الباحث القرآني

فيه ثماني عشرة مسألة [[هكذا في الأصول، والمذكور تسع عشرة مسألة.]]: الاولى- قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ) الْآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَزَيْدِ بْنِ مُهَلْهَلٍ وَهُوَ زَيْدُ الْخَيْلِ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدُ الْخَيْرِ، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِالْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ، وَإِنَّ الْكِلَابَ تَأْخُذُ الْبَقَرَ وَالْحُمُرَ وَالظِّبَاءَ فَمِنْهُ مَا نُدْرِكُ ذَكَاتَهُ، وَمِنْهُ مَا تَقْتُلُهُ فَلَا نُدْرِكَ ذَكَاتَهُ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ "مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، والخبر "أُحِلَّ لَهُمْ" و "ذا" زَائِدَةٌ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ الْخَبَرُ "قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ" وَهُوَ الْحَلَالُ، وَكُلُّ حَرَامٍ فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ. وَقِيلَ: مَا الْتَذَّهُ آكِلُهُ وَشَارِبُهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الطَّيِّبَاتُ الذَّبَائِحُ، لِأَنَّهَا طَابَتْ بِالتَّذْكِيَةِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما عَلَّمْتُمْ﴾ أَيْ وَصَيْدَ مَا عَلَّمْتُمْ، فَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحِلُّ الْمَسْئُولُ عَنْهُ متنا ولا للمعلم من الجوارح المكلبين، وَذَلِكَ لَيْسَ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ، فَإِنَّ الَّذِي يُبِيحُ لَحْمَ الْكَلْبِ فَلَا يُخَصِّصُ الْإِبَاحَةَ بِالْمُعَلَّمِ، وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي أَكْلِ الْكَلْبِ فِي "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٧ ص ١١٥.]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَتَنَاوَلُ مَا عَلَّمْنَاهُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ يَنْتَظِمُ الْكَلْبَ وَسَائِرَ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إِبَاحَةَ سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَهُوَ الْأَكْلُ مِنَ الْجَوَارِحِ أَيِ الْكَوَاسِبِ مِنَ الْكِلَابِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ، وَكَانَ لِعَدِيٍّ كِلَابٌ خَمْسَةٌ قَدْ سَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ أَعْلَامٍ، وَكَانَ أَسْمَاءُ أَكْلُبِهِ سَلْهَبٌ وَغَلَّابٌ وَالْمُخْتَلِسُ وَالْمُتَنَاعِسُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَخَامِسٌ أَشُكُّ، قَالَ فِيهِ أَخْطَبُ، أَوْ قَالَ فِيهِ وَثَّابٌ. الرَّابِعَةُ- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ وَعَلَّمَهُ مُسْلِمٌ فينشلي إذا أشلي [[أشليت الكلب على الصيد دعوته فأرسلته، وقيل: أغريته.]] ويجيب إذ دُعِيَ، وَيَنْزَجِرُ بَعْدَ ظَفَرِهِ بِالصَّيْدِ إِذَا زُجِرَ، وَأَنْ يَكُونَ لَا يَأْكُلُ مِنْ صَيْدِهِ الَّذِي صَادَهُ، وَأَثَّرَ فِيهِ بِجُرْحٍ أَوْ تَنْيِيبٍ، وَصَادَ بِهِ مُسْلِمٌ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ أَنَّ صَيْدَهُ صَحِيحٌ يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنِ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ دَخَلَ الْخِلَافُ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَادُ بِهِ غَيْرُ كَلْبٍ كَالْفَهْدِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَكَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الطَّيْرِ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا صَادَ بَعْدَ التَّعْلِيمِ فَهُوَ جَارِحٌ كَاسِبٌ. يُقَالُ: جَرَحَ فُلَانٌ وَاجْتَرَحَ إِذَا اكْتَسَبَ، وَمِنْهُ الْجَارِحَةُ لِأَنَّهَا يُكْتَسَبُ بِهَا، وَمِنْهُ اجْتِرَاحُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ الْأَعْشَى: ذَا جُبَارٌ [[الجبار: الهدر. الميسم: اسم لأثر الوسم وهو الكي والمعنى: أن من أهجوه يبقى هجوي له ظاهرا ولا يستطيع رفعه. والشطر الأول في الأصول (ذات جد منضج ميسمها)، والتصويب عن (الصبح المنير في شعر أبي بصير).]] مُنْضِجًا مِيسَمُهْ ... يُذْكِرُ الْجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ وَفِي التَّنْزِيلِ" وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [[راجع ج ٧ ص ٥.]] ٦٠"] الانعام: ٦٠] وقال:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ [[راجع ج ١٦ ص ١٦٥.]] الجاثية: ٢١]. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ مَعْنَى "مُكَلِّبِينَ" أَصْحَابُ الْكِلَابِ وَهُوَ كَالْمُؤَدِّبِ صَاحِبِ التَّأْدِيبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، قال الرماني: وكلا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمَلٌ. وَلَيْسَ فِي "مُكَلِّبِينَ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ صَيْدُ الْكِلَابِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "مُؤْمِنِينَ" وَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَصَرَ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْكِلَابِ خَاصَّةً. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: وَأَمَّا مَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْبُزَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ، وَإِلَّا فَلَا تطعمه. قال ابن المنذر: وسيل أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الْبَازِي يَحِلُّ صَيْدُهُ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ" هِيَ الْكِلَابُ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ أَسْوَدَ بَهِيمًا فَكَرِهَ صَيْدَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ إِذَا كَانَ بَهِيمًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، فَأَمَّا عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ فَيَرَوْنَ جَوَازَ صَيْدِ كُلِّ كَلْبٍ مُعَلَّمٍ، أَمَّا مَنْ مَنَعَ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ فَلِقَوْلِهِ ﷺ: (الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ)، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا فِي جَوَازِ صَيْدِ الْبَازِي بِمَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، وَبِمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي فَقَالَ: (مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ). فِي إِسْنَادِهِ مُجَالِدٌ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَأَتَّى مِنَ الْكَلْبِ يَتَأَتَّى مِنَ الْفَهْدِ مَثَلًا فَلَا فَارِقَ إِلَّا فِيمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ السَّيْفِ عَلَى الْمُدْيَةِ وَالْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ- وإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا بد لِلصَّائِدِ أَنْ يَقْصِدَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ التَّذْكِيَةَ وَالْإِبَاحَةَ، وَهَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ) وَهَذَا يَقْتَضِي النِّيَّةَ وَالتَّسْمِيَةَ، فَلَوْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ اللَّهْوَ فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ اللَّيْثِ: مَا رَأَيْتُ حَقًّا أَشْبَهَ بِبَاطِلٍ مِنْهُ، يَعْنِي الصَّيْدَ، فَأَمَّا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ التَّذْكِيَةِ فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْفَسَادِ وَإِتْلَافِ حَيَوَانٍ لِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا بِالْقَوْلِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، لِقَوْلِهِ: (وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ) فَلَوْ لَمْ تُوجَدْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ لَمْ يُؤْكَلِ الصَّيْدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ مَا صَادَهُ الْمُسْلِمُ وَذَبَحَهُ وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى النَّدْبِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَقَالَ: لَا تُؤْكَلُ مَعَ الْعَمْدِ وَتُؤْكَلُ مَعَ السَّهْوِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٧ ص ٧٥.]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثم لأبد أَنْ يَكُونَ انْبِعَاثُ الْكَلْبِ بِإِرْسَالٍ مِنْ يَدِ الصَّائِدِ بِحَيْثُ يَكُونُ زِمَامُهُ بِيَدِهِ. فَيُخَلِّي عَنْهُ وَيُغْرِيهِ عَلَيْهِ فَيَنْبَعِثُ، أَوْ يَكُونَ الْجَارِحُ سَاكِنًا مَعَ رُؤْيَتِهِ الصَّيْدَ فَلَا يَتَحَرَّكُ لَهُ إِلَّا بِالْإِغْرَاءِ مِنَ الصَّائِدِ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا زِمَامُهُ بِيَدِهِ فَأَطْلَقَهُ مُغْرِيًا لَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَأَمَّا لَوِ انْبَعَثَ الْجَارِحُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ وَلَا إِغْرَاءٍ فَلَا يَجُوزُ صَيْدُهُ وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَادَ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ وَأَمْسَكَ عَلَيْهَا، وَلَا صُنْعَ لِلصَّائِدِ فِيهِ، فَلَا يُنْسَبُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ). وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُؤْكَلُ صَيْدُهُ إِذَا كَانَ أَخْرَجَهُ لِلصَّيْدِ. السَّابِعَةُ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ "عَلَّمْتُمْ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ مِنْ أَمْرِ الْجَوَارِحِ وَالصَّيْدِ بِهَا. وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ، وَسُمِّيَتْ أَعْضَاءُ الْإِنْسَانِ جَوَارِحَ لِأَنَّهَا تَكْسِبُ وَتَتَصَرَّفُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ جَوَارِحَ لِأَنَّهَا تَجْرَحُ وَتُسِيلُ الدَّمَ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِرَاحِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَوْمٍ. وَ "مُكَلِّبِينَ" قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ اللَّامِ، وَالْمُكَلِّبُ مُعَلِّمُ الْكِلَابِ وَمُضْرِيهَا [[مولعها بالصيد.]]. وَيُقَالُ لِمَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَ الْكَلْبِ: مُكَلِّبٌ، لِأَنَّهُ يَرُدُّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ كَالْكَلْبِ، حَكَاهُ بَعْضُهُمْ. وَيُقَالُ لِلصَّائِدِ: مُكَلِّبٌ فَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ صَائِدِينَ. وَقِيلَ: الْمُكَلِّبُ صَاحِبُ الْكِلَابِ، يُقَالُ: كَلَّبَ فَهُوَ مُكَلِّبٌ وَكَلَّابٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ "مُكْلِبِينَ" بِسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهُ أَصْحَابُ كِلَابٍ، يُقَالُ: أَمْشَى الرَّجُلُ كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ، وَأَكْلَبَ كَثُرَتْ كِلَابُهُ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ [[البيت للنابغة. تخلجه تنتزعه]]: وَكُلُّ فَتًى وَإِنْ أَمْشَى فَأَثْرَى ... سَتُخْلِجُهُ عَنِ الدُّنْيَا مَنُونَ الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ أَنَّثَ الضَّمِيرَ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْجَوَارِحِ، إِذْ هُوَ جَمْعُ جَارِحَةٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْطَيْنِ فِي التَّعْلِيمِ وَهُمَا: أَنْ يَأْتَمِرَ إِذَا أُمِرَ [[في ك: إذا أرسل.]] وَيَنْزَجِرَ إِذَا زُجِرَ، لَا خِلَافَ فِي هَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فِي الْكِلَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سِبَاعِ الْوُحُوشِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الطَّيْرِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَطٌ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَنْزَجِرَ إِذَا زُجِرَتْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهَا غَالِبًا، فَيَكْفِي أَنَّهَا إِذَا أُمِرَتْ أَطَاعَتْ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: مَا أَجَابَ مِنْهَا إِذَا دُعِيَ فَهُوَ الْمُعَلَّمُ الضَّارِي، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَيَوَانِ بِطَبْعِهِ يَنْشَلِي [[يغرى.]]. وَقَدْ شَرَطَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّعْلِيمِ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُعَلَّمُ هُوَ الَّذِي إِذَا أَشْلَاهُ صَاحِبُهُ انْشَلَى، وَإِذَا دَعَاهُ إِلَى الرُّجُوعِ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا مِرَارًا وَقَالَ أَهْلُ الْعُرْفِ: صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ الْمُعَلَّمُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَالْكُوفِيِّينَ: إِذَا أُشْلِيَ فَانْشَلَى وَإِذَا أَخَذَ حَبَسَ وَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أُكِلَ صَيْدُهُ فِي الثَّالِثَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ فِي الرَّابِعَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا فَعَلَ] ذَلِكَ [[[من ج وك.]] مَرَّةً فَهُوَ مُعَلَّمٌ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ فِي الثَّانِيَةِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ حَبَسْنَ لَكُمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: الْمَعْنَى وَلَمْ يَأْكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ لَمْ يُؤْكَلْ مَا بَقِيَ، لِأَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُمْسِكْ عَلَى رَبِّهِ. وَالْفَهْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ كَالْكَلْبِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي الطُّيُورِ بَلْ يُؤْكَلُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ. وَقَالَ سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عُمَرَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا: الْمَعْنَى وَإِنْ أَكَلَ، فَإِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ كَلْبًا كَانَ أَوْ فَهْدًا أَوْ طَيْرًا أُكِلَ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا بَضْعَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَدِيٍّ فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ (وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أمسك على نفسه) أخرجه مسلم. الثاني- حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَكُلْ مَا ردت عليك يدك) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ عَنْ عَدِيٍّ وَلَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ، وَلَمَّا تَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ رَامَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلُوا حَدِيثَ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْوَرَعِ، وَحَدِيثَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدِيًّا كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ بِالْكَفِّ وَرَعًا، وَأَبَا ثَعْلَبَةَ كَانَ مُحْتَاجًا فَأَفْتَاهُ بِالْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى صحة هذا التأويل قول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: (فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) هَذَا تَأْوِيلُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ "الِاسْتِذْكَارِ": وَقَدْ عَارَضَ حَدِيثَ عَدِيٍّ هَذَا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ نَاسِخٌ لَهُ، فَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَكَلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَإِنْ أَكَلَ). قُلْتُ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّارِيخَ مَجْهُولٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مَا لَمْ يُعْلَمِ التَّارِيخُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْأَكْلُ عَنْ فَرْطِ جُوعٍ مِنَ الْكَلْبِ أُكِلَ وَإِلَّا لَمْ يُؤْكَلْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ تَعْلِيمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ السَّلَفِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ وَالْفَهْدُ فَمَنَعُوهُ، وَبَيْنَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي فَأَجَازُوهُ، قال النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالُوا: الْكَلْبُ وَالْفَهْدُ يُمْكِنُ ضَرْبُهُ وَزَجْرُهُ، وَالطَّيْرُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وَحَدُّ تَعْلِيمِهِ أَنْ يُدْعَى فَيُجِيبُ، وَأَنْ يُشْلَى فَيَنْشَلِي، لَا يُمْكِنُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالضَّرْبُ يُؤْذِيهِ. الْعَاشِرَةُ- وَالْجُمْهُورُ مِنَ العلماء عل أَنَّ الْجَارِحَ إِذَا شَرِبَ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ أَنَّ الصَّيْدَ يُؤْكَلُ، قَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَ شُرْبُ الدَّمِ بِأَكْلٍ، وَكَرِهَ أَكْلَ ذَلِكَ الصَّيْدِ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ أَنَّ سَبَبَ إِبَاحَةِ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ عَقْرُ الْجَارِحِ لَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَحَقِّقًا غَيْرَ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ، وَهِيَ: الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ وَجَدَ الصَّائِدُ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا آخَرَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرْسَلٍ مِنْ صَائِدٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا انْبَعَثَ فِي طَلَبِ الصَّيْدِ بِطَبْعِهِ وَنَفْسِهِ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي هَذَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ- فِي رِوَايَةٍ- فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ). فَأَمَّا لَوْ أَرْسَلَهُ صَائِدٌ آخَرُ فَاشْتَرَكَ الْكَلْبَانِ فِيهِ فَإِنَّهُ لِلصَّائِدَيْنِ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ. فَلَوْ أَنْفَذَ أَحَدُ الْكَلْبَيْنِ مَقَاتِلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَهُوَ لِلَّذِي أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُؤْكَلُ مَا رُمِيَ بِسَهْمٍ فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ غَرِقَ فِي مَاءٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيٍّ: (وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك (. وَهَذَا نَصٌّ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- لَوْ مَاتَ الصَّيْدُ فِي أَفْوَاهِ الْكِلَابِ مِنْ غَيْرِ بَضْعٍ لَمْ يُؤْكَلْ، لِأَنَّهُ مَاتَ خَنْقًا فَأَشْبَهَ أَنْ يُذْبَحَ بِسِكِّينٍ كَالَّةٍ فَيَمُوتُ فِي الذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَى حَلْقُهُ. وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ مِنَ الْجَوَارِحِ وَذَبْحُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَكَانَ مُقَصِّرًا فِي الذَّكَاةِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحِهِ، وَذَكَاةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ تُخَالِفُ ذَكَاةَ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ السِّكِّينَ، أَوْ تَنَاوَلَهَا وَهِيَ مَعَهُ جَازَ أَكْلُهُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ السِّكِّينُ مَعَهُ فَتَشَاغَلَ بِطَلَبِهَا لَمْ تُؤْكَلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيمَا نَالَتْهُ الْجَوَارِحُ وَلَمْ تُدْمِهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا- أَلَّا يُؤْكَلَ حَتَّى يُجْرَحَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "مِنَ الْجَوارِحِ" وهو قول ابن الْقَاسِمِ، وَالْآخَرُ- أَنَّهُ حِلٌّ وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ، قَالَ أَشْهَبُ: إِنْ مَاتَ مِنْ صَدْمَةِ الْكَلْبِ أُكِلَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ: (فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ) وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ (فَكُلْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مَا لَمْ يُنْتِنْ) يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ). فَالْإِصْمَاءُ مَا قُتِلَ مُسْرِعًا وَأَنْتَ تَرَاهُ، وَالْإِنْمَاءُ أَنْ تَرْمِيَ الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْكَ فَيَمُوتُ وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ، يُقَالُ: قَدْ أَنْمَيْتُ الرَّمِيَّةَ فَنَمَتْ تَنْمِي إِذَا غَابَتْ ثُمَّ مَاتَتْ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَهْوَ لَا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ ... مَالَهُ لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهْ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ الْغَائِبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: يُؤْكَلُ، وَسَوَاءٌ قَتَلَهُ السَّهْمُ أَوِ الْكَلْبُ. الثَّانِي: لا يؤكل شي مِنْ ذَلِكَ إِذَا غَابَ، لِقَوْلِهِ: (كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ). وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْكَلْ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ غَيْرُ السَّهْمِ مِنَ الْهَوَامِّ. الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ السَّهْمِ فَيُؤْكَلُ وَبَيْنَ الْكَلْبِ فَلَا يُؤْكَلُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّهْمَ يَقْتُلُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُشْكِلُ، وَالْجَارِحُ عَلَى جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيُشْكِلُ، وَالثَّلَاثَةُ الْأَقْوَالُ لِعُلَمَائِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ: إِذَا بَاتَ الصَّيْدُ ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُنْفِذِ الْبَازِي أَوِ الْكَلْبُ أَوِ السَّهْمُ مَقَاتِلَهُ لَمْ يَأْكُلْهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ مَقَاتِلَهُ كَانَ حَلَالًا عِنْدَهُ أَكْلُهُ وَإِنْ بَاتَ، إِلَّا أَنَّهُ يَكْرَهُهُ إِذَا بَاتَ، لِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَإِنْ غَابَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلَا تَأْكُلْ" وَنَحْوُهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: إِذَا غَابَ عَنْكَ يَوْمًا كَرِهْتُ أَكْلَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِيَاسُ أَلَّا يَأْكُلَهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ مَصْرَعُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ وَجَدَهُ مِنَ الْغَدِ مَيِّتًا وَوَجَدَ فِيهِ سَهْمَهُ أَوْ أَثَرًا مِنْ كَلْبِهِ فَلْيَأْكُلْهُ، وَنَحْوَهُ قَالَ أَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَأَصْبَغُ، قَالُوا: جَائِزٌ أَكْلُ الصَّيْدِ وَإِنْ بَاتَ إِذَا نَفَذَتْ مَقَاتِلَهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: (مَا لَمْ يُنْتِنْ) تَعْلِيلٌ، لِأَنَّهُ إِذَا أَنْتَنَ لَحِقَ بِالْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي تَمُجُّهَا الطِّبَاعُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا، فَلَوْ أَكَلَهَا لَجَازَ، كَمَا أَكَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْإِهَالَةُ [[روى أن خياطا دَعَا النَّبِيَّ ﷺ إِلَى طعام فقدم إليه إهالة سنخة وخبز شعير. الإهالة: الدسم ما كان، والسنخة المتغيرة الريح.]] السَّنِخَةُ وَهِيَ الْمُنْتِنَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ عَلَى آكِلِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَكُونُ أَكْلُهُ مُحَرَّمًا إِنْ كَانَ الْخَوْفُ مُحَقَّقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الصَّيْدِ بِكَلْبِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا، فَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَمَّا كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ وَبَازُهُ وَصَقْرُهُ فكره الصيد بها جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَجَازَ الصَّيْدَ بِكِلَابِهِمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الصَّائِدُ مُسْلِمًا، قَالُوا: وَذَلِكَ مِثْلَ شَفْرَتِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ صَيْدِهِ غَيْرَ مَالِكٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ ذَبِيحَتِهِ، وَتَلَا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" [[راجع ص ٢٩٩ من هذا الجزء.]]] المائدة: ٩٤]، قَالَ: فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي هَذَا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ: صَيْدُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ حَلَالٌ كَذَبِيحَتِهِ، وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ صَيْدُ الصَّابِئِ وَلَا ذَبْحُهُ، وَهُمْ قوم بين اليهود والنصارى وَلَا دِينَ لَهُمْ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِدُ مجوسا فَمَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَجُمْهُورُ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ الْمَجُوسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّ صَيْدَهُمْ جَائِزٌ. وَلَوْ اصْطَادَ السَّكْرَانُ أَوْ ذَبَحَ لَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ، وَالسَّكْرَانُ لَا قَصْدَ لَهُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي "مِنْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ" فَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: "كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ" [[راجع ج ٧ ص ٩٩.]]] الانعام: ١٤١]. وَخَطَّأَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَقَالُوا: "مِنْ" لَا تُزَادُ فِي الْإِثْبَاتِ وَإِنَّمَا تُزَادُ فِي النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَقَوْلُهُ: "مِنْ ثَمَرَةٍ"، "يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ" [[راجع ج ٣ ص ٣٣٢.]]] البقرة: ٢٧١] و" لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [[راجع ج ١٨ ص ٢٩٩ وص ٨٦.]] ١٠"] الأحقاف: ٣١] لِلتَّبْعِيضِ، أَجَابَ فَقَالَ: قَدْ قَالَ:" يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [[راجع ج ١٨ ص ٢٩٩ وص ٨٦.]] "] نوح: ٤] بِإِسْقَاطِ "مِنْ" فَدَلَّ عَلَى زِيَادَتِهَا فِي الْإِيجَابِ، أُجِيبُ بِأَنَّ "مِنْ" هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ مِنَ الصَّيْدِ اللَّحْمُ دُونَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. قُلْتُ: هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلَا مَعْهُودٍ فِي الْأَكْلِ فَيُعَكِّرُ عَلَى مَا قَالَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ "مِمَّا أَمْسَكْنَ" أَيْ مِمَّا أَبْقَتْهُ الْجَوَارِحُ لَكُمْ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَوْ أَكَلَ الْكَلْبُ الْفَرِيسَةَ لَمْ يَضُرْ وَبِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَكْلِ الصَّيْدِ إِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ وَاقْتِنَائِهَا لِلصَّيْدِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ وَزَادَتِ الْحَرْثَ وَالْمَاشِيَةَ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى كَانَ يُقْتَلُ كَلْبُ الْمُرَيَةِ [[المرية: هي مصغر المرأة، والأصل المرئية.]] مِنَ الْبَادِيَةِ يَتْبَعُهَا، رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ). قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذُكِرَ لِابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَجُعِلَ النَّقْصُ مِنْ أَجْرِ مَنِ اقْتَنَاهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المنفعة، إما لترويع الكلب المسلمين وَتَشْوِيشِهِ عَلَيْهِمْ بِنُبَاحِهِ- كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ نَزَلَ بِعَمَّارٍ فَسَمِعَ لِكِلَابِهِ نُبَاحًا فَأَنْشَأَ يَقُولُ: نَزَلْنَا بِعَمَّارٍ [[البيت لزيادة الأعجم. وعمار اسم شخص، وروى في (اللسان): أتينا أبا عمرو ... إلخ.]] فَأَشْلَى كِلَابَهُ ... عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي أُسِرُّ إِلَيْهِمُ ... أَذَا الْيَوْمُ أَمْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُ أَوْ لِمَنْعِ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ الْبَيْتَ، أَوْ لِنَجَاسَتِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ لِاقْتِحَامِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: (قِيرَاطَانِ) وَفِي الْأُخْرَى (قِيرَاطٌ) وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَابِ أَحَدُهُمَا أَشَدُّ أَذًى مِنَ الْآخَرِ، كَالْأَسْوَدِ الَّذِي أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حِينَ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا فَقَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ، فَيَكُونُ مُمْسِكُهُ بِالْمَدِينَةِ مَثَلًا أَوْ بِمَكَّةَ يُنْقَصُ قِيرَاطَانِ، وَبِغَيْرِهِمَا قِيرَاطٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ فَلَا يَنْقُصُ أَجْرُ مُتَّخِذِهِ كَالْفَرَسِ وَالْهِرِّ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، حَتَّى قَالَ سَحْنُونٌ: وَيَحُجُّ بِثَمَنِهِ. وَكَلْبُ الْمَاشِيَةِ الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ الَّذِي يَسْرَحُ مَعَهَا لَا الَّذِي يَحْفَظُهَا فِي الدَّارِ مِنَ السُّرَّاقِ. وَكَلْبُ الزَّرْعِ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنَ الْوُحُوشِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا مِنَ السُّرَّاقِ. وَقَدْ أَجَازَ غَيْرُ مَالِكٍ اتِّخَاذُهَا لِسُرَّاقِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ وَالدَّارِ فِي الْبَادِيَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِلْجَاهِلِ، لِأَنَّ الْكَلْبَ إِذَا عُلِمَ يَكُونُ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْكِلَابِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ لَهُ عِلْمٌ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، لَا سِيَّمَا إِذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وجهه أنه قال: لكل شي قِيمَةٌ وَقِيمَةُ الْمَرْءِ مَا يُحْسِنُهُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أَمْرٌ بِالتَّسْمِيَةِ، قِيلَ: عِنْدَ الْإِرْسَالِ عَلَى الصَّيْدِ، وَفِقْهُ الصَّيْدِ وَالذَّبْحِ فِي] مَعْنَى [[[من ج وك وز.]] التَّسْمِيَةِ وَاحِدٌ، يَأْتِي بَيَانُهُ فِي "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٧ ص ٧٥.]]. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ هُنَا التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: (يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ). وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أن الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِلَّا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الْحَدِيثَ. فَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوَّلَ الْأَكْلِ فليسم آخره، وروى النسائي عن أمية ابن مَخْشِيٍّ- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ لُقْمَةٍ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا سَمَّى قَاءَ مَا أَكَلَهُ). التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْإِشَارَةُ الْقَرِيبَةُ هِيَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْأَوَامِرِ. وَسُرْعَةُ الْحِسَابِ هِيَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَعَالَى قَدْ أحاط بكل شي علما وأحصى كل شي عَدَدًا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُحَاوَلَةِ عَدٍّ وَلَا عَقْدٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْحُسَّابُ، وَلِهَذَا قَالَ: "وَكَفى بِنا حاسِبِينَ" [[راجع ج ١١ ص ٢٩٣.]]] الأنبياء: ٤٧] فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ حِسَابَ اللَّهِ لَكُمْ سَرِيعٌ إِتْيَانُهُ، إِذْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْحِسَابِ الْمُجَازَاةَ، فَكَأَنَّهُ تَوَعَّدَ فِي الدُّنْيَا بِمُجَازَاةٍ سَرِيعَةٍ قريبة إن لم يتقوا الله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب