الباحث القرآني

﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ شُرُوعٌ في تَفْصِيلِ المُحَلَّلاتِ الَّتِي ذُكِرَ بَعْضُها عَلى وجْهِ الإجْمالِ إثْرَ بَيانِ المُحَرَّماتِ. أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي رافِعٍ قالَ: ««جاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأذِنَ لَهُ، فَأبْطَأ، فَأخَذَ رِداءَهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وهو قائِمٌ بِالبابِ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَدْ أذِنّا لَكَ، قالَ: أجَلْ، ولَكِنّا لا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ ولا كَلْبٌ، فَنَظَرُوا فَإذا في بَعْضِ بُيُوتِهِمْ جَرْوٌ» قالَ أبُو رافِعٍ: فَأمَرَنِي - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ أقْتُلَ كُلَّ كَلْبٍ بِالمَدِينَةِ، فَفَعَلْتُ، وجاءَ النّاسُ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ماذا يَحِلُّ لَنا مِن هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي أمَرْتَ بِقَتْلِها؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ( يَسْألُونَكَ ) الآيَةَ». وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّ السّائِلَ عاصِمُ بْنُ عَدِّيٍّ، وسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وعُوَيْمُ بْنُ ساعِدَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، أنَّ السّائِلَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ، وزَيْدُ بْنُ المُهَلْهَلِ الطّائِيّانِ، وقَدْ ضُمِّنَ السُّؤالُ مَعْنى القَوْلِ، ولِذا حُكِيَتْ بِهِ الجُمْلَةُ كَما تُحْكى بِالقَوْلِ، ولَيْسَ مُعَلَّقًا؛ لِأنَّهُ - وإنْ يَكُنْ مِن أفْعالِ القُلُوبِ - لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، وطَرِيقٌ لَهُ، فَيُعَلَّقُ كَما يُعَلَّقُ خِلافًا لِأبِي حَيّانَ، فانْدَفَعَ ما قِيلَ: إنَّ السُّؤالَ لَيْسَ مِمّا يَعْمَلُ في الجُمَلِ، ويَتَعَدّى بِحَرْفِ الجَرِّ، فَيُقالُ: سُئِلَ عَنْ كَذا، وادَّعى بَعْضُهم لِذَلِكَ أنَّهُ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ: جَوابُ ماذا، والأوَّلُ مُخْتارُ الأكْثَرِينَ، وضَمِيرُ الغَيْبَةِ دُونَ المُتَكَلِّمِ الواقِعِ في كَلامِهِمْ لِما أنَّ ( يَسْألُونَ ) بِلَفْظِ الغَيْبَةِ، كَما تَقُولُ: أقْسَمَ زَيْدٌ لَيَضْرِبَنَّ، ولَوْ قُلْتَ: لَأضْرِبَنَّ جازَ، والمَسْؤُولُ - نَظَرًا لِلْكَلامِ السّابِقِ – ما أُحِلَّ مِنَ المَطاعِمِ والمَآكِلِ، وقِيلَ: إنَّ المَسْؤُولَ ما أُحِلَّ مِنَ الصَّيْدِ والذَّبائِحَ. ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ أيْ: ما لَمْ تَسْتَخْبِثْهُ الطِّباعُ السَّلِيمَةُ، ولَمْ تَنْفِرْ عَنْهُ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ البَلْخِيُّ، وعَنْ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ، وأبِي مُسْلِمٍ هي ما أذِنَ سُبْحانَهُ في أكْلِهِ مِنَ المَأْكُولاتِ والذَّبائِحِ والصَّيْدِ، وقِيلَ: ما لَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمِهِ نَصٌّ أوْ قِياسٌ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ الإجْماعُ، إذْ لا بُدَّ مِنِ اسْتِنادِهِ لِنَصٍّ وإنْ لَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ، والطَّيِّبُ - عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ - بِمَعْنى الحَلالِ، وعَلى الأوَّلِ بِمَعْنى المُسْتَلَذِّ، وقَدْ جاءَ بِالمَعْنَيَيْنِ. ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ عَطْفٌ عَلى ( الطَّيِّباتُ ) بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، عَلى أنَّ ( ما ) مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ: وصَيْدُ ما عَلَّمْتُمُوهُ، قِيلَ: والمُرادُ مَصْدَرُهُ؛ لِأنَّهُ الَّذِي أُحِلَّ بِعَطْفِهِ عَلى ( الطَّيِّباتُ ) مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، وقِيلَ: الظّاهِرُ أنَّهُ لا حاجَةَ إلى جَعْلِ الصَّيْدِ بِمَعْنى المَصِيدِ؛ لِأنَّ الحِلَّ والحُرْمَةَ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالفِعْلِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ( ما ) شَرْطِيَّةً مُبْتَدَأً، والجَوابُ ( فَكُلُوا ) والخَبَرُ الجَوابُ، والشَّرْطُ عَلى المُخْتارِ، والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ( أُحِلَّ لَكم ) ولا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ. ونُقِلَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهُ قالَ بِالتَّقْدِيرِ فِيهِ، وقالَ: تَقْدِيرُهُ لا يُبْطِلُ كَوْنَ ( ما ) شَرْطِيَّةً؛ لِأنَّ المُضافَ إلى اسْمِ الشَّرْطِ في حُكْمِ المُضافِ إلَيْهِ، كَما تَقُولُ: غُلامُ مَن يَضْرِبْ أضْرِبْ، كَما تَقُولُ: مَن يَضْرِبْ أضْرِبْ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَصِيرُ الخَبَرُ خالِيًّا عَنْ ضَمِيرِ المُبْتَدَأِ، إلّا أنْ يُتَكَلَّفَ بِجَعْلِ ( ما أمْسَكْنَ ) مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ ( ما عَلَّمْتُمْ ) فافْهَمْ. وجُوِّزَ كَوْنُها مُبْتَدَأً عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مَوْصُولَةً أيْضًا، والخَبَرُ ( كُلُوا ) والفاءُ إنَّما دَخَلَتْ تَشْبِيهًا لِلْمَوْصُولِ بِاسْمِ الشَّرْطِ؛ لَكِنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ، و( مِنَ الجَوارِحِ ) حالٌ مِنَ المَوْصُولِ، أوْ مِن ضَمِيرِهِ المَحْذُوفِ، و( الجَوارِحِ ) جَمْعُ جارِحَةٍ، والهاءُ فِيها - كَما قالَ أبُو البَقاءِ – لِلْمُبالَغَةِ، وهي صِفَةٌ غالِبَةٌ، إذْ لا يَكادُ يُذْكَرُ (p-63)مَعَها المَوْصُوفُ، وفُسِّرَتْ بِالكَواسِبِ مِن سِباعِ البَهائِمِ والطَّيْرِ، وهو مِن قَوْلِهِمْ: جَرَحَ فُلانٌ أهْلَهُ خَيْرًا إذا أكْسَبَهُمْ، وفُلانٌ جارِحَةُ أهْلِهِ أيْ: كاسِبُهُمْ، وقِيلَ: سُمِّيَتْ جَوارِحَ؛ لِأنَّها تَجْرَحُ الصَّيْدَ غالِبًا. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - والسُّدِّيِّ والضَّحّاكِ - وهو المَرْوِيُّ عَنْ أئِمَّةِ أهْلِ البَيْتِ بِزَعْمِ الشِّيعَةِ - أنَّها الكِلابُ فَقَطْ. ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ أيْ: مُعَلِّمِينَ لَها الصَّيْدَ، والمُكَلِّبُ مُؤَدِّبُ الجَوارِحِ ومُضَرِّبُها بِالصَّيْدِ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الكَلْبِ لِهَذا الحَيَوانِ المَعْرُوفِ؛ لِأنَّ التَّأْدِيبَ كَثِيرًا ما يَقَعُ فِيهِ، أوْ لِأنَّ كُلَّ سَبُعٍ يُسَمّى كَلْبًا - عَلى ما قِيلَ - فَقَدْ أخْرَجَ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ، وقالَ: صَحِيحُ الإسْنادِ مِن حَدِيثِ أبِي نَوْفَلٍ قالَ: ««كانَ لَهَبُ بْنُ أبِي لَهَبٍ يَسُبُّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِن كِلابِكَ أوْ كَلْبَكَ، فَخَرَجَ في قافِلَةٍ يُرِيدُ الشّامَ، فَنَزَلُوا مَنزِلًا فِيهِ سِباعٌ، فَقالَ: إنِّي أخافُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَجَعَلُوا أمْتاعَهُ حَوْلَهُ، وقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فَجاءَ أسَدٌ فانْتَزَعَهُ وذَهَبَ بِهِ»» ولا يَخْفى أنَّ في شُمُولِ ذَلِكَ لِسِباعِ الطَّيْرِ نَظَرًا، ولا دَلالَةَ في تَسْمِيَةِ الأسَدِ كَلْبًا عَلَيْهِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الكَلْبِ الَّذِي هو بِمَعْنى الضَّراوَةِ، يُقالُ: هو كَلْبٌ بِكَذا إذا كانَ ضارِيًا بِهِ، وانْتِصابُهُ عَلى الحالِيَّةِ مِن فاعِلِ ( عَلَّمْتُمْ ) وفائِدَتُها المُبالِغَةُ في التَّعْلِيمِ لِما أنَّ المُكَلِّبَ لا يَقَعُ إلّا عَلى النِّحْرِيرِ في عِلْمِهِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ والحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - أنَّهم قَرَءُوا ( مُكْلِبِينَ ) بِالتَّخْفِيفِ مِن ( أكْلَبَ ) وفَعَلَ وأفْعَلَ قَدْ يُسْتَعْمَلانِ بِمَعْنًى واحِدٍ. ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ ( مُكَلِّبِينَ ) أوِ اسْتِئْنافِيَّةٌ إنْ لَمْ تَكُنْ ( ما ) شَرْطِيَّةً، وإلّا فَهي مُعْتَرِضَةٌ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ حالًا ثانِيَةً مِن ضَمِيرِ ( عَلَّمْتُمْ ) ومَنَعَ ذَلِكَ أبُو البَقاءِ بِأنَّ العامِلَ الواحِدَ لا يَعْمَلُ في حالَيْنِ، وفِيهِ نَظَرٌ، ولَمْ يُسْتَحْسَنْ جَعْلُها حالًا مِنَ ( الجَوارِحِ ) لِلْفَصْلِ بَيْنَهُما. ﴿مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ مِنَ الحِيَلِ وطُرُقِ التَّعْلِيمِ والتَّأْدِيبِ، وذَلِكَ إمّا بِالإلْهامِ مِنهُ سُبْحانَهُ، أوْ بِالعَقْلِ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِمْ جَلَّ وعَلا، وقِيلَ: المُرادُ مِمّا عَرَّفَكم سُبْحانَهُ أنْ تُعَلِّمُوهُ مِنِ اتِّباعِ الصَّيْدِ بِأنْ يَسْتَرْسِلَ بِإرْسالِ صاحِبِهِ، ويَنْزَجِرَ بِزَجْرِهِ، ويَنْصَرِفَ بِدُعائِهِ، ويُمْسِكَ عَلَيْهِ الصَّيْدَ، ولا يَأْكُلَ مِنهُ. ورُجِّحَ بِدَلالَتِهِ عَلى أنَّ المُعَلِّمَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مُكَلِّبًا فَقِيهًا أيْضًا، و( مِن ) أجَلِيَّةٌ، وقِيلَ: تَبْعِيضِيَّةٌ، أيْ: بَعْضَ ما عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ جُمْلَةٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَلى بَيانِ حِلِّ صَيْدِ الجَوارِحِ المُعَلَّمَةِ، مُبَيِّنَةٌ لِلْمُضافِ المُقَدَّرِ، ومُشِيرَةٌ إلى نَتِيجَةِ التَّعْلِيمِ وأثَرِهِ، أوْ جَوابٌ لِلشَّرْطِ، أوْ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ، و( مِن ) تَبْعِيضِيَّةٌ؛ إذْ مِنَ المُمْسَكِ ما لا يُؤْكَلُ؛ كالجِلْدِ والعَظْمِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وقِيلَ: زائِدَةٌ عَلى رَأْيِ الأخْفَشِ، وخُرُوجُ ما ذُكِرَ بَدِيهِيٌّ، و( ما ) مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ: أمْسَكْنَهُ، وضَمِيرُ المُؤَنَّثِ لِلْجَوارِحِ، و( عَلَيْكم ) مُتَعَلِّقٌ بِـ( أمْسَكْنَ ) والِاسْتِعْلاءُ مَجازِيٌّ، والتَّقْيِيدُ بِذَلِكَ لِإخْراجِ ما أمْسَكْنَهُ عَلى أنْفُسِهِنَّ، وعَلامَتُهُ أنْ يَأْكُلْنَ مِنهُ فَلا يُؤْكَلُ مِنهُ، وقَدْ أشارَ إلى ذَلِكَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - رَوى أصْحابُ السُّنَنِ، «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: سَألَتُ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنْ صَيْدِ الكَلْبِ المُعَلَّمِ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعالى فَكُلْ مِمّا أمْسَكَ عَلَيْكَ، فَإنْ أكَلَ مِنهُ فَلا تَأْكُلْ، فَإنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ»» وإلى هَذا ذَهَبَ أكْثَرُ الفُقَهاءِ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - والشَّعْبِيِّ وعِكْرِمَةَ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ – وأصْحابُهُ: إذا أكَلَ الكَلْبُ مِنَ الصَّيْدِ فَهو غَيْرُ مُعَلَّمٍ، لا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ، ويُؤْكَلُ صَيْدُ البازِي ونَحْوِهِ وإنْ أكَلَ؛ لِأنَّ تَأْدِيبَ سِباعِ الطَّيْرِ إلى حَيْثُ لا تَأْكُلُ مُتَعَذِّرٌ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - فَقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (p-64)عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: «إذا أكَلَ الكَلْبُ فَلا تَأْكُلْ، وإذا أكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ؛ لِأنَّ الكَلْبَ تَسْتَطِيعُ أنْ تَضْرِبَهُ والصَّقْرَ لا تَسْتَطِيعُ أنْ تَضْرِبَهُ، وعَلَيْهِ إمامُ الحَرَمَيْنِ مِنَ الشّافِعِيَّةِ، وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: يُؤْكَلُ وإنْ أكَلَ الكَلْبُ مِنهُ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ سَلْمانَ، وسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، وأبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - أنَّهُ إذا أكَلَ الكَلْبُ ثُلْثَيْهِ وبَقِيَ ثُلْثُهُ، وقَدْ ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ فَكُلْ. ﴿واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الضَّمِيرُ لِـ( ما عَلَّمْتُمْ ) كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ الخَبَرُ السّابِقُ، والمَعْنى سَمُّوا عَلَيْهِ عِنْدَ إرْسالِهِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، والسُّدِّيِّ، وقِيلَ: لِما أمْسَكْنَ أيْ: سَمُّوا عَلَيْهِ إذا أدْرَكْتُمْ ذَكائَهُ، وقِيلَ: لِلْمَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن ( كُلُوا ) أيْ: سَمُّوا اللَّهَ تَعالى عَلى الأكْلِ، وهو بَعِيدٌ، وإنِ اسْتَظْهَرَهُ أبُو حَيّانَ، والأمْرُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - ولِلنَّدْبِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وهو عَلى القَوْلِ الأخِيرِ لِلنَّدْبِ بِالِاتِّفاقِ، ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ في شَأْنِ مُحَرَّماتِهِ، ومِنها أكْلُ صَيْدِ الجَوارِحِ الغَيْرِ المُعَلَّمَةِ. ﴿إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ أيْ: سَرِيعُ إتْيانِ حِسابِهِ، أوْ سَرِيعُ إتْمامِهِ إذا شَرَعَ فِيهِ، فَقَدْ جاءَ أنَّهُ سُبْحانَهُ يُحاسِبُ الخَلْقَ كُلَّهم في نِصْفِ يَوْمٍ، والمُرادُ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ أنَّهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - يُؤاخِذُكم عَلى جَمِيعِ الأفْعالِ حَقِيرِها وجَلِيلِها، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وتَعْلِيلِ الحُكْمِ، ولَعَلَّ ذِكْرَ هَذا إثْرَ بَيانِ حُكْمِ الصَّيْدِ لِحَثِّ مُتَعاطِيهِ عَلى التَّقْوى لِما أنَّهُ مَظِنَّةُ التَّهاوُنِ والغَفْلَةِ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ تَعالى، فَقَدْ رَأيْنا أكْثَرَ مَن يَتَعاطى ذَلِكَ يَتْرُكُ الصَّلاةَ، ولا يُبالِي بِالنَّجاسَةِ، والمُحْتاجُونَ لِلصَّيْدِ الحافِظُونَ لِدِينِهِمْ أعَزُّ مِنَ الغُرابِ الأبْيَضِ، وهم مُثابُونَ فِيهِ. فَقَدْ أحْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، عَنْ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ: ««أنَّ عُرْفُطَةَ بْنَ نَهِيكٍ التَّمِيمِيَّ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي وأهْلَ بَيْتِي مَرْزُوقُونَ مِن هَذا الصَّيْدِ، ولَنا فِيهِ قِسْمٌ وبَرَكَةٌ، وهو مَشْغَلَةٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى وعَنِ الصَّلاةِ في جَماعَةٍ، وبِنا إلَيْهِ حاجَةٌ، أفَتُحِلُّهُ أمْ تُحَرِّمُهُ؟ قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أُحِلُّهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أحَلَّهُ، نِعْمَ العَمَلُ، واللَّهُ تَعالى أوْلى بِالعُذْرِ، قَدْ كانَتْ قَبْلِي رُسُلٌ كُلُّهم يَصْطادُ أوْ يَطْلُبُ الصَّيْدَ، ويَكْفِيكَ مِنَ الصَّلاةِ في جَماعَةٍ إذا غِبْتَ عَنْها في طَلَبِ الرِّزْقِ حُبُّكَ الجَماعَةَ وأهْلَها، وحُبُّكَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعالى وأهْلَهُ، وابْتَغِ عَلى نَفْسِكَ وعِيالِكَ حَلالَها، فَإنَّ ذَلِكَ جِهادٌ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى»». واعْلَمْ أنَّ عَوْنَ اللَّهِ تَعالى في صالِحِ التُّجّارِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى جَوازِ تَعْلِيمِ الحَيَوانِ وضَرْبِهِ لِلْمَصْلَحَةِ؛ لِأنَّ التَّعْلِيمَ قَدْ يَحْتاجُ لِذَلِكَ، وعَلى إباحَةِ اتِّخاذِ الكَلْبِ لِلصَّيْدِ، وقِيسَ بِهِ الحِراسَةُ، وعَلى أنَّهُ لا يَحِلُّ صَيْدُ كَلْبِ المَجُوسِ، وإلى هَذا ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ في المُسْلِمِ يَأْخُذُ كَلْبَ المَجُوسِيِّ أوْ بازَهُ أوْ صَقْرَهُ أوْ عِقابَهُ فَيُرْسِلُهُ أنَّهُ قالَ: لا تَأْكُلْهُ وإنْ سَمَّيْتَ؛ لِأنَّهُ مِن تَعْلِيمِ المَجُوسِيِّ، وإنَّما قالَ اللَّهُ تَعالى ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب