌ، ولا يَخْفى بُعْدُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب