الباحث القرآني
* فَصْلٌ
وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ فِيما كانَ مِنَ الحَيَوانِ مَقْدُورًا عَلى ذَبْحِهِ، فَيُعْتَبَرُ في ذَكاتِهِ ما وصَفْنا مِن مَوْضِعِ الذَّكاةِ ومِنَ الآلَةِ عَلى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنّا. وأمّا الَّذِي لا نَقْدِرُ مِنهُ عَلى ذَبْحِهِ، فَإنَّ ذَكاتَهُ إنَّما تَكُونُ بِإصابَتِهِ بِما يَجْرَحُ ويُسِيلُ الدَّمَ أوْ بِإرْسالِ كَلْبٍ أوْ طَيْرٍ فَيَجْرَحُهُ دُونَ ما يَصْدِمُ أوْ يَهْشِمُ مِمّا لا حَدَّ لَهُ يَجْرَحُهُ؛ ولا يَخْتَلِفُ في ذَلِكَ عِنْدَنا حُكْمُ ما يَكُونُ أصْلُهُ مُمْتَنِعًا مِثْلَ الصَّيْدِ وما لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ في الأصْلِ مِنَ الأنْعامِ ثُمَّ يَتَوَحَّشُ ويَمْتَنِعُ أوْ يَتَرَدّى في مَوْضِعٍ لا نَقْدِرُ فِيهِ عَلى ذَكاتِهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ذَلِكَ في مَوْضِعَيْنِ، أحَدُهُما: في الصَّيْدِ إذا أُصِيبَ بِما لا يَجْرَحُهُ مِنَ الآلَةِ، فَقالَ أصْحابُنا ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ: " إذا أصابَهُ بِعَرْضِ المِعْراضِ لَمْ يُؤْكَلْ إلّا أنْ يُدْرِكَ ذَكاتَهُ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: " وإنْ رَمَيْتَهُ بِحَجَرٍ أوْ بُنْدُقَةٍ كَرِهْتُهُ إلّا أنْ تُذَكِّيَهُ، ولا فَرْقَ عِنْدَ أصْحابِنا بَيْنَ المِعْراضِ والحَجَرِ والبُنْدُقَةِ " .
وقالَ الأوْزاعِيُّ في صَيْدِ المِعْراضِ: " يُؤْكَلُ خَزَقَ أوْ لَمْ يَخْزِقْ " قالَ: " وكانَ أبُو الدَّرْداءِ وفَضالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ومَكْحُولٌ لا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا " .
وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا خَزَقَ الحَجَرُ فَكُلْ والبُنْدُقَةُ لا تَخْزِقُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " إنْ خَزَقَ المَرْمِيُّ بِرَمْيِهِ أوْ قَطَعَ بِحَدِّهِ أُكِلَ، وما جَرَحَ بِثِقَلِهِ فَهو وقِيذٌ؛ وفِيما نالَتْهُ الجَوارِحُ فَقَتَلَتْهُ فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لا يُؤْكَلُ حَتّى يُجْرَحَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ والآخَرُ أنَّهُ حِلٌّ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولَمْ يَخْتَلِفْ أصْحابُنا ومالِكٌ والشّافِعِيُّ في الكَلْبِ إذا قَتَلَ الصَّيْدُ بِصَدْمَتِهِ لَمْ يُؤْكَلْ.
وأمّا المَوْضِعُ الآخَرُ: فَما لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ في الأصْلِ، مِثْلُ البَعِيرِ والبَقَرِ إذا تَوَحَّشَ أوْ تَرَدّى في بِئْرٍ، فَقالَ أصْحابُنا: " إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى ذَبْحِهِ فَإنَّهُ يُقْتَلُ كالصَّيْدِ ويَكُونُ مُذَكًّى " وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ والشّافِعِيِّ. وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: " لا يُؤْكَلُ إلّا أنْ يُذْبَحَ عَلى شَرائِطِ الذَّكاةِ " . ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ وعَلْقَمَةَ والأسْوَدِ ومَسْرُوقٍ مِثْلُ قَوْلِ أصْحابِنا، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الآثارِ المُؤَيِّدَةِ لِقَوْلِ أصْحابِنا في الصَّيْدِ أنَّ شَرْطَ ذَكاتِهِ أنْ يَجْرَحَهُ بِما لَهُ حَدٌّ، ومِنهُ ما ذُكِرَ في المِعْراضِ أنَّهُ إنْ أصابَ بِحَدِّهِ أُكِلَ وإنْ أصابَ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ فَإنَّهُ وقِيذٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمَوْقُوذَةُ﴾ [المائدة: ٣] فَكُلُّ (p-٣٠٤)ما لا يُجْرَحُ مِن ذَلِكَ فَهو وقِيذٌ مُحَرَّمٌ بِظاهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
وفِي حَدِيثِ قَتادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «نَهى عَنِ الخَذْفِ وقالَ: إنَّها لا تَنْكَأُ العَدُوَّ ولا تَصِيدُ الصَّيْدَ ولَكِنَّها تَكْسِرُ السِّنَّ وتَفْقَأُ العَيْنَ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الجِراحَةَ في مِثْلِهِ لا تُذَكّى؛ إذْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ، وإنَّما الجِراحَةُ الَّتِي لَها حُكْمٌ في الذَّكاةِ هي ما يَقَعُ بِما لَهُ حَدٌّ، ألا تَرى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «قالَ في المِعْراضِ: إنْ أصابَهُ بِحَدِّهِ فَخَزَقَ فَكُلْ وإنْ أصابَهُ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْ» ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ما يَجْرَحُ ولا يَجْرَحُ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى اعْتِبارِ الآلَةِ، وأنَّ سَبِيلَها أنْ يَكُونَ لَها حَدٌّ في صِحَّةِ الذَّكاةِ بِها. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ في الخَذْفِ: «إنَّها لا تَصِيدُ الصَّيْدَ» يَدُلُّ عَلى سُقُوطِ اعْتِبارِ جِراحَتِهِ في صِحَّةِ الذَّكاةِ إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ.
وأمّا البَعِيرُ ونَحْوُهُ إذا تَوَحَّشَ أوْ تَرَدّى في بِئْرٍ، فَإنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ بِمَنزِلَةِ الصَّيْدِ في ذَكاتِهِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبايَةَ بْنِ رِفاعَةَ عَنْ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قالَ: «نَدَّ عَلَيْنا بَعِيرٌ فَرَمَيْناهُ بِالنَّبْلِ، ثُمَّ سَألْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنَّ لِهَذِهِ الإبِلِ أوابِدَ كَأوابِدِ الوَحْشِ فَإذا نَدَّ مِنها شَيْءٌ فاصْنَعُوا بِهِ ذَلِكَ وكُلُوهُ»؛ وقالَ سُفْيانُ: وزادَ إسْماعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ: فَرَمَيْناهُ بِالنَّبْلِ حَتّى رَهَصْناهُ.
فَهَذا يَدُلُّ عَلى إباحَةِ أكْلِهِ إذا قَتَلَهُ النَّبْلُ لِإباحَةِ النَّبِيِّ ﷺ مِن غَيْرِ شَرْطِ ذَكاةِ غَيْرِهِ. وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أبِي العُشَراءِ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ قالَ: «يا رَسُولَ اللَّهِ أما تَكُونُ الذَّكاةُ إلّا في اللَّبَّةِ والنَّحْرِ ؟ فَقالَ ﷺ: لَوْ طُعِنَتْ في فَخِذِها لَأجْزَأ عَنْكَ» وهَذا عَلى الحالِ الَّتِي لا يَقْدِرُ فِيها عَلى ذَبْحِها؛ إذْ لا خِلافَ أنَّ المَقْدُورَ عَلى ذَبْحِهِ لا يَكُونُ ذَلِكَ ذَكاتَهُ.
ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا مِن طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ رَمْيَ الصَّيْدِ يَكُونُ ذَكاةً لَهُ إذا قَتَلَهُ، ثُمَّ لا يَخْلُو المَعْنى المُوجِبُ لِكَوْنِ ذَلِكَ ذَكاةً مِن أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الجِنْسُ الصَّيْدَ؛ أوْ لِأنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلى ذَبْحِهِ، فَلَمّا اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الصَّيْدَ إذا صارَ في يَدِهِ حَيًّا لَمْ تَكُنْ ذَكاتُهُ إلّا بِالذَّبْحِ كَذَكاةِ ما لَيْسَ مِن جِنْسِ الصَّيْدِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذا الحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِجِنْسِهِ وإنَّما تَعَلَّقَ بِأنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلى ذَبْحِهِ في حالِ امْتِناعِهِ، فَوَجَبَ مِثْلُهُ في غَيْرِهِ إذا صارَ بِهَذِهِ الحالِ لِوُجُودِ العِلَّةِ الَّتِي مِن أجْلِها كانَ ذَلِكَ ذَكاةً لِلصَّيْدِ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في الصَّيْدِ يُقْطَعُ بَعْضُهُ، فَقالَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ (p-٣٠٥)وهُوَ قَوْلُ إبْراهِيمَ ومُجاهِدٍ: " إذا قَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ أُكِلا جَمِيعًا، وإنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَ، فَإنْ قَطَعَ الثُّلُثَ الَّذِي يَلْحَقُ العَجُزَ أُكِلَ الثُّلُثانِ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ ولا يُؤْكَلُ الثُّلُثُ الَّذِي يَلِي العَجُزَ " . وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى واللَّيْثُ: " إذا قَطَعَ مِنهُ قِطْعَةً فَماتَ الصَّيْدُ مَعَ الضَّرْبَةِ أكَلَهُما جَمِيعًا " . وقالَ مالِكٌ: " إذا قَطَعَ وسَطَهُ أوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ أُكِلَ، وإنْ قَطَعَ فَخِذَهُ لَمْ يَأْكُلِ الفَخِذَ وأكَلَ الباقِيَ " .
وقالَ الأوْزاعِيُّ: " إذا أبانَ عَجُزَهُ لَمْ يَأْكُلْ ما انْقَطَعَ مِنهُ ويَأْكُلُ سائِرَهُ، وإنْ قَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ أكَلَهُ كُلَّهُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " إنْ قَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ أكَلَهُ وإنْ كانَتْ إحْداهُما أقَلَّ مِنَ الأُخْرى، وإنْ قَطَعَ يَدًا أوْ رِجْلًا أوْ شَيْئًا يُمْكِنُ أنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ ساعَةً أوْ أكْثَرَ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ رَمْيَتِهِ أكَلَ ما لَمْ يَبِنْ مِنهُ ولَمْ يُؤْكَلْ ما بانَ وفِيهِ الحَياةُ، ولَوْ ماتَ مِنَ القَطْعِ الأوَّلِ أكَلَهُما جَمِيعًا " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا هاشِمُ بْنُ القاسِمِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دِينارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ عَنْ أبِي واقِدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما قُطِعَ مِنَ البَهِيمَةِ وهي حَيَّةٌ فَهو مَيْتَةٌ»، وهَذا إنَّما يَتَناوَلُ قَطْعَ القَلِيلِ مِنهُ مِن غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكاةِ وذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ لَوْ ضَرَبَ عُنُقَ الصَّيْدِ فَأبانَ رَأْسَهُ كانَ الجَمِيعُ مُذَكًّى، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ المُرادَ ما بانَ مِنها مِن غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكاةِ، وذَلِكَ إنَّما يَتَناوَلُ الأقَلَّ مِنهُ؛ لِأنَّهُ إذا قَطَعَ النِّصْفَ أوِ الثُّلُثَ الَّذِي يَلِي الرَّأْسَ فَإنَّهُ يَقْطَعُ العُرُوقَ الَّتِي يُحْتاجُ إلى قَطْعِها لِلذَّكاةِ، وهي الأوْداجُ والحُلْقُومُ والمَرِيءُ فَيَكُونُ الجَمِيعُ مُذَكًّى، وإذا قَطَعَ الثُّلُثَ مِمّا يَلِي الذَّنَبَ فَإنَّهُ لا يُصادِفُ قَطْعَ العُرُوقِ الَّتِي يُحْتاجُ إلَيْها في شَرْطِ الذَّكاةِ فَيَكُونُ ما بانَ مِنهُ مَيْتَةً لِقَوْلِهِ ﷺ: «ما بانَ مِنَ البَهِيمَةِ وهي حَيَّةٌ فَهو مَيْتَةٌ» وذَلِكَ لِأنَّهُ لا مَحالَةَ إنَّما يَحْدُثُ المَوْتُ بَعْدَ القَطْعِ فَقَدْ بانَ ذَلِكَ العُضْوُ مِنها وهي حَيَّةٌ فَهو مَيْتَةٌ، وما يَلِي الرَّأْسَ كُلَّهُ مُذَكًّى كَما لَوْ قَطَعَ رِجْلَها أوْ جَرَحَها في غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكاةِ ولَمْ يَبِنْ مِنها شَيْئًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَكاةً لَها لِتَعَذُّرِ قَطْعِ مَوْضِعِ الذَّكاةِ.
* * *
* فَصْلٌ
وأمّا الدِّينُ فَأنْ يَكُونَ الرّامِي أوِ المُصْطادُ مُسْلِمًا أوْ كِتابِيًّا، وسَنَذْكُرُ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وأمّا التَّسْمِيَةُ فَهي أنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعالى عِنْدَ الذَّبْحِ أوْ عِنْدَ الرَّمْيِ أوْ إرْسالِ الجَوارِحِ والكَلْبِ إذا كانَ ذاكِرًا، فَإنْ كانَ ناسِيًا لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ؛ وسَيَأْتِي الكَلامُ فِيهِ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
* * *
وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ اسْمُ الطَّيِّباتِ يَتَناوَلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: الطَّيِّبُ المُسْتَلَذُّ، والآخَرُ: الحَلالُ وذَلِكَ لِأنَّ ضِدَّ الطَّيِّبِ هو الخَبِيثُ، والخَبِيثُ حَرامٌ، فَإذا الطَّيِّبُ حَلالٌ؛ والأصْلُ فِيهِ الِاسْتِلْذاذُ، فَشَبَّهَ الحَلالَ بِهِ في انْتِفاءِ المَضَرَّةِ مِنهُما جَمِيعًا
؛ وقالَ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [المؤمنون: ٥١] يَعْنِي الحَلالَ، وقالَ: ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] فَجَعَلَ الطَّيِّباتِ في مُقابَلَةِ الخَبائِثِ، والخَبائِثُ هي المُحَرَّماتُ؛ وقالَ تَعالى: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣] وهو يَحْتَمِلُ: ما حَلَّ لَكم، ويَحْتَمِلُ: ما اسْتَطَبْتُمُوهُ.
فَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ جائِزٌ أنْ يُرِيدَ بِهِ ما اسْتَطَبْتُمُوهُ واسْتَلْذَذْتُمُوهُ مِمّا لا ضَرَرَ عَلَيْكم في تَناوُلِهِ (p-٣٠٨)مِن طَرِيقِ الدِّينِ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلى مَعْنى الحَلالِ الَّذِي لا تَبِعَةَ عَلى مُتَناوِلِهِ، وجائِزٌ أنْ يَحْتَجَّ بِظاهِرِهِ في إباحَةِ جَمِيعِ الأشْياءِ المُسْتَلَذَّةِ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ.
﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنِ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ غِيلانَ العَمّانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا هَنّادُ بْنُ السَّرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ زَكَرِيّا قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنِي أبانُ بْنُ صالِحٍ عَنِ القَعْقاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَلْمى عَنْ أبِي رافِعٍ قالَ: «أمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ أقْتُلَ الكِلابَ، فَقالَ النّاسُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما أُحِلَّ لَنا مِن هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي أُمِرْتَ بِقَتْلِها ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ الآيَةُ» .
حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وابْنُ عَبْدُوسِ بْنِ كامِلٍ قالا: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الجُشَمِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مَعْشَرِ النُّواءِ قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ بَشِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا عامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: «لَمّا سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَيْدِ الكِلابِ لَمْ يَدْرِ ما يَقُولُ لِي حَتّى نَزَلَتْ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اقْتَضى ظاهِرُ هَذا الحَدِيثِ الأوَّلِ أنْ تَكُونَ الإباحَةُ تَناوَلَتْ ما عَلَّمْنا مِنَ الجَوارِحِ، وهو يَنْتَظِمُ الكَلْبَ وسائِرَ جَوارِحِ الطَّيْرِ، وذَلِكَ يُوجِبُ إباحَةَ سائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفاعِ بِها، فَدَلَّ عَلى جَوازِ بَيْعِ الكَلْبِ والجَوارِحِ والِانْتِفاعِ بِها بِسائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفاعِ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ وهو الأكْلُ. ومِنَ النّاسِ مَن يَجْعَلُ في الكَلامِ حَذْفًا، فَجَعَلَهُ بِمَنزِلَةِ: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ مِن صَيْدِ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ؛ ويُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ الَّذِي ذَكَرْناهُ حِينَ سَألَ عَنْ صَيْدِ الكِلابِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ وحَدِيثِ أبِي رافِعٍ فِيهِ أنَّهُ سُئِلَ عَمّا أُحِلَّ مِنَ الكِلابِ الَّتِي أُمِرُوا بِقَتْلِها فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ؛ ولَيْسَ يُمْتَنَعُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ مُنْتَظِمَةً لِإباحَةِ الِانْتِفاعِ بِالكِلابِ وبِصَيْدِها جَمِيعًا، وحَقِيقَةُ اللَّفْظِ تَقْتَضِي الكِلابَ أنْفُسَها؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ﴾ يُوجِبُ إباحَةَ ما عَلَّمْنا، وإضْمارُ الصَّيْدِ فِيهِ يَحْتاجُ إلى دَلالَةٍ، وفي فَحَوى الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى إباحَةِ صَيْدِها أيْضًا وهو قَوْلُهُ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ فَحَمَلَ الآيَةَ عَلى المَعْنَيَيْنِ واسْتِعْمالُها فِيهِما عَلى الفائِدَتَيْنِ أوْلى مِنَ الِاقْتِصارِ عَلى أحَدِهِما.
وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ أيْضًا عَلى أنَّ شَرْطَ إباحَةِ الجَوارِحِ أنْ تَكُونَ مُتَعَلَّمَةً، لِقَوْلِهِ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ وأمّا الجَوارِحُ فَإنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّها الكَواسِبُ لِلصَّيْدِ عَلى أهْلِها، وهي الكِلابُ وسِباعُ الطَّيْرِ الَّتِي تَصْطادُ وغَيْرُها، واحِدُها " جارِحٌ " ومِنهُ سُمِّيَتِ الجارِحَةُ لِأنَّهُ يَكْسِبُ بِها، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] (p-٣٠٩)يَعْنِي: ما كَسَبْتُمْ؛ ومِنهُ: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ﴾ [الجاثية: ٢١]؛ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى جَوازِ الِاصْطِيادِ بِكُلِّ ما عُلِّمَ الِاصْطِيادَ مِن سائِرِ ذِي النّابِ مِنَ السِّباعِ وذِي المِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ.
وقِيلَ في الجَوارِحِ إنَّها ما تَجْرَحُ بِنابٍ أوْ مِخْلَبٍ، قالَ مُحَمَّدٌ في الزِّياداتِ: إذا صَدَمَ الكَلْبُ الصَّيْدَ ولَمْ يَجْرَحْهُ فَماتَ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَجْرَحْ بِنابٍ أوْ مِخْلَبٍ؛ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ فَإنَّما يَحِلُّ صَيْدُ ما يَجْرَحُ بِنابٍ أوْ مِخْلَبٍ. وإذا كانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِما فَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أنْ يَكُونا مُرادَيْنِ بِاللَّفْظِ، فَيُرِيدُ بِالكَواسِبِ ما يُكْسَبُ بِالِاصْطِيادِ فَيُفِيدُ الأصْنافَ الَّتِي يَصْطادُ بِها مِنَ الكِلابِ والفُهُودِ وسِباعِ الطَّيْرِ وجَمِيعِ ما يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، ويُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ في شَرْطِ الذَّكاةِ وُقُوعَ الجِراحَةِ بِالمَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ وأنَّ ذَلِكَ شَرْطُ ذَكاتِهِ.
ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ الجِراحَةَ مُرادَةُ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ في المِعْراضِ أنَّهُ: «إنْ خَزَقَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وإنْ أصابَ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْ» ومَتى وجَدْنا لِلنَّبِيِّ ﷺ حُكْمًا يُواطِئُ مَعْنى ما في القُرْآنِ، وجَبَ حَمْلُ مُرادِ القُرْآنِ عَلَيْهِ وأنَّ ذَلِكَ مِمّا أرادَ اللَّهُ تَعالى بِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ قَدْ قِيلَ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّ المُكَلِّبَ هو صاحِبُ الكَلْبِ الَّذِي يُعَلِّمُهُ الصَّيْدَ ويُؤَدِّبُهُ.
وقِيلَ مَعْناهُ: مُضْرِينَ عَلى الصَّيْدِ كَما تُضَرّى الكِلابُ؛ والتَّكْلِيبُ هو التَّضْرِيَةُ يُقال: كَلْبٌ كَلِبٌ إذا ضَرّى بِالنّاسِ. ولَيْسَ في قَوْلِهِ: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ تَخْصِيصٌ لِلْكِلابِ دُونَ غَيْرِها مِنَ الجَوارِحِ؛ إذْ كانَتِ التَّضْرِيَةُ عامَّةً فِيهِنَّ، وكَذَلِكَ إنْ أرادَ بِهِ تَأْدِيبَ الكَلْبِ وتَعْلِيمَهُ كانَ ذَلِكَ عُمُومًا في سائِرِ الجَوارِحِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيما قَتَلَتْهُ الجَوارِحُ غَيْرَ الكَلْبِ، فَرَوى مَرْوانُ العُمَرِيُّ عَنْ نافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ قالَ: " الصَّقْرُ والبازِي مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ " .
ورَوى مَعْمَرٌ عَنْ لَيْثٍ قالَ: سُئِلَ مُجاهِدٌ عَنِ البازِي والفَهْدِ وما يُصادُ بِهِ مِنَ السِّباعِ، فَقالَ: " هَذِهِ كُلُّها جَوارِحُ " . ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ قالَ: " الطَّيْرُ والكِلابُ " . ورَوى مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ قالَ: " الجَوارِحُ الكِلابُ وما تُعَلَّمُ مِنَ البُزاةِ والفُهُودِ " . ورَوى أشْعَثُ عَنِ الحَسَنِ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ قالَ: " الصَّقْرُ والبازِي والفَهْدُ بِمَنزِلَةِ الكَلْبِ " .
ورَوى صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نافِعٍ قالَ: وجَدْتُ في كِتابٍ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: " لا يَصْلُحُ أكْلُ ما قَتَلَتْهُ البُزاةُ " .
ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نافِعٍ قالَ: قالَ عَبْدُ اللَّهِ: " فَأمّا ما صادَ مِنَ الطَّيْرِ البُزاةُ وغَيْرُها فَما أدْرَكْتَ ذَكاتَهُ فَذَكَّيْتَهُ فَهو لَكَ وإلّا فَلا تَطْعَمْهُ " .
ورَوى سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ نافِعٍ أنَّ عَلِيًّا كَرِهَ ما قَتَلَتِ (p-٣١٠)الصُّقُورُ. ورَوى أبُو بِشْرٍ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ كانَ يَكْرَهُ صَيْدَ الطَّيْرِ ويَقُولُ: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ إنَّما هي الكِلابُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَتَأوَّلَ بَعْضُهم قَوْلَهُ: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ عَلى الكِلابِ خاصَّةً، وتَأوَّلَهُ بَعْضُهم عَلى الكِلابِ وغَيْرِها؛ ومَعْلُومٌ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ شامِلٌ لِلطَّيْرِ والكِلابِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ مُحْتَمِلٌ لَأنْ يُرِيدَ بِهِ الكِلابَ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الجَوارِحِ والكِلابِ مِنها، ويَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ بِمَعْنى مُؤَدِّبِينَ أوْ مُضْرِينَ، ولا يُخَصَّصُ ذَلِكَ بِالكِلابِ دُونَ غَيْرِها؛ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ وأنْ لا يُخَصَّصَ بِالِاحْتِمالِ.
ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ في إباحَةِ صَيْدِ الطَّيْرِ وإنْ قَتَلَ وأنَّهُ كَصَيْدِ الكَلْبِ؛ قالَ أصْحابُنا ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: " ما عَلَّمْتَ مِن كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ فَإنَّهُ لا يَجُوزُ صَيْدُهُ " . وظاهِرُ الآيَةِ يَشْهَدُ لِهَذِهِ المَقالَةِ؛ لِأنَّهُ أباحَ صَيْدَ الجَوارِحِ، وهو مُشْتَمِلٌ عَلى جَمِيعِ ما يَجْرَحُ بِنابٍ أوْ بِمِخْلَبٍ وعَلى ما يَكْسِبُ عَلى أهْلِهِ بِالِاصْطِيادِ لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ الكَلْبِ وبَيْنَ غَيْرِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ شَرْطَ إباحَةِ صَيْدِ هَذِهِ الجَوارِحِ أنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً وأنَّها إذا لَمْ تَكُنْ مُعَلَّمَةً فَقَتَلَتْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى وذَلِكَ؛ لِأنَّ الخِطابَ خَرَجَ عَلى سُؤالِ السّائِلِينَ عَمّا يَحِلُّ مِنَ الصَّيْدِ، فَأطْلَقَ لَهم إباحَةَ صَيْدِ الجَوارِحِ المُعَلَّمَةِ، وذَلِكَ شامِلٌ لِجَمِيعِ ما شَمِلَتْهُ الإباحَةُ وانْتَظَمَهُ الإطْلاقُ؛ لِأنَّ السُّؤالَ وقَعَ عَنْ جَمِيعِ ما يَحِلُّ لَهم مِنَ الصَّيْدِ فَخُصَّ الجَوابُ بِالأوْصافِ المَذْكُورَةِ، فَلا تَجُوزُ اسْتِباحَةُ شَيْءٍ مِنهُ إلّا عَلى الوَصْفِ المَذْكُورِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ فَرُوِيَ عَنْ سَلْمانَ وسَعْدٍ أنَّ تَعْلِيمَهُ أنْ يُضَرّى عَلى الصَّيْدِ ويَعُودَ إلى إلْفِ صاحِبِهِ حَتّى يَرْجِعَ إلَيْهِ ولا يَهْرُبَ عَنْهُ. وكَذَلِكَ قالَ ابْنُ عُمَرَ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، ولَمْ يَشْرِطُوا فِيهِ تَرْكَ الأكْلِ. ورُوِيَ عَنْ غَيْرِهِما أنَّ ذَلِكَ مِن تَعْلِيمِ الكَلْبِ، وأنَّ مِن شَرْطِ إباحَةِ صَيْدِهِ أنْ لا يَأْكُلَ مِنهُ، فَإنْ أكَلَ مِنهُ لَمْ يُؤْكَلْ؛ وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وعَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ وأبِي هُرَيْرَةَ؛ وقالُوا جَمِيعًا في صَيْدِ البازِي إنَّهُ يُؤْكَلُ وإنْ أكَلَ مِنهُ؛ وإنَّما تَعْلِيمُهُ أنْ تَدْعُوَهُ فَيُجِيبَكَ.
* * *
ذِكْرُ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ في ذَلِكَ
قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " إذا أكَلَ الكَلْبُ مِنَ الصَّيْدِ فَهو غَيْرُ مُعَلَّمٍ لا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ، ويُؤْكَلُ صَيْدُ البازِي وإنْ أكَلَ " وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وقالَ مالِكٌ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ: " يُؤْكَلُ وإنْ أكَلَ الكَلْبُ مِنهُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا يُؤْكَلُ إذا أكَلَ الكَلْبُ مِنهُ والبازِي (p-٣١١)مِثْلُهُ في القِياسِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ السَّلَفُ المُجِيزُونَ لِصَيْدِ الجَوارِحِ مِن سِباعِ الطَّيْرِ أنَّ صَيْدَها يُؤْكَلُ وإنْ أكَلَتْ مِنهُ، مِنهم سَعْدٌ وابْنُ عَبّاسٍ وسَلْمانُ وابْنُ عُمَرَ وأبُو هُرَيْرَةَ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ؛ وإنَّما اخْتَلَفُوا في صَيْدِ الكَلْبِ، فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وابْنُ عَبّاسٍ وعَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ وأبُو هُرَيْرَةَ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وإبْراهِيمُ: " لا يُؤْكَلُ صَيْدُ الكَلْبِ إذا أكَلَ مِنهُ " . وقالَ سَلْمانُ وسَعْدٌ وابْنُ عُمَرَ: " يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وإنْ لَمْ يَبْقَ مِنهُ إلّا ثُلُثُهُ " . وهو قَوْلُ الحَسَنِ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وإحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وعَطاءٍ وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ وابْنِ شِهابٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: مَعْلُومٌ مِن حالِ الكَلْبِ قَبُولُهُ لِلتَّأْدِيبِ في تَرْكِ الأكْلِ، فَجائِزٌ أنْ يُعَلَّمَ تَرْكَهُ ويَكُونَ تَرْكُهُ لِلْأكْلِ عَلَمًا لِلتَّعْلِيمِ ودَلالَةً عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ لِلْأكْلِ مِن شَرائِطِ صِحَّةِ ذَكاتِهِ ووُجُودُ الأكْلِ مانِعٌ مِن صِحَّةِ ذَكاتِهِ. وأمّا البازِي فَإنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ بِتَرْكِ الأكْلِ وأنَّهُ لا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، فَإذا كانَ اللَّهُ قَدْ أباحَ صَيْدَ جَمِيعِ الجَوارِحِ عَلى شَرْطِ التَّعْلِيمِ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ مِن شَرْطِ التَّعْلِيمِ لِلْبازِي تَرْكُهُ الأكْلَ؛ إذْ لا سَبِيلَ إلى تَعْلِيمِهِ ذَلِكَ، ولا يَجُوزُ أنْ يُكَلِّفَهُ اللَّهُ تَعْلِيمَ ما لا يَصِحُّ مِنهُ التَّعْلِيمُ وقَبُولُ التَّأْدِيبِ؛ فَثَبَتَ أنَّ تَرْكَ الأكْلِ لَيْسَ مِن شَرائِطِ تَعَلُّمِ البازِي وجَوارِحِ الطَّيْرِ، وكانَ ذَلِكَ مِن شَرائِطِ تَعَلُّمِ الكَلْبِ؛ لِأنَّهُ يَقْبَلُهُ ويُمْكِنُ تَأْدِيبُهُ بِهِ.
ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ ما رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وغَيْرِهِ في حَظْرِ ما قَتَلَهُ البازِي، مِن حَيْثُ كانَ عِنْدَهم أنَّ مِن شَرْطِ التَّعْلِيمِ تَرْكَ الأكْلِ، وذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ في الطَّيْرِ فَلَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَلا يَكُونُ ما قَتَلَهُ مُذَكًّى.
إلّا أنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلى أنْ لا تَكُونَ لِذِكْرِ التَّعْلِيمِ في الجَوارِحِ مِنَ الطَّيْرِ فائِدَةٌ؛ إذْ كانَ صَيْدُها غَيْرَ مُذَكًّى، وأنْ يَكُونَ المُعَلَّمُ وغَيْرُ المُعَلَّمِ فِيهِ سَواءٌ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ عَمَّمَ الجَوارِحَ كُلَّها وشَرَطَ تَعْلِيمَها ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الكَلْبِ وبَيْنَ الطَّيْرِ فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيها كُلِّها، فَيَكُونُ مِن جَوارِحِ الطَّيْرِ ما يَكُونُ مُعَلَّمًا، وكَذَلِكَ مِنَ الكِلابِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ وُجُوهُ تَعْلِيمِها، فَيَكُونُ مِن تَعْلِيمِ الكِلابِ ونَحْوِها تَرْكُ الأكْلِ، ومِن تَعْلِيمِ جَوارِحِ الطَّيْرِ أنْ يُجِيبَهُ إذا دَعاهُ ويَأْلَفَهُ ولا يَنْفِرَ عَنْهُ، حَتّى يَكُونَ التَّعْلِيمُ عامًّا في جَمِيعِ ما ذُكِرَ في الآيَةِ.
ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى أنَّ مِن شَرائِطِ ذَكاةِ صَيْدِ الكَلْبِ ونَحْوِهِ تَرْكَ الأكْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ ولا يَظْهَرُ الفَرْقُ بَيْنَ إمْساكِهِ عَلى نَفْسِهِ وبَيْنَ إمْساكِهِ عَلَيْنا إلّا بِتَرْكِ الأكْلِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ الأكْلِ مَشْرُوطًا لَزالَتْ فائِدَةُ قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ فَلَمّا كانَ تَرْكُ الأكْلِ عَلَمًا لِإمْساكِهِ (p-٣١٢)عَلَيْنا وكانَ اللَّهُ إنَّما أباحَ لَنا أكْلَ صَيْدِها بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ ما أمْسَكَهُ عَلى نَفْسِهِ مَحْظُورًا.
فَإنْ قِيلَ فَقَدْ يَأْكُلُ البازِي مِنهُ ويَكُونُ مَعَ الأكْلِ مُمْسِكًا عَلَيْنا. قِيلَ لَهُ: الإمْساكُ عَلَيْنا إنَّما هو مَشْرُوطٌ في الكَلْبِ ونَحْوِهِ، فَأمّا الطَّيْرُ فَلَمْ يَشْرِطْ فِيهِ أنْ يُمْسِكَهُ عَلَيْنا لِما قَدَّمْناهُ بَدِيًّا. ويَدُلُّ عَلى أنَّ إمْساكَ الكَلْبِ عَلَيْنا أنْ لا يَأْكُلَ مِنهُ وأنَّهُ مَتى أكَلَ مِنهُ كانَ مُمْسِكًا عَلى نَفْسِهِ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: " إذا أكَلَ مِنهُ الكَلْبُ فَلا تَأْكُلْ فَإنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ "، فَأخْبَرَ أنَّ الإمْساكَ عَلَيْنا تَرْكُهُ لِلْأكْلِ؛ فَإذا كانَ اسْمُ الإمْساكِ يَتَناوَلُ ما ذَكَرَهُ ولَوْ لَمْ يَتَناوَلْهُ لَمْ يَتَأوَّلْهُ عَلَيْهِ، وجَبَ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ مِن حَيْثُ صارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ذَلِكَ أيْضًا، فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: بَيانُ مَعْنى الآيَةِ والمُرادُ بِها.
والثّانِي: نَصُّ السُّنَّةِ في تَحْرِيمِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا الحُمَيْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ قالَ: حَدَّثَنا مُجالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَيْدِ الكَلْبِ المُعَلَّمِ، فَقالَ: «إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمّا أمْسَكَ عَلَيْكَ فَإنْ أكَلَ مِنهُ فَلا تَأْكُلْ فَإنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ» . وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: قالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ المِعْراضِ، فَقالَ: إذا أصابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وإذا أصابَ بِعَرْضِهِ فَلا تَأْكُلْ فَإنَّهُ وقِيذٌ. قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي ؟ قالَ: إذا سَمَّيْتَ فَكُلْ وإلّا فَلا تَأْكُلْ، وإنْ أكَلَ مِنهُ فَلا تَأْكُلْ فَإنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ؛ وقالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأجِدُ عَلَيْهِ كَلْبًا آخَرَ ؟ قالَ: لا تَأْكُلْ لِأنَّكَ إنَّما سَمَّيْتَ عَلى كَلْبِكَ» . فَثَبَتَ بِهَذا الخَبَرِ مُرادُ اللَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ ونَصَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلى النَّهْيِ عَنْ أكْلِ ما أكَلَ مِنهُ الكَلْبُ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رَوى حَبِيبٌ المُعَلَّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِأبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ: فَكُلْ مِمّا أمْسَكَ عَلَيْكَ الكَلْبُ قالَ: فَإنْ أكَلَ مِنهُ ؟ قالَ: وإنْ أكَلَ مِنهُ» . قِيلَ لَهُ: هَذا اللَّفْظُ غَلَطٌ في حَدِيثِ أبِي ثَعْلَبَةَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ حَدِيثَ أبِي ثَعْلَبَةَ قَدْ رَواهُ عَنْهُ أبُو إدْرِيسَ الخَوْلانِيُّ وأبُو أسْماءَ وغَيْرُهم فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذا اللَّفْظَ؛ وعَلى أنَّهُ لَوْ ثَبَتَ في حَدِيثِ أبِي ثَعْلَبَةَ كانَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ أوْلى مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: مِن مُوافَقَتِهِ لِظاهِرِ الآيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾
والثّانِي: ما فِيهِ مِن حَظْرِ ما أكَلَ مِنهُ الكَلْبُ؛ ومَتى ورَدَ خَبَرانِ في أحَدِهِما حَظْرُ شَيْءٍ وفي (p-٣١٣)الآخَرِ إباحَتُهُ فَخَبَرُ الحَظْرِ أوْلاهُما بِالِاسْتِعْمالِ.
فَإنْ قِيلَ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ أنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنا بَعْدَ قَتْلِهِ لَهُ، فَهَذا هو إمْساكُهُ عَلَيْنا. فَيُقالُ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّهُ قَدْ صارَ مَحْبُوسًا بِالقَتْلِ فَلا يَحْتاجُ الكَلْبُ إلى أنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنا بَعْدَ قَتْلِهِ، فَهَذا لا مَعْنى لَهُ.
فَإنْ قِيلَ: قَتْلُهُ هو حَبْسُهُ عَلَيْنا. قِيلَ لَهُ: هَذا أيْضًا لا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الآيَةِ عَلى هَذا: فَكُلُوا مِمّا قَتَلْنَ عَلَيْكم؛ وهَذا يُسْقِطُ فائِدَةَ الآيَةِ؛ لِأنَّ إباحَةَ ما قَتَلَتْهُ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ وهو يَعْنِي صَيْدَ ما عَلَّمْنا مِنَ الجَوارِحِ جَوابًا لِسُؤالِ مَن سَألَ عَنِ المُباحِ مِنهُ.
وعَلى أنَّ الإمْساكَ لَيْسَ بِعِبارَةٍ عَنِ القَتْلِ؛ لِأنَّهُ قَدْ يُمْسِكُهُ عَلَيْنا وهو حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ، فَلَيْسَ إمْساكُهُ عَلَيْنا إذًا إلّا أنْ يَحْبِسَهُ حَتّى يَجِيءَ صاحِبُهُ. ولا يَخْلُو الإمْساكُ عَلَيْنا مِن أنْ يَكُونَ حَبْسُهُ إيّاهُ عَلَيْنا مِن غَيْرِ قَتْلٍ، أوْ حَبْسُهُ عَلَيْنا بَعْدَ قَتْلِهِ، أوْ تَرَكَهُ لِلْأكْلِ مِنهُ بَعْدَ قَتْلِهِ؛ ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَبْسَهُ عَلَيْنا وهو حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرادٍ، وأنَّ حَبْسَهُ عَلَيْنا حَيًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ في إباحَةِ أكْلِهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ لا يَحِلُّ أكْلُ ما قَتَلَهُ، ولا يَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ حَبْسَهُ عَلَيْنا بَعْدَ قَتْلِهِ، وإنْ أكَلَ مِنهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ إمْساكَهُ عَلَيْنا شَرْطًا في الإباحَةِ، ولا خِلافَ أنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وانْصَرَفَ عَنْهُ ولَمْ يَحْبِسْهُ عَلَيْنا أنَّهُ يَجُوزُ أكْلُهُ؛ فَعَلِمْنا أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرادٍ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ تَرْكُهُ الأكْلَ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ يَقْتَضِي إباحَةَ ما بَقِيَ مِنَ الصَّيْدِ بَعْدَ أكْلِهِ؛ لِأنَّهُ قَدْ أمْسَكَهُ عَلَيْنا إذا لَمْ يَأْكُلْهُ، وإنَّما لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْنا المَأْكُولَ مِنهُ دُونَ ما بَقِيَ مِنهُ فَقَدِ اقْتَضى ظاهِرُ الآيَةِ إباحَةَ أكْلِ الباقِي مِمّا هو مُمْسَكٌ عَلَيْنا.
قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ مَن رُوِيَ عَنْهُ مَعْنى الإمْساكِ مِنَ السَّلَفِ قالُوا فِيهِ قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ لا يَأْكُلَ مِنهُ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وقَوْلُ مَن قالَ حَبَسَهُ عَلَيْنا بَعْدَ القَتْلِ، ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنهم إنَّ تَرْكَ أكْلِ الباقِي مِنهُ بَعْدَ ما أكَلَ هو إمْساكٌ، فَبَطَلَ هَذا القَوْلُ.
والثّانِي: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا أكَلَ مِنهُ فَلا تَأْكُلْ فَإنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ» فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُمْسِكًا عَلَيْنا ما بَقِيَ مِنهُ إذا كانَ قَدْ أكَلَ مِنهُ شَيْئًا.
والثّالِثُ: أنَّهُ يَصِيرُ في مَعْنى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمّا قَتَلَهُ، مِن غَيْرِ ذِكْرِ إمْساكٍ؛؛ إذْ مَعْلُومٌ أنَّ ما قَدْ أكَلَهُ لا يَجُوزُ أنْ يَتَناوَلَهُ الحَظْرُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى إسْقاطِ فائِدَةِ ذِكْرِ إمْساكِهِ عَلَيْنا. وأيْضًا فَإنَّهُ إذا أكَلَ مِنهُ فَقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ إنَّما اصْطادَ لِنَفْسِهِ وأمْسَكَهُ عَلَيْها ولَمْ يُمْسِكْهُ عَلَيْنا بِاصْطِيادِهِ، وتَرْكُهُ أكْلَ بَعْضِهِ بَعْدَ ما أكَلَ (p-٣١٤)مِنهُ ما أكَلَ لا يُكْسِبُهُ في الباقِي حُكْمَ الإمْساكِ عَلَيْنا؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَتْرُكَ أكْلَ الباقِي؛ لِأنَّهُ قَدْ شَبِعَ ولَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ لا؛ لِأنَّهُ أمْسَكَهُ عَلَيْنا، وفي أكْلِهِ مِنهُ بَدِيًّا دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُمْسِكْهُ عَلَيْنا بِاصْطِيادِهِ؛ وهَذا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنا اعْتِبارُهُ في صِحَّةِ التَّعْلِيمِ، وهو أنْ يَعْلَمَ أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَصْطادَهُ لَنا ويُمْسِكَهُ عَلَيْنا، فَإذا أكَلَ مِنهُ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّعْلِيمِ.
فَإنْ قِيلَ: الكَلْبُ إنَّما يَصْطادُ ويُمْسِكُ لِنَفْسِهِ لا لِصاحِبِهِ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ كانَ شَبْعانَ حِينَ أُرْسِلَ لَمْ يَصْطَدْ ؟ وهو إنَّما يُضَرّى عَلى الصَّيْدِ بِأنْ يُطْعَمَ مِنهُ، فَلَيْسَ إذًا في أكْلِهِ مِنهُ نَفْيُ التَّعْلِيمِ والإمْساكِ عَلَيْنا. ولَوِ اعْتُبِرَ ما ذَكَرْتُمْ فِيهِ لاحْتَجْنا إلى اعْتِبارِ نِيَّةِ الكَلْبِ وضَمِيرِهِ، وذَلِكَ مِمّا لا نَعْلَمُهُ ولا نَقِفُ عَلَيْهِ بَلْ لا نَشُكُّ أنَّ نِيَّتَهُ وقَصْدَهُ لِنَفْسِهِ.
قِيلَ لَهُ: أمّا قَوْلُكَ: " إنَّهُ يَصْطادُ ويُمْسِكُ لِنَفْسِهِ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما ضُرِبَ حَتّى يَتْرُكَ الأكْلَ، ولَما تَعَلَّمَ ذَلِكَ إذا عُلِّمَ، فَلَمّا كانَ إذا عُلِّمَ تَرْكَ الأكْلِ تَعَلَّمَ ذَلِكَ ولَمْ يَأْكُلْ مِنهُ عَلِمْنا أنَّهُ مَتى تَرَكَ الأكْلَ فَهو مُمْسِكٌ لَهُ عَلَيْنا مُعَلَّمٌ لِما شَرَطَ اللَّهُ تَعالى مِن تَعْلِيمِهِ فَهو حِينَئِذٍ مُصْطادٌ لِصاحِبِهِ مُمْسِكٌ عَلَيْهِ؛ وقَوْلُهُ: " إنَّهُ لَوْ كانَ يَصْطادُ لِصاحِبِهِ لَكانَ يَصْطادُ في حالِ الشِّبَعِ " فَهو يَصْطادُ في حالِ الشِّبَعِ لِصاحِبِهِ ويُمْسِكُهُ عَلَيْهِ إذا أرْسَلَهُ صاحِبُهُ، وهو إذا كانَ مُعَلَّمًا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الِاصْطِيادِ إذا أرْسَلَهُ. وأمّا قَوْلُكَ: " إنَّهُ يُضَرّى عَلى الصَّيْدِ بِأنَّهُ يُطْعَمُ مِنهُ " فَإنَّهُ إنَّما يُطْعَمُ مِنهُ بَعْدَ إمْساكِهِ عَلى صاحِبِهِ؛ وأمّا ضَمِيرُ الكَلْبِ ونِيَّتُهُ فَإنَّ الكَلْبَ يَعْلَمُ ما يُرادُ مِنهُ بِالتَّعْلِيمِ فَيَنْتَهِي إلَيْهِ، كَما يَعْرِفُ الفَرَسُ ما يُرادُ مِنهُ بِالزَّجْرِ ورَفْعِ السَّوْطِ ونَحْوِهِ، واَلَّذِي يُعْلَمُ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الكَلْبِ تَرْكُهُ لِلْأكْلِ ومَتى أكَلَ مِنهُ فَقَدْ عَلِمَ مِنهُ أنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إمْساكَهُ عَلى نَفْسِهِ دُونَ صاحِبِهِ.
ومِمّا يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا وأنَّ تَعْلِيمَ الكَلْبِ إنَّما يَكُونُ بِتَرْكِهِ الأكْلَ أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ ألُوفٌ غَيْرُ مُسْتَوْحَشٍ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ لِيَتَألَّفَ ولا يَسْتَوْحِشَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ بِتَرْكِهِ الأكْلَ. والبازِي مِن جَوارِحِ الطَّيْرِ وهو مُسْتَوْحَشٌ في الأصْلِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ بِأنْ يُضْرَبَ لِيَتْرُكَ الأكْلَ، فَثَبَتَ أنَّ تَعْلِيمَهُ بِإلْفِهِ لِصاحِبِهِ وزَوالِ الوَحْشَةِ مِنهُ بِأنْ يَدْعُوَهُ فَيُجِيبَهُ، فَيَزُولَ بِذَلِكَ عَنْ طَبْعِهِ الأوَّلِ ويَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا لَتَعْلِيمِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ قِيلَ فِيهِ: إنَّ " مِن " دَخَلَتْ لِلتَّبْعِيضِ، ويَكُونُ مَعْنى التَّبْعِيضِ فِيهِ أنَّ بَعْضَ ما يُمْسِكُهُ عَلَيْنا مُباحٌ دُونَ جَمِيعِهِ، وهو الَّذِي يَجْرَحُهُ فَيَقْتُلُهُ دُونَ ما يَقْتُلُهُ بِصَدْمِهِ مِن غَيْرِ جِراحَةٍ. وقالَ بَعْضُهم: إنَّ " مِن " هَهُنا زائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويُكَفِّرُ عَنْكم مِن سَيِّئاتِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١]
وقالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هَذا خَطَأٌ؛ (p-٣١٥)لِأنَّها لا تُزادُ في المُوجَبِ وإنَّما تُزادُ في النَّفْيِ والِاسْتِفْهامِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُكَفِّرُ عَنْكم مِن سَيِّئاتِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] ابْتِداءُ الغايَةِ، أيْ: يُكَفِّرُ عَنْكم أعْمالَكُمُ الَّتِي تُحِبُّونَ سِتْرَها عَلَيْكم مِن سَيِّئاتِكم؛ قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى يُكَفِّرُ عَنْكم مِنَ السَّيِّئاتِ ما يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ في الحِكْمَةِ دُونَ ما لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ خِطابٌ عامٌّ لِسائِرِ المُكَلَّفِينَ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ في الكَلْبِ إذا أكَلَ مِنَ الصَّيْدِ وقَدْ صادَ قَبْلَ ذَلِكَ صَيْدًا كَثِيرًا ولَمْ يَأْكُلْ مِنهُ: " إنَّ جَمِيعَ ما تَقَدَّمَ حَرامٌ؛ لِأنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ حِينَ أكَلَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا، وقَدْ كانَ الحُكْمُ بِتَعْلِيمِهِ بَدِيًّا حِينَ تَرَكَ الأكْلَ مِن طَرِيقِ الِاجْتِهادِ وغالِبِ الظَّنِّ، والحُكْمُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ عِنْدَ الأكْلِ مِن طَرِيقِ اليَقِينِ، ولا حَظَّ لِلِاجْتِهادِ مَعَ اليَقِينِ، وقَدْ يَتْرُكُ الأكْلَ بَدِيًّا وهو غَيْرُ مُعَلَّمٍ كَما يَتْرُكُ سائِرُ السِّباعِ فَرائِسَها عِنْدَ الِاصْطِيادِ ولا يَأْكُلُها ساعَةَ الِاصْطِيادِ، فَإنَّما يَحْكُمُ إذا كَثُرَ مِنهُ تَرْكُ الأكْلِ بِحُكْمِ التَّعْلِيمِ مِن جِهَةِ غالِبِ الظَّنِّ، فَإذا أكَلَ مِنهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ اليَقِينُ بِنَفْيِ التَّعْلِيمِ فَيَحْرُمُ ما قَدِ اصْطادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ " . وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " إذا تَرَكَ الأكْلَ ثَلاثَ مَرّاتٍ فَهو مُعَلَّمٌ، فَإنْ أكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ ما تَقَدَّمَ مِن صَيْدِهِ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَ التَّعْلِيمَ فَلَمْ يَحْرُمْ ما قَدْ حُكِمَ بِإباحَتِهِ بِالِاحْتِمالِ " .
ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولًا عَلى أنَّهُ أكَلَ في مُدَّةٍ لا يَكادُ يَنْسى فِيها، فَإنْ تَطاوَلَتِ المُدَّةُ في الِاصْطِيادِ ثُمَّ اصْطادَ فَأكَلَ مِنهُ وفي مِثْلِ تِلْكَ المُدَّةِ يَجُوزُ أنْ يَنْسى فَإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ لا يَحْرُمَ ما تَقَدَّمَ، ويَكُونُ مَوْضِعُ الخِلافِ بَيْنَهُ وبَيْنَ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ أنَّهُما يَعْتَبِرانِ في شَرْطِ التَّعْلِيمِ تَرْكَ الأكْلِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وأبُو حَنِيفَةَ لا يُحِدُّهُ، وإنَّما يَعْتَبِرُ ما يَغْلِبُ في الظَّنِّ مِن حُصُولِ التَّعْلِيمِ، فَإذا غَلَبَ في الظَّنِّ أنَّهُ مُعَلَّمٌ بِتَرْكِ الأكْلِ ثُمَّ أُرْسِلَ مَعَ قُرْبِ المُدَّةِ فَأكَلَ مِنهُ، فَهو مَحْكُومٌ بِأنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ فِيما تَرَكَ أكْلَهُ؛ مِمّا تَطاوَلَتِ المُدَّةُ بِإرْسالِهِ بَعْدَ تَرْكِ الأكْلِ حَتّى يُظَنَّ في مِثْلِها نِسْيانُ التَّعْلِيمِ، لَمْ يَحْرُمْ ما تَقَدَّمَ؛ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ يَقُولانِ: إنَّهُ إذا تَرَكَ الأكْلَ ثَلاثَ مَرّاتٍ ثُمَّ اصْطادَ فَأكَلَ في مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ أوْ بَعِيدَةٍ لَمْ يَحْرُمْ ما تَقَدَّمَ مِن صَيْدِهِ، فَيَظْهَرُ مَوْضِعُ الخِلافِ بَيْنَهم هَهُنا.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ والسُّدِّيُّ: " يَعْنِي عَلى إرْسالِ الجَوارِحِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: ﴿واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أمْرٌ يَقْتَضِي الإيجابَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَرْجِعَ إلى الأكْلِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ إلى الإرْسالِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ قَدْ تَضَمَّنَ إرْسالَ الجَوارِحِ المُعَلَّمَةِ عَلى الصَّيْدِ، فَجائِزٌ عَوْدُ الأمْرِ (p-٣١٦)بِالتَّسْمِيَةِ إلَيْهِ، ولَوْلا احْتِمالُ ذَلِكَ لَما تَأوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِ.
وإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وقَدْ تَضَمَّنَ الأمْرُ بِالذِّكْرِ إيجابَهُ واتَّفَقُوا أنَّ الذِّكْرَ غَيْرُ واجِبٍ عَلى الأكْلِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ حُكْمِهِ عَلى الإرْسالِ؛ إذْ كانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ؛ وإذا كانَتْ التَّسْمِيَةُ واجِبَةً عَلى الإرْسالِ صارَتْ مِن شَرائِطِ الذَّكاةِ، كَتَعْلِيمِ الجَوارِحِ وكَوْنِ المُرْسَلِ مِمَّنْ تَصِحُّ ذَكاتُهُ وإسالَةِ دَمِ الصَّيْدِ بِما يَجْرَحُ ولَهُ حَدٌّ، فَإذا تَرَكَها لَمْ تَصِحَّ ذَكاتُهُ كَما لا تَصِحُّ ذَكاتُهُ مَعَ تَرْكِ ما ذَكَرْنا مِن شَرائِطِ الذَّكاةِ.
واَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الآيَةُ فَسادُ الذَّكاةِ عِنْدَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عامِدًا وذَلِكَ؛ لِأنَّ الأمْرَ لا يَتَناوَلُ النّاسِيَ؛ إذْ لا يَصِحُّ خِطابُهُ؛ فَلِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ ناسِيًا لا يَمْنَعُ صِحَّةَ الذَّكاةِ؛ إذْ هو غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِها في حالِ النِّسْيانِ.
وسَنَذْكُرُ إيجابَ التَّسْمِيَةِ عَلى الذَّبِيحَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١] إذا انْتَهَيْنا إلَيْهِ إنْ شاءَ اللَّهُ. وقَدْ رُوِيَ في التَّسْمِيَةِ عَلى إرْسالِ الكَلْبِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: قالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي ؟ قالَ: إذا سَمَّيْتَ فَكُلْ وإلّا فَلا تَأْكُلْ، وإنْ أكَلَ مِنهُ فَلا تَأْكُلْ فَإنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ وقالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأجِدُ عَلَيْهِ كَلْبًا آخَرَ ؟ قالَ: لا تَأْكُلْ؛ لِأنَّكَ إنَّما سَمَّيْتَ عَلى كَلْبِكَ» فَنَهاهُ عَنْ أكْلِ ما لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ وما شارَكَهُ كَلْبٌ آخَرُ لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ مِن شَرائِطِ ذَكاةِ الصَّيْدِ التَّسْمِيَةَ عَلى الإرْسالِ. وهَذا يَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ حالَ الإرْسالِ بِمَنزِلَةِ حالِ الذَّبْحِ في وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في أشْياءَ مِن أمْرِ الصَّيْدِ، مِنها الِاصْطِيادُ بِكَلْبِ المَجُوسِيِّ، فَقالَ أصْحابُنا ومالِكٌ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " لا بَأْسَ بِالِاصْطِيادِ بِكَلْبِ المَجُوسِيِّ إذا كانَ مُعَلَّمًا وإنْ كانَ الَّذِي عَلَّمَهُ مَجُوسِيًّا بَعْدَ أنْ يَكُونَ الَّذِي أرْسَلَهُ مُسْلِمًا " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: " أكْرَهُ الِاصْطِيادَ بِكَلْبِ المَجُوسِيِّ إلّا أنْ يَأْخُذَهُ مِن تَعْلِيمِ المُسْلِمِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ يَقْتَضِي جَوازَ صَيْدِهِ وإباحَةَ أكْلِهِ، ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أنْ يَكُونَ مالِكُهُ مُسْلِمًا أوْ مَجُوسِيًّا. وأيْضًا فَإنَّ الكَلْبَ آلَةٌ كالسِّكِّينِ يُذْبَحُ بِها والقَوْسِ يُرْمى عَنْها، فَواجِبٌ أنْ لا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الكَلْبِ لِمَن كانَ كَسائِرِ الآلاتِ الَّتِي يَصْطادُ بِها. وأيْضًا فَلا اعْتِبارَ بِالكَلْبِ وإنَّما الِاعْتِبارُ بِالمُرْسِلِ، ألا تَرى أنَّ مَجُوسِيًّا لَوِ اصْطادَ بِكَلْبِ مُسْلِمٍ لَمْ يَجُزْ أكْلُهُ ؟ وكَذَلِكَ اصْطِيادُ المُسْلِمِ بِكَلْبِ المَجُوسِيِّ يَنْبَغِي أنْ يَحِلَّ أكْلُهُ.
فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وما عَلَّمْتُمْ مِنَ (p-٣١٧)الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ المُسْلِمِ شَرْطًا في الإباحَةِ. قِيلَ لَهُ: لا يَخْلُو تَعْلِيمُ المَجُوسِيِّ مِن أنْ يَكُونَ مِثْلَ تَعْلِيمِ المُسْلِمِ المَشْرُوطِ في إباحَةِ الذَّكاةِ أوْ مُقَصِّرًا عَنْهُ، فَإنْ كانَ مِثْلَهُ فَلا اعْتِبارَ بِالمُعَلَّمِ وإنَّما الِاعْتِبارُ بِحُصُولِ التَّعْلِيمِ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ مُسْلِمٌ وهو مُعَلَّمٌ كَتَعْلِيمِ المُسْلِمِ جازَ أكْلُ ما صادَهُ ؟ فَإذًا لا اعْتِبارَ بِالمِلْكِ وإنَّما الِاعْتِبارُ بِالتَّعْلِيمِ. وإنْ كانَ تَعْلِيمُ المَجُوسِيِّ مُقَصِّرًا عَنْ تَعْلِيمِ المُسْلِمِ حَتّى يُخِلَّ عِنْدَ الِاصْطِيادِ بِبَعْضِ شَرائِطِ الذَّكاةِ فَهَذا كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، ولا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ مِلْكِ المَجُوسِيِّ والمُسْلِمِ في حَظْرِ ما يَصْطادُهُ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ فَإنَّهُ، وإنْ كانَ خِطابًا لِلْمُسْلِمِينَ فالمَقْصِدُ فِيهِ حُصُولُ التَّعْلِيمِ لِلْكَلْبِ، فَإذا عَلَّمَهُ المَجُوسِيُّ كَتَعْلِيمِ المُسْلِمِ فَقَدْ وُجِدَ المَعْنى المَشْرُوطُ، فَلا اعْتِبارَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمِلْكِ المَجُوسِيِّ.
واخْتَلَفُوا في الصَّيْدِ يُدْرِكُهُ حَيًّا، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ فِيمَن يُدْرِكُ صَيْدَ الكَلْبِ أوِ السَّهْمِ فَيَحْصُلُ في يَدِهِ حَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ: " فَإنَّهُ لا يُؤْكَلُ، وإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى ذَبْحِهِ حَتّى ماتَ " . وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: " إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى ذَبْحِهِ حَتّى ماتَ أُكِلَ، وإنْ ماتَ في يَدِهِ، وإنْ قَدَرَ عَلى ذَبْحِهِ فَلَمْ يَذْبَحْهُ لَمْ يُؤْكَلْ، وإنْ لَمْ يَحْصُلْ في يَدِهِ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ قَدَرَ أنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الكَلْبِ فَيَذْبَحَهُ فَلَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يُؤْكَلْ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " إذا أمْكَنَهُ أنْ يُذَكِّيَهُ ولَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُؤْكَلْ، وإنْ لَمْ يُمْكِنْهُ حَتّى ماتَ بَعْدَ ما صارَ في يَدِهِ أُكِلَ " . وقالَ اللَّيْثُ: " إنْ أدْرَكَهُ في في الكَلْبِ فَأخْرَجَ سِكِّينَهُ مِن خُفِّهِ أوْ مِنطَقَتِهِ لِيَذْبَحَهُ فَماتَ أكَلَهُ، وإنْ ذَهَبَ لِيُخْرِجَ السِّكِّينَ مِن خُرْجِهِ فَماتَ قَبْلَ أنْ يَذْبَحَهُ لَمْ يَأْكُلْهُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: إذا حَصَلَ في يَدِهِ حَيًّا فَلا اعْتِبارَ بِإمْكانِ ذَبْحِهِ أوْ تَعَذُّرِهِ في أنَّ شَرْطَ ذَكاتِهِ الذَّبْحُ وذَلِكَ؛ لِأنَّ الكَلْبَ إنَّما حَلَّ صَيْدُهُ لِامْتِناعِ الصَّيْدِ وتَعَذُّرِ الوُصُولِ إلَيْهِ إلّا مِن هَذِهِ الجِهَةِ، فَإذا حَصَلَ في يَدِهِ حَيًّا فَقَدْ زالَ المَعْنى الَّذِي مِن أجْلِهِ أُبِيحَ صَيْدُهُ وصارَ بِمَنزِلَةِ سائِرِ البَهائِمِ الَّتِي يُخافُ عَلَيْها المَوْتُ، فَلا تَكُونُ ذَكاتُهُ إلّا بِالذَّبْحِ سَواءٌ ماتَ في وقْتٍ لا يَقْدِرُ عَلى ذَبْحِهِ أوْ قَدَرَ عَلَيْهِ، والمَعْنِيُّ فِيهِ كَوْنُهُ في يَدِهِ حَيًّا.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما لَمْ تَكُنْ ذَكاةُ سائِرِ البَهائِمِ إلّا بِالذَّبْحِ؛ لِأنَّ ذَبْحَها قَدْ كانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، ولَوْ ماتَتْ حَتْفَ أنْفِها لَمْ يَكُنْ ذَكاةً؛ وجِراحَةُ الكَلْبِ والسَّهْمِ قَدْ كانَتْ تَكُونُ ذَكاةً لِلصَّيْدِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ في يَدِهِ حَتّى ماتَ، فَإذا صارَ في يَدِهِ ولَمْ يَبْقَ مِن حَياتِهِ بِمِقْدارِ ما يُدْرِكُ ذَكاتَهُ فَهو مُذَكًّى بِجِراحَةِ الكَلْبِ، وهو بِمَنزِلَةِ ما لَوْ صارَ في يَدِهِ بَعْدَ المَوْتِ.
قِيلَ لَهُ: هَذا عَلى وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: (p-٣١٨)أنْ يَكُونَ الكَلْبُ قَدْ جَرَحَهُ جِراحَةً لا يُعاشُ مِن مِثْلِها إلّا مِثْلَ حَياةِ المَذْبُوحِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ قَدْ قَطَعَ أوْداجَهُ أوْ شَقَّ جَوْفَهُ فَأخْرَجَ حَشْوَتَهُ، فَإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كانَتْ جِراحَتُهُ ذَكاةً لَهُ سَواءٌ أمْكَنَ بَعْدَ ذَلِكَ ذَبْحُهُ أوْ لَمْ يُمْكِنْ، فَهَذا الَّذِي تَكُونُ جِراحَةُ الكَلْبِ ذَكاةً لَهُ؛ وأمّا الوَجْهُ الآخَرُ: فَهو أنْ يَعِيشَ مِن مِثْلِها، إلّا أنَّهُ اتَّفَقَ مَوْتُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ في يَدِهِ في وقْتٍ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلى ذَبْحِهِ؛ فَهَذا لا يَكُونُ مُذَكًّى؛ لِأنَّ تِلْكَ الجِراحَةَ قَدْ كانَتْ مُراعاةً عَلى حُدُوثِ المَوْتِ قَبْلَ حُصُولِهِ في يَدِهِ وإمْكانِ ذَكاتِهِ، فَإذا صارَ في يَدِهِ حَيًّا بَطَلَ حُكْمُ الجِراحَةِ، وصارَ بِمَنزِلَةِ سائِرِ البَهائِمِ الَّتِي يُصِيبُها جِراحاتٌ غَيْرُ مُذَكِّيَةٍ لَها مِثْلُ المُتَرَدِّيَةِ والنَّطِيحَةِ وغَيْرِهِما، فَلا يَكُونُ ذَكاتُهُ إلّا بِالذَّبْحِ.
واخْتَلَفُوا في الصَّيْدِ يَغِيبُ عَنْ صاحِبِهِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " إذا تَوارى عَنْهُ الصَّيْدُ والكَلْبُ وهو في طَلَبِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ قَتَلَهُ جازَ أكْلُهُ، وإنْ تَرَكَ الطَّلَبَ واشْتَغَلَ بِعَمَلٍ غَيْرِهِ ثُمَّ ذَهَبَ في طَلَبِهِ فَوَجَدَهُ مَقْتُولًا والكَلْبُ عِنْدَهُ كَرِهْنا أكْلَهُ " وكَذَلِكَ قالُوا في السَّهْمِ إذا رَماهُ بِهِ فَغابَ عَنْهُ.
وقالَ مالِكٌ: " إذا أدْرَكَهُ مِن يَوْمِهِ أكَلَهُ في الكَلْبِ والسَّهْمِ جَمِيعًا، وإنْ كانَ مَيِّتًا إذا كانَ فِيهِ أثَرُ جِراحَةٍ، وإنْ باتَ عَنْهُ لَمْ يَأْكُلْهُ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: " إذا رَماهُ فَغابَ عَنْهُ يَوْمًا أوْ لَيْلَةً كَرِهْتُ أكْلَهُ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " إنْ وجَدَهُ مِنَ الغَدِ مَيِّتًا ووَجَدَ فِيهِ سَهْمُهُ أوْ أثَرًا فَلْيَأْكُلْهُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ القِياسُ أنْ لا يَأْكُلَهُ إذا غابَ عَنْهُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: " كُلْ ما أصْمَيْتَ ودَعْ ما أنْمَيْتَ " وفي خَبَرٍ آخَرَ عَنْهُ: " وما غابَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلا تَأْكُلْهُ " . والإصْماءُ ما أدْرَكَهُ مِن ساعَتِهِ والإنْماءُ ما غابَ عَنْهُ.
ورَوى الثَّوْرِيُّ عَنْ مُوسى بْنِ أبِي عائِشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي رَزِينٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الصَّيْدِ: «إذا غابَ عَنْكَ مَصْرَعُهُ كَرِهَهُ» وذَكَرَ هَوامَّ الأرْضِ. وأبُو رَزِينٍ هَذا لَيْسَ بِأبِي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ صاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ وإنَّما هو أبُو رَزِينٍ مَوْلى أبِي وائِلٍ. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ إذا تَراخى عَنْ طَلَبِهِ لَمْ يَأْكُلْهُ أنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ وأمْكَنَهُ أنْ يُدْرِكَ ذَكاتَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتّى ماتَ أنَّهُ لا يُؤْكَلُ، فَإذا لَمْ يَتْرُكِ الطَّلَبَ وأدْرَكَهُ مَيِّتًا فَقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُدْرِكُ ذَكاتَهُ فَكانَ قَتْلُ الكَلْبِ أوِ السَّهْمِ لَهُ ذَكاةً لَهُ، وإذا تَراخى عَنِ الطَّلَبِ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ لَوْ طَلَبَهُ في فَوْرِهِ أدْرَكَ ذَكاتَهُ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ حَتّى ماتَ فَإنَّهُ لا يُؤْكَلُ، فَإذا لَمْ يَتْرُكِ الطَّلَبَ وأدْرَكَ حَياتَهُ تَيَقَّنَ أنَّ قَتْلَ الكَلْبِ لَيْسَ بِذَكاةٍ لَهُ فَلا يَجُوزُ أكْلُهُ، ألا تَرى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِعَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ: «وإنْ شارَكَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلا تَأْكُلْهُ فَلَعَلَّهُ أنْ يَكُونَ الثّانِي قَتَلَهُ» فَحَظَرَ (p-٣١٩)الشّارِعُ ﷺ أكْلَهُ حِينَ جَوَّزَ أنْ يَكُونَ قَتَلَهُ كَلْبٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ إذا جازَ أنْ يَكُونَ مِمّا كانَ يُدْرِكُ ذَكاتَهُ لَوْ طَلَبَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وجَبَ أنْ لا يُؤْكَلَ، لِتَجْوِيزِ هَذا المَعْنى فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: رَوى مُعاوِيَةُ بْنُ صالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ الحَضْرَمِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الَّذِي يُدْرَكُ صَيْدُهُ بَعْدَ ثَلاثٍ: " يَأْكُلُهُ إلّا أنْ يُنْتِنَ " ورُوِيَ في بَعْضِ الألْفاظِ: «إذا أدْرَكْتَ بَعْدَ ثَلاثٍ وسَهْمُكَ فِيهِ فَكُلْهُ ما لَمْ يُنْتِنْ» . قِيلَ لَهُ: قَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى رَفْضِ هَذا الخَبَرِ، وتَرْكِ اسْتِعْمالِهِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ أحَدًا مِنَ الفُقَهاءِ لا يَقُولُ إنَّهُ إذا وجَدَهُ بَعْدَ ثَلاثٍ يَأْكُلُهُ.
والثّانِي: أنَّهُ أباحَ لَهُ أكْلَهُ ما لَمْ يُنْتِنْ، ولا اعْتِبارَ عِنْدَ أحَدٍ بِتَغَيُّرِ الرّائِحَةِ. والثّالِثُ: أنَّ تَغَيُّرَ الرّائِحَةِ لا حُكْمَ لَهُ في سائِرِ الأشْياءِ وإنَّما الحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالذَّكاةِ أوْ فَقْدِها، فَإنْ كانَ الصَّيْدُ مُذَكًّى مَعَ تَراخِي المُدَّةِ فَلا حُكْمَ لَلرّائِحَةِ، وإنْ كانَ غَيْرَ مُذَكًّى فَلا حُكْمَ أيْضًا لِعَدَمِ تَغَيُّرِهِ. وقَدْ رَوى مُحَمَّدُ بْنُ إبْراهِيمَ التَّيْمِيُّ عَنْ عِيسى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِن نَهْدٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «مَرَّ بِالرَّوْحاءِ، فَإذا هو بِحِمارِ وحْشٍ عَقِيرٍ فِيهِ سَهْمٌ قَدْ ماتَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: دَعُوهُ حَتّى يَجِيءَ صاحِبُهُ فَجاءَ النَّهْدِيُّ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ هي رَمْيَتِي فَكُلُوهُ فَأمَرَ أبا بَكْرٍ أنْ يُقَسِّمَ بَيْنَ الرِّفاقِ وهم مُحْرِمُونَ» . فَمِنَ النّاسِ مَن يَحْتَجُّ بِذَلِكَ في إباحَةِ أكْلِهِ إنْ تَراخى عَنْ طَلَبِهِ لِتَرْكِ النَّبِيِّ ﷺ مَسْألَتَهُ عَنْ ذَلِكَ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لَسَألَهُ؛ ولَيْسَ في هَذا دَلِيلٌ عَلى ما ذُكِرَ، مِن قِبَلِ أنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ شاهَدَ هَذا الحِمارَ عَلى حالٍ اسْتَدَلَّ بِها عَلى قُرْبِ وقْتِ الجِراحَةِ مِن سَيْلانِ الدَّمِ وطَراوَتِهِ ومَجِيءِ الرّامِي عَقِبَهُ، فَعَلِمَ أنَّهُ لَمْ يَتَراخَ عَنْ طَلَبِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْألْهُ.
فَإنْ قِيلَ: رَوى هُشَيْمٌ عَنْ أبِي هُشَيْمٍ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: «قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا أهْلُ صَيْدٍ يَرْمِي أحَدُنا الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ واللَّيْلَتَيْنِ ثُمَّ يَتْبَعُ أثَرَهُ بَعْدَما يُصْبِحُ فَيَجِدُ سَهْمَهُ فِيهِ ؟ قالَ: إذا وجَدْتَ سَهْمَكَ فِيهِ ولَمْ تَجِدْ بِهِ أثَرَ سَبُعٍ وعَلِمْتَ أنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ فَكُلْهُ» . قِيلَ لَهُ: هَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ لَوْ أصابَهُ بَعْدَ لَيالِي كَثِيرَةٍ أنْ يَأْكُلَهُ إذا عَلِمَ أنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ، ولا نَعْلَمُ ذَلِكَ قَوْلَ أحَدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ؛ لِأنَّهُ اعْتَبَرَ العِلْمَ بِأنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ. وأيْضًا فَإنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ العِلْمُ بِأنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ بَعْدَما تَراخى عَنْ طَلَبِهِ، وقَدْ شَرَطَ ﷺ حُصُولَ العِلْمِ بِذَلِكَ، فَإذا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَواجِبٌ أنْ لا يَأْكُلَهُ وهو لا يَعْلَمُ إذا تَراخى عَنْ طَلَبِهِ وطالَتِ المُدَّةُ أنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أصْحابِنا ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قالَ: (p-٣٢٠)حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبّادٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ عَنْ مَشْمُولٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا أهْلُ بَدْوٍ ونَصِيدُ بِالكِلابِ المُعَلَّمَةِ ونَرْمِي الصَّيْدَ، فَما يَحِلُّ لَنا مِن ذَلِكَ وما يَحْرُمُ عَلَيْنا ؟ قالَ: إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وسَمَّيْتَ فَكُلْ مِمّا أمْسَكَ عَلَيْكَ أكَلَ أوْ لَمْ يَأْكُلْ قَتَلَ أوْ لَمْ يَقْتُلْ، وإذا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَكُلْ مِمّا أصْمَيْتَ ولا تَأْكُلْ مِمّا أنْمَيْتَ»؛ فَحَظَرَ ما أنْمى، وهو ما غابَ عَنْهُ. وهو مَحْمُولٌ عَلى ما غابَ عَنْهُ وتَراخى عَنْ طَلَبِهِ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ إذا كانَ في طَلَبِهِ أكَلَ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ أباحَ في هَذا الحَدِيثِ أكْلَ ما أكَلَ مِنهُ الكَلْبُ، وهو خِلافُ قَوْلِكم قِيلَ لَهُ: قَدْ عارَضَهُ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ.
{"ayah":"یَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَاۤ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِینَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُوا۟ مِمَّاۤ أَمۡسَكۡنَ عَلَیۡكُمۡ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَیۡهِۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق