الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهُمْ مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكُمْ ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وأَسْلِحَتَهُمْ ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكُمْ وأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ كانَ بِكُمْ أذىً مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ وخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: ١٠٢].
هذه الآيةُ عامَّةٌ للنبيِّ ﷺ مع أصحابِهِ، وغيرِهِ مِن الأئمَّةِ مع الأمَّةِ في صلاةِ الخوفِ، وتخصيصُهُ بقولِه: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾، لقصدِ التشريعِ والاقتداءِ به، خلافًا لأبي يوسُفَ إذْ جعَلَ صلاةَ الخوفِ خاصَّةً به ﷺ، لظاهرِ الخطابِ في الآيةِ، قال اللَّهُ لنبيِّه ﷺ: ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾، وهذا بعيدٌ، لأنّ اللَّهَ قالَ بعد ذلكَ: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾.
مشروعيَّةُ صلاةِ الخوفِ للأمةِ:
فالنبيُّ ﷺ مُعلِّمٌ يُقِيمُ لأُمَّتِه، والأصلُ عمومُ الرسالةِ ووجوبُ الاقتداءِ بالرُّسُلِ، ولمّا فعَلَ أصحابُ النبيِّ ﷺ ومَن وراءَهُ صلاةَ الخوفِ، دلَّ على تعلُّقِ الحُكْمِ بالجميعِ لا به، ولو اختَصَّ به، لفعَلَهُ وحدَه، وأمَرَ أصحابَهُ بخلافِه، كالزيادةِ على أربعٍ في النِّكاحِ، وعَرْضِ المرأةِ نفسَها عليه، وكالوِصالِ بالصِّيامِ، وعلى عمومِ صلاةِ الخوفِ: أصحابُهُ مِن بعدِه، ولا اختِلافَ عندَهم في ذلك.
وجاء عنِ المُزَنيِّ صاحبِ الشافعيِّ: القولُ بنَسْخِ صلاةِ الخوفِ، وهذا بعيدٌ، وقد استَدَلَّ المُزَنيُّ نفسُهُ كما في «مختصَرِهِ» على جوازِ صلاةِ المتنفِّلِ بالمفترِضِ بصلاةِ النبيِّ صلاةَ الخوفِ بكلِّ طائفةٍ ركعتَيْنِ ويُسلِّمُ، وأنّ الرَّكعتَيْنِ الأخيرتَيْنِ له نافلةٌ ولهم فريضةٌ، كما في حديثِ جابرٍ وغيرِه، ولو كانتْ صلاةُ الخوفِ منسوخةً، لَنُسخَ ما تَبِعَها مِن أحكامٍ.
صلاةُ الخوفِ في الحَضَرِ:
وعامَّةُ العلماءِ على أداءِ صلاةِ الخوفِ في السفرِ، واختَلَفُوا في فِعْلِها حضَرًا على قولَيْنِ:
فجمهورُ العلماءِ على مشروعيَّتِها عندَ خوفِ العدوِّ حضَرًا وسفَرًا، فإنْ شابهَتْ حالةُ الخوفِ مِن العدوِّ في الحضَرِ حالةَ الخوفِ منه في السَّفَرِ، صحَّ، فإنّ العدوَّ قد يُداهِمُ المُسلِمِينَ وهم في الحَضَرِ، فيَدفَعونَ ويُرابِطونَ على ثُغُورِها، وحُكْمُهم حينئذٍ حُكْمُ خوفِ المسافرِ مِن العدوِّ.
وذهَبَ مالكٌ: إلى أنّ صلاةَ الخوفِ مختصَّةٌ بالسَّفرِ، لظاهرِ الآيةِ في قولِه: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [النساء: ١٠١]، وبه قال ابنُ الماجِشونِ.
والأصحُّ الأوَّلُ، والآيةُ عُلِّقَتْ بالأغلبِ، أنّ مواجَهةَ العدوِّ تكونُ في غيرِ بلَدِ المُسلِمِينَ، وأنّها في السَّفَرِ، فالأصلُ في المُسلِمِينَ حمايةُ بُلْدانِهم ومعرفةُ قُرْبِ عدوِّهم وبُعْدِه، وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ الجهادَ والقتالَ يكونُ في بُلْدانِ العدوِّ، لا بُلْدانِ المُسلِمِينَ لِمَن أقامَ شريعةَ الجهادِ كما أمَرَ اللهُ بها، والخِطابُ لِمَن أقامَها، لا لِمَن عطَّلَها فأذَلَّهُ اللهُ حتّى أصبَحَ يأتيهِ العدوُّ في دارِه.
والشريعةُ لا تُخاطِبُ المقصِّرَ في الحقِّ، وتخفِّفُ عليه العملَ لِيَزدادَ هَوانًا وذُلًّا ودَعَةً، فإن كانَتْ حالُهُ كذلك، فلَوْمُهُ وتقريعُهُ ووعيدُهُ أوْلى مِن مُخاطبَتِهِ بالتخفيفِ، حتّى لا يَظُنَّ أنّ فِعلَهُ سائغٌ جائزٌ، وهو أحْوَجُ إلى تَدارُكِ ما فاته مِمّا فرَّطَ فيه، مِن حاجتِه إلى التيسيرِ عليه، فالشريعةُ لم تُلْغِ أصلَ التيسيرِ، وإنّما رتَّبَتِ الخِطابَ بمقدارِ الحاجةِ وأولويَّتِها، وإلاَّ فإنْ قُدِّرَ أنّ بلدًا مِن بُلْدانِ المُسلِمينَ فاجَأَهُ عدوٌّ على حينِ غِرَّةٍ وخافوهُ واحتاجُوا لِصلاةِ الخوفِ، صَلَّوْها، واللهُ أعلَمُ.
صلاةُ الخوفِ وغزوةُ الخندقِ:
وتأخيرُ النبيِّ ﷺ لصلاةِ العصرِ حتّى غرَبَتِ الشمسُ في غزوةِ الخندقِ، وقولُ بعضِهم: إنّ صلاةَ الخوفِ لو كانَتْ جائزةً للحاضِرِ لَصَلاَّها النبيُّ ﷺ ولم يُؤخِّرِ العصرَ، وغزوةُ الخندقِ ليسَتْ سَفَرًا، وإنّما في ناحيةِ المدينةِ:
فيُقالُ: إنّ صلاةَ الخوفِ شُرِعَتْ في غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ، وقدِ اختُلِفَ في زمَنِ وقوعِ غزوةِ الخندَقِ منها:
فمِنهم: مَن جعَلَ غَزْوةَ ذاتِ الرِّقاعِ سابقةً للخَندَقِ، وهو قولُ ابنِ إسحاقَ، وتَبِعَه كثيرٌ، كالواقديِّ وابنِ سعدٍ وخَلِيفةَ بنِ خيّاطٍ.
ومِنهم مَن قال: إنّ غزوةَ الخندقِ سابِقةٌ وتَبِعَتْها ذاتُ الرِّقاعِ، وهو قولُ جماعةٍ، كالبخاريِّ وابنِ القيِّمِ وغيرِهما.
وقد ذكَرَ ابنُ إسحاقَ: أنّ ذاتَ الرِّقاعِ كانَتْ في السَّنَةِ الرابعةِ والخندقَ بعدَها في السَّنةِ الخامسةِ في شوّالٍ مِنها، وأكثرُ مَن جاء مِن بَعدِهِ قال بقولِهِ.
وقد نَقَلَ البخاريُّ في «صحيحِه»، عن موسى بنِ عُقْبةَ، قال: كانَتْ غزوةُ الخَندَقِ في شوّالٍ سنةَ أربعٍ[[«صحيح البخاري» (٥/١٠٧).]]، وظاهرُ صنيعِ البخاريِّ الميلُ إلى قولِ ابنِ عُقبةَ، وعَضَدَهُ بعَرْضِ ابنِ عُمرَ على النبيِّ ﷺ في أُحُدٍ وهو ابنُ أربعَ عَشْرةَ، ويومَ الخندَقِ وهو ابنُ خمسَ عَشْرةَ[[أخرجه البخاري (٤٠٩٧) (٥/١٠٧).]]، فما بينَ أحُدٍ والخندَقِ إلاَّ سنةٌ واحدةٌ، وقد كانتْ غزوةُ أحُدٍ سنةَ ثلاثٍ مِنَ الهجرةِ.
والأصحُّ: أنّ الخندقَ سابقةٌ لذاتِ الرِّقاعِ، والأسانيدُ الصحيحةُ دالَّةٌ على ذلك، وهي أوْلى بالأخذِ مِن قولِ ابنِ إسحاقَ، وقد جعَلَ البخاريُّ ذاتَ الرِّقاعِ بعدَ خَيْبَرَ، لأنّ أبا موسى شَهِدَها وكان مُهاجِرًا إلى الحبَشةِ ولم يَقدَمْ إلاَّ بعدَ خيبرَ، حيثُ قال كما في «الصحيحِ»: «فوافَقْنا النبيَّ ﷺ حينَ افْتَتَحَ خيبرَ»[[أخرجه البخاري (٤٢٣٠) (٥/١٣٧).]].
وفي «الصحيحَيْنِ»، عن أبي موسى: «أنّه شَهِدَ ذاتَ الرِّقاعِ، وأنّهم كانوا يَلُفُّونَ على أرْجُلِهِمُ الخِرَقَ لمّا نَقِبَتْ»[[أخرجه البخاري (٤١٢٨) (٥/١١٣)، ومسلم (١٨١٦) (٣/١٤٤٩).]].
وقد شهِدَها أبو هريرةَ ولم يُسلِمْ إلاَّ قبلَ وفاةِ النبيِّ ﷺ بأربعِ سِنينَ، كما في «السُّننِ»، عن حُمَيْدٍ، قال: صَحِبَ أبو هريرةَ النبيَّ ﷺ أربعَ سنينَ[[أخرجه أبو داود (٨١) (١/٢١)، والنسائي (٢٣٨) (١/١٣٠).]]، ففي «المُسنَدِ»، و«السُّننِ»، أنّ مَرْوانَ بنَ الحَكَمِ سأَلَ أبا هريرةَ: هل صلَّيْتَ مع النبيِّ ﷺ صلاةَ الخوفِ؟ قال: نعَمْ، قال: متى؟ قال: عامَ غزوةِ نَجْدٍ[[أخرجه أحمد (٨٢٦٠) (٢/٣٢٠)، وأبو داود (١٢٤٠) (٢/١٤)، والنسائي (١٥٤٣) (٣/١٧٣).]].
وذاتُ الرِّقاعِ غزوةُ نَجْدٍ.
ويعضُدُهُ: ما في «صحيحِ البخاريِّ»، مِن حديثِ جابرٍ، أنّ النبيَّ ﷺ صلّى بأصحابِهِ في الخوفِ في غزوةِ السابعةِ، غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ[[أخرجه البخاري (٤١٢٥) (٥/١١٣).]].
ومِنهم: مَن حمَلَ العدَدَ في قولِه: «السابعةِ» على الغزوةِ، ومِنهم: مَن حمَلَه على محذوفٍ وهو السنةُ السابعةُ، وعلى كِلا الحَمْلَيْنِ يدلُّ هذا على تأخُّرِ غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ، وتقدُّمِ غزوةِ الخندقِ.
ولو كانتِ الخندقُ متقدِّمةً، ما كان ذلك مُسقِطًا للاحتجاجِ بصلاةِ الخوفِ، لإجماعِ الصحابةِ والتابعينَ عليها، وهم أعلَمُ بحالِ النبيِّ ﷺ وناسخِ فِعلِهِ ومنسوخِه.
وأمّا تأخيرُ النبيِّ ﷺ لصلاةِ العصرِ حتّى غروبِ الشمسِ في الخندَقِ، فيُنظَرُ تخريجُهُ، ولا يُجعَلُ مُعارِضًا لما استفاضَ واشتَهَرَ مِن عمَلِهِ وعملِ أصحابِه، وقد فرَّقَ بعضُ الفقهاءِ بين حالِ المُسايَفةِ والمُواجَهةِ والانشغالِ التامِّ بالعدوِّ وبينَ غيرِها، ففي المُسايَفةِ لا يُمكِنُ لأَحَدٍ أنْ يُصَلِّيَ، فيُؤخِّرَ الصَّلاةَ إلى حينِ أمْنِهِ ولو بعدَ وقتِها، وأمّا في غيرِ المُواجَهةِ، فتكونُ صلاةُ الخوفِ حسَبَ القدرةِ فردًا أو جماعةً، راكبًا أو راجلًا.
اختلافُ الرواياتِ في ركعاتِ صلاةِ الخوفِ:
وقد جاءَتْ في صلاةِ الخوفِ أحاديثُ جميعُها صحيحةٌ، وكلُّ الصُّوَرِ الواردةِ المرفوعةِ مشروعةٌ، وذلك لأنّ غَزَواتِ النبيِّ تعدَّدَتْ، وصَلَواتِهِ فيها أكثَرُ، ففي كلِّ غزوةٍ أيّامٌ، وفي كلِّ يومٍ صلواتٌ، وكلُّ صلاةٍ على حالٍ مِن الخوفِ يَختلِفُ عن غيرِه، فاختَلَفَتِ الصُّوَرُ باختلافِ الحالِ التي كان عليها هو وأصحابُه، وكلُّ واحدٍ روى ما شَهِدَ، وكلُّ ذلك صحيحٌ.
ولهذا تعدَّدَ القولُ في ذلك عن الصحابةِ بتعدُّدِ الأفعالِ، وكلٌّ يميلُ إلى ما عَمِلَ أو ما نُقِلَ إليه ولا يُنكِرُ غيرَه، ومَن قال بصورةٍ لا يُبطِلُ القولَ بغيرِها، فلا ينبغي أن تُجعَلَ أقوالُهم متضادَّةً متعارِضةً، وإنّما متنوِّعةٌ متشاكِلةٌ، وقد قال أحمدُ: «لا أعلَمُ في هذا البابِ إلاَّ حديثًا صحيحًا»[[«سنن الترمذي» (٢/٤٥٤).]].
وكان أحمدُ وكذا الشافعيُّ يُخيِّرُ بين الصِّفاتِ الواردةِ بحسَبِ الحاجةِ إليها وتغيُّرِ الحالِ، ولا يُقدِّمُ صفةً على أُخرى بكلِّ حالٍ.
وفرقٌ بينَ ما يتعدَّدُ مِن الرِّواياتِ مع تعدُّدِ الأفعالِ، كصَلاةِ الخوفِ، وبينَ ما يتعدَّدُ مِنَ الرِّواياتِ مع اتِّحادِ الفِعْلِ، كصلاةِ الكُسُوفِ، فالأوَّلُ: تُحمَلُ الرِّواياتُ على القَبُولِ إنْ صحَّ سنَدُها وقامَتِ القرينةُ على اختِلافِ الفِعْلِ، والثاني: تُنكَرُ الرِّواياتُ المتعدِّدةُ ولو رَواها ثقاتٌ، ويُؤخَذُ بأصَحِّها وأَقْواها وما قامَتِ القرائنُ على ترجيحِها منها.
أسبابُ تعدُّدِ رواياتِ صلاةِ الخوفِ:
وإنّما تعدَّدَتْ صورُ صلاةِ الخوفِ وصِفتُها، لتعدُّدِ الفِعْلِ واختلافِ الحالِ، فمَن سبَرَ الأحاديثَ في صفةِ الخوفِ، وجَدَ أنّ أسبابَ تعدُّدِها تَرجِعُ إلى أسبابٍ ثلاثةٍ:
الأولُ: القربُ مِن العدوِّ والبعدُ عنه، فإذا كان العدوُّ قريبًا، احتاجَ المصلُّونَ لتخفيفِ الصلاةِ وتقليلِ عَدَدِها، للخشيةِ مِن ميلِهِ عليهم وأخذِهِ لهم على غِرَّةٍ، ولهذا جاءت صلاةُ الخوفِ ركعةً، وجاءتْ ركعتَيْنِ، وجاءَتْ جماعةً، وجاءتْ فُرادى عند التلاحُمِ وشِدَّةِ القُرْبِ.
الثاني: مكانُ العدوِّ مِن المُسلِمينَ، فإنْ كان مقابِلًا لهم في قِبْلَتِهم، صَلَّوْا جماعةً واحدةً على الصِّفَةِ الواردةِ، وإن كان خَلْفَهُمْ، صَلَّوْا جماعتَيْنِ: جماعةً تحرُسُ، وجماعةً قائمةً تُصَلِّي على الصِّفاتِ الواردةِ في السُّنَّةِ.
الثالثُ: شدةُ الخوفِ وضَعْفُهُ مِن العدوِّ، فكلَّما كان المُسلِمونَ أكثَرَ خوفًا مِن مَيْلِ المشرِكِينَ عليهم وخِداعِهم لهم، أخَذُوا بأخَفِّ الصِّفاتِ وأَيْسَرِها عليهم، وعَكْسُها بعكسِها، وكثيرٌ مِن الفقهاءِ لا يَعتبِرونَ لِشِدَّةِ الخوفِ أثرًا في نُقْصانِ صلاةِ الخوفِ.
صفاتُ صلاةِ الخوفِ:
وقد جاءَتْ صِفاتٌ متعدِّدةٌ في صلاةِ الخوفِ، وجِماعُها على هذه الصِّفاتِ:
الأُولى: أنّ الإمامَ يَجعلُ الناسَ على طائفتَيْنِ، فيُصلِّي بواحدةٍ ركعةً والأُخرى يَحرُسونَ ظُهورَهم، فإذا قام للثانيةِ تنفصِلُ الأُولى عن الإمامِ، فتُتِمُّ لنفسِها ثُم تُسَلِّمُ، والإمامُ باقٍ قائمٌ في الرَّكْعةِ الثانيةِ يُطِيلُ قيامَهُ، لِتُدرِكَهُ الطائفةُ الثانيةُ، فإذا سَلَّمَتِ الأُولى دخلَتِ الثانيةُ، فإذا جلَسَ الإمامُ للتشهُّدِ قامَتِ الثانيةُ تُتِمُّ لنَفْسِها، لتُدرِكَ الإمامَ قبلَ السَّلامِ، لتُسلِّمَ معَهُ، وهذه الصورةُ الأشهَرُ، وبها يقولُ مالكٌ، وهي في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ صالحِ بنِ خوّاتٍ، عن سهلِ بنِ أبي حَثْمَةَ[[أخرجه البخاري (٤١٣١) (٥/١١٤)، ومسلم (٨٤١) (١/٥٧٥).]]، وتارَةً يَرْويها صالحٌ عمَّن صلّى مع النبيِّ صلاةَ الخوفِ يومَ ذاتِ الرِّقاعِ[[أخرجه البخاري (٤١٢٩) (٥/١١٣)، ومسلم (٨٤٢) (١/٥٧٥).]]، وكأنّه يَرويها عن غيرِ واحدٍ.
وجاء نحوُ هذه الصِّفةِ مِن حديثِ ابنِ عبّاسٍ في البخاريِّ وغيرِه[[أخرجه البخاري (٩٤٤) (٢/١٤).]].
وصحَّ عندَ ابنِ جريرٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، مِن روايةِ عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ عنه موقوفًا، لكنْ جعَلَ الإمامَ يَنتظِرُ الطائِفةَ الثانيةَ جالسًا بعدَ ركعتِهِ الأولى حتّى تُتِمَّ الأُولى لنَفْسِها ثم تَنصرِفَ، ثم تدخُلُ الثانيةُ مع الإمامِ، فيقومُ بها فيُصلِّي ركعةً، ثمَّ يسلِّمُ بها، ثمَّ تُكمِلُ بعدَهُ ولا يَنتظِرُها بسَلامِه[[«تفسير الطبري» (٧/٤٣٠).]].
الثانيةُ: أن يَقومَ الإمامُ بطائفةٍ ركعةً، ثمَّ تَنصرِفَ إن قام للثانيةِ تحرُسُ ولا تُسلِّمُ ولا تُتِمُّ لنَفْسِها، ثم تأتي الثانيةُ فتُصلِّي معَ الإمامِ الرَّكعةَ الأُولى لها والثّانيةَ للإمامِ، وتُتمُّ بعدَه، فإنْ سلَّمَتْ رجعَتْ فحرَسَتْ، ثمَّ رجعَتِ الأُولى وقضَتْ ركعتَها الثانيةَ التي ترَكَتْها ثمَّ سلَّمَتْ.
وهذا صحَّ مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ في البخاريِّ[[أخرجه البخاري (٩٤٢) (٢/١٤).]]، ومِن حديثِ ابنِ مسعودٍ عندَ أحمدَ وأبي داودَ[[أخرجه أحمد (٣٥٦١) (١/٣٧٦)، وأبو داود (١٢٤٤) (٢/١٦).]].
وصحَّ هذا موقوفًا عن نافعٍ عنِ ابنِ عُمرَ، رواهُ مالكٌ والبخاريُّ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٣) (١/١٨٤)، والبخاري (٤٥٣٥) (٦/٣١).]].
وجاء أيضًا عن أبي موسى الأشعريِّ، أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبةَ والطبريُّ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨٢٩٠) (٢/٢١٥)، والطبري في «تفسيره» (٧/٤٣٥).]].
وروى منصورٌ عن عُمَرَ مِثْلَ هذه الصفةِ مِن فِعْلِه، إلاَّ أنّ الإمامَ يُسلِّمُ بالثانيةِ بركعةٍ واحدةٍ لها، وركعتَيْنِ له، ثم تقومُ مقامَ الطائفةِ الأُولى فتقضي الأُولى، ثمَّ تَرجِعُ لِتقومَ مَقامَ الثانيةِ، لتَقضِيَ مِثلَها، فقَضاءُ الطّائفتَيْنِ كلُّ واحدةٍ وحدَها.
رواهُ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٤٣٤).]] وفيه انقطاعٌ، ومِثلُ هذه الصِّفةِ رواها الحارثُ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ عندَ عبدِ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٢٤٤) (٢/٥٠٨).]]، وبِمثلِها صلّى عبدُ الرحمنِ بنُ سَمُرةَ بالمُسلِمينَ بِكابُلَ، أخرَجَهُ البيهقيُّ في «سُننِه»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٣/٢٦١).]].
وبهذه الصِّفةِ يقولُ الأوزاعيُّ وغيرُه.
وفرَّق بعضُهم بينَ حديثِ ابنِ عُمرَ وحديثِ ابنِ مسعودٍ، فجَعلَ حديثَ ابنِ عمرَ في قضاءِ الطائفتَيْنِ لأنفُسِهم جميعًا، وكأنّ الإمامَ يَحرُسُهُمْ وحدَه، وجعَلَ حديثَ ابنِ مسعودٍ في قضاءِ كلِّ طائفةٍ وحدَها للركعةِ التي فاتَتْها، وذهَبَ إلى حديثِ ابنِ مسعودٍ الكوفيُّونَ.
ولا يَظهَرُ صراحةً قضاءُ الطائفتَيْنِ جميعًا في وقتٍ واحدٍ في حديثِ ابنِ عُمرَ، وهذا لا يتَّفِقُ مع الحِكْمةِ مِن مشروعيَّةِ صلاةِ الخوفِ والعدوُّ مِن خَلْفِهم، والأظهَرُ حملُ حديثِ ابنِ عُمرَ على حديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِه ممّا سبَق ذِكْرُه، واللهُ أعلَمُ.
الثالثةُ: كسابقتِها إلاَّ أنّ كلَّ طائفةٍ تُصلِّي مع الإمامِ ركعةً واحدةً بلا قضاءٍ للفائتةِ، فهي للجماعةِ ركعةٌ، وللإمامِ ركعتانِ.
وهذا صحَّ مِن حديثِ ابنِ عبّاسٍ، أخرَجَه النَّسائيُّ[[أخرجه النسائي (١٥٣٣) (٣/١٦٩).]]، ومِن حديثِ حذيفة، أخرَجَه أحمدُ وأبو داودَ والنَّسائيُّ[[أخرجه أحمد (٢٣٣٥٢) (٥/٣٩٥)، وأبو داود (١٢٤٦) (٢/١٦)، والنسائي (١٥٣٠) (٣/١٦٨).]].
وجاء مِن حديثِ زيدٍ مرفوعًا مِثلُه، أخرَجَه عبدُ الرزّاقِ والطَّحاويُّ وغيرُهما[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٢٥٠) (٢/٥١٠)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/٣١٠).]].
وهذه الصفاتُ الثلاثُ تُغلَّبُ في حالِ كونِ العدوِّ في ظهرِ المُسلِمينَ وهم يَحتاجونَ إلى حمايةِ أظهُرِهم، لا إلى وُجوهِهم.
وهذه الصفةُ الثّالثةُ، ربَّما يُحتاجُ إليها عندَ حاجةِ الطائفتَيْنِ للوقتِ، إمّا لقُرْبِ العدوِّ أو لشدَّةِ الحذَرِ منه، وقد روى غيرُ واحدٍ مِنَ السَّلفِ أنّ صلاةَ الخوفِ ركعةٌ واحدةٌ، رواهُ مجاهدٌ عَنِ ابنِ عبّاسٍ، أخرَجَهُ مسلمٌ[[أخرجه مسلم (٦٨٧) (١/٤٧٩).]].
رواهُ سِماكٌ الحنفيُّ عنِ ابنِ عمرَ، أخرَجَهُ ابنُ جَريرٍ[[أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧/٤١٦).]].
وجاء عن جابرٍ، رواهُ يزيدُ الفقيرُ، أخرَجَهُ ابنُ جَريرٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٤١٩).]]، وأصلُه في «الصحيحِ».
وجاء عن حُذَيْفةَ بنِ اليَمانِ، أخرَجَهُ عبدُ الرزّاقِ وابنُ أبي شَيبةَ والبيهقيُّ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٤٢٤٩) (٢/٥١٠)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨٢٧٣) (٢/٢١٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٣/٢٦١).]].
وجاء عن كَعْبٍ، أخرَجَه سعيدُ بنُ منصورٍ والطبريُّ[[أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (٢٥٠٧) (٢/٢٣٩)، والطبري في «تفسيره» (٧/٤١٧).]].
ولذا كان بعضُ السَّلفِ إنْ سُئِلَ عن صلاةِ المُسايَفةِ جعَلَها ركعةً ولو بالإيماءِ، كالحكَمِ وحمّادِ بنِ أبي سُلَيْمانَ ومُجاهدٍ والضحّاكِ، وقال به أحمدُ.
وقد جعَلَ بعضُ الفقهاءِ صلاةَ الفجرِ في صلاةِ الخوفِ ركعةً واحدةً بكلِّ حالٍ، كمحمدِ بنِ نصرٍ وابنِ حَزْمٍ، وهذا التقييدُ يحتاجُ إلى نَصٍّ، ولا أعلَمُه ظاهرًا في الدَّليلِ، ولم يُفرِّقِ السَّلَفُ بينَ الثُّنائيةِ والرُّباعيَّةِ في صلاةِ الخوفِ.
الرابعةُ: يُصلِّي الإمامُ بالمُسلِمينَ جميعًا، ويَجعلُهم صفَّيْنِ أو أكثَرَ، ويُتابِعونَهُ في كلِّ شيءٍ، إلاَّ السُّجُودَ، فيَسجُدُ الصفُّ المتقدِّمُ معَ الإمامِ والمتأخِّرُ قائمٌ يَحرُسُهم، فإذا قام الإمامُ والصفُّ المتقدِّمُ، سجَدَ الصفُّ المتأخِّرُ ولَحِقَ بالإمامِ، فيقومُ الجميعُ الثانيةَ معَ الإمامِ، ويركَعونَ معَه، فإذا جاء السُّجُودُ تقدَّمَ الصفُّ المتأخِّرُ، لِيَكونَ متقدِّمًا، فيَأخُذُ نصيبَه مِنَ السُّجودِ معَ الإمامِ، ويتأخَّرُ المتقدِّمُ لِيَحُلَّ محلَّ المتأخِّرِ، ثمَّ إنِ انتَهى الإمامُ مِنَ السُّجودِ، تَبِعَهمُ المتأخِّرُ فسجَدَ وتشهَّدَ معَهم، وسلَّمَ بهم جميعًا.
وهذا ثبَتَ في مسلمٍ، مِن حديثِ جابرٍ[[أخرجه مسلم (٨٤٠) (١/٥٧٥).]].
وفي البخاريِّ، مِن حديثِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ، عنِ ابنِ عبّاسٍ[[أخرجه البخاري (٩٤٤) (٢/١٤).]]، لكنَّه جعَلَ الصفَّ الثانيَ لا يَركَعُ ولا يَسجُدُ حتّى يَنتهِيَ الصفُّ الأوَّلُ مِن رُكوعِهِ وسجودِهِ للرَّكْعةِ الأُولى مع الإمامِ، وجاء عندَ الطحاويِّ مِن حديثِ عُبيدِ اللهِ به، لكنْ مِن قولِ ابنِ عبّاسٍ، مِثلَ حديثِ جابرٍ[[أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/٣٢٠).]].
وعندَ أحمدَ وغيره مِن حديثِ مجاهدٍ، عن أبي عيّاشٍ مرفوعًا[[أخرجه أحمد (١٦٥٨٠) (٤/٥٩)، وأبو داود (١٢٣٦) (٢/١١)، والنسائي (١٥٤٩) (٣/١٧٦).]]، ولكنَّه جعَلَ تقدُّمَ الصفِّ الثاني وتأخُّرَ الأوَّلِ قبلَ ركوعِ الركعةِ الثّانيةِ لا بعدَه.
ورواهُ البيهقيُّ مِن حديثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عبّاسٍ مرفوعًا مِثلَه[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٣/٢٥٨).]]، إلاَّ أنّه لم يَذكُرْ تقدُّمَ الصفِّ الآخِرِ على الأوَّلِ، وإنّما ظاهرُهُ أنّهما يَفعَلانِ الصِّفةَ كلُّ طائفةٍ في مكانِها.
الخامسةُ: يَجعلُ الإمامُ المُسلِمينَ طائفتَيْنِ، فيُصلِّي بكلِّ واحدةٍ وهي منفرِدةٌ ركعتَيْنِ، فهي للإمامِ أربعٌ، ولكلِّ طائفةٍ ركعتانِ.
وهذا صحَّ مِن حديثِ جابرٍ عندَ مسلمٍ[[أخرجه مسلم (٨٤٣) (١/٥٧٦).]]، ومِن حديثِ أبي بَكْرَةَ عندَ أحمدَ وأبي داودَ والنَّسائيِّ[[أخرجه أحمد (٢٠٤٩٧) (٥/٤٩)، وأبو داود (١٢٤٨) (٢/١٧)، والنسائي (١٥٥٥) (٣/١٧٩).]]، وفي حديثِ أبي بَكْرةَ ذكَرَ: أنّ الإمامَ يُسلِّمُ مِن كلِّ ركعتينِ فلا يَصِلُها.
وهاتانِ الصِّفتانِ ـ الرّابعةُ والخامسةُ ـ في حالِ كونِ العدوِّ أمامَ المُسلِمينَ.
استقبالُ القبلةِ في صلاةِ الخَوْفِ:
وهذه الصِّفاتُ الخمسُ السابقةُ تدلُّ على تأكُّدِ استقبالِ القِبْلةِ، ووجوبِهِ على القادرِ، فاللهُ لم يجعَلْ طائفةً خَلْفَهم تحرُسُ إلاَّ والقِبْلةُ أمامَهم، ولو جاز تركُ الاستقبالِ بكلِّ حالٍ في صلاةِ الخوفِ، لاستَدارُوا جميعًا جِهَةَ العدوِّ واستقبَلُوهُ بدَلَ القِبْلةِ، وصلَّوْا جميعًا كما في الصِّفَةِ الرابعةِ والخامسةِ.
وإنّ استقبالَ القِبْلةِ لا يسقُطُ إلاَّ عندَ العجزِ عن أداءِ الصَّلاةِ جماعةً طائفةً أو طائفتَيْنِ، وقد لا يسقُطُ الاستقبالُ في حالِ الصلاةِ فُرادى عندَ أمنِ الرَّجُلِ إن كانَ وحدَهُ مِن الرُّماةِ، وخَشيتُهُ هي مِن بروزِهِ فحَسْبُ، وهذا ما قال به ابنُ عُمرَ فيما رواهُ عنه مالكٌ وغيره، قال: «إن كان خوفًا أشدَّ مِن ذلك، صلَّوْا رِجالًا أو رُكبانًا، مُستقبِلي القِبلةِ وغيرَ مُستقبِليها»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٣) (١/١٨٤)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٣/٢٥٦).]].
السادسةُ: وهي المقصودةُ في قولِهِ تعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ [البقرة: ٢٣٩]، وهي أنْ يُصلِّيَ كلُّ مُسلمٍ وحدَهُ، وهذه حالُ المُسايَفةِ والمُواجَهةِ، فلا يتَمكَّنُ المُسلِمونَ مِنَ الاصطفافِ والاجتماعِ خوفَ رميِ العدوِّ واستِهدافِه، وهذا ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ ابنِ عُمرَ، قال: «إنْ كانَ خَوْفٌ هُوَ أشَدَّ مِن ذَلِكَ، صَلَّوْا رِجالًا قِيامًا عَلى أقْدامِهِمْ أوْ رُكْبانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيها».
قال نافعٌ راويهِ عنِ ابنِ عُمرَ: «لا أرى عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ ذكَرَ ذلك إلاَّ عن رسولِ اللهِ ﷺ»[[أخرجه البخاري (٤٥٣٥) (٦/٣١)، ومسلم (٨٣٩) (١/٥٧٤).]].
وصفةُ الصلاةِ راجلًا وقائِمًا: بالإيماءِ، كما جاءَ عنِ ابنِ عُمرَ، أنّه قال: «إذا اختَلَطُوا فإنّما هو الذِّكْرُ وإشارةُ الرَّأسِ»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٣/٢٥٥).]].
وبهذا قال مجاهدٌ وعطاءٌ وطاوسٌ والحسنُ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ والنَّخَعيُّ وغيرُهم.
ويشتدُّ هذا عندَ المُطارَدةِ، فقد يسقُطُ في بعضِها حتّى الإشارةُ ويُكتفى بالقولِ وحضورِ القلبِ على قولِ جماعةٍ مِنَ السلفِ.
وقد تعدَّدَتْ صورُ صلاةِ الخوفِ حتّى جعَلَ بعضُ الفقهاءِ الاختلافَ اليسيرَ بينَها فَرْقًا في الصِّفةِ، وقد جاء عندَ ابنِ حبّانَ في «صحيحِه» نحوٌ مِن تِسْعٍ، وجعَلَها ابنُ حَزمٍ أربعَ عَشْرةَ صِفةً.
تأخيرُ الصلاةِ عند اشتدادِ القتالِ:
وقد اختُلِفَ في جوازِ تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها عند اشتدادِ القتالِ، والتحامِ الصفوفِ، وتعذُّرِ الإيماءِ ـ على قولَيْنِ في مذهبِ أحمدَ.
والجمهورُ: على أنّها لا تُؤخَّرُ.
والقولُ الآخَرُ لأحمدَ: جوازُ تأخيرِها، ومال إليه البخاريُّ، وقال به مِن السَّلَفِ مكحولٌ والأوزاعيُّ، وعلى هذا حمَلَ بعضُهم صلاةَ النبيِّ ﷺ في يومِ الأحزابِ حينَما أخَّرَها حتّى غروبِ الشمسِ، وبهذا عمِلَ الصحابةُ في فتحِ تُسْتَرَ حينَما التَحَمَ الصَّفّانِ، فأخَّرُوا الفَجْرَ إلى الضُّحى، كما علَّقَه البخاريُّ: «قال أنسُ بنُ مالكٍ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُناهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إضاءَةِ الفَجْرِ، واشْتَدَّ اشْتِعالُ القِتالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى الصَّلاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إلاَّ بَعْدَ ارْتِفاعِ النَّهارِ، فَصَلَّيْناها ونَحْنُ مَعَ أبِي مُوسى، فَفُتِحَ لَنا، وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: وما يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاةِ الدُّنْيا وما فِيها»[[«صحيح البخاري» (٢/١٥).]].
وكان ذلك في خِلافةِ عُمَرَ، وفيهم صحابةٌ كثيرٌ، وهذا يَشتَهِرُ ولا يُقالُ إلاَّ إنّه جَرى على السُّنَّةِ وأحَدِ وجوهِ صلاةِ الخوفِ عندَهم.
وهذا الاختلافُ تنوُّعٌ لا تضادٌّ، ومَن نظَرَ في عمَلِ السَّلَفِ، وجَدَ مِنهم مَن يُفتي ويَعمَلُ بأكثَرَ مِن صِفَةٍ، وذلك لاختلافِ الحالِ، كما كان حُذَيْفةُ وجابرٌ يَجعَلونَ صلاةَ الخوفِ ركعةً، ومرَّةً يَجعَلونَها ركعتَيْنِ.
صلاةُ المغرِبِ عند الخوفِ:
وهذا في جميعِ الصَّلواتِ بلا فَرقٍ عندَ السَّلَفِ بينَها، إلاَّ المَغرِبَ، فإن لم يَكُنِ الإنسانُ في حالِ المُسايَفةِ والمُطارَدةِ، فيُصلِّيها ثلاثًا، لأنّها لا تُقصَرُ، وبهذا قال الحسَنُ والأشعثُ بنُ عبدِ الملِكِ والثَّوْريُّ، ولا مُخالِفَ لهم.
وإن كان في حالِ المسايَفةِ والمُطارَدةِ، فيُصلِّيها واحدةً، وتُجزِئُ عنه، فإنّه إنْ جازَ أن تُجعَلَ الرُّباعيَّةُ واحدةً مع أنّها لا تُقصَرُ على ذلكَ في السفرِ، فالثُّلاثيَّةُ مِن بابِ أوْلى، ولأنّ الصلاةَ قد تسقُطُ كلُّها، ويُكتَفى بالذِّكرِ عندَ التِقاءِ الزَّحفَيْنِ، وضَرْبِ الناسِ بعضِهم بعضًا، وعدَمِ معرفةِ وقتِ الخلاصِ، فإذا حضَرَتِ الصلاةُ والحالُ هذه، فيُكتَفى بالتسبيحِ والتحميدِ والتهليلِ والتكبيرِ، وبِهذا قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وأبو البَختَريِّ وأصحابهما، وكانوا يَقولونَ: «فتِلكَ صَلاتُك ثُمَّ لا تُعِدْ»، أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٨٢٦٠) (٢/٢١٢).]].
وأمّا صفةُ صلاةِ المَغْرِبِ ثلاثًا، فعَلى صورتَيْنِ:
ـ إمّا أنْ يُصلِّيَ بالأُولى ركعةً وبالثانيةِ ركعتَيْنِ، ثمَّ يُتِمَّ كلٌّ ما فاتَهُ.
ـ وإمّا عَكسُها، يُصلِّي بالأُولى ركعتَيْنِ، وبالثّانيةِ ركعةً، ثمَّ يُتِمُّ كلٌّ ما فاتَهُ.
والأمرُ على التيسيرِ، وليس في صِفَتِها خبرٌ يصحُّ مرفوعٌ ولا موقوفٌ.
وقد جاء عندَ الدّارَقُطْنيِّ مِن حديثِ أبي بَكْرةَ، أنّ النبيَّ ﷺ صلّى بالقومِ صلاةَ المغرِبِ ثلاثَ رَكَعاتٍ، ثمَّ انصرَفُوا، وجاء الآخَرونَ فصلّى بهم ثلاثَ رَكَعاتٍ، فكانتْ للنبيِّ ﷺ ستًّا، وللقومِ ثلاثًا ثلاثًا[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (١٧٨٣) (٢/٤١٢).]].
ولا يصحُّ، ولا أعلَمُ مَن قال بالصِّفةِ في حديثِ أبي بَكْرةَ مِنَ السلفِ إلاَّ ما حُكيَ عَنِ الحسنِ، وهو غريبٌ، رواهُ أشعثُ الحُمْرانيُّ عنِ الحسنِ عن أبي بكرةَ به، واللهُ أعلمُ.
حملُ السلاحِ في صلاة الخوفِ:
وقولُه تعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ كانَ بِكُمْ أذىً مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ﴾، رفَعَ اللهُ الحرَجَ في حَمْلِ السِّلاحِ في الصَّلاةِ وغيرِها لِمَن يَجِدُ ضَرَرًا وحَرَجًا، ورفعُ الحرَجِ دليلٌ على أنّ الأصلَ في حملِ السِّلاحِ عندَ قُرْبِ العدوِّ ومُواجهتِهِ الوجوبُ، وكلَّما قَرُبَ، عَظُمَ، لأنّ فيه حِفْظًا للنفسِ والعِرْضِ والمالِ.
ورَفْعُ الجُناحِ في هذه الآيةِ شبيهٌ برَفْعِ الحرَجِ في الآيةِ السابقةِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: ١٠١]، لأنّ الأصلَ وجوبُ إتمامِ الصلاةِ، فرَفعَ الحرَجَ عنهم فرَخَّصَ في القَصْرِ، وهُنا جعَلَ الأصلَ في حملِ السِّلاحِ الوجوبَ، فرفَعَ الحرَجَ عندَ الأذى والمرَضِ.
والمرادُ بالمرَضِ: كلُّ ما أضعَفَ البدَنَ وآذاهُ عندَ حَمْلِ السِّلاحِ، كالجِراحاتِ والحُمّى، والأذى: كالمطَرِ وشدَّةِ البردِ والرِّيحِ.
ومع وضعِ السِّلاحِ أمَرَ بأخذِ الحِذْرِ في قولِه: ﴿وخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، لأنّه يَغلِبُ معَ وضعِ السِّلاحِ الرّاحَةُ والدَّعَةُ ويَتْبَعُها الغَفْلةُ، واللهُ في القرآنِ يأمُرُ بالحذرِ مِن العدوِّ، وينهى عن الخوفِ منه: ﴿فَلا تَخافُوهُمْ﴾ [آل عمران: ١٧٥]، لأنّ الحذرَ حَزْمٌ وعقلٌ، والخوفَ جُبْنٌ وهزيمةٌ.
واختُلِفَ في المخاطَبِ بحَمْلِ السِّلاحِ: الطّائفةُ الحارسةُ، أمِ المصلِّيةُ؟ والأظهَرُ: أنّ الخِطابَ لهما جميعًا، وهو للمصلِّيةِ منهما أظهَرُ، لأنّها أحوَجُ للتنبيهِ على هذا، لأنّ في الصلاةِ شُغْلًا، فيَغلِبُ على ظنِّ المصلِّي كراهةُ حملِ السِّلاحِ أو تَرْكُهُ ترخُّصًا، وأمّا الحارسةُ: فالأصلُ أنّها لا تحرُسُ إلاَّ بسِلاحٍ.
ثم إنّ حملَ السِّلاحِ جاء في سِياقِ صلاةِ الخوفِ، والألصَقُ به المُصلِّي لا غيرُه، لأنّ غيرَهُ يُؤمَرُ به مِن غيرِ حاجةٍ لذِكْرِ الصلاةِ ولا حراسةِ المُصلِّينَ، لأنّه مأمورٌ بأن يَحمِيَ نفسَه قبلَ غيرِه، ويدخُلُ غيرُ المصلِّي في وجوبِ حملِ السِّلاحِ عندَ الخوفِ وخشيةِ مَيْلِ العدوِّ مِن بابِ أوْلى.
ويعضُدُ أنّ الخِطابَ أوْلى مَن يدخُلُ فيه المصلِّي: أنّ اللهَ رَخَّصَ في وضعِهِ في حالِ الأذى، كالمطَرِ والمرَضِ، فلو كان الخطابُ لغيرِ المصلِّي، وهو الحارِسُ، لكان هذا دليلًا على الرُّخْصةِ للمصلِّي في تَرْكِه، لأنّه لم يُخاطَبْ بحملِ السِّلاحِ أصلًا، ولم يُؤمَرْ به، والحارسُ رُخِّصَ له في تَرْكِ السِّلاحِ عندَ الأذى، فعلى هذا: لا يَبقى أحدٌ مِنَ المُسلِمينَ يَحمِلُ السِّلاحَ، لا المُصلِّي ولا الحارسُ، وما شُرِعَتْ صلاةُ الخوفِ إلاَّ لحِفظِ النَّفْسِ والمالِ، وتخصيصُ الخطابِ بالحارسِ يُخالِفُ هذا المَقصَدَ.
وقال: إنّ الخطابَ للطائفةِ المصلِّيةِ، الشافعيُّ في أحدِ قولَيْه.
{"ayah":"وَإِذَا كُنتَ فِیهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡیَأۡخُذُوۤا۟ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُوا۟ فَلۡیَكُونُوا۟ مِن وَرَاۤىِٕكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَاۤىِٕفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ یُصَلُّوا۟ فَلۡیُصَلُّوا۟ مَعَكَ وَلۡیَأۡخُذُوا۟ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَیَمِیلُونَ عَلَیۡكُم مَّیۡلَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذࣰى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَن تَضَعُوۤا۟ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُوا۟ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق