الباحث القرآني

(p-٢٩٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ في سَبَبِ نُزُولِها قَوْلانِ. أحَدُهُما: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا أمَرَ بِقَتْلِ الكِلابِ، قالَ النّاسُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ماذا أُحِلَّ لَنا مِن هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي أمَرْتَ بِقَتْلِها؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ،» أخْرَجَهُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الحاكِمُ في "صَحِيحِهِ" مِن حَدِيثِ أبِي رافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وكانَ السَّبَبُ في أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِقَتْلِها «أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَأْذَنَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (p-٢٩١)فَأذِنَ لَهُ، فَلَمْ يَدْخُلْ وقالَ: "إنّا لا نَدْخَلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ولا صُورَةٌ" فَنَظَرُوا فَإذا في بَعْضِ بُيُوتِهِمْ جَرْوٌ.» والثّانِي: «أنَّ عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ، وزَيْدَ الخَيْلِ الَّذِي سَمّاهُ رَسُولُ اللَّهِ: زِيدَ الخَيْرِ، قالا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا قَوْمَ نَصِيدُ بِالكِلابِ والبُزاةِ، فَمِنهُ ما نُدْرِكُ ذَكاتَهُ، ومِنهُ مالا نُدْرِكُ ذَكاتَهُ، وقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ المَيْتَةَ، فَماذا يَحِلُّ لَنا مِنها؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ،» قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قالَ الزَّجّاجُ: ومَعْنى الكَلامِ: يَسْألُونَكَ أيُّ شَيْءٍ أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وأُحِلَّ لَكم صَيْدُ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ، والتَّأْوِيلُ أنَّهم سَألُوا عَنْهُ ولَكِنْ حَذَفَ ذِكْرَ صَيْدِ ما عَلَّمْتُمْ، لِأنَّ في الكَلامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَفِي الطَّيِّباتِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها المُباحُ مِنَ الذَّبائِحِ. والثّانِي: أنَّها ما اسْتَطابَهُ العَرَبُ مِمّا لَمْ يُحَرَّمْ. فَأمّا "الجَوارِحُ" فَهي ما صِيدِ بِهِ مِن سِباعِ البَهائِمِ والطَّيْرِ، كالكَلْبِ، والفَهْدِ، والصَّقْرِ، والبازِي، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ شَيْءٍ صادَ فَهو جارِحٌ. (p-٢٩٢)وَفِي تَسْمِيَتِها بِالجَوارِحِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: لِكَسْبِ أهْلِها بِها، قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أصْلُ الِاجْتِراحِ: الِاكْتِسابُ، يُقالُ: امْرَأةٌ لا جارِحَ لَها، أيْ: لا كاسِبَ. والثّانِي: لِأنَّها تَجْرَحُ ما تَصِيدُ في الغالِبِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. قالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: وعَلامَةُ التَّعْلِيمِ أنَّكَ إذا دَعَوْتَهُ أجابَ، وإذا أسَّدْتَهُ اسْتَأْسَدَ، ومَضى في طَلَبِهِ، وإذا أمْسَكَ أمْسَكَ عَلَيْكَ لا عَلى نَفْسِهِ، وعَلامَةُ إمْساكِهِ عَلَيْكَ: أنْ لا يَأْكُلَ مِنهُ شَيْئًا، هَذا في السِّباعِ والكِلابِ، فَأمّا تَعْلِيمُ جَوارِحِ الطَّيْرِ فَبِخِلافِ السِّباعِ، لِأنَّ الطّائِرَ إنَّما يُعْلِّمُ الصَّيْدَ بِالأكْلِ، والفَهْدُ، والكَلْبُ، وما أشْبَهَهُما يُعَلِّمُونَ بِتَرْكِ الأكْلِ، فَهَذا فَرْقُ ما بَيْنَهُما. وَفِي قَوْلِهِ: ( ﴿مُكَلِّبِينَ)﴾ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهم أصْحابُ الكِلابِ، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وهو قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وعَطاءٍ، والضَّحّاكِ، والسُّدِّيِّ، والفَرّاءِ، والزَّجّاجِ، وابْنِ قُتَيْبَةَ. قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ: رَجُلٌ مُكَلِّبٌ وكِلابِيٌّ، أيْ: صاحِبُ صَيْدٍ بِالكِلابِ. والثّانِي: أنَّ مَعْنى "مُكَلِّبِينَ" مُصِرِّينَ عَلى الصَّيْدِ، وهَذا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، ومُجاهِدٍ. والثّالِثُ: أنَّ "مُكَلِّبِينَ" بِمَعْنى: مُعَلِّمِينَ. قالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: وإنَّما قِيلَ لَهُمْ: مُكَلِّبِينَ، لِأنَّ الغالِبَ مِن صَيْدِهِمْ إنَّما يَكُونُ بِالكِلابِ. قالَ ثَعْلَبٌ: وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو رَزِينٍ: مُكْلِبِينَ، بِسُكُونِ الكافِ، يُقالُ: أكَلَبَ الرَّجُلُ: إذا كَثُرَتْ كِلابُهُ، وأمْشى: إذا كَثُرَتْ ماشِيَتُهُ، والعَرَبُ تَدْعُو الصّائِدَ مُكَلِّبًا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُؤَدِّبُونَهُنَّ لِطَلَبِ (p-٢٩٣)الصَّيْدِ. وقالَ الفَرّاءُ: تُؤَدِّبُونَهُنَّ أنْ لا يَأْكُلْنَ صَيْدَهُنَّ. واخْتَلَفُوا هَلْ إمْساكُ الصّائِدِ عَنِ الأكْلِ شَرْطٌ في صِحَّةِ التَّعْلِيمِ أمْ لا؟ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ شَرْطٌ في كُلِّ الجَوارِحِ، فَإنْ أكَلَتْ، لَمْ يُؤْكَلْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَطاءٍ. والثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ في الكُلِّ، ويُؤْكَلُ وإنْ أكَلَتْ، رُوِيَ عَنْ سَعْدِ ابْنِ أبِي وقّاصٍ، وابْنِ عُمَرَ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وسَلْمانَ الفارِسِيِّ. والثّالِثُ: أنَّهُ شَرْطٌ في جَوارِحِ البَهائِمِ، ولَيْسَ بِشَرْطٍ في جَوارِحِ الطَّيْرِ، وبِهِ قالَ الشَّعْبِيُّ، والنَّخْعِيُّ، والسُّدِّيُّ. وهو أصَحُّ لِما بَيَّنّا أنَّ جارِحَ الطَّيْرِ يُعْلَّمُ عَلى الأكْلِ، فَأُبِيحُ ما أكَلَ مِنهُ، وسِباعُ البَهائِمِ تُعَلَّمُ عَلى تَرْكِ الأكْلِ، فَأُبِيحَ ما أكَلَتْ مِنهُ. فَعَلى هَذا إذا أكَلَ الكَلْبُ والفَهْدُ مِنَ الصَّيْدِ، لَمْ يُبَحْ أكْلُهُ. فَأمّا ما أكَلَ مِنهُ الصَّقْرُ والبازِي، فَمُباحٌ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأصْحابُهُ. وقالَ مالِكٌ: يُباحُ أكْلُ ما أكَلَ مِنهُ الكَلْبُ، والفَهْدُ، والصَّقْرُ، فَإنْ قَتَلَ الكَلْبُ، ولَمْ يَأْكُلْ، أُبِيحَ. وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُباحُ، فَإنْ أدْرَكَ الصَّيْدَ، وفِيهِ حَياةٌ، فَماتَ قَبْلَ أنْ يُذَكِّيَهُ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلى ذَكاتِهِ أُبِيحَ، وإنْ أمْكَنَهُ فَلَمْ يُذَّكِهِ، لَمْ يُبَحْ، وبِهِ قالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُباحُ في المَوْضِعَيْنِ. فَأمّا الصَّيْدُ بِكَلْبِ المَجُوسِيِّ، فَرُوِيَ عَنْ أحْمَدَ أنَّهُ لا يُكْرَهُ، وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ، ورُوِيَ عَنْهُ الكَراهَةُ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ وهَذا خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قالَ القاضِي أبُو يَعْلى: ومَنَعَ أصْحابُنا الصَّيْدَ بِالكَلْبِ الأسْوَدِ، وإنْ كانَ مُعَلَّمًا، لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِقَتْلِهِ، والأمْرُ بِالقَتْلِ: يَمْنَعُ ثُبُوتَ اليَدِ، ويُبْطِلُ حُكْمَ الفِعْلِ، فَيَصِيرُ وُجُودُهُ كالعَدَمِ، فَلا يُباحُ صَيْدُهُ. (p-٢٩٤)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ قالَ الأخْفَشُ: "مِن" زائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِيها مِن بَرَدٍ﴾ [النُّورِ: ٤٣] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ في "هاءِ الكِنايَةِ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها تَرْجِعُ إلى الإرْسالِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والسُّدِّيُّ، وعِنْدَنا أنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ في إباحَةِ الصَّيْدِ. والثّانِي: تَرْجِعُ إلى الأكْلِ فَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ مُسْتَحَبَّةً. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لا تَسْتَحِلُّوا ما لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب