الباحث القرآني
﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ .
إنْ كانَ النّاسُ قَدْ سَألُوا عَمّا أُحِلَّ لَهم مِنَ المَطْعُوماتِ بَعْدَ أنْ سَمِعُوا ما حُرِّمَ عَلَيْهِمْ في الآيَةِ السّابِقَةِ، أوْ قَبْلَ أنْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ، وأُرِيدَ جَوابُهم عَنْ سُؤالِهِمُ الآنَ، فالمُضارِعُ مُسْتَعْمَلٌ لِلدَّلالَةِ عَلى تَجَدُّدِ السُّؤالِ، أيْ تَكَرُّرِهِ أوْ تَوَقُّعِ تَكَرُّرِهِ. وعَلَيْهِ فَوَجْهُ فَصْلِ جُمْلَةِ يَسْألُونَكَ أنَّها اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَنْ جُمْلَةِ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] وقَوْلِهِ ﴿فَمَنُ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ﴾ [المائدة: ٣]، أوْ هي اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ: لِلِانْتِقالِ مِن بَيانِ المُحَرَّماتِ إلى بَيانِ الحَلالِ بِالذّاتِ، وإنْ كانَ السُّؤالُ لَمْ يَقَعْ، وإنَّما قُصِدَ بِهِ تَوَقُّعُ السُّؤالِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنْ سَألُوكَ، فالإتْيانُ بِالمُضارِعِ بِمَعْنى الِاسْتِقْبالِ لِتَوَقُّعِ أنْ يَسْألَ النّاسُ عَنْ ضَبْطِ الحَلالِ، لِأنَّهُ مِمّا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إلى الإحاطَةِ بِهِ، وإلى مَعْرِفَةِ ما عَسى أنْ يَكُونَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِن غَيْرِ ما عُدِّدَ لَهم في الآياتِ السّابِقَةِ، وقَدْ بَيَّنّا في مَواضِعَ مِمّا تَقَدَّمَ مِنها قَوْلُهُ تَعالى ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ﴾ [البقرة: ١٨٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ: أنَّ صِيغَةَ يَسْألُونَكَ في القُرْآنِ تَحْتَمِلُ الأمْرَيْنِ. فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ يَكُونُ الجَوابُ قَدْ حَصَلَ بِبَيانِ المُحَرَّماتِ أوَّلًا ثُمَّ بِبَيانِ الحَلالِ، أوْ بِبَيانِ الحَلالِ فَقَطْ، إذا كانَ (p-١١١)بَيانُ المُحَرَّماتِ سابِقًا عَلى السُّؤالِ، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي قَدْ قُصِدَ الِاهْتِمامُ بِبَيانِ الحَلالِ بِوَجْهٍ جامِعٍ، فَعَنَوْنَ الِاهْتِمامَ بِهِ بِإيرادِهِ بِصِيغَةِ السُّؤالِ المُناسِبِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ.
و(الطَّيِّباتُ) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ السِّياقِ، أيِ الأطْعِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وهي المَوْصُوفَةُ بِالطَّيِّبِ، أيِ الَّتِي طابَتْ. وأصْلُ مَعْنى الطَّيِّبِ مَعْنى الطَّهارَةِ والزَّكاءِ والوَقْعِ الحَسَنِ في النَّفْسِ عاجِلًا وآجِلًا، فالشَّيْءُ المُسْتَلَذُّ إذا كانَ وخِمًا لا يُسَمّى طَيِّبًا: لِأنَّهُ يُعْقِبُ ألَمًا أوْ ضُرًّا، ولِذَلِكَ كانَ طَيِّبُ كُلِّ شَيْءٍ أنْ يَكُونَ مِن أحْسَنِ نَوْعِهِ وأنْفَعِهِ. وقَدْ أُطْلِقَ الطَّيِّبُ عَلى المُباحِ شَرْعًا؛ لِأنَّ إباحَةَ الشَّرْعِ الشَّيْءَ عَلامَةٌ عَلى حُسْنِهِ وسَلامَتِهِ مِنَ المَضَرَّةِ، قالَ تَعالى ﴿كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] . والمُرادُ بِالطَّيِّباتِ في قَوْلِهِ ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ مَعْناها اللُّغَوِيُّ لِيَصِحَّ إسْنادُ فِعْلِ (أُحِلَّ) إلَيْها. وقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن مَعْنى الطَّيِّبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ، ويَجِيءُ شَيْءٌ مِنهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (والبَلَدُ الطَّيِّبُ) في سُورَةِ الأعْرافِ.
والطَّيِّباتُ وصْفٌ لِلْأطْعِمَةِ قُرِنَ بِهِ حُكْمُ التَّحْلِيلِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ الطَّيِّبَ عِلَّةُ التَّحْلِيلِ، وأفادَ أنَّ الحَرامَ ضِدُّهُ وهو الخَبائِثُ، كَما قالَ في آيَةِ الأعْرافِ، في ذِكْرِ الرَّسُولِ ﷺ ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] .
وقَدِ اخْتَلَفَ أقْوالُ السَّلَفِ في ضَبْطِ وصْفِ الطَّيِّباتِ؛ فَعَنْ مالِكٍ: الطَّيِّباتُ الحَلالُ، ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ أنَّ الحِلَّ هو المُؤْذِنُ بِتَحَقُّقِ وصْفِ الطَّيِّبِ في الطَّعامِ المُباحِ، لِأنَّ الوَصْفَ الطَّيِّبَ قَدْ يَخْفى، فَأخَذَ مالِكٌ بِعَلامَتِهِ وهي الحِلُّ كَيْلا يَكُونَ قَوْلُهُ (الطَّيِّباتُ) حَوالَةً عَلى ما لا يَنْضَبِطُ بَيْنَ النّاسِ مِثْلَ الِاسْتِلْذاذِ، فَيَتَعَيَّنُ إذَنْ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) غَيْرَ مُرادٍ مِنهُ ضَبْطَ الحَلالِ، بَلْ أُرِيدَ بِهِ الِامْتِنانُ (p-١١٢)والإعْلامُ بِأنَّ ما أحَلَّهُ اللَّهُ لَهم فَهو طَيِّبٌ، إبْطالًا لِما اعْتَقَدُوهُ في زَمَنِ الشِّرْكِ: مِن تَحْرِيمِ ما لا مُوجِبَ لِتَحْرِيمِهِ، وتَحْلِيلِ ما هو خَبِيثٌ. ويَدُلُّ لِذَلِكَ تَكَرُّرُ ذِكْرِ الطَّيِّباتِ مَعَ ذِكْرِ الحَلالِ في القُرْآنِ، مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ [المائدة: ٥] وقَوْلِهِ في الأعْرافِ ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] . وعَنِ الشّافِعِيِّ: الطَّيِّباتُ: الحَلالُ المُسْتَلَذُّ، فَكُلُّ مُسْتَقْذَرٍ كالوَزَغِ فَهو مِنَ الخَبائِثِ حَرامٌ. قالَ فَخْرُ الدِّينِ: العِبْرَةُ في الِاسْتِلْذاذِ والِاسْتِطابَةِ بِأهْلِ المُرُوءَةِ والأخْلاقِ الجَمِيلَةِ، فَإنَّ أهْلَ البادِيَةِ يَسْتَطْيِبُونَ أكْلَ جَمِيعِ الحَيَواناتِ، وتَتَأكَّدُ دَلالَةُ هَذِهِ الآياتِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] فَهَذا يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِكُلِّ ما في الأرْضِ، إلّا أنَّهُ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِحُرْمَةِ الخَبائِثِ، فَصارَ هَذا أصْلًا كَبِيرًا في مَعْرِفَةِ ما يَحِلُّ ويَحْرُمُ مِنَ الأطْعِمَةِ. مِنها أنَّ لَحْمَ الخَيْلِ مُباحٌ عِنْدَ الشّافِعِيِّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِمُباحٍ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ أنَّهُ مُسْتَلَذٌّ مُسْتَطابٌ، والعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ حَلالًا، لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ . وفي شَرْحِ الهِدايَةِ في الفِقْهِ الحَنَفِيِّ لِمُحَمَّدٍ الكاكِيِّ أنَّ ما اسْتَطابَهُ العَرَبُ حَلالٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، وما اسْتَخْبَثَهُ العَرَبُ حَرامٌ، لِقَوْلِهِ ﴿ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] . والَّذِينَ تُعْتَبَرُ اسْتِطابَتُهم أهْلُ الحِجازِ مِن أهْلِ الأمْصارِ، لِأنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وخُوطِبُوا بِهِ، ولَمْ يُعْتَبَرْ أهْلُ البَوادِي لِأنَّهم يَأْكُلُونَ ما يَجِدُونَ لِلضَّرُورَةِ والمَجاعَةِ. وما يُوجَدُ في أمْصارِ المُسْلِمِينَ مِمّا لا يَعْرِفُهُ أهْلُ الحِجازِ رُدَّ إلى أقْرَبِ ما يُشْبِهُهُ في الحِجازِ اهـ. وفِيهِ مِنَ التَّحَكُّمِ في تَحْكِيمِ عَوائِدِ بَعْضِ الأُمَّةِ دُونَ بَعْضٍ ما لا يُناسِبُ التَّشْرِيعَ العامَّ، وقَدِ اسْتَقْذَرَ أهْلُ الحِجازِ لَحْمَ الضَّبِّ بِشَهادَةِ قَوْلِهِ ﷺ في حَدِيثِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ «لَيْسَ هو مِن أرْضِ قَوْمِي فَأجِدُنِي أعافُهُ»، ومَعَ ذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلى خالِدٍ.
والَّذِي يَظْهَرُ لِي: أنَّ اللَّهَ قَدْ ناطَ إباحَةَ الأطْعِمَةِ بِوَصْفِ الطَّيِّبِ فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنظُورًا فِيهِ إلى ذاتِ الطَّعامِ، وهو أنْ يَكُونَ غَيْرَ ضارٍّ ولا مُسْتَقْذَرٍ ولا مُنافٍ لِلدِّينِ، وأمارَةُ اجْتِماعِ هَذِهِ الأوْصافِ أنْ لا يُحَرِّمَهُ (p-١١٣)الدِّينُ، وأنْ يَكُونَ مَقْبُولًا عِنْدَ جُمْهُورِ المُعْتَدِلِينَ مِنَ البَشَرِ، مِن كُلِّ ما يَعُدُّهُ البَشَرُ طَعامًا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ العَوائِدِ والمَأْلُوفاتِ، وعَنِ الطَّبائِعِ المُنْحَرِفاتِ. ونَحْنُ نَجِدُ أصْنافَ البَشَرِ يَتَناوَلُ بَعْضُهم بَعْضَ المَأْكُولاتِ مِن حَيَوانٍ ونَباتٍ، ويَتْرُكُ بَعْضُهم ذَلِكَ البَعْضَ. فَمِنَ العَرَبِ مَن يَأْكُلُ الضَّبَّ واليَرْبُوعَ والقَنافِذَ، ومِنهم مَن لا يَأْكُلُها. ومِنَ الأُمَمِ مَن يَأْكُلُ الضَّفادِعَ والسَّلاحِفَ والزَّواحِفَ ومِنهم مَن يَتَقَذَّرُ ذَلِكَ. وأهْلُ مَدِينَةِ تُونِسَ يَأْبَوْنَ أكْلَ لَحْمِ أُنْثى الضَّأْنِ ولَحْمِ المَعْزِ، وأهْلُ جَزِيرَةِ شَرِيكٍ يَسْتَجِيدُونَ لَحْمَ المَعْزِ، وفي أهْلِ الصَّحارِي تُسْتَجادُ لُحُومُ الإبِلِ وألْبانُها، وفي أهْلِ الحَضَرِ مَن يَكْرَهُ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ دَوابُّ البَحْرِ وسَلاحِفُهُ وحَيّاتُهُ. والشَّرِيعَةُ أوْسَعُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ فَلا يَقْضِي فِيها طَبْعُ فَرِيقٍ عَلى فَرِيقٍ. والمُحَرَّماتُ فِيها مِنَ الطُّعُومِ ما يَضُرُّ تَناوُلُهُ بِالبَدَنِ أوِ العَقْلِ كالسُّمُومِ والخُمُورِ والمُخَدِّراتِ كالأفْيُونِ والحَشِيشَةِ المُخَدِّرَةِ، وما هو نَجَسُ الذّاتِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وما هو مُسْتَقْذَرٌ كالنُّخامَةِ وذَرْقِ الطُّيُورِ وأرْواثِ النَّعامِ، وما عَدا ذَلِكَ لا تَجِدُ فِيهِ ضابِطًا لِلتَّحْرِيمِ إلّا المُحَرَّماتِ بِأعْيانِها وما عَداها فَهو في قِسْمِ الحَلالِ لِمَن شاءَ تَناوَلَهُ. والقَوْلُ بِأنَّ بَعْضَها حَلالٌ دُونَ بَعْضٍ بِدُونِ نَصٍّ ولا قِياسٍ هو مِنَ القَوْلِ عَلى اللَّهِ بِما لا يَعْلَمُهُ القائِلُ، فَما الَّذِي سَوَّغَ الظَّبْيَ وحَرَّمَ الأرْنَبَ، وما الَّذِي سَوَّغَ السَّمَكَةَ وحَرَّمَ حَيَّةَ البَحْرِ، وما الَّذِي سَوَّغَ الجَمَلَ وحَرَّمَ الفَرَسَ، وما الَّذِي سَوَّغَ الضَّبَّ والقُنْفُذَ وحَرَّمَ السُّلَحْفاةَ، وما الَّذِي أحَلَّ الجَرادَ وحَرَّمَ الحَلَزُونَ، إلّا أنْ يَكُونَ لَهُ نَصٌّ صَحِيحٌ، أوْ نَظَرٌ رَجِيحٌ، وما سِوى ذَلِكَ فَهو رِيحٌ. وغَرَضُنا مِن هَذا تَنْوِيرُ البَصائِرِ إذا اعْتَرى التَّرَدُّدُ لِأهْلِ النَّظَرِ في إناطَةِ حَظْرٍ أوْ إباحَةٍ بِما لا نَصَّ فِيهِ أوْ في مَواقِعِ المُتَشابِهاتِ.
* * *
﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكم واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ .
(p-١١٤)يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى (الطَّيِّباتُ) عَطْفَ المُفْرَدِ، عَلى نِيَّةِ مُضافٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: وصَيْدُ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ . فَـ (ما) مَوْصُولَةٌ وفاءُ (فَكُلُوا) لِلتَّفْرِيعِ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ، وتَكُونُ (ما) شَرْطِيَّةً وجَوابُ الشَّرْطِ (فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ) .
وخُصَّ بِالبَيانِ مِن بَيْنِ الطَّيِّباتِ لِأنَّ طَيِّبَهُ قَدْ يَخْفى مِن جِهَةِ خَفاءِ مَعْنى الذَّكاةِ في جُرْحِ الصَّيْدِ، لا سِيَّما صَيْدُ الجَوارِحِ، وهو مَحَلُّ التَّنْبِيهِ هُنا الخاصُّ بِصَيْدِ الجَوارِحِ. وسَيُذْكَرُ صَيْدُ الرِّماحِ والقَنْصِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكم ورِماحُكُمْ﴾ [المائدة: ٩٤] . والمَعْنى: وما أمْسَكَ عَلَيْكم ما عَلَّمْتُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ لِظُهُورِ أنْ لَيْسَ المُرادُ إباحَةَ أكْلِ الكِلابِ والطُّيُورِ المُعَلَّمَةِ.
والجَوارِحُ: جَمْعُ الجارِحِ، أوِ الجارِحَةِ، جَرى عَلى صِيغَةِ جَمْعِ فاعِلَةٍ، لِأنَّ الدَّوابَّ مُراعى فِيها تَأْنِيثُ جَمْعِها، كَما قالَتِ العَرَبُ لِلسِّباعِ: الكَواسِبُ، قالَ لَبِيدٌ:
؎غُبْسٌ كَواسِبُ ما يُمَنُّ طِعامُها
ولِذَلِكَ تُجْمَعُ جَمْعَ التَّأْنِيثِ، كَما سَيَأْتِي فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكم.
و(مُكَلِّبِينَ) حالٌ مِن ضَمِيرِ (عَلَّمْتُمْ) مُبَيِّنَةٌ لِنَوْعِ التَّعْلِيمِ وهو تَعْلِيمُ المُكَلِّبِ، والمُكَلِّبُ بِكَسْرِ اللّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ مُعَلِّمُ الكِلابِ، يُقالُ: مُكَلِّبٌ، ويُقالُ: كَلّابٌ.
فَـ (مُكَلِّبِينَ) وصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الجامِدِ اشْتُقَّ مِنِ اسْمِ الكَلْبِ جَرْيًا عَلى الغالِبِ في صَيْدِ الجَوارِحِ، ولِذَلِكَ فَوُقُوعُهُ حالًا مِن ضَمِيرِ (عَلَّمْتُمْ) لَيْسَ مُخَصَّصًا لِلْعُمُومِ الَّذِي أفادَهُ قَوْلُهُ (وما عَلَّمْتُمْ) فَهَذا العُمُومُ يَشْمَلُ غَيْرَ الكِلابِ (p-١١٥)مِن فُهُودٍ وبُزاةٍ. وخالَفَ في ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، حَكى عَنْهُ ابْنُ المُنْذِرِ أنَّهُ قَصَرَ إباحَةَ أكْلِ ما قَتَلَهُ الجارِحُ عَلى صَيْدِ الكِلابِ لِقَوْلِهِ تَعالى (مُكَلِّبِينَ) قالَ: فَأمّا ما يُصادُ بِهِ مِنَ البُزاةِ وغَيْرِها مِنَ الطَّيْرِ فَما أدْرَكْتَ ذَكاتَهُ فَذَكِّهِ فَهو لَكَ حَلالٌ وإلّا فَلا تَطْعَمْهُ. وهَذا أيْضًا قَوْلُ الضَّحّاكِ والسُّدِّيِّ.
فَأمّا الكِلابُ فَلا خِلافَ في إباحَةِ عُمُومِ صَيْدِ المُعَلَّماتِ مِنها، إلّا ما شَذَّ مِن قَوْلِ الحَسَنِ وقَتادَةَ والنَّخَعِيِّ بِكَراهَةِ صَيْدِ الكَلْبِ الأسْوَدِ البَهِيمِ، أيْ عامُّ السَّوادِ، مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «الكَلْبُ الأسْوَدُ شَيْطانٌ» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وهو احْتِجاجٌ ضَعِيفٌ، مَعَ أنَّ النَّبِيءَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَمّاهُ كَلْبًا، وهَلْ يَشُكُّ أحَدٌ أنَّ مَعْنى كَوْنِهِ شَيْطانًا أنَّهُ مَظَنَّةٌ لِلْعَقْرِ وسُوءِ الطَّبْعِ. عَلى أنَّ مَوْرِدَ الحَدِيثِ في أنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلاةَ إذا مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي. عَلى أنَّ ذَلِكَ مُتَأوَّلٌ. وعَنْ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: ما أعْرِفُ أحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ، أيْ في أكْلِ صَيْدِهِ إذا كانَ بَهِيمًا، وبِهِ قالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ، وكَيْفَ يَصْنَعُ بِجُمْهُورِ الفُقَهاءِ ؟
وقَوْلُهُ ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ حالٌ ثانِيَةٌ، قُصِدَ بِها الِامْتِنانُ والعِبْرَةُ والمَواهِبُ الَّتِي أوْدَعَها اللَّهُ في الإنْسانِ، إذْ جَعَلَهُ مُعَلَّمًا بِالجِبِلَّةِ مِن يَوْمِ قالَ يَآ أدَمُ أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ، والمَواهِبُ الَّتِي أوْدَعَها اللَّهُ في بَعْضِ الحَيَوانِ، إذْ جَعَلَهُ قابِلًا لِلتَّعَلُّمِ. فَبِاعْتِبارِ كَوْنِ مُفادِ هَذِهِ الحالِ هو مُفادُ عامِلِها تَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ الحالِ المُؤَكِّدَةِ، وبِاعْتِبارِ كَوْنِها تَضَمَّنَتْ مَعْنى الِامْتِنانِ فَهي مُؤَسَّسَةٌ. قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ”وفي تَكْرِيرِ الحالِ فائِدَةٌ أنَّ عَلى كُلِّ آخِذٍ عِلْمًا أنْ لا يَأْخُذَهُ إلّا مِن أقْتَلِ أهْلِهِ عِلْمًا وأنْحَرِهِمْ دِرايَةً وأغْوَصِهِمْ عَلى لَطائِفِهِ وحَقائِقِهِ وإنِ احْتاجَ إلى أنْ يَضْرِبَ إلَيْهِ أكْبادَ الإبِلِ، فَكَمْ مِن آخِذٍ عَنْ غَيْرِ مُتْقِنٍ قَدْ ضَيَّعَ أيّامَهُ وعَضَّ عِنْدَ لِقاءِ النَّحارِيرِ أنامِلَهُ“ .
اهـ. والفاءُ في قَوْلِهِ (﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾) فاءُ الفَصِيحَةِ عَنْ قَوْلِهِ ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾ إنْ جَعَلْتَ (ما) مِن قَوْلِهِ (وما عَلَّمْتُمْ) مَوْصُولَةً، فَإنْ جَعَلَتْها شُرْطِيَّةً فالفاءُ رابِطَةٌ لِلْجَوابِ.
(p-١١٦)وحَرْفُ (مِن) في قَوْلِهِ (﴿مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾) لِلتَّبْعِيضِ، وهَذا تَبْعِيضٌ شائِعُ الِاسْتِعْمالِ في كَلامِ العَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِ المُتَناوِلاتِ، كَقَوْلِهِ ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١] . ولَيْسَ المَقْصُودُ النَّهْيَ عَنْ أكْلِ جَمِيعِ ما يَصِيدُهُ الصّائِدُ، ولا أنَّ ذَلِكَ احْتِراسٌ عَنْ أكْلِ الرِّيشِ، والعَظْمِ، والجِلْدِ، والقُرُونِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لا يَتَوَهَّمُهُ السّامِعُ حَتّى يَحْتَرِسَ مِنهُ.
وحَرْفُ (عَلى) في قَوْلِهِ (﴿مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾) بِمَعْنى لامِ التَّعْلِيلِ، كَما تَقُولُ: سُجِنَ عَلى الِاعْتِداءِ، وضُرِبَ الصَّبِيُّ عَلى الكَذِبِ، وقَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ شَيْبانَ:
؎ونُطاعِنُ الأعْداءَ عَنْ أبْنائِنَـا ∗∗∗ وعَلى بَصائِرِنا وإنْ لَمْ نُبْصِرِ
أيْ نُطاعِنُ عَلى حَقائِقِنا: أيْ لِحِمايَةِ الحَقِيقَةِ، ومِن هَذا البابِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، وقَوْلُهُ ﷺ «أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مالِكَ فَهو خَيْرٌ لَكَ» .
ومَعْنى الآيَةِ إباحَةُ أكْلِ ما صادَهُ الجَوارِحُ: مِن كِلابٍ، وفُهُودٍ، وسِباعِ طَيْرٍ: كالبُزاةِ، والصُّقُورِ، إذا كانَتْ مُعَلَّمَةً وأُمْسِكَتْ بَعْدَ إرْسالِ الصّائِدِ. وهَذا مِقْدارٌ اتَّفَقَ عُلَماءُ الأُمَّةِ عَلَيْهِ وإنَّما اخْتَلَفُوا في تَحَقُّقِ هَذِهِ القُيُودِ.
فَأمّا شَرْطُ التَّعْلِيمِ فاتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ إذا أُشْلِيَ، فانْشَلى، فاشْتَدَّ وراءَ الصَّيْدِ، وإذا دُعِيَ فَأقْبَلَ، وإذا زُجِرَ فانْزَجَرَ، وإذا جاءَ بِالصَّيْدِ إلى رَبِّهِ، أنَّ هَذا مُعَلَّمٌ. وهَذا عَلى مَراتِبِ التَّعَلُّمِ. ويُكْتَفى في سِباعِ الطَّيْرِ بِما دُونَ ذَلِكَ: فَيُكْتَفى فِيها بِأنْ تُؤْمَرَ فَتُطِيعَ. وصِفاتُ التَّعْلِيمِ راجِعَةٌ إلى عُرْفِ أهْلِ الصَّيْدِ، وأنَّهُ صارَ لَهُ مَعْرِفَةً، وبِذَلِكَ قالَ مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ: ولا حاجَةَ إلى ضَبْطِ ذَلِكَ بِمَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثٍ، خِلافًا لِأحْمَدَ، وأبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّدٍ.
(p-١١٧)وأمّا شَرْطُ الإمْساكِ لِأجْلِ الصّائِدِ: فَهو يُعْرَفُ بِإمْساكِها الصَّيْدِ بَعْدَ إشْلاءِ الصّائِدِ إيّاها، وهو الإرْسالُ مِن يَدِهِ إذا كانَ مَشْدُودًا، أوْ أمْرِهِ إيّاها بِلَفْظٍ اعْتادَتْ أنْ تَفْهَمَ مِنهُ الأمْرَ كَقَوْلِهِ: ”هَذا لَكِ“ لِأنَّ الإرْسالَ يَقُومُ مَقامَ نِيَّةِ الذَّكاةِ. ثُمَّ الجارِحُ ما دامَ في اسْتِرْسالِهِ مُعْتَبَرٌ حَتّى يَرْجِعَ إلى رَبِّهِ بِالصَّيْدِ.
واخْتَلَفُوا في أكْلِ الجارِحِ مِنَ الصَّيْدِ قَبْلَ الإتْيانِ بِهِ إلى رَبِّهِ هَلْ يُبْطِلُ حُكْمَ الإمْساكِ عَلى رَبِّهِ: فَقالَ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ: إذا أكَلَ الجارِحُ مِنَ الصَّيْدِ لَمْ تُؤْكَلِ البَقِيَّةُ؛ لِأنَّهُ إنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ، لا عَلى رَبِّهِ. وفي هَذا المَعْنى حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ في الصَّحِيحِ: أنَّهُ «سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الكَلْبِ، فَقالَ: وإذا أكَلَ فَلا تَأْكُلْ فَإنَّما أمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ» . وبِهِ أخَذَ الشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وأبُو ثَوْرٍ، وإسْحاقُ. وقالَ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ: إذا أكَلَ الجارِحُ لَمْ يَضُرَّ أكْلُهُ، ويُؤْكَلْ ما بَقِيَ. وهو قَوْلُ مالِكٍ وأصْحابُهُ: لِحَدِيثِ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ، في كِتابِ أبِي داوُدَ: «أنَّهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: وإنْ أكَلَ مِنهُ» . ورامَ بَعْضُ أصْحابِنا أنْ يَحْتَجَّ لِهَذا بِقَوْلِهِ تَعالى (﴿مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾) حَيْثُ جاءَ بِـ (مِن) المُفِيدَةِ لِلتَّبْعِيضِ، المُؤْذِنَةِ بِأنَّهُ يُؤْكَلُ إذا بَقِيَ بَعْضُهُ، وهو دَلِيلٌ واهٍ، فَقَدْ ذَكَرْنا آنِفًا أنَّ (مِن) تَدْخُلُ عَلى الِاسْمِ في مِثْلِ هَذا ولَيْسَ المَقْصُودُ التَّبْعِيضُ، والكَلْبُ أوِ الجارِحُ، إذا أشْلاهُ القَنّاصُ فانْشَلى، وجاءَ بِالصَّيْدِ إلى رَبِّهِ، فَهو قَدْ أمْسَكَهُ عَلَيْهِ وإنْ كانَ قَدْ أكَلَ مِنهُ، فَقَدْ يَأْكُلُ لِفَرْطِ جُوعٍ أوْ نِسْيانٍ. ونَحا بَعْضُهم في هَذا إلى تَحْقِيقِ أنَّ أكْلَ الجارِحِ مِنَ الصَّيْدِ هَلْ يَقْدَحُ في تَعْلِيمِهِ، والصَّوابُ أنَّ ذَلِكَ لا يَقْدَحُ في تَعْلِيمِهِ، إذا كانَتْ أفْعالُهُ جارِيَةً عَلى وفْقِ أفْعالِ الصَّيْدِ، وإنَّما هَذا مِنَ الفَلْتَةِ أوْ مِنَ التَّهَوُّرِ. ومالَ جَماعَةٌ إلى التَّرْخِيصِ في ذَلِكَ في سِباعِ الطَّيْرِ خاصَّةً، لِأنَّها لا تَفْقَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ ما يَفْقَهُ الكَلْبُ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وحَمّادٍ، والنَّخَعِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ، وأبِي ثَوْرٍ.
وقَدْ نَشَأ عَنْ شَرْطِ تَحَقُّقِ إمْساكِهِ عَلى صاحِبِهِ مَسْألَةُ لَوْ أمْسَكَ الكَلْبُ أوِ الجارِحُ صَيْدًا لَمْ يَرَهُ صاحِبُهُ وتَرَكَهُ ورَجَعَ دُونَهُ، ثُمَّ وجَدَ الصّائِدُ (p-١١٨)بَعْدَ ذَلِكَ صَيْدًا في الجِهَةِ الَّتِي كانَ يَجُوسُها الجارِحُ أوْ عَرَفَ أثَرَ كَلْبِهِ فِيهِ؛ فَعَنْ مالِكٍ: لا يُؤْكَلُ، وعَنْ بَعْضِ أصْحابِهِ: يُؤْكَلُ. وأمّا إذا وجَدَ الصّائِدُ سَهْمَهُ في مَقاتِلِ الصَّيْدِ فَإنَّهُ يُؤْكَلُ لا مَحالَةَ.
وأحْسَبُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى (﴿مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾) احْتِرازٌ عَنْ أنْ يَجِدَ أحَدٌ صَيْدًا لَمْ يَصِدْهُ هو، ولا رَأى الجارِحَ حِينَ أمْسَكَهُ، لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَوْتُهُ عَلى غَيْرِ المُعْتادِ فَلا يَكُونُ ذَكاةً، وأنَّهُ لا يَحْرُمُ عَلى مَن لَمْ يَتَصَدَّ لِلصَّيْدِ أنْ يَأْكُلَ صَيْدًا رَأى كَلْبَ غَيْرِهِ حِينَ صادَهُ إذا لَمْ يَجِدِ الصّائِدَ قَرِيبًا، أوِ ابْتاعَهُ مِن صائِدِهِ، أوِ اسْتَعْطاهُ إيّاهُ.
وقَوْلُهُ ﴿واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أمْرٌ بِذِكْرِ اللَّهِ عَلى الصَّيْدِ، ومَعْناهُ أنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ الإرْسالِ لِأنَّهُ قَدْ يَمُوتُ بِجُرْحِ الجارِحِ، وأمّا إذا أمْسَكَهُ حَيًّا فَقَدْ تَعَيَّنَ ذَبْحُهُ فَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. ولَقَدْ أبْدَعَ إيجازُ كَلِمَةِ (عَلَيْهِ) لِيَشْمَلَ الحالَتَيْنِ. وحُكْمُ نِسْيانِ التَّسْمِيَةِ وتَعَمُّدِ تَرْكِها مَعْلُومٌ مِن كُتُبِ الفِقْهِ والخِلافِ، والدِّينُ يُسْرٌ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ: في أنَّ الصَّيْدَ رُخْصَةٌ، أوْ صِفَةٌ مِن صِفاتِ الذَّكاةِ. فالجُمْهُورُ ألْحَقُوهُ بِالذَّكاةِ، وهو الرّاجِحُ، ولِذَلِكَ أجازُوا أكْلَ صَيْدِ الكِتابِيِّ دُونَ المَجُوسِيِّ. وقالَ مالِكٌ: هو رُخْصَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلا يُؤْكَلُ صَيْدُ الكِتابِيِّ ولا المَجُوسِيِّ وتَلا قَوْلَهُ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أيْدِيكم ورِماحُكُمْ﴾ [المائدة: ٩٤] وهو دَلِيلُ ضَعْفٍ: لِأنَّهُ وارِدٌ في غَيْرِ بَيانِ الصَّيْدِ، ولَكِنْ في حُرْمَةِ الحَرَمِ. وخالَفَهُ أشْهَبُ، وابْنُ وهْبٍ، مِن أصْحابِهِ. ولا خِلافَ في عَدَمِ أكْلِ صَيْدِ المَجُوسِيِّ إلّا رِوايَةً عَنْ أبِي ثَوْرٍ إذْ ألْحَقَهم بِأهْلِ الكِتابِ فَهو اخْتِلافٌ في الأصْلِ لا في الفَرْعِ.
وقَوْلُهُ (واتَّقُوا اللَّهَ) الآيَةَ، تَذْيِيلٌ عامٌّ خُتِمَتْ بِهِ آيَةُ الصَّيْدِ، وهو عامُّ المُناسَبَةِ.
{"ayah":"یَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَاۤ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِینَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُوا۟ مِمَّاۤ أَمۡسَكۡنَ عَلَیۡكُمۡ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَیۡهِۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق